فصل: تفسير الآيات (15- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (15- 19):

{وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)}
{وَلَقَدْ تركناها} أي السفينةَ أو الفعلةَ {ءايَةً} يعتبرُ بَها من يقفُ على خَبرِها. وقالَ قَتَادةُ أبقاهَا الله تعالَى بأرضِ الجزيةِ، وقيلَ: على الجُودِّي دَهْراً طويلاً حتى نظرَ إليها أوائلُ هذه الأمةِ. {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي معتبرٍ بتلكَ الآيةِ الحقيقةِ بالاعتبارِ وقرئ: {مُذْتكرٍ} على الأصلِ ومُذَّكرٍ بقلبِ التاءِ ذالاً والإدغام فيَها {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} استفهامُ تعظيمٍ وتعجيبٍ أيْ كانا على كيفيةٍ هائلةٍ لا يُحيطُ بَها الوصفُ، والنذرُ جمعُ نذيرٍ بمَعْنى الإنذارِ. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان} إلخ جملةٌ قسميةٌ وردتْ في أواخرِ القصصِ الأربعِ تقريراً لمضمونِ ما سبقَ من قولِه تعالى: {وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الأنباء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بالغة فَمَا تُغْنِى النذر} وتنبيهاً على أنَّ كلَّ قصةٍ منها مستقلةٌ بإيجابِ الإدكارِ كافيةٌ في الازدجارِ ومع ذلكَ لم تقعْ واحدةٌ في حيزِ الاعتبارِ، أي وبالله لقد سهَّلَنا القرآنَ لقومِكَ بأنْ أنزلناهُ على لغتِهم وشحنَّاهُ بأنواعِ المواعظِ والعبرِ وصرَّفنا فيهِ من الوعيدِ والوعدِ {لِلذّكْرِ} أي للتذكرِ والاتعاظِ {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} إنكارٌ ونفيٌ للمتعظِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه حيثُ يدلُّ على أنَّه لا يقدرُ أحدٌ أنْ يجيبَ المستفهَم بنَعَمْ وحَملُ تيسيرِه على تسهيلِ حفظِه بجزالةِ نظمِه وعذوبِة ألفاظِه وعباراتِه مما لا يساعدُه المقامُ. {كَذَّبَتْ عَادٌ} أي هوداً عليهِ السَّلامُ ولم يتعرضْ لكيفيةِ تكذيبِهم له رَوْماً للاختصارِ ومُسارعةً إلى بيانِ ما فيه الازدجارُ من العذابِ. وقولُه تعالَى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} لتوجيهِ قلوبِ السامعينَ نحوَ الاصغاءِ إلى ما يُلقى إليهم قبلَ ذكرِه لا لتهويلِه وتعظيمِه وتعجيبِهم من حالةِ بعدَ بيانِه كما قبلَه وما بعدَهُ كأنَّه قيلَ كذبتْ عادٌ فهل سمعتُم أو فاسمعُوا كيفَ كانَ عذابِي وإنذاراتِي لهم. وقولُه تعالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} استئنافٌ ببيانِ ما أُجملَ أولاً أيْ أرسلنَا عليهم ريحاً باردةً أو شديدةَ الصوتِ {فِى يَوْمِ نَحْسٍ} شؤمٍ {مُّسْتَمِرٌّ} أي شؤمُه أو مستمرٌّ عليهم إلى أنْ أهلكهُم أو شاملٌ لجميعِهم كبيرِهم وصغيرِهم أو مشتدٌّ مراراتُه، وكانَ يومَ الأربعاءِ آخرَ الشهرِ.

.تفسير الآيات (20- 27):

{تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)}
{تَنزِعُ الناس} تقلعُهم رُويَ أنَّهم دخلُوا الشعابَ والحفرَ وتمسَّكَ بعضُهم ببعضٍ فنزعتُهم الريحُ وصرعتُهم مَوْتى {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} أي منقلعٍ عن مغارسِه قيل: شُبهوا بأعجازِ النخلِ وهيَ أصولُها بلا فروعٍ لأنَّ الريحَ كانتْ تقلعُ رؤوسَهُم فتُبقِي أجساداً وجثثاً بلا رؤوسٍ، وتذكيرُ صفةِ نخلٍ للنظرِ إلى اللفظِ كما أنَّ تأنيثَها في قولِه تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} للنظرِ إِلى المَعْنى. وقوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} تهويلٌ لهما وتعجيبٌ من أمرِهما بعد بيانِهما فليسَ فيه شائبةُ تكرارٍ وما قيلَ من أنَّ الأولَ لِما حاقَ بهم في الدُّنيا والثانِي لما يحيقُ بهم في الآخرةِ يردُّه ترتيبُ الثَّانِي على العذابِ الدنيويِّ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} الكلامُ فيهِ كالذي مرَّ فيما سبقَ.
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر} أي الإنذاراتِ والمواعظِ التي سمعُوها من صالحٍ أو بالرسلِ عليهم السَّلامُ فإنَّ تكذيبَ أحدِهم تكذيبٌ للكلِّ لاتفاقِهم على أصولِ الشرائعِ {فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا} أي كائناً من جنسِنا، وانتصابُه بفعلٍ يفسرُه ما بعدَهُ {واحدا} أي منفرداً لا تبعَ له أو واحداً من آحادِهم لا من أشرافِهم وهو صفةٌ أُخرى لبشراً وتأخيرُه عن الصفةِ المؤولةِ للتنبيهِ على أنَّ كلاً من الجنسيةِ والوحدةِ مما يمنعُ الاتباعَ ولو قُدِّمَ عليَها لفاتتِ هذه النكتةُ وقرئ: {أبشرٌ منَّا واحدٌ} على الابتداءِ. وقولُه تعالَى: {نَّتَّبِعُهُ} خبرُهُ والأولُ أوجهُ للاستفهامِ {إِنَّا إِذَا} أي على تقديرِ اتباعِنا له وهو منفردٌ ونحن أُمَّةٌ جَمَّةٌ {لَفِى ضلال} عن الصوابِ {وَسُعُرٍ} أي جنونٍ فإنَّ ذلكَ بمعزلٍ من مُقتَضى العقلِ وقيلَ: كان يقولُ لهم إن لم تتبعونِي كنتُم في ضلالٍ عن الحقِّ وسعرٍ أي نيرانٍ جمعُ سعيرٍ فعكسُوا عليهِ عليهِ السَّلامُ لغايةِ عتوهِم فقالُوا إنِ اتبعناكَ كُنَّا إذن كَما تقولُ {أَءُلْقِىَ الذّكْرُ} أي الكتابُ والوحيُ {عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} وفينَا من هو أحقُّ منه بذلكَ {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي ليسَ الأمرُ كذلكَ بل هو كَذا وكَذا حملَهُ بطرُه على الترفعِ علينا بما ادَّعاهُ وقولُه تعالَى: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر} حكايةٌ لما قالَهُ تعالَى لصالحٍ عليهِ السَّلامُ وعداً لهُ ووعيداً لقومِه، والسينُ لتقريبِ مضمونِ الجملةِ وتأكيدِه والمرادُ بالغدِ وقتُ نزولِ العذابِ أي سيعلمونَ البتةَ عن قريبٍ من الكذابُ الأشرُ الذي حملَهُ أشرُه وبطرُه على الترفعِ أصالحٌ هو أم مَنْ كذبَهُ. وقرئ: {ستعلمونَ}، على الالتفاتِ لتشديدِ التوبيخِ، أو على حكايةِ ما أجابَهُم به صالحٌ. وقرئ: {الأشر} كقولِهم حذر في حذر. وقرئ: {الأشرُّ} أي الأبلغُ في الشرارةِ وهو أصلٌ مرفوضٌ كالأخيرِ، وقيلَ: المرادُ بالغدِ يومُ القيامةِ ويأباهُ قوله تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة} الخ. فإنَّه استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ مبادِي الموعودِ حتْماً أي مخرجُوها من الهضبةِ حسبمَا سألُوا {فِتْنَةً لَّهُمْ} أي امتحاناً {فارتقبهم} أي فانتظرْهُم وتبصرْ ما يصنعونَ {واصطبر} على أذيتِهم.

.تفسير الآيات (28- 35):

