فصل: تفسير الآيات (21- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (21- 25):

{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)}
{وَفِى أَنفُسِكُمْ} أي وفي أنفسكم آياتٌ إذ ليسَ في العالمِ شيءٌ إلاَّ وفِى الأنفسِ له نظيرٌ يدلُّ دَلالَتُه على ما نفردَ بهِ من الهيئاتِ النَّافعةِ والمناظرِ البهيةِ والتركيباتِ العجيبةِ والتمكنِ من الأفعالِ البديعةِ واستنباطِ الصنائعِ المختلفةِ واستجماعِ الكمالاتِ المتنوعةِ {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} ألا تنظرونَ فلا تبصرونَ بعينِ البصيرةِ.
{وَفِى السماء رِزْقُكُمْ} أيْ أسبابُ رزقُكِم أو تقديرُه وقيلَ: المرادُ بالسماءِ السحبُ وبالرزقِ المطرُ فإنَّه سببُ الأقواتِ {وَمَا تُوعَدُونَ} منَ الثوابِ لأَنَّ الجنةَ في السماءِ السابعةِ أو لأنَّ الأعمالَ وثوابَها مكتوبةٌ مقدرةٌ في السماءِ وقيلَ: إنَّهُ مبتدأ خبرُهُ قولُه تعالَى: {فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} عَلى أنَّ الضميرَ لَما وأمَّا عَلى الأولِ فإمَّا له وإمّا لَما ذكرَ منْ أمر الآياتِ والرزقِ عَلى أنَّه مستعارٌ لاسمِ الإشارةِ {مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} أيْ كَما أنَّه لا شكَّ لكُم فِي أنكُم تنطقونَ ينبغِي أنْ لا تشكُّوا في حقِّيتهِ ونصبُه عَلى الحاليةِ من المستكنِ في لحقٌّ أو عَلَى أنَّه وصفٌ لمصدر محذوفٍ أيْ إنَّه لحقٌّ حقاً مثلَ نطقكِم وقيلَ: إنَّه مبنيٌّ على الفتحِ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ وهُوَ مَا إنْ كانتْ عبارةً عنْ شيءٍ وأن بما في حيزها إن جُعلت زائدة. ومحلُّه الرفعُ على أنه صفةٌ لحقٌّ ويؤيده القراءةُ بالرفع.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم} تفخيمٌ لشأنِ الحديثِ وتنبيهٌ على أَنَّهُ ليسَ مما علِمهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بغيرِ طريقِ الوحي، والضيفُ في الأصلِ مصدرُ ضافهُ ولذلكَ يطلقُ عَلى الواحدِ والجماعةِ كالزَّورِ والصَّوْم وكانُوا اثني عشرَ ملَكاً وقيلَ تسعةً عاشرُهم جبريلُ وقيلَ ثلاثةٌ جبريلُ وميكائلُ وملكٌ آخرُ معهمَا عليهمْ السَّلامُ وتسميتُهم ضيفاً لأنَّهم كانُوا في صورةِ الضَّيفِ حيثُ أضافَهُم إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ أو لأنهمُ كانوا في حسابِه كذلكَ {المكرمين} أي المكرمينَ عندَ الله تعالَى أو عندَ إبراهيمَ حيثُ خدمَهُم بنفسِه ويزوجتِه {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ} ظرفٌ للحديثِ أو لما في الضيفِ منْ مَعْنى الفعلِ أو المكرمينَ إنْ فسَّر بإكرامِ إبراهيمَ {فَقَالُواْ سَلامًا} أي نسلم عليكَ سلاماً {قَالَ} أيْ إبراهيمُ {سلام} أيْ عليكُم سلامٌ، عُدِلَ بهِ إلى الرفعِ بالابتداءِ للقصدِ إلى الثباتِ والدوامِ حتَّى تكونَ تحيتُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أحسنَ منْ تحيتهم وقُرئَا مرفوعينَ وقرئ: {سِلْمٌ} وقرئ منصوباً والمعنى واحدٌ {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أنكرهُمْ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للسلامِ الذَّي هو عَلمٌ للإسلامِ أو لأنَّهم ليسُوا ممنْ عهدَهُم منَ النَّاسِ أو لأنَّ أوضاعَهُم وأشكالَهمُ خلافُ ما عليه النَّاسُ ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما قالَهُ في نفسهِ من غير أنْ يشعرَهُم بذلكَ لا أنَّه خاطبُهم بهِ جَهْراً أو سألُهم أنْ يعرِّفوُه أنفسَهُم كَما قيلَ وإلاَّ لكشفُوا أحوالَهُم عندَ ذلكَ وَلَمْ يتصدَّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لمقدماتِ الضيافةِ.

