فصل: تفسير الآيات (8- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (8- 10):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} نزلتْ في اليهودِ والمنافقين كانوا يتناجَونَ فيما بينهُمْ ويتغامزونَ بأعينِهمْ إذَا رأَوْا المؤمنينَ فنهاهُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ عادُوا لمثلِ فعلِهمْ والخطابُ للرسولِ عليه الصلاةُ والسَّلامُ والهمزةُ للتعجيبِ منْ حالهِمْ وصيغةُ المضارعِ للدلالةِ عَلَى تكررِ عَودِهمْ وتجددِهِ واستحضارِ صورتِهِ العجيبةِ وقولِهِ تَعَالى: {ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} عطفٌ عليهِ داخلٌ في حُكمهِ أيْ بِمَا هُوَ إثمٌ في نفسِهِ وعدوانٌ للمؤمنينَ وتواصٍ بمعصيةِ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ وذكرُهُ عليِهِ الصلاةُ والسلامُ بعنوانِ الرسالةِ بينَ الخطابينِ المتوجهينِ إليهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لزيادةِ تشنيعِهِم واستعظامِ معصيتِهم وقرئ: {وينتجونَ} بالإثمِ والعِدْوَانِ بكسر العَين ومعصياتِ الرسولِ: {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله} فيقولونَ: السامُ عليكمْ. أو أنعِمْ صَباحاً والله سبحانَهُ يقولُ: {وسلام على المرسلين} {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ} أيْ فِيمَا بينهُمْ {لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} أيْ هلاَّ يعذبُنَا الله بذلكَ لوْ كانَ محمدٌ نبياً {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} عذاباً {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونَها {فَبِئْسَ المصير} أيْ جهنمُ {ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} فِي أنديتِكُمْ وَفِي خلواتِكم {فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول} كما يفعلُه المنافقونَ وَقرئ: {فلا تنتجُوا} و{َفلا تناجَوا} بحذفِ إحدَى التاءين {وتناجوا بالبر والتقوى} أيْ بما يتضمنُ خيرَ المؤمنين والاتقاءَ عن معصيةِ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ. {واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وحْدَهُ لاَ إلى غَيْرِهِ استقلالاً أوِ اشتراكاً فيجازيكُم بكُلِّ ما تأتونَ وتذرونَ {إِنَّمَا النجوى} المعهودةُ التِي هِيَ التناجِي بالإثمِ وَالعدوانِ {مِنَ الشيطان} لاَ مِنْ غَيْرِهِ فإنَّه المزينُ لَها والحاملُ عَليهَا وقولِهِ تَعَالى: {لِيَحْزُنَ الذين ءامَنُواْ} خبرٌ آخرُ أيْ إنَّما هِيَ ليحزنَ المؤمنينَ بتوهمهمْ أنَّها فِي نكبةٍ أصابتهُمْ {وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ} أي الشيطانُ أو التناجِي بضارِّ المؤمنينَ {شَيْئاً} مِنَ الأشياءِ أو شيئاً منَ الضررِ {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أيْ بمشيئتِه {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} ولا يبالُوا بنجواهُم فإنَّه تعالى يعصمُهم منْ شرِّهِ وضرِّهِ.

