فصل: تفسير الآيات (35- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (35- 41):

{أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)}
{أولئك} إشارةٌ إلى الموصوفينَ بما ذُكِرَ من الصفاتِ، وما فيهِ من مَعْنَى البعد مع قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِم للإيذانِ بعلوِّ شأنِهِم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضلِ وهو مبتدأٌ خبرُهُ {فِي جنات} أي مستقرونَ في جناتٍ لا يُقادَرُ قَدرُهَا ولا يُدرَكُ كُنْهُهَا. وقوله تعالَى: {مُّكْرَمُونَ} خبرٌ آخرُ، أو هُو الخبرُ وفي جناتٍ متعلقٌ بهِ قُدِّمَ عليهِ لمراعاةِ الفواصلِ، أو بمضمرٍ هو حالٌ من الضميرِ في الخبرِ أي مكرمونَ كائنينَ في جنَّاتٍ.
{فَمَالِ الذين كَفَرُواْ قَبْلِكَ} حولَكَ {مُهْطِعِينَ} مُسرعينَ نحوكَ مادِّي أعناقِهِم إليكَ مقبلينَ بأبصارِهِم عليكَ {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} أي فِرَقاً شتَّى جمعُ عِزَةٍ، وأصلُهَا عِزْوَةٌ من العِزِّ، وكأنَّ كلَّ فرقةٍ تعتزِي إلى غيرِ من تعتزِي إليهِ الأُخرى، كانَ المُشركونَ يحلّقونَ حولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حِلقاً حِلقاً وفِرقاً فِرقاً ويستهزئونَ بكلامِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ويقولونَ إنْ دخلَ هؤلاءِ الجنَّةَ كما يقولُ محمدٌ فلندخلنَّها قبلَهُم فنزلتْ {أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} بلا إيمانٍ {كَلاَّ} ردعٌ لهم عن ذلكَ الطمعِ الفارغِ {إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ} قيلَ هو تعليلٌ للردعِ والمَعْنَى إنا خلقناهُم من أجلِ ما يعلمونَ كما في قولِ الأَعْشَى:
أَأَزْمَعْتَ مِنْ آلِ لَيْلَى ابتكارَا ** وَشَطَّتْ عَلَى ذِي هَوَى أنْ تَزَارَا

وهو تكميلُ النفسِ بالإيمانِ والطاعةِ فمنْ لَمْ يستكملْهَا بذلكَ فهو بمعزلٍ من أنْ يُبوأ مبوأَ الكاملينَ فمن أينَ لهُم أن يطمعُوا في دخولِ الجنةِ وهم مكبونَ على الكفرِ والفسوقِ وإنكارِ البعثِ، وقيل معناهُ إنَّا خلقناهُم مما يعلمونَ من نطفةٍ مذِرةٍ فمن أينَ يتشرفونَ ويدّعُونَ التقدمَ ويقولونَ لندخلنَّ الجنةَ قبلَهُم، وقيلَ إنهم مخلوقونَ من نطفةٍ قذرةٍ لا تناسبُ عالمَ القدسِ فمتَى لم تستكملِ الإيمانَ والطاعةَ ولم تتخلقْ بالأخلاقِ الملكيةِ لم تستعدَّ لدخولِهَا ولا يَخْفَى ما في الكلِّ من التمحلِ والأقربُ أنَّه كلامٌ مستأنفٌ قد سبقَ تمهيداً لما بعدَهُ من بيانِ قدرتِهِ تعالَى على أنْ يُهلكهم لكُفرِهِم بالبعثِ والجزاءِ واستهزائِهِم برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وبما نزلَ عليهِ منَ الوحيِ وادعائِهِم دخولَ الجنةِ بطريقِ السخريةِ وينشىءَ بدلَهُم قوماً آخرينَ فإن قدرَتَهُ تعالَى على ما يعلمونَ من النشأةِ الأُولى حجةٌ بينةٌ على قدرتِهِ تعالَى على ذَلكَ كما يفصحُ عنهُ الفاءُ الفصيحةُ في قولِهِ تعالَى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ المشارق والمغارب} والمَعْنَى إذَا كانَ الأمرُ كما ذُكِرَ من أنَّا خلقناهُم مما يعلمونَ فأقسمُ بربِّ المشارقِ والمغاربِ. {إِنَّا لقادرون على أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ} أيْ نُهلكهُم بالمرةِ حسبَما تقتضيهِ جناياتُهُم ونأتي بدلَهُم بخلقٍ آخرينَ ليسُوا على صفتِهِم {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} بمغلوبينَ إنْ أرَدْنَا ذلكَ لكنْ مشيئتُنَا المبنيةُ على الحكمِ البالغةِ اقتضتْ تأخيرَ عقوباتِهِم.