.تفسير الآيات (26- 30):

{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)}
{فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ} أيْ ذهبَ إليهمْ عَلى خُفيةٍ منْ ضيفِه فإنَّ منْ أدبِ المضيفِ أنْ يبادَرهُ بالقِرى ويبادرَ بهِ حذاراً مِنْ أن يكفَهُ ويعذَرهُ أو يصيرَ مُنتْظراً والفاءُ في قولِه تعالَى: {فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ} فصيحةٌ مفصحةٌ عنْ جُمَلٍ قَدْ حُذفتْ ثقةً بدلالةِ الحالِ عَلَيْها وإيذاناً بكمالِ سرعةِ المجىءِ بالطعامِ كما في قولِه تعالَى: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} أيْ فذبحَ عجلاً فحنذَهُ فجاءَ بهِ {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} بأنْ وضعَهُ لديهم حسَبما هُو المعتادُ {قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ} إِنْكاراً لعدمِ تعرضِهم للأكلِ {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ} أضمرَ في نفسِه {خِيفَةً} لتوهمِ أنَّهم جاءُوا للشرِّ وقيلَ وقعَ في قلبِه أنَّهم ملائكةٌ جاءوا للعذابِ {قَالُواْ لاَ تَخَفْ} قيلَ مسحَ جبريلُ عليهِ السلامُ العجلَ بجناحِه فقامَ يدرُجُ حتَّى لحقَ بأُمِّهِ فعرفَهُم وأمِنَ منهُم {وَبَشَّرُوهُ} وفي سورةِ الصافاتِ وبشرناهُ أيْ بواسطتِهم {بغلام} هو إسحاقُ عليهِ السَّلامُ {عَلِيمٌ} عند بلوغِه واستوائِه {فَأَقْبَلَتِ امرأته} سارةُ لمَّا سمعتْ بشارتَهمُ إلي بيتِها وكانتْ في زاويةٍ تنظرُ إليهمْ {فِى صَرَّةٍ} في صيحةٍ من الصريرِ، ومحلُّه النَّصبُ عَلى الحاليّةِ أو المفعوليةِ إنْ جُعلَ أقبلتْ بمَعْنى أخذتْ كما يقالُ أقبلَ يشتُمنِي {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} أيْ لطمتْهُ منَ الحياءِ لما أنَّها وجدتْ حرارةَ دمِ الطمثِ وقيلَ ضربتْ بأطرافِ أصابعِها جبينَها كما يفعلُه المتعجب {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أيْ أنَا عجوزٌ عاقرٌ فكيفَ ألدُ.
{قَالُواْ كَذَلِكِ} مثلَ ذلكَ القولِ الكريمِ {قَالَ رَبُّكِ} وَإنَّما نحنُ معبرونَ نخبركِ بهِ عنْهُ تعالَى لاَ أنَّا نقولُه منْ تلِقاءِ أنفسِنا {إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم} فيكونُ قولُه حقاً وفعلُه متقناً لا محالةَ. رُويَ أنَّ جبريلَ عليهِ السَّلامُ قالَ لهَا انْظُري إلى سقفِ بيتك فنظرتْ فإذَا جذوعُه مورقةٌ مثمرةٌ، ولَمْ تكُنْ هذهِ المفاوضةُ معَ سارةَ فقطْ بلْ معَ إبراهيَم عليهِ السَّلامُ أَيْضاً حسبَما شُرحَ في سورةِ الحِجْر وإنَّما لَمْ يُذكِرْ هاهنا اكتفاءً بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هناك سارة اكتفاءً بما ذكر هاهنا وفي سورةِ هودٍ.

