فصل: تفسير الآيات (6- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (6- 9):

{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)}
{والنجم} أي النباتُ الذي ينجُم أي يطلُع من الأرضِ ولا ساقَ لهُ {والشجر} أي الذي له ساقٌ {يَسْجُدَانِ} أي ينقادانِ له تعالَى فيمَا يريدُ بهما طبعاً انقيادَ الساجدينَ من المكلفينَ طوعاً. والجملتانِ خبرانِ آخرانِ للرَّحمنُ جُردتاً عن الرابطِ اللفظيِّ تعويلاً على كمالِ قوةِ الارتباطِ والمعنويِّ إذ لا يتوهمُ ذهابُ الوهمِ إلى كونِ حالِ الشمسِ والقمرِ بتسخيرِ غيرِه تعالى ولا إلى كونِ سجودِ النجمِ والشجرِ لما سواهُ تعالى كأنَّه قيلَ: الشمسُ والقمرُ بحسبانِه والنجمُ والشجرُ يسجدانِ لهُ، وإخلاءُ الجملةِ الأُولى عن العاطفِ لما ذُكِرَ من قبلُ وتوسيطُ العاطفِ بينَها وبينَ الثانيةِ لتناسبِهما من حيثُ التقابلُ لما أنَّ الشمسَ والقمرَ علويانِ والنجمَ والشجرَ سفليانِ ومن حيثُ إنَّ كلاًّ من حالِ العلويينِ وحالِ السفليينِ من بابِ الانقيادِ لأمرِ الله عزَّ وجلَّ.
{والسماء رَفَعَهَا} أي خلقَها مرفوعةً محلاً ورتبةً حيثُ جعلَها منشأَ أحكامِه وقضاياهُ ومتنزَّلَ أوامرِه ومَحَلَّ ملائكتِه، وفيهِ من التنبيهِ على كبرياءِ شأنِه وعظمِ ملكِه وسلطانِه ما لا يَخْفى. وقرئ بالرفعِ على الابتداءِ. {وَوَضَعَ الميزان} أيْ شرعَ العدلَ وأمرَ بهِ بأنْ وفَّرَ كلَّ مستحقَ ما استحقَّهُ ووفَّى كلَّ ذِي حقَ حقَّهُ حتى انتظمَ به أمرُ العالمِ واستقامَ، كَما قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «بالعدلِ قامتِ السمواتُ والأرضُ». قيلَ: فَعلى هذا الميزانُ: القرآنُ، وهو قُولُ الحسينِ بنِ الفضلِ، كما في قولِه تعالى: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} وقيلَ: هو ما يُعرفُ به مقاديرُ الأشياءِ من ميزانٍ ومكيالٍ ونحوِهما، وهو قولُ الحسنِ وقتادةَ والضَّحاكِ فالمَعْنى خلقَه موضوعاً مخفوضاً على الأرضِ حيثُ علقَ به أحكامَ عبادهِ وقضايَاهُم ومَا تعّبدهُم بهِ من التسويةِ والتعديلِ في أخذِهم وإعطائِهم. {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} أيْ لئلا تطغَوا فيهِ على أنَّ (أنْ) ناصبةٌ ولا نافيةٌ ولامَ العلةِ مقدرةٌ متعلقةٌ بقولِه تعالى ووضعَ الميزانَ أو أن لا تطغَوا على أنَّها مفسرةٌ لما في الشرعِ من مَعْنى القولِ ولا ناهيةٌ أي لا تعتدُوا ولا تتجاوزُوا الإنصافَ. وقرئ: {لا تطغَوا} على إرادةِ القولِ. {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} قوِّموا وزنَكُم بالعدلِ وقيلَ: أقيمُوا لسانَ الميزانِ بالقسطِ والعدلِ، وقيلَ: الإقامةُ باليدِ والقسطُ بالقلبِ، {وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} أي لا تُنقصُوه، أمرَ أولاً بالتسويةِ ثمَّ نهَى عن الطغيانِ الذي هو اعتداءٌ وزيادةٌ ثمَّ عن الخسران الذي هو تطفيفٌ ونقصانٌ وكررَ لفظَ الميزانِ تشديداً للتوصية به وتأكيداً للأمرِ باستعمالِه والحثِ عليهِ. وقرئ: {ولا تَخسُروا} بفتحِ التاء وضم السين وكسرها يقال: خسر الميزان يخسره وبفتح السينِ أيضاً على أنَّ الأصلَ ولا تخسَروا في الميزانِ فَحُذِفَ الجارُّ وأوصلَ الفعلُ.