.تفسير الآيات (42- 44):

{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}
{فَذَرْهُمْ} فخلِّهِم وشأنَهُم {يَخُوضُواْ} في باطِلِهِم الذي من جُمْلَتِهِ ما حُكِيَ عنهُم {وَيَلْعَبُواْ} في دُنياهُم {حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} وهو يومُ البعثِ عند النفخةِ الثانيةِ لا يومُ النفخةِ الأُولى كما توهمَ فإنَّ قولَهُ تعالَى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} بدلٌ منْ يومِهِم. وقرئ: {يُخرجونَ} على البناءِ للمفعولِ من الإخراجِ {سِرَاعاً} حالٌ من مرفوعِ يخرجونَ أي مسرعينَ {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ} وهو كلُّ ما نُصِبَ فعبدَ من دونِ الله تعالَى. وقرئ بسكونِ الصَّادِ، وبفتحِ النونِ وسكونِ الصادِ أيضاً. {يُوفِضُونَ} يُسرعونَ {خاشعة أبصارهم} وصفتْ أبصارُهُم بالخشوعِ معَ أنه وصفُ الكلِّ لغايةِ ظهورِ آثارِهِ فيها {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} تغشاهُم ذِلةٌ شديدةٌ {ذلك} الذي ذُكِرَ ما سيقعُ فيهِ من الأحوالِ الهائلةِ {اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} في الدُّنيا.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «منْ قرأَ سورةَ سألَ سائلٌ أعطاهُ الله ثوابَ الذينَ هُم لأماناتِهِم وعهدِهِم راعونَ».

.سورة نوح:

.تفسير الآيات (1- 4):

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)}
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} أي بأنْ أنذرْهُم، على أنَّ أنْ مصدريةٌ حُذِفَ منها الجارُّ وأُوصلَ إليها الفعلُ، فإنَّ حذفَهُ معَ أنَّ وأنْ مطردٌ، وجُعلتْ صلتُهَا أمراً كما في قولِهِ تعالَى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} لأنَّ مدارَ وصلِهَا بصيغِ الأفعالِ دلالتُهَا على المصدرِ وذلكَ لا يختلفُ بالخبريةِ والإنشائيةِ، ووجوبُ كونِ الصلةِ خبريةً في الموصولِ الإسميِّ إنَّما هُو للتوصلِ إلى وصفِ المعارفِ بالجملِ وهي لا توصفُ إلا بالجملِ الخبريةِ، وليسَ الموصولُ الحرفيُّ كذلكَ وحيثُ استوى الخبرُ والإنشاءُ في الدلالةِ على المصدرِ استويا في صحةِ الوصلِ بهما فيتجردُ عند ذلكَ كلٌّ منهُمَا عن المَعْنَى الخاصِّ بصيغتِهِ فيبقَى الحدثُ المجردُ عن مَعْنَى الأمرِ والنَّهيِ والمُضيِّ والاستقبالِ، كأنَّه قيلَ أرسلنَاهُ بالإنذارِ، وقيلَ المَعْنَى أرسلناهُ بأنْ قُلْنَا لهُ أنذرْ أي أرسلناهُ بالأمرِ بالإنذارِ، ويجوزُ أن تكونَ أنْ مفسرةً لما في الإرسالِ من معنى القولِ فلا يكونُ للجملةِ محلٌّ من الإعرابِ، وعلى الأولِ محلُّها النصبُ عند سيبويهِ والفرَّاءِ، والجرُّ عند الخليلِ والكِسَائيِّ كما هُو المعروفُ. وقرئ: {أنذرْ} بغيرِ أنْ على إرادةِ القولِ. {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عاجِلٌ أو آجِلٌ لئلا يبقَى لهُم عذرٌ مَا أصلاً. {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ إرسالِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بالوجهِ المذكورِ كأنَّه قيلَ ما فعلَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فقيلَ قالَ لهُم: {ياقوم إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} منذرٌ موضحٌ لحقيقةِ الأمرِ. وقولُهُ تعالَى: {أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ} متعلقٌ بنذيرٌ على الوجهينِ المذكورينِ {يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} أي بعضَ ذنوبِكُم وهو ما سلفَ في الجاهليةِ فإنَّ الإسلامَ يجبُّه {وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو الأمدُ الأقصَى الذي قدَّرَهُ الله تعالَى لهم بشرطِ الإيمانِ والطاعةِ وراءَ ما قدَّرَهُ لهُم على تقديرِ بقائِهِم على الكفرِ والعصيانِ فإنَّ وصفَ الأجلِ بالمسمَّى، وتعليقَ تأخيرِهِم إليهِ بالإيمانِ والطاعةِ صريحٌ في أنَّ لهم أجلاً آخرَ لا يجاوزونَهُ إنْ لم يؤمنُوا وهو المرادُ بقولِهِ تعالَى: {إِنَّ أَجَلَ الله} أي ما قدَّرَ لكُم على تقديرِ بقائِكُم على الكفرِ {إِذَا جَاء} وأنتُم على ما أنتُم عليهِ من الكُفرِ {لاَ يُؤَخَّرُ} فبادِرُوا إلى الإيمانِ والطاعةِ قبلَ مجيئِهِ حَتَّى لا يتحققَ شرطُهُ الذي هو بقاؤُكُم على الكفرِ فلا يجيءَ، ويتحققَ شرطُ التأخيرِ إلى الأجلِ المسمَّى فتؤخرُوا إليهِ ويجوزُ أن يرادَ بهِ وقتُ إتيانِ العذابِ المذكورِ في قولِهِ تعالَى: {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فإنَّه أجلٌ موقتٌ له حَتْماً وحملُهُ على الأجلِ الأطولِ مما لا يساعدُهُ المقامُ كيفَ لاَ والجملةُ تعليلٌ للأمرِ بالعبادةِ المستتبعةِ للمغفرةِ والتأخيرِ إلى الأجلِ المسمَّى فلابد أنْ يكونَ المنفيُّ عند مجيءِ الأجلِ هو التأخيرَ الموعودَ فكيفَ يتصورُ أن يكونَ ما فُرضَ مجيئُهُ هو الأجلُ المسمَّى. {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كنتُم تعلمونَ شيئاً لسارعتُم إلى ما أمرتُكُم بهِ.