.تفسير الآيات (31- 39):

{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)}
{قَالَ} أيْ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ لَمَّا عِلَم أنَّهم ملائكةٌ أُرسلوا لأمرٍ {فَمَا خَطْبُكُمْ} أيْ شأنُكم الخطيرُ الذَّي لأَجْلِه أرسلتْم سَوى البشارةِ {أَيُّهَا المرسلون * قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} يعنون قومَ لوطٍ {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ} أيْ بعدَ ما قلبنَا قُرَاهُمْ وجعلنَا عاليَها سافلَها حسبَما فُصِّلَ في سائرِ السورِ الكريمةِ {حِجَارَةً مّن طِينٍ} أيْ طينٍ متحجرٍ هُوَ السجيلُ {مُّسَوَّمَةً} مُرسلةً منْ أسمتُ الماشيةَ أيْ أرسلتُها، أو معلمةً منَ السُّومةِ وهيَ العلامةُ وقدْ مَرَّ تفصيلُه في سورةِ هُودٍ {عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} المجاوزينَ الحدَّ في الفُجورِ وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا} إلخ حكايةٌ منْ جهتِه تعالَى لِمَا جَرى عَلى قومِ لُوطٍ عليهِ السَّلامُ بطريقِ الإجْمَالِ بعدَ حكايةِ ما جَرَى بينَ الملائكةِ وبينَ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ من الكلامِ والفاءُ فصيحةٌ مفصحةٌ عنْ جُملٍ قدْ حُذفتْ ثقةً بذكرِها في مواضعَ أُخرَ كأنَّه قيلَ فباشرُوا مَا أُمروا بهِ فأخرجنَا بقولِنا فأسرِ بأهلِكَ إلخ {مَن كَانَ فِيهَا} أيْ في قُرى قومِ لُوطٍ وإضمارُهَا بغيرِ ذكرٍ لشهرتِها {مِنَ المؤمنين} ممنْ أمنَ بلوطٍ {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ} أيْ غيرَ أهْلِ بيتٍ {مِنَ المسلمين} قيلَ هُم لوطٌ وابنتاهُ وقيلَ كانَ لوطٌ وأهلُ بيتِه الذينَ نجَوا ثلاثةَ عشرَ {وَتَرَكْنَا فِيهَا} أيْ في القريةِ {ءايَةً} أيْ علامةً دالةً على ما أصابهُم من العذابِ قيلَ هيَ تلكَ الأحجارُ أوْ صخرٌ منضودٌ فيهَا أَوْ ماءٌ منتنٌ {لّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم} أيْ مِنْ شأنِهم أنْ يخافُوه لسلامةِ فطرتِهم ورقةِ قلوبِهم دونَ مَنْ عَداهُم منْ ذَوي القلوبِ القاسيةِ فإنَّهم لا يعتدونَ بَها وَلاَ يعدونها آيةً {وَفِى موسى} عطفٌ عَلى قولِه تعالَى وفي الأرضِ أو عَلى قولِه تعالَى وتركنَا فيهَا آيةً عَلى مَعْنى وجعلنَا في مُوسى آيةً كقولِ منْ قالَ:
علفتُها تبناً وماءً بارداً

{إِذْ أرسلناه} قيلَ هُو منصوبٌ بآيةً وَقيلَ بمحذوفٍ أيْ كائنةً وقتَ إرسالِنا وقيلَ بترَكْنا {إلى فِرْعَوْنَ بسلطان مُّبِينٍ} هُو ما ظهرَ عَلى يديهِ منْ المعجزاتِ الباهرةِ {فتولى بِرُكْنِهِ} أيْ فأعرضَ عنِ الإيمانِ بهِ وازورّ كقولِه تعالَى: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} وقيلَ فتولَّى بما يتقوَّى بهِ منْ مُلْكِه وَعساكِره فإنَّ الركنَ اسمٌ لمَا يركنُ إليهِ الشيءُ وَقرئ: {برُكُنِهِ} بضمِّ الكافِ {وَقَالَ ساحر} أيْ هُو ساحرٌ {أَوْ مَجْنُونٌ} كأنَّه نسبَ ما ظهرَ على يديهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ من الخوارقِ العجيبةِ إلى الجنِّ وترددَ في أنَّه حصل باختيارِه وسعيهِ أو بغيرِهما.

