فصل: تفسير الآيات (8- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (8- 9):

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}
{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} إضرابٌ وانتقالٌ من حكايةِ شناعتِهم السابقةِ إلى حكايةِ ما هو أشنعُ منها. وما في أمْ من الهمزةِ للإنكارِ التوبيخيِّ المتضمنِ للتعجيبِ أي بل أيقولونَ افترى القُرآنَ {قُلْ إِنِ افتريته} على الفرضِ {فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئاً} إذْ لا ريبَ في أنَّه تعالَى يُعاجلني حينئذٍ بالعقوبةِ فكيفَ أجترىءُ على أنْ أفتريَ عليهِ تعالى كذباً فأُعرّضَ نفسيَ للعقوبةِ التي لا مناصَ عنها {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تندفعونَ فيهِ من القدحِ في وَحي الله والطعنِ في آياتِه وتسميتِه سحراً تارةً وفريةً أُخرى {كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} حيثُ يشهدُ لي بالصدقِ والبلاغِ وعليكم بالكذبِ والجحودِ وهو وعيدٌ بجراءِ إفاضتِهم. وقولُه تعالى: {وَهُوَ الغفور الرحيم} وعدٌ بالغُفرانِ والرحمةِ لمن تابَ وآمنَ، وإشعارٌ بحلمِ الله تعالى عنْهم مع عظمِ جرائمِهم.
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل} البدعُ بمعنى البديعِ كالخِلِّ بمعنى الخليلِ وهو ما لا مثلَ له. وقرئ بفتحِ الدالِ على أنه صفةٌ كقِيَمٍ وزِيَمٍ، أو جمعٌ مقدرٌ بمضافٍ أيْ ذَا بِدَعٍ، وقد جُوِّزَ ذلكَ في القراءةِ الأُولى أيضاً على أنه مصدرٌ. كانُوا يقترحونَ عليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ آياتٍ عجيبةً ويسألونَهُ عن المُغيباتِ عِناداً ومُكابرةً فأُمَر عليهِ السَّلامُ بأنْ يقولَ لهم ما كنتُ بديعاً من الرسلِ قادراً على ما لم يقدرُوا عليهِ حَتَّى آتيَكُم بكلِّ ما تقترحونَهُ وأخبركم بكلِّ ما تسألونَ عنْهُ من الغيُوبِ فإنَّ مَنْ قبلي من الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ما كانُوا يأتونَ إلا بما آتاهُم الله تعالى من الآياتِ ولا يُخبرونَهم إلا بَما أُوحيَ إليهم {وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ} أيُ أيُّ شيءٍ يُصيبنَا فيما يُستقبلُ من الزمانِ من أفعالهِ تعالى وماذا يُقدَّرُ لنا من قضاياهُ. وعن الحسنِ رضيَ الله عنْهُ ما أَدري ما يصيرُ إليه أَمري وأمرُكم في الدُّنيا. وعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا: ما يفعلُ بي ولا بكُم في الآخرةِ وقال: هيَ منسوخةٌ بقولِه تعالى: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقيل: يجوزُ أن يكونَ المنفيُّ هي الدرايةَ المفصَّلةَ، والأظهرُ الأوفقُ لما ذُكِرَ من سببِ النزولِ أنَّ مَا عبارةٌ عمَّا ليسَ علمُه منْ وظائفِ النبوةِ من الحوادثِ والواقعاتِ الدنيويةِ دونَ ما سيقعُ في الآخرةِ فإنَّ العلمَ بذلكَ من وظائفِ النبوةِ، وقد وردَ به الوحيُ الناطق بتفاصيلِ ما يُفعلُ بالجانبينِ. هذا وقد رُويَ عن الكلبيِّ أنَّ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالُوا له عليه السَّلامُ وقد ضجِروا من أذيةِ المشركينَ حتَّى متى نكونُ على هَذا فقالَ ما أدري ما يُفعلُ بي ولا بكُم أأُتْركُ بمكةَ أم أُومرُ بالخروجِ إلى أرضٍ ذاتِ نخيلٍ وشجرٍ قد رُفعتْ لي ورأيتُها يعني في منامِه، وجُوِّزِ أنْ تكونَ ما موصولةً، والاستفهاميةُ أقضى لحقِّ مقامِ التبرؤِ عن الدرايةِ.