.تفسير الآيات (5- 9):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)}
{قَالَ} أي نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مناجياً ربَّهُ وحاكياً له تعالَى وهو أعلمُ بحالِهِ ما جرَى بينَهُ وبينَ قومه من القيلِ والقالِ في تلكَ المددِ الطوالِ بعدَ ما بذلَ في الدعوةِ غايةَ المجهودِ وجاوزَ في الإنذارِ كلَّ حدَ معهودٍ وضاقتْ عليهِ الحيلُ وعيت بهِ العللُ. {رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى} إلى الإيمانِ والطَّاعةِ {لَيْلاً وَنَهَاراً} أي دائماً من غيرِ فتورٍ ولا توانٍ {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً} ممَّا دعوتُهُم إليهِ وإسنادُ الزيادةِ إلى الدعاءِ لسببيتِهِ لها كما في قولِهِ تعالَى: {زَادَتْهُمْ إيمانا} {وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} أي إلى الإيمانِ {لِتَغْفِرَ لَهُمْ} بسببهِ {جَعَلُواْ أصابعهم فِي ءاذانهم} أيْ سدُّوا مسامِعَهُم منِ استماعِ الدعوةِ {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} أي بالغُوا في التغطِّي بهَا كأنَّهُم طلبُوا أنْ تغشاهُم ثيابُهُم أو تُغشِّيهم لئلا يُبصروه كراهةَ النظرِ إليهِ أو لئلا يعرفَهُم فيدعُوَهُم {وَأَصَرُّواْ} أي أكبُّوا على الكفرِ والمعاصِي مستعارٌ منْ أصرَّ الحمارُ على العانةِ إذَا أصرَّ أذنيهِ وأقبلَ عليهَا {واستكبروا} عن اتِّباعي وطاعتي {استكبارا} شديداً {ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا * ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} أي دعوتُهُم تارةً جهراً ومرةً غبَ مرةٍ على وجوهٍ مُتخالفةٍ وأساليبَ متفاوتةٍ، وثُمَّ لتفاوتِ الوجوهِ فإنَّ الجِهارَ أشدُّ من الإسرارِ، والجمعُ بينَهُمَا أغلظُ من الإفرادِ أو لتراخِي بعضِهَا عن بعضٍ، وجهاراً منصوبٌ بدعوتُهُم على المصدرِ لأنَّه أحدُ نَوْعَيْ الدعاءِ أو أُريدَ بدعوتُهُم جاهرتُهُم أو هو صفةٌ لمصدرٍ أي دعوتُهُم دعاءً جهاراً أي مُجاهِراً به أو مصدرٌ في موقعِ الحالِ أي مُجاهراً.