.تفسير الآيات (11- 12):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}
{ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ} أيْ توسعُوا وليفسحْ بعضُكُمْ عنْ بعضِ ولا تتضامُّوا منْ قولِهم أفسحْ عَنِّي أيْ تنحَّ وقرئ: {تفاسحُوا} وقولِهِ تَعَالى: {فِى المجالس} متعلقٌ بقيلَ وقرئ: {في المجلسِ} عَلى أنَّ المرادَ بِهِ الجنسُ وقيلَ: مجلسُ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وكانُوا يتضامُّون تنافساً في القُربِ منهُ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ حِرْصاً على استماعِ كلامِهِ وقيلَ: هو المجلسُ منْ مجالسِ القتالِ وهيَ مركزُ الغُزاةِ كقولِهِ تَعَالى: {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} قيلَ: كانَ الرجلُ يأتي الصفَّ ويقولُ: تفسحُوا فيأبَونَ لِحرصِهم عَلى الشهادةِ وقرئ: {فِي المجلَسِ} بفتح اللامِ فَهُو متعلقٌ بتفسحُوا قطعاً أيْ توسعُوا فِي جلوسِكم ولا تتضايقُوا فيه {فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ} أي فِي كلِّ ما تريدونَ التفسحَ فيهِ منَ المكانِ والرزقِ والصدرِ والقَبرِ وغيرِهَا {وَإِذَا قِيلَ انشزوا} أي انهضُوا للتوسعةِ عَلى المقبلينَ أوْ لِمَا أمرتمْ بِهِ منْ صلاةٍ أو جهادٍ أو غَيرِهِمَا منْ أعمالِ الخيرِ {فَانشُزُواْ} فانهضُوا ولا تتثبطُوا ولا تفرطُوا وقرئ بكسرِ الشينِ {يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ} بالنصرِ وحسنِ الذكرِ في الدُّنيا والإيواءِ إلى غُرفِ الجنانِ في الآخرةِ {والذين أُوتُواْ العلم} منهُمْ خصوصاً {درجات} عالية بما جمعُوا منْ أثرتي العلمِ والعملِ فإنَّ العلمَ معَ علوِّ رتبتِه يقتضِي العملُ المقرونُ بهِ مزيدَ رفعةٍ لا يدركُ شأوَهُ العملُ العارِيُّ عَنْهُ وإنْ كانَ في غايةِ الصلاحِ ولذلكَ يقتدي بالعالمِ في أفعالِه ولا يقتدَى بغيرِهِ وفي الحديثِ: «فضلُ العالمِ عَلى العابِدِ كفضلِ القمرِ ليلة البدرِ عَلى سائرِ الكواكبِ» {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تهديدٌ لمنْ لمْ يمتثلْ بالأمرِ وقرئ: {يعملونَ} بالياءِ التحتانيةِ.
{ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول} في بعضِ شؤونكُم المهمةِ الداعية إلى مناجاتِهِ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ: {فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً} أيْ فتصدقُوا قبلَها مستعارٌ ممنْ لهُ يدانِ وفي هذا الأمرِ تعظيمُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وإنفاعُ الفقراءِ والزجرُ عنِ الإفراطِ في السؤالِ والتمييزُ بينَ المخلصِ والمنافقِ ومحبِّ الآخرةِ ومحبِّ الدُّنيا واختلفَ في أنَّه للندبِ أو للوجوبِ لكنهُ نُسِخَ بقولِهِ تَعَالى: {أَءشْفَقْتُمْ} وهُوَ وإنْ كَان متصلاً بِهِ تلاوةً لكنَّه متراخٍ عَنْهُ نزولاً وَعَنْ عليَ رضيَ الله عنهُ: «إنَّ فِي كتابِ الله أيةً ما عَمِلَ بِهَا أحدٌ غَيْرِي كانَ لي دينارٌ فصرفتُه فكنتُ إذَا ناجيتُه عليهِ الصلاةُ والسلامُ تصدقتُ بدرهم» وهُوَ على القولِ بالوجوبِ محمولٌ على أنَّه لمْ يتفقْ للأغيناءِ مناجاةٌ في مدةِ بقائِه إذْ رُوي أنَّه لمْ يَبقَ إلاَّ عشراً وقيل: إلاَّ ساعةً {ذلك} أي التصدق {خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} أيْ لأنفسكم منَ الريبةِ وحبِّ المَالِ وهذا يشعرُ بالندبِ لكنَّ قولِهُ تَعَالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} منبىءٌ عنِ الوجوبِ لأنَّه ترخيصٌ لمنْ لَمْ يجدْ فِي المناجَاةِ بلا تصدقٍ.