.تفسير الآيات (40- 47):

{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)}
{فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِي اليم} وفيهِ منَ الدلالةِ عَلى غايةِ عظمِ شأنِ القدرةِ الربانيةِ ونهايةِ قمأةِ فرعونَ وقومِه مَا لاَ يَخْفى {وَهُوَ مُلِيمٌ} أيْ آتٍ بما يلامُ عليه منَ الكفرِ والطغيانِ والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في فأخذنَاهُ {وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} وصفتْ بالعُقم لأنها أهلكتهم وقطعتْ دابرَهم أوْ لأنَّها لم تتضمنْ خيراً ما منْ إنشاءِ مطرٍ أو إلقاحِ شجرٍ وهي النكباءُ أو الدبُورُ أو الجنوبُ {مَا تَذَرُ مِن شيء أَتَتْ عَلَيْهِ} أيْ جرتْ عليهِ {إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} هو كُلُّ ما رَمَّ وَبليَ وتفتت منْ عظمٍ أو نباتٍ أو غيرِ ذلكَ {وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} وهُو قولُه تعالَى تمتعُوا في دارِكم ثلاثةَ أيامٍ قيلَ قالَ لهُم صالحٌ عليهِ السَّلامُ تصبحُ وجوهُكُم غداً مصفرةً وبعدَ غدٍ محمرةً واليومَ الثالثَ مسودةً ثمَّ يصبحكُم العذابُ {فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} أي فاستكبرُوا عن الامتثالِ بهِ {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} قيلَ لمَّا رأَوا العلاماتِ التي بيَّنها صالحٌ عليهِ السَّلامُ منَ اصفرارِ وجوهِهم واحمرارِها واسودادِها عمدُوا إلى قتلِه عليهِ السَّلامُ فنجاهُ الله تعالَى إلى أرضِ فلسطينَ، ولمَّا كانَ ضحوةُ اليومِ الرابعِ تحنطُوا وتكفنُوا بالأنطاعِ فأتتهُم الصيحةُ فهلكُوا وقرئ: {الصَّعقةُ} وهيَ المرةُ منَ الصَّعْقِ {وَهُمْ يَنظُرُونَ} إليهَا ويعاينونَها {فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} كقولِه تعالَى: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين} {وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ} بغيرِهم كَما لم يمتنعُوا بأنفسِهم.
{وَقَوْمَ نُوحٍ} أيْ وأهلكنَا قومَ نوحٍ فإنَّ ما قبلَهُ يدلُّ عليه أَوْ وَاذكُرْ ويجوزُ أنْ يكونَ معطوفاً على محلِ في عادٍ ويؤيدُه القراءةُ بالجَرِّ وقيلَ هُو معطوفٌ عَلَى مفعولِ فأخذنَاهُ {مِن قَبْلُ} أيْ منْ قبلِ هؤلاءِ المُهلَكين، {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} خارجينَ عنِ الحدودِ فيمَا كانُوا فيهِ منَ الكفرِ وَالمعاصِي {والسماء بنيناها بِأَيْدٍ} أيْ بقوةٍ {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} لقادرونَ منَ الوسعِ بمَعْنى الطاقةِ والموسعُ القادرُ عَلى الإنفاقِ أوْ لموسعونَ السماءَ أو ما بينَها وَبينَ الأرضِ أو الرزقِ.

.تفسير الآيات (48- 52):