.تفسير الآيات (10- 13):

{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}
{والأرض وَضَعَهَا} أي خفضَها مدحوَّةً على الماءِ {لِلأَنَامِ} أي الخلقِ، قيلَ: المرادُ به كلُّ ذِي رُوحٍ وقيلَ: كلُّ ما على ظهرِ الأرضِ من دابَّةٍ وقيلَ: الثقلان. وقوله تعالى: {فِيهَا فاكهة} الخ. استئناف مسوق لتقرير ما أفاده الجملة السابقةُ من كونِ الأرضِ موضوعةً لمنافعِ الأنامِ وتفصيلِ المنافعِ العائدةِ إلى البشرِ، وقيلَ: حالٌ مقدرةٌ من الأرضِ، فالأحسنُ حينئذٍ أنْ يكونَ الحالُ هو الجارَّ والمجرورَ، وفاكهةٌ رفعَ على الفاعليةِ أي فيها ضروبٌ كثيرةٌ مما يُتفكَّه بهِ. {والنخل ذَاتُ الأكمام} هي أوعيةُ الثمرِ جَمعُ كِمَ أو كلُّ ما يُكَمّ أي يُغطَّى من ليفٍ وسعفٍ وكُفُرَّى فإنَّه ما ينتفعُ به كالمكمومِ من ثمرهِ وجُمَّارهِ وجذوعِه. {والحب} هو ما يُتغذَّى بهِ كالحنطةِ والشعيرِ. {ذُو العصف} هو ورقُ الزرعِ، وقيل: التبنُ {والريحان} قيلَ: هو الرزقُ أريدَ به اللبُّ أي فيها ما يتلذذ به من الفواكه والجامع بين التلذذ والتغذي وهو ثمر النخل وما يُتغذَّى بهِ وهو الحبُّ الذي له عصفٌ هو علفُ الأنعامِ وريحانٌ هو مطِعُم الناسِ. وقرئ: {والحبَّ ذا العصفِ والريحانَ} أي خلقَ الحبَّ والريحانَ أو أَخصُّ، ويجوزُ أنْ يرادَ وذَا الريحانِ فحُذفَ المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليهِ مُقامَهُ. والريحانُ إمَّا فيعلانٌ من رَوَح فقلبتْ واوُه ياءً وأُدغمَ ثمَّ خففَ، أو فعلانٌ قلبتْ واوُه ياءً للتخفيفِ أو للفرقِ بينَهُ وبين الرَّوحانِ وهو ما لَه روحٌ قاله القرطبيُّ {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} الخطابُ للثقلينِ المدلولِ عليهما بقولِه تعالى للأنامِ، وسينطقُ به قولُه تعالى أيُّها الثقلانِ والفاءُ لترتيبِ الإنكارِ والتوبيخِ على ما فُصِّلَ من فنونِ النعماءِ وصنوفِ الآلاءِ الموجبةِ للإيمانِ والشكرِ حتماً، والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ المنبئةِ عن المالكيةِ الكلِّيةِ والتربيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم لتأكيدِ النكيرِ وتشديدِ التوبيخِ ومعنى تكذيبِهم بآلائِه تعالى كفرُهم إما بإنكارِ كونِه نعمةً في نفسهِ كتعليمِ القرآنِ يستندُ إليهِ من النعمِ الدينيةِ وإما بإنكارِ كونِه من الله تعالى مع الاعترافِ بكونِه نعمةً في نفسِه كالنعمِ الدنيويةِ الواصلةِ إليهم بإسنادِه إلى غيرِه تعالَى استقلالاً أو اشتراكاً صريحاً أو دلالةً فإنَّ إشراكَهُم لآلهتِهم به تعالَى في العبادةِ من دواعِي إشراكِهم لها به تعالى فيما يُوجبها، والتعبيرُ عن كفرِهم المذكورِ بالتكذيبِ لما أنَّ دلالةَ الآلاءِ المذكورةِ على وجوبِ الإيمانِ والشكرِ شهادةٌ منها بذلك فكفرُهم بها تكذيبٌ بَها لا محالةَ أي فإذا كان الأمرُ كما فُصِّلَ فبأيِّ فردٍ من أفرادِ آلاءِ مالكِكُما ومربِّيكُما بتلكَ الآلاءِ تكذبانِ مع أنَّ كلاً منها ناطقٌ بالحقِّ شاهدٌ بالصدقِ.