.تفسير الآيات (10- 14):

{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)}
{فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ} بالتوبةِ عن الكفرِ والمَعَاصِي {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} للتائبينَ كأنَّهُم تعللُوا وقالُوا إنْ كُنَّا على الحقِّ فكيفَ نتركهُ وإنْ كُنَّا على الباطلِ فكيفَ يقبلنا بعدَ ما عكفنَا عليهِ دَهْراً طويلاً فأمرهم بما يمحقُ ما سلفَ منهم من المَعَاصِي ويجلبُ إليهم المنافعَ ولذلكَ وعدهُم بما هُو أوقعُ في قلوبِهِم وأحبُّ إليهِم من الفوائدِ العاجلةِ، وقيل لما كذَّبُوه بعدَ تكريرِ الدعوةِ حبسَ الله تعالَى عنهم القطرَ وأعقمَ أرحامَ نسائِهِم أربعينَ سنةً وقيلَ سبعينَ سنةً فوعدَهُم أنَّهم إنْ آمنُوا أنْ يرزقَهُم الله تعالَى الخِصْبَ ويدفَع عنْهُم ما كانُوا فيهِ {يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً} أي كثيرَ الدرورِ، والمرادُ بالسماءِ المظلةُ أو السحابُ {وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات} بساتينَ {وَيَجْعَل لَّكُمْ} فيهَا {أَنْهَاراً} جاريةً {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} إنكارٌ لأنْ يكونَ لهُم سببٌ ما في عدمِ رجائِهِم لله تعالَى وقاراً على أنَّ الرجاءَ بمَعْنَى الاعتقادِ، ولا ترجونَ حالٌ من ضميرِ المخاطبينَ والعاملُ فيهَا مَعْنَى الاستقرارِ في لكُم على أنَّ الإنكارَ متوجهٌ إلى السببِ فَقَطْ مع تحققِ مضمونِ الجملةِ الحاليةِ لا إليهِما معاً كما في قولِهِ تعالَى: {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِى} ولله متعلقٌ بمضمرٍ وقعَ حالاً مِنْ وقاراً ولو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ أيْ أيُّ سببٍ حصلَ لكُم حالَ كونِكُم غيرَ معتقدينَ لله تعالَى عظمةً موجبةً لتعظيمِهِ بالإيمانِ بهِ والطاعةِ لهُ {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} أي والحالُ أنكم على حالٍ منافيةٍ لما أنتُم عليهِ بالكليةِ وهيَ أنكم تعلمونَ أنَّه تعالَى خلقَكُم تاراتٍ عناصرَ ثم أغذيةً ثم أخلاطاً ثم نُطفاً ثم علَقاً ثم مُضَغاً ثم عظاماً ولحوماً ثم أنشأ كم خلقاً آخرَ فإن التقصيرَ في توقيرِ مَنْ هذهِ شؤونُهُ في القدرةِ القاهرةِ والإحسانِ التامِّ مع العلمِ بها مِمَّا لا يكادُ يصدرُ عن العاقلِ. هَذا وقد قيلَ الرجاءُ بمعنى الأملِ أي ما لكُم لا تُؤمِّلُونَ لهُ تعالَى توقيراً أي تعظيماً لمن عبدَهُ وأطاعَهُ ولا تكونونَ على حالٍ تُؤمِّلُونَ فيها تعظيمَ الله تعالَى إيَّاكُم في دارِ الثوابِ، ولله بيانٌ للموقّرِ ولو تأخرَ لكانَ صلةً للوقارِ والأولُ هو الذي تستدعيهِ الجزالةُ التنزيليةُ فإن اللائقَ بحالِ الكفرةِ استبعادُ أنْ لا يعتقدُوا وقاراً لله تعالَى وعظمتِهِ مع مشاهدَتِهِم لآثارِهَا وأحكامِهَا الموجبةِ للاعتقادِ حَتْماً، وأمَّا عدمُ رجائِهِم لتعظيمِ الله إيَّاهُم في دارِ الثوابِ فليسَ في حيزِ الاستبعادِ والإنكارِ معَ أنَّ في جعلِ الوقارِ بمَعْنَى التوقيرِ من التعسفِ، وفي قولِهِ ولله بيانٌ للموقَّرِ ولو تأخرَ لكانَ صلةً للوقارِ من التناقضِ ما لا يَخْفى فإنَّ كونَهُ بياناً للموقِّرِ يقتضِي أنْ يكونَ التوقيرُ صادراً عنْهُ تعالَى والوقارَ وصفاً للمخاطبينَ وكونُهُ صلةً للوقارِ يوجبُ كونَ الوقارِ وصفاً لهُ تعالَى وقيلَ ما لكُم لا تخافونَ لله عظمةً وقدرةً على أخذِكُم بالعقوبةِ أيْ أيُّ عُذرٍ لكُم في تركِ الخوفِ منهُ تعالَى. وعن سعيدِ بنِ جُبيرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا ما لكُم لا تخشُونَ لله عقاباً ولاترجونَ منْهُ ثَواباً، وعن مجاهدٍ والضحَّاكِ ما لكُم لا تُبالونَ لله عظمةً، قال قُطْربٌ هيَ لغةٌ حجازيةٌ يقولونَ لم أَرْجُ أيْ لم أبالِ.