{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}
{والأرض فرشناها} مهدناهَا وبسطناهَا ليستقروا علَيها {فَنِعْمَ الماهدون} أيْ نحنُ {وَمِن كُلّ شَىْء} أيْ منَ الأجناسِ {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أيْ نوعينِ ذكراً وأُنثْى، وقيلَ متقابلينَ: السماءَ والأرضَ والليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ والبرَّ والبحرَ ونحوَ ذلكَ {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي فعلنَا ذلكَ كُلَّه كي تتذكُروا فتعرفُوا أنَّه خالقُ الكُلِّ ورازقُه وأنَّه المستحقُّ للعبادةِ وأنَّه قادرٌ عَلى إعادةِ الجميعِ فتعملُوا بمقتضاهُ وقولُه تعالَى: {فَفِرُّواْ إِلَى الله} مقدرٌ لقولٍ خُوطبَ بهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطريقِ التلوينِ. والفاءُ إما لترتيبِ الأمرِ عَلى ما حُكيَ من إثارِة غضبِه الموجبةِ للفرارِ منْهَا ومنْ أحكامِ رحمتِه المستدعيةِ للفرار إليَها، كأنَّه قيلَ قُلْ لَهُم إذَا كانَ الأمرُ كذلكَ فاهربُوا إلى الله الذَّي هذِه شؤونُه بالإيمانِ والطاعةِ كيْ تنجوا من عقابهِ وتفوزُوا بثوابِه، وَإِمَّا للعطفِ عَلى جُملةٍ مقدرةٍ مترتبةٍ عَلى قولِه تعالَى لعلَّكُم تذكرونَ كأنَّه قيلَ قُلْ لَهُم فتذكُروا ففرُّوا إلى الله الخ، وقولُه تعالَى: {إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} تعليلٌ للأمرِ بالفرارِ إليهِ تعالَى أو لوجوبِ الامتثالِ بهِ فإنَّ كونَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مُنذِراً منُهُ تعالَى موجبٌ عليهِ عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ أنْ يأمرَهُم بالفرارِ إليهِ وعليهمْ أنْ يمتثلُوا بهِ أي إنِّي لكُم منَ جهتِه تعالَى منذرٌ بينٌ كونُه منذراً منْهُ تعالَى أو مظهرٌ لما يجبُ إظهارُهُ منَ العذابِ المنذَرِ بهِ، وفي أمرِه تعالَى للرسولِ صلى الله عليه وسلم بأنْ يأمرَهُم بالهربِ إليهِ تعالَى منْ عقابِه وتعليلِه بأنَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ينذرُهم منْ جهتِه تعالَى لا منْ تلقاءِ نفسِه. وعدٌ كريمٌ بنجاتِهم من المهروبِ وفوزِهم بالمطلوبِ وقولُه تعالَى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} نهيٌ موجبٌ للفرارِ منْ سببِ العقابِ بعدَ الأمرِ بالفرارِ منْ نفسِه كمَا يشعرُ بهِ قولُه تعالَى: {إِنّى لَكُمْ مّنْهُ} أيْ منَ الجعلِ المنهيِّ عنْهُ {نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فإنَّ تعلقَ كلمةِ منْ بالإنذارِ معَ كونِ صلتِه الباءَ بتضمينِه معنْى الإفرارِ يقالُ فَرَّ منْهُ أيْ هربَ وأفرَّه غيرُهُ كأنَّه قيلَ وفِرُّوا منْ أنْ تجعلُوا معَهُ تعالَى اعتقاداً أَو قولاً إلهاً آخر وفيهِ تأكيدٌ لما قبلَهُ منَ الأمرِ بالفرارِ من العقابِ إليهِ تعالَى لكنْ لا بطريقِ التكريرِ كمَا قيلَ بَلْ بالنهي عنْ سببهِ وإيجابِ الفرارِ منْهُ.
{كذلك} أي الأمرُ مثلَ ما ذكرَ منْ تكذيبِهم الرسولَ وتسميتِهم لَهُ ساحِراً أو مَجْنُوناً، وقولُه تعالَى: {مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ} إلخ تفسيرٌ لهُ أيْ ما أتَاهُم {مِن رَّسُولٍ} مِنْ رسلِ الله {إِلاَّ قَالُواْ} في حَقَّه {ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} ولا سبيلَ إِلى انتصابِ الكافِ بأَتَى لامتناعِ عملِ مَا بعدَ (مَا) النافيةِ فيمَا قبلَها.

.تفسير الآيات (53- 56):

{أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}
{أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} إِنْكارٌ وتعجيبٌ منْ حالِهم وإجماعِهم عَلى تلكَ الكلمةِ الشنيعةِ التي لاَ تكادُ تخطرُ ببالِ أحدٍ من العقلاءِ فضلاً عن التفوهِ بهَا أيْ أَأَوْصَى بهذَا القولِ بعضُهم بعضاً حتَّى اتفقُوا عليهِ وقولُه تعالَى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون} إضرابٌ عنْ كونِ مدارِ اتفاقِهم عَلى الشرِّ تواصيهم بذلكَ وإثباتٌ لكونِه أمراً أقبحَ منَ التَّواصِي وأشنعَ منْهُ منَ الطغيانِ الشاملِ للكُلِّ الدالِّ عَلى أنَّ صدورَ تلكَ الكلمةِ الشنيعةِ عنْ كُلِّ واحدٍ منْهُم بمقتضَى جبلَّتِه الخبيثةِ لا بموجبِ وصيةِ منْ قبلِهم بذلكَ منْ غيرِ أنْ يكونَ ذلكَ مُقْتضى طباعِهم {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرضْ عنْ جدالِهم فقدْ كررتَ عليهِم الدعوةَ فأبَوا إلا الإباءَ {فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} عَلى التولِّي بعدَ مَا بذلتَ المجهودَ وجاوزتَ فية الإبلاغِ كُلَّ حدَ معهودٍ.
{وَذَكَرَ} أي أفعلْ التذكيرَ والموعظةَ ولاَ تدعُهما بالمرةِ أو فذكرهُم وَقدْ حُذِفَ الضَّميرُ لظهورِ الأَمْرِ {فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} أي الذينَ قدرَ الله تعالَى إيمانَهُم أوِ الذينَ آمنُوا بالفعلِ فإنَّها تزيدُهم بصرةً وقوةً في اليقينِ {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} استئنافٌ مؤكدٌ للأمرِ مقررٌ لمضمونِ تعليلهِ فإنَّ كونَ خَلقِهم مُغياً بعبادتِه تعالَى ممَّا يدعُوه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى تذكيرِهم ويوجبُ عليهمْ التذكرَ والاتعاظَ، ولعلَّ تقديمَ خلقِ الجَنِّ في الذكرِ لتقدمهِ على خَلْق الإنسِ في الوجودِ ومَعْنى خلقِهم لعبادتِه تعالَى خلقُهم مستعدينَ لَها ومتمكنينَ منْها أتمَّ استعدادٍ وأكملَ تمكنٍ معَ كونِها مطلُوبةً مِنهُمْ بتنزيلِ ترتبِ الغايةِ عَلى مَا هيَ ثمرةٌ لَهُ منزلةَ ترتبِّ الغرضِ عَلى ما هُو غرضٌ لَهُ فإنَّ استتباعَ أفعالِه تعالَى لغاياتٍ جليلةٍ ممَّا لاَ نزاعَ فيهِ قطعاً، كيفَ لاَ وهيَ رحمةٌ منْهُ تعالَى وتفضلٌّ عَلى عبادِه وإنَّما الذي لا يليقُ يجنابهِ عَزَّ وجَلَّ تعليلُها بالغرضِ بمَعْنى الباعثِ عَلى الفِعْل بحيثُ لولاَهُ لم يفعلْهُ لإفضائِه إلى استكمالِه بفعلِه وهُوَ الكاملُ بالفعلِ منْ كُلِّ وجهٍ، وأمَّا بمَعْنى نهايةٍ كماليةٍ يُفْضِي إليهَا فعلُ الفاعلِ الحقَّ فغيرُ منفيَ أفعالِه تعالَى بل كُلُّها جاريةٌ عَلى ذلكَ المنهاجِ، وعَلى هَذا الاعتبارِ يدورُ وصفُه تعالَى بالحكمةِ ويكفي في تحقيقِ مَعْنى التعليلِ عَلى ما يقولُه الفقهاءُ ويتعارفُه أهلُ اللغة هَذا المقدارُ وبِه يتحققُ مدلولُ اللامِ وأما إرادةُ الفاعلِ لَها فليستْ من مقتضياتِ اللامِ حَتَّى يلزمَ منْ عدمِ صدورِ العبادةِ عنِ البعضِ تخلفُ المرادِ عن الإرادةِ فإنْ تعوقَ البعضِ عنِ الوصولِ إلى الغايةِ معَ تعاضدِ المبادىِ وتآخذِ المقدماتِ الموصلةِ إليهَا لا يمنعُ كونَها غايةً كمَا في قولِه تعالَى: {كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} ونظائِره، وقيلَ المَعْنى إلا ليؤمُروا بعبادِتي كما في قولِه تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} وقيلَ: المرادُ سعداءُ الجنسينِ كما أنَّ المرادَ بقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس} أشقياؤُهما ويعضُده قراءةُ مَنْ قرأَ وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ منَ المؤمنينَ وقال مجاهد واختارَهُ البغويُّ معناهُ إلا ليعرفونِ ومدارُه قولُه صلى الله عليه وسلم فيمَا يحكيِه عنْ رَبِّ العزةِ: «كنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أنْ أعرفَ فخلقتُ الخلقَ لأعرفَ» ولعلَّ السرَّ في التعبيرِ عنِ المعرفةِ بالعبادةِ عَلى طريقِ إطلاقِ اسمِ السببِ عَلى المسببِ التنبيهُ عَلى أنَّ المعتبرَ هيَ المعرفةُ الحاصلةُ بعبادتِه تعالَى لا ما يحصلُ بغيرِها كمعرفةِ الفلاسفةِ.