.تفسير الآيات (13- 15):

{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)}
{أَءشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات} أيْ أخفتمْ الفقرَ منْ تقديمِ الصدقاتِ أو أخفتمْ التقديمَ لما يعدكُم الشيطانُ عليهِ منَ الفقرِ وجمعَ صدقاتٍ لجمعِ المخاطبينَ {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} ما أمرتمْ بهِ وشَقَّ عَليكُمْ ذلكَ {وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} بأنْ رخصَ لكُم أنْ لا تفعلُوه وفيه إشعارٌ بأنَّ إشفاقَهُم ذنبٌ تجاوزَ الله عنْهُ لما رأى منهم منَ الانفعالِ مَا قامَ مقَام توبتهِم وإذْ عَلى بابِهَا مِنَ المُضيِّ وقيلَ: بِمَعْنى إذَا كَمَا في قولِهِ تَعَالى: {إِذِ الأغلال فِي أعناقهم} وقيلَ: بمعنى إنْ: {فأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكواة} أيْ فإذْ فرطتُم فِيمَا أُمِرتُمْ بهِ منْ تقديمِ الصدقاتِ فتداركُوه بالمثابرةِ عَلى إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في سائرِ الأوامرِ فإنَّ القيامَ بِها كالجابرِ لما وقعَ في ذلكَ من التفريطِ {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ظاهراً وباطناً {أَلَمْ تَرَ} تعجيب منْ حالِ المنافقينَ الذين كانُوا يتخذونَ اليهودَ أولياءَ ويناصحونَهُم وينقلونَ إليهم أسرارَ المؤمنينَ أيْ ألمْ تنظُرْ {إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ} أيْ والوْا {قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} وَهُمْ اليهودُ كَمَا أنبأ عَنْهُ قولِهِ تَعَالى: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} {مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} لأنهم منافقونَ مذبذبونَ بينَ ذلكَ والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ منْ فاعِلِ تولُوا {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب} أي يقولونَ والله إنَّا لمسلمونَ وهو عطفٌ عَلى تولَّوا داخلٌ في حُكمِ التعجيبِ وصيغةُ المضارعِ للدلالةِ على تكرر الحلفِ وتجددِّهِ حسبَ تكررِ ما يقتضيهِ وقولِهِ تَعَالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حالٌ منْ فاعِلِ يحلفونَ مفيدةٌ لكمال شناعةِ ما فعلُوا فإنَّ الحلفَ عَلى مَا يُعلمُ أنَّه كذبٌ في غايةِ القُبحِ وفيهِ دلالةٌ على أنَّ الكذبَ يعمُّ ما يعلمُ المخبرُ عدمَ مطابقتهِ للواقعِ وما لا يعلمُه. رُوي أنَّه عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ كانَ في حجرةٍ من حجراتِه فقال: «يدخلُ عليكُم الآن رجلٌ قلبُه قلبُ جبارٍ، وينظرُ بعينِ شيطانٍ» فدخلَ عبدُ اللَّهِ بن نَبْتَل المنافقُ، وكان أزرقَ، فَقَالَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «علامَ تشتمني أنتَ وأصحابُك» فحلفَ بالله ما فعلَ فقالَ عليِه الصلاة والسلامُ: «فعلتَ» فانطلق فجاءَ بأصحابُه فحلفُوا بالله ما سبُّوه فنزلتْ.
{أَعَدَّ الله لَهُمْ} بسببِ ذلكَ {عَذَاباً شَدِيداً} نوعاً من العذابِ متفاقماً {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فيما مَضَى منَ الزمانِ المتطاولِ فتمرنُوا على سوءِ العمل وضرُوْا به وأصرُّوا عليه.