.تفسير الآيات (14- 22):

{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)}
{خَلَقَ الإنسان مِن صلصال كالفخار} تمهيدٌ للتوبيخِ على إخلالِهم بمواجبِ شكرِ النعمةِ المتعلقةِ بذواتِ كلِّ واحدٍ من الثقلينِ. والصلصالُ الطينُ اليابسُ الذي له صلصلةٌ، والفخَّارُ الخزفُ. وقد خلقَ الله تعالى آدمَ عليهِ السلامُ من ترابٍ جعلَهُ طيناً ثم حمأً مسنوناً ثم صلصالاً فلا تنافيَ بين الآيةِ الناطقةِ بأحدِها وبينَ ما نطقَ بأحدِ الآخرينِ. {وَخَلَقَ الجان} أي الجِنَّ أو أبَا الجِنِّ. {مِن مَّارِجٍ} من لهبٍ صافٍ {مّن نَّارٍ} بيانٌ لمارجٍ فإنَّه في الأصلِ للمضطربِ، منْ مَرَجَ إذا اضطربَ. {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مما أفاضَ عليكُما في تضاعيفِ خلقِكما من سوابغِ النعمِ {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} بالرفعِ على خبريَّة مبتدأٍ محذوفٍ أي الذي فعلَ ما ذُكِرَ من الأفاعيلِ البديعةِ ربُّ مشرقي الصيفِ والشتاءِ ومغربيهما، ومن قضيتِه أن يكونَ ربَّ ما يبنهُمَا منَ الموجوداتِ قاطبةً، وقيلَ على الابتداءِ والخبرُ قولُه تعالى مرجَ الخ. وقرئ بالجرِّ على أنَّه بدلٌ من ربِّكُما. {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} ممَّا في ذلكَ من فوائدَ لا تُحصى من اعتدالِ الهواءِ واختلافِ الفصولِ وحدوثِ ما يناسبُ كلَّ فصلٍ في وقتِه إلى غيرِ ذلكَ. {مَرَجَ البحرين} أي أرسلَهُما منْ مرجتُ الدابَّةَ إذا أرسلتُها والمَعْنى أرسلَ البحرَ المِلْحَ والبحرَ العذبَ {يَلْتَقِيَانِ} أي يتجاورانِ ويتماسُّ سطوحُهما لا فصلَ بينَهما في مرأى العينِ وقيلَ: أرسلَ بحرَيْ فارسَ والرومِ يلتقيانِ في المحيطِ لأنهما خليجانِ يتشعبانِ منه {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} أي حاجزٌ من قُدرةِ الله عزَّ وجَلَّ أو منَ الأرضِ {لاَّ يَبْغِيَانِ} أي لا يبغِي أحدُهما على الآخرِ بالممازجةِ وإبطالِ الخاصِّيةِ أو لا يتجاوزانِ حدَّيهُما بإغراقِ ما بينهُما {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وليسَ منهُما شيءٌ يقبلُ التكذيبَ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ} الدرُّ {وَالمَرْجَانُ} الخرزُ الأحمرُ المشهورُ وقيلَ: اللؤلؤُ كبارُ الدرِّ والمرجانُ صغارُه فنسبةُ خروجِهما حينئذٍ إلى البحرينِ معَ أنَّهما إنما يخرجانِ من المِلْحِ على ما قالُوا، لما قيلَ: أنَّهما لا يخرجانِ إلا من مُلتقى المِلْحِ والعذبِ، أو لأنَّهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ساغ أن يقال يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحرِ مع أنهما لا يخرجانِ من جميعِ البحرِ، ولكنْ من بعضِه وهو الأظهرُ. وقرئ: {يُخرَجُ} مبنياً للمفعولِ من الإخراجِ ومبنياً للفاعلِ بنصبِ اللؤلؤُ والمرجانُ وبنونِ العظمةِ.