وتكريرُ لا لتذكيرِ النفيِّ المنسحبِ إليهِ وتأكيدِه. وقرئ: {ما يُفعلُ} على إسنادِ الفعلِ على ضميرِه تعالَى. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحِى إِلَىَّ} أيْ ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يُوحَى إليَّ، على مَعْنى قصرِ أفعالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على اتباعِ الوَحي لا قصرِ اتباعِه على الوَحي كما هو المتسارعُ إلى الأفهامِ وقد مرَّ تحقيقُه في سورةِ الأنعامِ. وقرئ: {يُوحِي} على البناءِ للفاعلِ، وهو جوابٌ عن اقتراحِهم الأخبارَ عمَّا لم يُوحَ إليه عليه السَّلامُ من الغيوبِ، وقيلَ: عن استعجالِ المسلمينَ أنْ يتخلصُوا عن أذيةِ المشركينَ والأولُ هو الأوفقُ لقولِه تعالى: {وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ} أُنذركم عقابَ الله تعال حسبمَا يُوحى إليَّ {مُّبِينٌ} بينُ الإنذارِ بالمعجزاتِ الباهرةِ.

.تفسير الآية رقم (10):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)}
{قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ} أي ما يُوحَى إليَّ من القُرآنِ {مِنْ عِندِ الله} لاَ سحراً ولا مُفترى كما تزعمونَ. وقوله تعالى: {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} حالٌ بإضمارِ قَدْ من الضميرِ في الخبرِ وُسّطتْ بين أجزاءِ الشرطِ مسارعةً إلى التسجيلِ عليهم بالكفرِ، أو عطفٌ على كانَ كمَا في قولِه تعالى: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} لكنْ لا على أنَّ نظمَهُ في سلكِ الشرطِ المتردد بينَ الوقوعِ وعدمِه عندهُم باعتبارِ حالِه في نفسهِ بل باعتبارِ حالِ المعطوفِ عليه عندَهُم فإنَّ كفرَهُم به أمرٌ محققٌ عندهم أيضاً وإنَّما ترددُهم في أنَّ ذلكَ كفرٌ بَما من عندِ الله تعالى أم لا وكذا الحالُ في قولِه تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل} وما بعدَهُ من الفعلينِ فإنَّ الكُلَّ أمورٌ محققةٌ عندَهُم وإنَّما ترددُهم في أنَّها شهادةٌ وإيمانٌ بما مِن عندِ الله تعالى واستكبار عنه أولاً والمعنى أخبروني إن كان ذلك في الحقيقة من عند الله تعالى وكفرتُم به وشهدَ شاهدٌ عظيمُ الشأنِ منْ بني إسرائيلَ الواقفينَ على شؤونِ الله تعالى وأسرارِ الوحي بما أُوتُوا من التوراةِ. {على مِثْلِهِ} أي مثلِ القرآنِ من المَعَاني المنطويةِ في التوراةِ المطابقةِ لما في القرآنِ من التوحيدِ والوعدِ والوعيدِ وغيرِ ذلكَ فإنَّها عينُ ما فيه في الحقيقةِ كما يعربُ عنه قولُه تعالَى: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأولين} وقولُه تعالى: {إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى} والمثليةُ باعتبارِ تأديتِها بعباراتٍ أُخرَ أو على مثلِ ما ذُكرَ من دونِه من عندِ الله تعالى والمثليةُ لما ذُكِرَ وقيل: المثلُ صلةٌ والفاء في قولِه تعالى: {فَئَامَنَ} للدلالةِ على أنَّه سارعَ إلى الإيمانِ بالقُرآنِ لما علمَ أنَّه من جنسِ الوحي الناطقِ بالحقِّ وهو عبدُ الله بن سَلاَمٍ لمَّا سمعَ بمقدمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ أتاهُ فنظرَ إلى وجههِ الكريمِ فعلمَ أنَّه ليسَ بوجهِ كذَّابٍ وتأملَهُ فتحققَ أنَّه النبيُّ المنتظرُ فقالَ له إنَّي سائلكَ عن ثلاثٍ لا يعلمُهنَّ إلا نبيٌّ ما أولُ أشراطِ الساعةِ، وما أولُ طعامٍ يأكلُه أهلُ الجنةِ، والولدُ ينزعُ إلى أبيهِ أو إلى أمَّةِ فقالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أمَّا أولُ أشراطِ الساعةِ فنارٌ تحشرُهم منَ المشرقِ إلى المغربِ، وأمَّا أولُ طعامِ أهلِ الجنَّةِ فزيادةُ كبدِ حوتٍ، وأما الولُد فإنْ سبقَ ماءُ الرجلِ نزعَهُ وإنْ سبقَ ماءُ المرأةِ نزعتْهُ» فقال أشهدُ أنَّكَ رسولُ الله حَقَّا فقامَ ثمَّ قالَ يا رسولَ الله إنَّ اليهودَ قومُ بُهتٌ فإن علمُوا بإسلامِي قبلَ أنْ تسألَهم عنِّي بهتونِي عندكَ فجاءتِ اليهود فقالَ لهم النبيُّ عليه السَّلامُ: «أيُّ رجلٍ عبدُ اللَّهِ فيكم».