{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)}
{وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} مقسومٌ، لها يومٌ ولهم يومٌ. وبينهُم لتغليبِ العُقَلاءِ {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} يحضرُه صاحبُه في نوبتِه {فَنَادَوْاْ صاحبهم} هو قُدارُ بنُ سالفٍ، أُحيمرُ ثمودَ {فتعاطى فَعَقَرَ} فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له فأخذت العقرَ بالناقةِ، وقيل: فتعاطَى الناقةَ فعقرَها، أو فتعاطَى السيفَ فقتلَها، والتَّعاطِي تناولُ الشيءِ بتكلفٍ. {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} الكلامُ فيهِ كالذي مرَّ في صدرِ قصةِ عادٍ {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحدة} هي صيحةُ جبريلَ عليهِ السَّلامُ {فَكَانُواْ} أي فصارُوا {كَهَشِيمِ المحتظر} أي كالشجرِ اليابسِ الذي يتخذُه من يعملُ الحظيرةَ لأجلِها أو كالحشيشِ اليابسِ الذي يجمعُه صاحبُ الحظيرةِ لماشيتِه في الشتاءِ. وقرئ بفتحِ الظاءِ أي كهشيمِ الحظيرةِ أو الشجرِ المتخذِ لَها {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حاصبا} أي ريحاً تحصبُهم أي ترميهم بالحصباءِ {إِلاَّ الَ لُوطٍ نجيناهم بِسَحَرٍ} في سحرٍ وهو آخرُ الليلِ وقيلَ: هو السدسُ الأخيرُ منْهُ أي ملتبسينَ بسحرٍ {نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا} أي إنعاماً منَّا وهو علةٌ لنجينا {كذلك} أي مثلَ ذلك الجزاءِ العجيبِ {نَجْزِى مَن شَكَرَ} نعمتنَا بالإيمانِ والطاعةِ.

.تفسير الآيات (36- 43):

{وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)}
{وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ} لوطٌ عليهِ السَّلامُ {بَطْشَتَنَا} أي أَخذتَنَا الشديدةَ بالعذابِ {فَتَمَارَوْاْ} فكذَّبوا {بالنذر} متشاكينَ {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} قصدُوا الفجورَ بهم {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} فمسحنَاها وسوَّيناها كسائرِ الوجهِ. رُويَ أنَّهم لَمَّا دخلُوا دارَهُ عنوةً صفقَهُم جبريلُ عليهِ السَّلامُ صفقةً فتركهُم يترددونَ لا يهتدونَ إلى البابِ حتَّى أخرجُهم لوطٌ عليه السَّلامُ {فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ} أي فقلُنَا لهُم ذُوقوا على ألسنةِ الملائكةِ أو ظاهرُ الحالِ والمرادُ به الطمسُ فإنَّه من جملةِ ما أُنذرُوه من العذابِ {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً} وقرئ: {بكرةَ} غيرَ مصروفةٍ على أنَّ المرادَ بها أولُ نهارٍ مخصوصٍ {عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} لا يفارقُهم حتَّى يُسلمَهُم إلى النارِ. وفي وصفِه بالاسقرارِ إيماءٌ إلى أنَّ ما قبلَهُ من عذابِ الطمسِ ينتهِي إليهِ {فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ} حكايةً لما قيلَ لهم حينئذٍ من جهتِه تعالى تشديداً للعذابِ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} مرّ ما فيهِ من الكلامِ.
{وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النذر} صُدِّرتْ قصتُهم بالتوكيدِ القسمِي لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بشأنِها لغايةِ عظمِ ما فيَها من الآياتِ وكثرتِها وهولِ ما لاقَوه منَ العذابِ وقوة إيجابِها للاتعاظِ. والاكتفاءُ بذكرِ آلِ فرعونَ للعلمِ بأنَّ نفسَه أَوْلى بذلكَ أي وبالله لقد جاءهُم الإنذاراتُ. وقوله تعالى: {كَذَّبُواْ بئاياتنا كُلَّهَا} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ مجيءِ النذرِ كأنَّه قيلَ: فمَاذا فعلُوا حينئذٍ فقيلَ: كذَّبُوا بجميعِ آياتِنا، وهي الآياتُ التسعُ {فأخذناهم أَخْذَ عِزِيزٍ} لا يُغالبُ {مُّقْتَدِرٍ} لا يُعجزه شيءٌ.
{أكفاركم} يا معشرَ العربِ {خَيْرٌ} قوةً وشدةً وعُدّةً وعدةً أو مكانةً {مّنْ أُوْلَئِكُمْ} الكفارِ المعدودينَ والمَعُنى أنه أصابَهُم مَا أصابَهُم مع ظهورِ خيريتِهم منكُم فيما ذُكِرَ من الأمورِ فهلْ تطمعونَ أنْ لا يصيبَكُم مثلُ ذلكَ وأنتُم شرٌّ منهم مكاناً وأسوأُ حالاً. وقولُه تعالَى: {أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزبر} إضرابٌ وانتقالٌ من التبكيتِ بما ذُكِرَ إلى التبكيتِ بوجهٍ آخرَ أيْ بلْ ألكم براءةٌ وأمنٌ من تبعاتِ ما تعملونَ من الكفرِ والمعاصِي وغوائلِهما في الكتبِ السماويةِ فلذلكَ تصرونَ على ما أنتُم عليهِ.