.تفسير الآيات (16- 18):

{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)}
{اتخذوا أيمانهم} الفاجرةَ التي يحلفونَ بِهَا عندَ الحاجَةِ وقرئ بكسرِ الهمزةِ أيْ إيمانُهُم الذي أظهروه لأهل الإسلامِ {جَنَّةُ} وقايةً وسترةً دونَ دمائِهم وأموالِهم فالاتخاذُ على هذهِ القراءةِ عبارةٌ عن التسترِ بما أظهروه بالفعلِ وأمَّا عَلى القراءةِ الأولى عبارةٌ عن إعدادِهم لأيمانِهم الكاذبةِ وتهيئتِهم لَها إلى وقتِ الحاجةِ ليحلفوا بِهَا ويتخلصُوا من المؤاخذةِ لا عنِ استعمالِها بالفعلِ فإنَّ ذلك متأخرٌ عنِ المؤاخذة المسبوقةِ بوقوعِ الجنايةِ والخيانةِ، واتخاذُ الجُنَّةِ لابد أنْ يكونَ قبلَ المؤاخذةِ وعن سبَبِها أيضاً كَمَا يعربُ عنْهُ الفاءُ في قولِهِ تَعَالى: {فَصَدُّواْ} أي الناس {عَن سَبِيلِ الله} في خلالِ أمنهِم بتثبيطِ من لقوْا عنِ الدخولِ في الإسلامِ وتضعيفِ أمرِ المسلمينَ عندهُمْ {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وعيدٌ ثانٍ بوصفٍ آخرَ لعذابِهم وقيلَ: الأولُ عذابُ القبرِ وَهَذا عذابُ الآخرةِ. {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله} أي منْ عذابِه تَعَالى {شَيْئاً} منَ الإغناءِ رُوي أنَّ رجلاً منهم قالَ: لنُنصَرَنَّ يومَ القيامَةِ بأنفسنا وأموالِنا وأولادِنا {أولئك} الموصوفونَ بما ذكرَ منَ الصفاتِ القبيحةِ {أصحاب النار} أيْ ملازمُوهَا ومقارنُوهَا {هُمْ فِيهَا خالدون} لا يخرجونَ منها أبداً {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} قيلَ: هو ظرفٌ لقولِهِ تَعَالى: {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} {فَيَحْلِفُونَ لَهُ} أيْ لله تعالى يومئذٍ على أنهُمْ مسلمونَ {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} فِي الدُّنيا {وَيَحْسَبُونَ} في الآخرةِ {أَنَّهُمْ} بتلكَ الأيمانِ الفاجرةِ {على شَىْء} من جلبِ منفعةٍ أو دفعِ مضرةٍ كما كانُوا عليهِ في الدُّنيا حيثُ كانوا يدفعونَ بِهَا عنْ أرواحِهم وأموالِهم ويستجرونَ بها فوائدَ دنيويةً {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} البالغونَ في الكذبِ إلى غايةٍ لا مطمحَ وراءَها حيثُ تجاسرُوا عَلى الكذبِ بينَ يَدي علاَّمِ الغيوبِ وزعمُوا أنَّ أيمانَهُم الفاجرةَ تروجُ الكذبَ لديهِ كَمَا تروجُهُ عندَ الغافلينَ.

.تفسير الآيات (19- 22):

{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}
{استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} أي استولى عليهمْ منْ حُذتُ الإبلَ إذَا استوليتُ علَيها وجمعتها وهوَ مما جاء على الأصلِ كاستصوبَ واستنوقَ أي ملَكهُم {فأنساهم ذِكْرَ الله} بحيثُ لم يذكرُوه بقلوبِهم ولا بألسنتِهم {أولئك} الموصوفونَ بما ذكرَ من القبائحِ {حِزْبُ الشيطان} أيْ جنودُهُ وأتباعُهُ {إِلا أَنْ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون} أي الموصوفونَ بالخُسرانِ الذي لا غايةَ وراءَهُ حيثُ فوتُوا على أنفسهِم النعيمَ المقيمَ وأخذُوا بدَلَهُ العذابَ الأليمَ، وفي تصدير الجملةِ بحرفي التنبيهِ والتحقيقِ وإظهارِ المضافينِ معاً في موقعِ الإضمارِ بأحدِ الوجهينِ وتوسيطِ ضميرِ الفصلِ منْ فنونِ التأكيد ما لا يَخْفَى {إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ} استئنافٌ مسوقٌ لتعليلِ ما قبلَهُ من خسرانِ حزبِ الشيطانِ عبرَ عنهُمْ بالموصولِ للتنبيهِ بما في حيزِ الصلةِ عَلى أنَّ مُوادةَ مَنْ حَادَّ الله ورسولَهُ محادّةٌ لَهُمَا والإشعارِ بعلةِ الحُكمِ {أولئك} بما فعلُوا منَ التولِي والموادةِ {فِى الأذلين} أيْ في جُملةِ منْ هُو أذلُّ خلقِ الله منَ الأولينَ والآخرينَ لأنَّ ذلةَ أحدِ المتخاصمينَ على مقدارِ عزةِ الآخرِ وحيثُ كانتْ عزةُ الله عزَّ وجلَّ غير متناهيةٍ كانتُ ذلةُ من يحادُّهُ كذلك.