فقالُوا خيرُنا وابنُ خيرِنا وسيدُنا وابنُ سيدِنا وأعلمُنَا وابنُ أعلمِنا قال: «أرأيتُم إنْ أسلمَ عبدُ اللَّهِ» قالُوا: أعاذَهُ الله من ذلكَ فخرجَ إليهم عبدُ اللَّهِ فقالَ: أشهدُ أنَّ لا إلَه إلا الله وأشهدُ أنَّ محمداً رسولُ الله. فقالُوا شرُّنا وابنُ شرِّنا وانتقصُوه، قالَ: هذَا ما كنتُ أخافُ يا رسولُ الله وأحذرُ. قالَ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ رضيَ الله عنْهُ: «ما سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ لأحدٍ يمشِي على الأرضِ إنَّه من أهلِ الجنَّةِ إلا لعبدِ اللَّه بنِ سَلامٍ، وفيهِ نزلَ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} الآيةَ». وقيلَ: الشاهدُ مُوسى عليه السَّلامُ وشهادتُه بما في التوراةِ من بعثةِ النبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وبهِ قال الشعبيُّ. وقالَ مسروقٌ: والله ما نزلتْ في عبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَمٍ فإنَّ آلَ حم نزلتْ بمكةَ وإنَّما أسلمَ عبدُ الله بالمدينةِ، وأجابَ الكلبيُّ: بأنَّ الآيةَ مدنية وإنْ كانتْ السورةُ مكيةً. {واستكبرتم} عطفٌ على شهدَ شاهدٌ. وجوابُ الشرطِ محذوفٌ، والمَعْنى أخبرونِي إنْ كانَ من عندِ الله تعالَى وشهدَ على ذلكَ أعلمُ بني إسرائيلَ فآمنَ به من غيرِ تلعثمٍ واستكبرتُم عن الإيمانِ به بعد هذه المرتبةِ مَنْ أضلُّ منكم بقرينةِ قولِه تعالى: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وقولِه تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} فإنَّ عدمَ الهدايةِ مَّما ينبىءُ عن الضَّلالِ قطعاً، ووصفُهم بالظلمِ للإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ، فإنَّ تركَهُ تعالَى لهدايتِهم لظلمِهم.