.تفسير الآيات (44- 49):

{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}
وقولُه تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} إضرابٌ من التبكيتِ المذكورِ إلى وجهٍ آخرَ من التبكيتِ. والالتفاتُ للإيذانِ باقتضاءِ حالِهم للإعراضِ عنهُم وإسقاطِهم عن رتبةِ الخطابِ وحكايةِ قبائِحهم لغيرِهم أي بلْ أيقولونَ واثقينَ بشوكتِهم نحنُ أولُو حزمٍ ورأيٍ أمرُنا مجتمعٌ لا نُرامُ ولا نُضامُ أو منتصرٌ من الأعداءِ لا نُغلبُ أو متناصرٌ بعضُنا بعضاً. والإفرادُ باعتبارِ لفظِ الجميعِ. وقولُه تعالَى: {سَيُهْزَمُ الجمع} ردٌّ وإبطالٌ لذلكَ، والسينُ للتأكيدِ أي يُهزم جمعُهم البتةَ {وَيُوَلُّونَ الدبر} أي {الأدبارَ} وقد قرئ كذلكَ. والتوحيدُ لإرادةِ الجنسِ أو إرادةِ أن كلّ واحدٍ منهم يولِّي دبرَه وقد كان كذلكَ يومَ بدرٍ. قال سعيدُ بنُ المسيِّبِ: سمعتُ عمَر بنَ الخطابِ رضيَ الله عنُهُ يقولُ: «لما نزلتْ {سُيهزمُ الجمعُ ويولونَ الدبرَ} كنتَ لا أدرِي أيَّ جمعٍ يُهزمُ فلمَّا كانَ يومَ بدرٍ رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يلبَسُ الدرعَ ويقولُ: {سُيهزمُ الجمعُ ويولونَ الدبرَ} فعرفتُ تأويلَها». وقرئ: {سَيهزمُ} الجمعَ أي الله عزَّ وعَلاَ {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} أي ليسَ هَذا تمامَ عقوبتِهم، بلِ الساعةُ موعدُ أصلِ عذابِهم وهَذا من طلائعِه {والساعة أدهى وَأَمَرُّ} أي في أقصى غايةٍ من الفظاعةِ والمرارةِ. والداهيةُ الأمرُ الفظيعُ الذي لا يُهتدَى إلى الخلاصِ عنْهُ. وإظهارُ الساعةِ في موقعِ إضمارِها لتربيةِ تهويلها.
{إِنَّ المجرمين} من الأولينَ والآخرينَ {فِى ضلال وَسُعُرٍ} أي في هلاكٍ ونيرانٍ مسعرةٍ وقيلَ: في ضلال عن الحقِّ في الدُّنيا، ونيرانٍ في الآخرةِ. وقولُه تعالَى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} إلخ منصوبٌ إمَّا بما يُفهمُ من قولِه تعالَى في ضلالٍ أي كائنونَ في ضلالٍ وسعرٍ يومَ يجرونَ {فِى النار على وُجُوهِهِمْ} وإما بقول مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} أي قاسُوا حرَّها وألمَها. وسقرُ علمُ جهنَّم ولذلكَ لم يُصرفْ منْ سقرتْهُ النارُ وصقرتْهُ إذا لوَّحتْهُ. والقولُ المقدرُ على الوجهِ الأولِ حالٌ من ضميرِ يسحبونَ. {إِنَّا كُلَّ شَىْء} من الأشياءِ {خلقناه بِقَدَرٍ} أي ملتبساً بقدرٍ معينٍ اقتضْتُه الحكمةُ التي عليَها يدورُ أمرُ التكوينِ أو مقدراً مكتوباً في اللوحِ قبلَ وقوعِه. وكلَّ شيءٍ منصوبٌ بفعلٍ يفسرُه ما بعَدُه وقرئ بالرفعِ على أنَّه مبتدأٌ وخلقناهُ خبرُهُ.