.تفسير الآيات (23- 29):

{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)}
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * وَلَهُ الجوار} أي السفنُ جمعُ جاريةٍ، وقرئ برفعِ الراءِ وبحذفِ الياءِ كقولِ منْ قال:
للَهَاَ ثَنَايَا أَرْبعٌ حسان ** وَأَرْبعٌ فكُلُّها ثَمَانُ

{المنشآت} المرفوعاتُ الشُّرُعِ، أو المصنوعاتُ، وقرئ بكسرِ الشينِ. أيْ الرافعاتُ الشرُعَ، أو اللاتِي ينشئنَ الأمواجَ بجريهنَّ {فِى البحر كالأعلام} كالجبالِ الشاهقةِ جمعُ عَلَمِ وهو الجبلُ الطويلُ. {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} من خلقِ موادِّ السفنِ والإرشادِ إلى أخذِها وكيفيةِ تركيبِها وإجرائِها في البحرِ بأسبابٍ لا يقدرُ على خلقِها وجمعِها وترتيبِها غيره سبحانَهُ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} أي على الأرضِ من الحيواناتِ أو المركباتِ ومَنْ للتغليبِ أو من الثقلينِ {فَانٍ} هالكٌ لا محالةَ {ويبقى وَجْهُ رَبّكَ} أي ذاتُه عزَّ وجلَّ {ذُو الجلال والإكرام} أي ذُو الاستغناءِ المطبقِ والفضلِ التامِ وقيلَ: الذي عندَهُ الجلالُ والإكرامُ للمخلصينَ من عبادِه وهذهِ من عظائمِ صفاتِه تعالى، ولقدْ قالَ صلى الله عليه وسلم: «ألظُّوا بياذَا الجلالِ والإكرامِ» وعنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أنَّه مرَّ برجلٍ وهُو يُصلِّي ويقولُ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، فقالَ قد استُجيبَ لكَ». وقرئ: {ذِي الجلالِ والإكرام} على أنه صفةُ ربِّك، وأياً ما كانَ ففي وصفهِ تعالَى بذلكَ بعدَ ذكرِ فناءِ الخلقِ وبقائِه تعالى يفيضُ عليهم بعد فنائِهم أيضاً آثارَ لطفِه وكرمِه حسبَما ينبيءُ عنه قولُه تعالَى: {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} فإنَّ أحياءَهُم بالحياةِ الأبديةِ وإثابتَهم بالنعيمِ المقيمِ أجلُّ النعماءِ وأعظمُ الآلاءِ {يَسْأَلُهُ مَن فِي السموات والأرض} قاطبةً ما يحتاجونَ إليه في ذواتِهم ووجوداتِهم حدوثاً وبقاءً وسائرِ أحوالِهم سؤالاً مستمراً بلسانِ المقالِ أو بلسانِ الحالِ فإنَّهم كافةً من حيثُ حقائقُهم الممكنةُ بمعزلٍ من استحقاقِ الوجودِ وما يتفرعُ عليه من الكمالاتِ بالمرةِ بحيثُ لو انقطعَ ما بينَهم وبين العنايةِ الإلهية من العلاقةِ لم يشَمُّوا رائحةَ الوجودِ أصلاً فهم في كلِّ آنٍ مستمرونَ على الاستدعاءِ والسؤالِ وقد مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} من سورةِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ {كُلَّ يَوْمٍ} أي كلَّ وقتٍ من الأوقاتِ. {هُوَ فِي شَأْنٍ} من الشؤونِ التي من جُمْلتها إعطاءُ ما سألُوا فإنَّه تعالى لا يزالُ ينشىءُ أشخاصاً ويُفني آخرينَ ويأتِي بأحوالٍ ويذهبُ بأحوالٍ حسبَما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحِكم البالغةِ، وفي الحديثِ: «من شأنِه أنْ يغفرَ ذنباً ويفرّجَ كرباً ويرفعَ قوماً ويضعَ آخرينَ» قيل: وفيه ردٌّ على اليهودِ حيثُ يقولونَ إنَّ الله لا يقضِي يومَ السبتِ شيئاً.