.تفسير الآيات (15- 19):

{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)}
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سموات طِبَاقاً} أي متطابقةً بعضُها فوقَ بعضٍ {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} أي مُنوِّراً لوجهِ الأرضِ في ظُلمةِ الليلِ، ونسبتُهُ إلى الكُلِّ مع أنَّهُ في السماءِ الدُّنيا لما أنَّها محاطةٌ بسائرِ السمواتِ فما فيهَا يكونُ في الكُلِّ أو لأنَّ كُلَّ واحدةٍ منهَا شفافةٌ لا تحجبُ ما وراءَها فيُرى الكلُّ كأنَّها سماءٌ واحدةٌ ومن ضرورةِ ذلكَ أن يكونَ ما في واحدةٍ منهَا كأنَّه في الكُلِّ {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} يزيلُ ظلمةَ الليلِ ويبصرُ أهلُ الدُّنيا في ضوئِهَا وجهَ الأرضِ ويشاهدونَ الآفاقَ كما يبصرُ أهلُ البيتِ في ضوءِ السراجِ ما يحتاجونَ إلى إبصارِهِ وليسَ القمرُ بهذه المثابةِ إنما هو نورٌ في الجُملةِ {والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً} أي أنشأكُم منها فاستعيرَ الإنباتُ للإنشاءِ لكونِهِ أدلَّ على الحدوثِ والتكونِ من الأرضِ، ونباتاً إما مصدر مؤكدٌ لأنبتكُم بحذفِ الزوائدِ ويسمَّى اسمَ مصدرٍ أو لما يترتبُ عليهِ من فعلِهِ أي أنبتكُم من الأرضِ فنبتُّم نباتاً ويجوزُ أن يكونَ الأصلُ أنبتكُم من الأرضِ إنباتاً فنبتُم نباتاً فيُحذفُ من الجملةِ الأُولى المصدرُ ومن الثانيةِ الفعلُ اكتفاءً في كلَ منهُمَا بما ذُكِرَ في الأُخْرَى كَمَا مرَّ في قولِهِ تعالَى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى} وقولِهِ تعالَى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} بالدفنِ عندَ موتِكُم {وَيُخْرِجُكُمْ} منها عند البعثِ والحشرِ {إِخْرَاجاً} محققاً لا ريبَ فيهِ {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً} تتقلبونَ عليها تقلبَكُم على بُسُطِكُم في بيوتِكُم، وتوسيطُ لكُم بينَ الجعلِ ومفعوليهِ مع أنَّ حقَّهُ التأخيرُ لما مرَّ مراراً من الاهتمامِ ببيانِ كونِ المجعولِ من منافعِهم والتشويقِ إلى المؤخرِ فإنَّ النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لاسيما عند كونَ المقدمِ ملوِّحاً بكونِهِ من المنافعِ تبقَى مترقبةً لهُ فيتمكنُ عندَ ورودِهِ لها فضلُ تمكنٍ.