.تفسير الآيات (11- 12):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)}
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} حكايةٌ لبعضٍ آخرَ من أقاويلِهم الباطلةِ في حقِّ القُرآنِ العظيمِ والمؤمنينَ بهِ، أي قالَ كُفَّارُ مكةَ. {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} أي لإجلِهم {لَّوْ كَانَ} أي ما جاءَ به عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منَ القرآنِ والدينِ {خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} فإنَّ معاليَ الأمورِ لا ينالُها أَيْدِي الأراذلِ، وهُم سُقَّاطُ، عامَّتُهم فقراءُ ومَوالٍ ورعاةٌ قالُوه زعماً منهم أنَّ الرياسةَ الدينيةَ مما يُنالُ بأسبابٍ دنيويةٍ كَما قالُوا لولا نُزِّل هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتينِ عظيمٍ، وزلَّ عنْهم أنَّها منوطةٌ بكمالاتٍ نفسانيةٍ وملكاتٍ رُوحانيةٍ مبناهَا الإعراضُ عن زخارفِ الدُّنيا الدنيةِ والإقبالُ على الآخرةِ بالكليةِ وأنَّ من فازَ بها فقد جازَها بحذافيرِها ومنْ حُرمها فَما لَهُ منها من خَلاقٍ، وقيلَ: قالَه بنُو عامرٍ وغطفانُ وأسدٌ وأشجعُ لما أسلمَ جهينةُ ومزينةُ وأسلمُ وغفارُ، وقيلَ: قالتْهُ اليهودُ حين أسلمَ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلاَمٍ وأصحابُه، ويأباهُ أنَّ السورةَ مكيةٌ ولابد حينئذٍ من الالتجاءِ إلى ادعاءِ أنَّ الآيةَ نزلتْ بالمدينةِ.
{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} ظرفٌ لمحذوفٍ يدلُّ عليهِ ما قبلَهُ ويترتبُ عليهِ ما بعدَهُ أيْ وإذ لم يهتدُوا بالقُرآنِ قالُوا ما قالُوا {فَسَيَقُولُونَ} غيرَ مكتفينَ بنفي خيريّتهِ {هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ} كما قالُوا أساطيرُ الأولينَ، وقيلَ المحذوفُ ظهرَ عنادُهم وليسَ بذاكَ. {وَمِن قَبْلِهِ} أي منْ قبلِ القُرآنِ وهو خبرٌ لقوله تعالى: {كِتَابُ موسى} قيلَ: والجملةُ حاليةٌ أو مستأنفةٌ، وأيَّا ما كانَ فهو لردِّ قولِهم هذا إفكٌ قديمٌ وإبطالِه، فإنَّ كونَهُ مُصدقاً لكتابِ مُوسى مقرر لحقِّيتهِ قطعاً. {إَمَامًا وَرَحْمَةً} حالانِ من كتابِ مُوسى أي إماماً يُقتدَى به في دينِ الله تعالى وشرائعِه كما يُقتدى بالإمامِ ورحمةً من الله تعالى لمن آمنَ به وعملَ بموجبهِ {وهذا} الذي يقولونَ في حقِّه ما يقولونَ {كِتَابٌ} عظيمٌ الشأنِ {مُّصَدّقُ} أي لكتابِ مُوسى الذي هو إمامٌ ورحمةٌ أو لِما من بين يديهِ من جميعِ الكتبِ الإلهيةِ. وقد قرئ كذلكَ {لّسَاناً عَرَبِيّاً} حالٌ من ضميرِ الكتابِ في مصدقٌ أو من نفسِه لتخصصهِ بالصفةِ وعاملُها معنى الإشارةِ، وعلى الأولِ مصدقٌ وقيلَ: مفعولٌ لمصدقٌ أي يصدقُ ذا لسانٍ عربيَ. {لّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ} متعلقٌ بمصدقٌ وفيه ضميرُ الكتابِ أو الله تعالى أو الرسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ويؤيدُ الأخيرَ القراءةُ بتاءِ الخطابِ {وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ} في حيزِ النصبِ عطفاً على محل لينذرَ وقيل: في محلِ الرفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ أي وهو بُشرى وقيلَ: على أنَّه عطفٌ على مصدقٌ.

.تفسير الآيات (13- 15):

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)}
{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} أي جمعُوا بينَ التوحيدِ الذي هُو خلاصةُ العلمِ، والاستقامةِ في أمورِ الدينِ التي هيَ مُنتهى العملِ وثُمَّ للدلالةِ على تَراخِي رتبةِ العملِ وتوقفِ الاعتدادِ به على التوحيدِ {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من لحوقِ مكروهٍ {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من فواتِ محبوبٍ. والفاءُ لتضمنِ الاسمِ معنى الشرطِ والمرادُ بيانُ دوامِ نفي الحزنِ لا بيانُ نفي دوامِ الحزنِ كما يُوهمه كونُ الخبرِ مضارعاً وقد مرَّ بيانُه مراراً {أولئك} الموصوفونَ بما ذُكِرَ من الوصفينِ الجليلينِ {أصحاب الجنة خالدين فِيهَا} حالٌ من المستكنِّ في أصحابُ. وقولُه تعالَى: {جَزَاء} منصوبٌ إمَّا بعاملٍ مُقدرٍ أي يُجزون جزاءً أو بمَعْنى ما تقدمَ فإنَّ قولَه تعالى أولئكَ أصحابُ الجنَّةِ في معنى جازيناهُم. {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الحسناتِ العلميةِ والعمليةِ.