.تفسير الآيات (30- 33):

{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)}
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مع مشاهدتِكم لما ذُكِرَ من إحسانِه.
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أي سنتجردُ لحسابِكم وجزائِكم وذلكَ يومَ القيامةِ عندَ انتهاءِ شؤونِ الخلقِ المشارِ إليَها بقولِه تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فلا يَبْقى حينئذٍ إلا شأنٌ واحدٌ هو الجزاءُ فعبرَ عنْهُ بالفراغِ لهم بطريقِ التمثيلِ وقيلَ: هو مستعارٌ من قولِ المتهدِّدِ لصاحبهِ؛ سأفرُغُ لكَ أي سأتجردُ للإيقاعِ بكَ من كلِّ ما يشغلنِي عنْهُ والمرادُ التوفرُ على النِّكايةِ فيهِ والانتقامِ منْهُ. وقرئ: {سَيفرُغُ} مبنياً للفاعلِ وللمفعولِ. وقرئ: {سَنفرُغُ إليكُم} أي سنقصدُ إليكُم. {أَيُّهَا الثقلان} هما الإنسُ والجنُّ سُمِّيا بذلكَ لثقلِهما على الأرضِ أو لرزانةِ آرائِهما أو لأنَّهما مثقلانِ بالتكليفِ {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا} التي من جُمْلتِها التنبيهُ على ما سيلقَونَهُ يومَ القيامةِ للتحذيرِ عمَّا يُؤدِّي إلى سوءِ الحسابِ {تُكَذّبَانِ} بأقوالِكما وأعمالِكما.
{يامعشر الجن والإنس} هما الثقلانِ خوطِبا باسمِ جنسِهما لزيادةِ التقريرِ ولأنَّ الجنَّ مشهورونَ بالقدرةِ على الأفاعيلِ الشاقةِ فخُوطبوا بما ينبىءُ عن ذلكَ لبيان أن قدرتَهُم لا تَفِي بما كُلِّفُوه. {إِنِ استطعتم} إنْ قدرتُم عَلى {أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والأرض} أي أن تهربُوا من قضائِي وتخرجُوا من ملكوتِي ومن أقطارِ سمواتِي وأرضِي {فانفذوا} منها وخلِّصُوا أنفسَكُم من عقابِي {لاَ تَنفُذُونَ} لا تقدرونَ عل النفوذِ {إِلاَّ بسلطان} أي بقوةٍ وقهرٍ، وأنتُم من ذلكَ بمعزلٍ بعيدٍ. رُويَ أن الملائكةَ تنزلُ فتحيطُ بجميعِ الخلائقِ فإذا رآهُم الجنُّ والإنسُ هربُوا فلا يأتونَ وجهاً إلا وجدُوا الملائكةَ أحاطتْ بهِ.