{كتاب الله} استئنافٌ واردٌ لتعليلِ كونِهمْ في الأذلينَ أيْ قَضَى وأثبتَ في اللوحِ وحيثُ جَرَى ذلكَ مَجرى القسمِ أجيبَ بما يجابُ به فقيلَ: {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} أيْ بالحجةِ والسيفِ وما يجري مجراهُ أو بأحدِهِمَا ونظيرُهُ قولُه تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} وقرئ: {ورسليَ} بفتح الياء {إِنَّ الله قَوِىٌّ} عَلَى نصرِ أنبيائِهِ {عَزِيزٌ} لا يُغلب عليهِ في مرادِهِ.
{لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر} الخطابُ للنبيِّ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ أوْ لكُلِّ أحدٍ وتجدُ إمَّا متعدٍ إلى اثنينِ فقولِهِ تَعَالى: {يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} مفعولُه الثاني أوْ إلى واحدٍ فهو حالٌ من مفعولِه لتخصصهُ بالصفةِ وقيلَ: صفةٌ أُخرى لَهُ أيْ قوماً جامعينَ بينَ الإيمانِ بالله واليومِ الآخرِ وبينَ موادةِ أعداءِ الله ورسولِه والمرادُ بنفيِ الوجدانِ نفيُ الموادةِ عَلى مَعْنَى أنهُ لا ينبغي أنْ يتحققَ ذلكَ وحقُّه أن يمتنعَ ولا يوجدَ بحالٍ وإنْ جدَّ في طلبهِ كلُّ أحدٍ {وَلَوْ كَانُواْ} أيْ مَنْ حادَّ الله ورسولَهُ والجمعُ باعتبارِ معَنَى مَنْ كَمَا أنَّ الإفرادَ فيما قبلَهُ باعتبارِ لفظها {ءابَاءهُمُ} آباءُ الموادِّينَ {أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} فإنَّ قضيةَ الإيمانِ بالله تعالى أَنْ يهجرَ الجميعَ بالمرةِ والكلامُ في لَوْ قَدْ مرَّ على التفصيل مراراً {أولئك} إشارةٌ إلى الذينَ لا يوادونهم وإنْ كانُوا أقربَ النَّاسِ إليهم وأمسَّ رحماً وما فيه من معَنى البعدِ لرفعةِ درجتهم في الفضلِ وهُوَ مبتدأ خبرُهُ {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} أي أثبتَهُ فيها وفيهِ دلالةٌ عل خروجِ العملِ منْ مفهومِ الإيمانِ فإنَّ جزءَ الثابتِ في القلبِ ثابتٌ فيهِ قَطْعاً ولا شيءَ من أعمالِ الجوارحِ يثبتُ فيهِ {وَأَيَّدَهُمْ} أيْ قوَّاهُم {بِرُوحٍ مّنْهُ} أيْ مِنْ عندِ الله تعالىَ وهُوَ نورُ القلبِ أوِ القرآنُ أو النصرُ على العدوِّ وقيلَ: الضميرُ للإيمانِ لحياةِ القلوبِ بهِ فمنْ تجريديةٌ وقولُهُ تعالَى: {وَيُدْخِلُهُمُ} إلخ بيانٌ لآثارِ رحمتهِ الأخرويةِ إثرَ بيانِ ألطافهِ الدنيويةِ أيْ ويدخلهُم في الآخرةِ {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا} أبدَ الآبدينَ وقولُه تَعَالى: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئنافٌ جارٍ مَجْرَى التعليلِ لما أفاضَ عليهمْ مِنْ آثارِ رحمتِهِ العاجلةِ والآجلةِ وقولُه تَعَالى: {وَرَضُواْ عَنْهُ} بيانٌ لابتهاجِهم بما أوتُوه عاجلاً وآجلاً وقولُه تَعَالَى: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله} تشريفٌ لهُمْ ببيانِ اختصاصِهم بهِ عزَّ وجلَّ وقولُه تعالَى: {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} بيانٌ لاختصاهِهم بالفوزِ بسعادةِ الدارينِ والفوزِ بسعادةِ النشأتينِ والكلامُ في تحليةِ الجملةِ بفنونِ التأكيدِ كَمَا مَرَّ فِي مثلِها.
عن النبيِّ عليه الصلاةُ والسَّلامُ: «مَنْ قَرَأَ سورةَ المجادلةِ كتبَ منْ حزبِ الله يومَ القيامةِ».