{وَوَصَّيْنَا الإنسان} بأنْ يُحسنَ {بوالديه إحسانا} وقرئ: {حُسْناً} أي بأنْ يفعلَ بهمَا حُسْناً أي فعلاً ذَا حُسنٍ أو كأنَّه في ذاتِه نفسُ الحسنِ لفرطِ حُسنهِ. وقرئ بضمِّ السينِ أيضاً، وبفتحِهما أيْ بأنْ يفعلَ بهما فعلاً حَسَناً أو وصينَاهْ إيصاءً حسناً. {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي ذاتَ كُرهٍ أو حملاً ذَا كُرهٍ وهو المشقةُ. وقرئ بالفتحِ وهما لغتانِ كالفُقرِ، وقيلَ: المضمومُ اسمٌ والمفتوحُ مصدرٌ. {وَحَمْلُهُ وفصاله} أيْ مدةُ حملِه وفصالِه، وهو الفطامُ، وقرئ: {وفَصلُه}. والفصالُ كالفطمِ والفِطامِ بناءً ومَعْنى، والمرادُ بهِ الرَّضاعُ التامُّ المُنتهِي بهِ. كمَا أرادَ بالأمدِ المدةَ من قالَ:
كُلُّ حَيَ مُستكمِلٌ مُدَّةَ العمـ ** ـرِ ومُودٍ إذَا انتهى أمدُهْ

{ثَلاَثُونَ شَهْراً} تمضي عليَها بمعاناةِ المشاقِّ ومقاساةِ الشدائدِ لأجلِه وهذا دليلٌ على أن أقلَّ مدةِ الحملِ ستةُ أشهرٍ لما أنَّه إذا حُطَّ عنْهُ للفصالِ حولانِ لقولهِ تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} يبقي للحملِ ذلكَ، قيلَ: ولعل تعيينَ أقلِ مدةِ الحملِ وأكثرِ مدةِ الرَّضاعِ لانضباطِهما وتحققِ ارتباطِ النسبِ والرضاعِ بهما {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي اكتملَ واستحكمَ قوتُه وعقلُه {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} قيلَ: لم يبعثْ نبيٌّ قبلَ أربعينَ. وقرئ: {حتَّى إذَا استَوى وبلغَ أشدَّهُ}. {قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى} أي ألهمنِي، وأصلُه أَوْلعِني من أوزعتُه بكذَا {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} أي نعمةَ الدِّينِ أو ما يعمُّها وغيرَها. {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} التنكيرُ للتفخيمِ والتكثيرِ {وَأَصْلِحْ لِى فِي ذُرّيَّتِى} أيْ واجعلِ الصلاحَ سارياً في ذُريتِي راسخاً فيهم كَما في قولِه:
يجرحُ في عَراقيبِها نَصْلِي

قالَ ابنُ عبَّاسٍ: أجابَ الله تعالَى دعاءَ أبي بكرٍ رضيَ الله عنُهم فأعتقَ تسعةً من المؤمنينَ منهم عامرُ بنُ فُهيرةَ ولم يُردْ شيئاً من الخيرِ إلاَّ أعانَهُ الله تعالى عليهِ ودَعَا أيضاً فقالَ وأصلحْ لي في ذُريتِي فأجابَهُ الله عزَّ وجلَّ فلم يكُن لهُ ولدٌ إلا آمنُوا جميعاً فاجتمعَ له إسلامُ أبويهِ وأولادِه جميعاً فأدركَ أبُوه أبُو قحافةَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وابنُه عبدُ الرحمنِ بنُ أبي بكرٍ وابنُ عبدِ الرَّحمنِ أبُو عتيقٍ كلُّهم أدركُوا النبيَّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ولم يكُنْ ذلكَ لأحدٍ من الصَّحابةِ رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعينَ. {إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ} عمَّا لا ترضاهُ أو عمَّا يشغلُني عن ذكرِك {وَإِنّى مِنَ المسلمين} الذينَ أخلصُوا لكَ أنفسَهُم.