.تفسير الآيات (50- 55):

{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}
{وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة} أي كلمةٌ واحدةٌ سريعةُ التكوينِ وهُو قولُه تعالَى كُنْ أو إلا فعلةٌ واحدةٌ هو الإيجادُ بلا معالجةٍ {كَلَمْحٍ بالبصر} في اليُسرِ والسرعةِ وقيلَ: معناهُ قولُه تعالَى: {وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم} أي أشباهَكُم في الكفرِ من الأممِ وقيل: أتباعَكُم {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} يتعظُ بذلكَ {وَكُلُّ شيء فَعَلُوهُ} من الكفرِ والمعاصِي مكتوبٌ على التفصيلِ {فِى الزبر} أي في ديوانِ الحفظةِ {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} من الأعمالِ {مُّسْتَطَرٌ} مسطورٌ في اللوحِ المحفوظِ بتفاصيلِه، ولما كانَ بيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ بقوله تعالى: {إِنَّ المجرمين} إلخ مِمَّا يستدعِي بيانَ حُسنِ حالِ المؤمنينَ ليتكافأَ الترهيبُ والترغيبُ بيّن ما لَهُم من حسنِ الحالِ بطريقِ الإجمالِ فقيلَ: {إِنَّ المتقين} بالإيمانِ أي منَ الكفرِ والمعاصِي {فِي جنات} عظيمةِ الشأنِ {وَنَهَرٍ} أي أنهارٍ. كذلكَ والإفرادُ للاكتفاءِ باسمِ الجنسِ مراعاةً للفواصلِ، وقرئ: {نُهْرٍ} جمعُ نَهَرٍ كأُسْدٍ وأَسدٍ {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} في مكانٍ مرضيَ وقرئ: {في مقاعدِ صدقٍ} {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} أي مقربينَ عند مليكٍ لا يُقادَرُ قدرُ ملكِه وسلطانِه فلا شيءَ إلاَّ وهو تحتَ ملكوتِه سبحانَهُ ما أعظمَ شأنَهُ.
عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سورةَ القمرِ في كلِّ غِبَ بعثَهُ الله تعالى يومَ القيامةِ ووجهُه مثلُ القمرِ ليلةَ البدرِ».

.سورة الرحمن:

.تفسير الآيات (1- 5):

{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)}
لَمَّا عدَّدَ في السورةِ السابقةِ ما نزلَ بالأممِ السالفةِ من ضروبِ نقمِ الله عزَّ وجلَّ وبيّن عَقيبَ كلِّ ضربٍ منَها أنَّ القرآنَ قدْ يُسِّرِ لحملِ النَّاسِ عَلى التذكرِ والاتعاظِ ونَعَى عليهم إعراضَهُم عن ذلكَ عدَّدَ في هذه السورةِ الكريمةِ ما أفاضَ على كافَّةِ الأنامِ من فنونِ نِعَمِه الدينيةِ والدنيويةِ الأنفسيةِ والآفاقيةِ، وأنكرَ عليهم إِثْرَ كلِّ فنٍ منها إخلالَهُم بمواجبِ شُكرِها، وبُدىءَ بتعليمِ القُرآنِ فقيلَ: {الرحمن * عَلَّمَ القرءان} لأنَّ أعظمُ النعمِ شأناً وأرفعُها مكاناً كيفَ لا وهُو مدارٌ للسعادةِ الدينيةِ والدنيويةِ عيارٌ على سائرِ الكتبِ السماويةِ، ما منْ مرصدٍ يرنُو إليه أحداقُ الأممِ إلا وهُو منشؤُه ومناطُه، ولا مقصدٍ يمتدُّ إليه أعناقُ الهممِ إلا وهُو منهجُه وصراطُه، وإسنادُ تعليمِه إلى اسمِ الرَّحمنِ للإيذانِ بأنَّه من آثارِ الرحمةِ الواسعةِ وأحكامِها، وقد اقتُصرَ على ذكرِه تنبيهاً على أصالتِه وجلالةِ قدرِه، ثمَّ قيلَ: {خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان} تعييناً للمعلَّم وتبييناً لكيفيةِ التعليمِ، والمرادُ بخلقِ الإنسانِ إنشاؤُه على ما هُو عليه منَ القُوى الظاهرةِ والباطنةِ، والبيانُ هو التعبيرُ عمَّا في الضميرِ وليسَ المرادُ بتعليمِه مجردَ تمكينِ الإنسانِ من بيانِ نفسِه بل منْهُ ومنْ فهمِ بيانِ غيرِه أيضاً إذْ هُو الذي يدورُ عليه تعليمُ القُرآنِ. والجملُ الثلاثُ أخبارٌ مترادفةٌ للرَّحمنُ، وإخلاءُ الأخيرتينِ عن العاطفِ لورودِها على منهاجِ التعديدِ. {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} أي يجريانِ بحسابٍ مقدرٍ في بروجِهما ومنازلِهما بحيثُ ينتظمُ بذلكَ أمورُ الكائناتِ السفلية وتختلفُ الفصولُ والأوقاتُ وتُعلمُ السنونَ والحسابُ.