.تفسير الآيات (34- 40):

{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)}
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} أي من التنبيهِ والتحذيرِ والمساهلةِ والعفوِ مع كمالِ القدرةِ على العقوبةِ {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} قيلَ: هو اللهبُ الخالصُ وقيلَ: المختلطُ بالدخانِ وقيل: اللهبُ الأخضرُ المنقطعُ من النارِ وقيل: هو الدخانُ الخارجُ من اللهبِ وقيلَ: هو النارُ والدخانُ جميعاً. وقرئ: {شِواظٌ} بكسرِ الشينِ {مّن نَّارٍ} متعلقٌ بيرسلُ أو بمضمرٍ هو صفةٌ لشواظٌ أي كائنٌ من نارٍ، والتنوينُ للتفخيمِ {وَنُحَاسٌ} أي دُخانٌ وقيلَ: صُفرٌ مذابٌ يصبُّ على رؤوسِهم، وقرئ بكسرِ النُّونِ، وقرئ بالجرِّ عطفاً على نارٍ، وقرئ: {نُرسلُ} بنونِ العظمةِ، ونصبِ شُواظاً ونحاساً، وقرئ: {نُحُس} جمعُ نِحاسِ مثلُ لِحافِ ولُحُفِ، وقرئ: {ونَحُسُّ} أي نقتلُ بالعذابِ. {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} أي لا تمتنعانِ {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} فإنَّ بيانَ عاقبةِ ما هُم عليهِ من الكفرِ والمَعَاصِي لطفٌ وأيُّ لُطفٍ ونعمةٌ وأيُّ نعمةٍ. {فَإِذَا انشقت السماء} أي انصدعتْ يومَ القيامةِ {فَكَانَتْ وَرْدَةً} كوردةٍ حمراءَ وقرئ: {وردةٌ} بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ أيَّ حصلتْ سماءٌ وردةٌ فيكونُ من بابِ التجريدِ كقولِ منْ قالَ:
وَلَئِنْ بَقيْتُ لأَرْحَلَّنَّ بغزوة ** تَحوِي الغنائمَ أَوْ يموتَ كريمُ

{كالدهان} خبرٌ ثانٍ لكانَتْ، أو نعتٌ لوردةً أو حالٌ من اسمِ كانتْ، أي كدُهنِ الزيتِ، وهو إمَّا جمعُ دُهنٍ، أو اسمٌ لَما يُدهنُ بهِ كالحِزامِ والأدامِ، وقيلَ: هو الأديمُ الأحمرُ. وجوابُ إذَا محذوفٌ أي يكونُ من الأحوالِ والأهوالِ ما لا يحيطُ بهِ دائرةُ المقالِ. {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مع عظمِ شأنِها {فَيَوْمَئِذٍ} أي يومَ إذُ تنشقُ السماءُ حسبَما ذُكِرَ. {لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} لأنَّهم يُعرفونَ بسيماهُم وذلكَ أولَ ما يخرجونَ من القبورِ ويحشرونَ إلى الموقفِ ذَوْداً ذَوداً على اختلافِ مراتبِهم، وأما قولُه تعالى: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ونحُوه ففي موقفِ المناقشةِ والحسابِ، وضميرُ ذنبِه للإنسِ لتقدمِه رتبةً، وإفرادُه لما أنَّ المرادَ فردٌ من الإنسِ كأنَّه قيلَ: لا يُسألُ عن ذنبهِ إنسيٌّ ولا جنيٌّ. {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} معَ كثرةِ منافعِها، فإنَّ الإخبارَ بما ذُكِرَ ممَّا يزجرُكُم عن الشرِّ المؤدِّي إليهِ، وأما ما قيلَ: ممَّا أنعمَ الله على عبادِه المؤمنينَ في هذا اليومِ فلا تعلقَ لهُ بالمقامِ.