.تفسير الآيات (16- 17):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)}
{أولئك} إشارةٌ إلى الإنسانِ، والجمعُ لأنَّ المرادَ به الجنسُ المتصفُ بالوصفِ المَحكِيِّ عنْهُ، وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ بعُلوِّ رُتبتهِ وبُعدِ منزلتِه، أي أولئكَ المنعوتونَ بما ذُكِرَ من النعوتِ الجليلةِ. {الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} من الطاعاتِ، فإنَّ المباحَ حسنٌ ولا يثابُ عليهِ. {وَنَتَجَاوَزُ عَن سيئاتهم} وقرئ الفعلانِ بالياءِ على إسنادِهما إلى الله تعالى، وعلى بنائِهما للمفعولِ، ورفعِ أحسنَ على أنَّه قائمٌ مقامَ الفاعلِ، وكذا الجارُّ والمجرور. {فِى أصحاب الجنة} أي كائنينَ في عدادِهم منتظمينَ في سلكِهم {وَعْدَ الصدق} مصدرٌ مؤكدٌ لما أنَّ قولَه تعالَى نتقبلُ ونتجاوزُ وعدٌ من الله تعالى لهُم بالتقبلِ والتجاوزِ. {الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ} عَلَى ألسنةِ الرُّسلِ.
{والذى قَالَ لوالديه} عندَ دعوتِهما لهُ إلى الإيمانِ {أُفّ لَّكُمَا} هو صوتٌ يصدرُ عنِ المرءِ عندَ تضجرِه، واللامُ لبيانِ المؤفَّفِ له كمَا في هَيْتَ لكَ. وقرئ: {أُفِّ} بالفتحِ والكسرِ بغيرِ تنوينٍ وبالحركاتِ الثلاثِ معَ التنوينِ. والموصولُ عبارةٌ عن الجنسِ القائلِ ذلكَ القولَ ولذلكَ أُخبرَ عنه بالمجموعِ كما سبقَ. قيلَ: هُو في الكافرِ العاقِّ لوالديهِ المكذبِ بالبعثِ. وعن قَتَادةَ: هُو نعتُ عبدِ سوءٍ عاقِّ لوالديهِ فاجرٍ لربِّه. وما رُويَ من أنَّها نزلتْ في عبدِ الرَّحمنِ بن أبي بكرٍ رضيَ الله عنهُمَا قبلَ إسلامِه يردُّه ما سيأتِي من قولِه تعالى: {أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} الآيةَ. فإنَّه كانَ من أفاضلِ المسلمينَ وسَرواتِهم، وقد كذَّبتِ الصدِّيقةُ رضيَ الله عنَها مَنْ قالَ ذلكَ. {أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ} أُبعثَ من القبرِ بعدَ الموتِ. وقرئ: {أَخْرُجَ}، من الخُروجِ. {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى} ولم يُبعثْ منهم أحدٌ {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ الله} يسألانِه أنْ يغيثَهُ ويوفقَهُ للإيمانِ. {وَيْلَكَ} أي قائلينَ له ويلكَ، وهو في الأصلِ دعاءٌ عليه بالثبورِ أُريدَ به الحثَّ والتحريضَ على الإيمانِ لا حقيقةَ الهلاكِ. {ءَامَن إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي البعثَ أضافاهُ إليهِ تعالى تحقيقاً للحقِّ وتنبيهاً على خطئهِ في إسنادِ الوعدِ إليهما. وقرئ: {أنَّ وعدَ الله} أي آمِنْ بأنَّ وعدَ الله حقٌّ {فَيَقُولُ} مكذباً لهُما {مَا هذا} الذي تسميانِه وعدَ الله {إِلاَّ أساطير الأولين} أباطيلُهم التي سَطرُوها في الكتبِ من غيرِ أنْ يكونَ لها حقيقةٌ.