فصل: تفسير الآيات (20- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (20- 29):

{ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)}
{ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} تكريرٌ للمبالغةِ وثمَّ للدلالةِ على أنَّ الثانيةَ أبلغُ منَ الأُولى وفيمَا بعدُ عَلى أصلِها منْ التراخِي الزمانيِّ.
{ثُمَّ نَظَرَ} أي في القرآنِ، مرةً بعدَ مرةٍ {ثُمَّ عَبَسَ} قطَّبَ وجهَهُ لَمَّا لم يجدْ فيهِ مطعناً ولمْ يدرِ ماذَا يقولُ وقيلَ: نظرَ في وجوهِ النَّاسِ ثم قطَّبَ وجهَهُ وقيلَ: نظرَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم قطَّبَ في وجهِهِ {وَبَسَرَ} اتباعٌ لعبسَ {ثُمَّ أَدْبَرَ} عنِ الحقِّ أوْ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم {واستكبر} عن اتباعِه {فَقَالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أيْ يُروى ويُتعلمُ والفاءُ للدلالةِ على أن هذه الكلمة لمَّا خطرتْ بباله تفوه بها من غير تلعثمٍ وتلبثٍ وقولُه تعالَى: {إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر} تأكيدٌ لما قبلَهُ ولذلكَ أُخليَ عنِ العاطفِ {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} بدلٌ منْ سأُرهقُه صَعُوداً {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} أيْ أيُّ شيءٍ أعلمكَ ما سقرُ على أنَّ مَا الأوُلى مبتدأٌ وأدراكَ خبرُه ومَا الثانيةُ خبرٌ لأنها المفيدةُ لِما قُصد إفادتُه منَ التهويل والتفظيعِ وسقرُ مبتدأٌ أيْ أيُّ شيءٍ هيَ في وصفِها لِما مَرَّ مراراً منْ أَنَّ مَا قَدْ يطلبُ بَها الوصفُ وإنْ كانَ الغالبُ أنْ يطلبَ بَها الاسمُ والحقيقةُ وقوله تعالى: {لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ} بيانٌ لوصفِها وحالِها وإنجازٌ للوعدِ أيْ لا تُبقي شيئاً يُلقى فيَها إلا أهلكتْهُ وإذا هلكَ لم تذَرْهُ هالكاً حتَّى يعادَ أوْ لا تُبقي على شيءٍ ولا تدعَهُ منَ الهلاكِ بلْ كلُّ ما يطرحُ فيَها هالكٌ لا محالة. {لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ} مُغيِّرةٌ لأَعَالي الجلدِ مسوّدةٌ لَها قيلَ تلفحُ الجلدَ لفحةً فتدَعُه أشدَّ سواداً منَ الليلِ وقيلَ: تلوحُ للناسِ كقوله تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} وقرئ: {لواحةً} بالنصبِ على الاختصاصِ للتهويلِ.

.تفسير الآيات (30- 31):

{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)}
{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} أيْ مَلَكاً أو صِنْفاً أو صفاً أو نقيباً من الملائكةِ يلونَ أمرَهَا ويتسلطونَ على أهلِها وقرئ بسكونِ عينِ عشْر حذراً من توالِي الحركاتِ فيما هو في حكم اسمٍ واحدٍ وقرئ: {تسعةُ أَعْشُرٍ} جمعُ عشيرٍ مثلُ يمينٍ وأَيْمُنٍ.
{وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار} أيْ المدبرينَ لأمرِها القائمينَ بتعذيبِ أهلِها {إِلاَّ ملائكة} ليخالفُوا جنسَ المعذبينَ فلا يَرِقّوا لهُم ولاَ يستروحُوا إليهمْ ولأنهُم أَقْوى الخلقِ وأقومُهُم بحقِّ الله عزَّ وجلَّ وبالغضبِ له تعالى وأشدُّهم بأساً. عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لأحدِهم مثلُ قوةِ الثقلينِ يسوقُ أحدُهم الأمةَ وعلى رقبتِه جبلٌ فيرمِي بهم في النارِ ويرمِي بالجبلِ عليهم» ورُوي أنه لما نزلَ عليها تسعةَ عشرَ قال أبُو جهلٍ لقريشٍ أيعجزُ كلُّ عشرةٍ منكم أنْ يبطشُوا برجلٍ منُهم فقالَ أبُو الاشدِّ بنُ أسيدِ بْنِ كِلْدةَ الجُمَحيُّ وكان شديدَ البطشِ أنا أكفيكُم سبعةَ عشرَ فاكفونِي أنتُم اثنينِ فنزلتْ أيْ ما جعلناهُم رجالاً منْ جنسِكم {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي ما جعلنا عددَهُم إلا العددَ الذي تسببَ لافتتانِهم وهو التسعةَ عشرَ فعبرَ بالأثرِ عن المؤثر تنبيهاً على التلازم بينهما وليس المرادُ مجردَ جعلِ عددِهم ذلكَ العددَ المعينَ في نفسِ الأمرِ بلْ جعلَه في القرآنِ أيضاً كذلكَ وهو الحكمُ بأنَّ عليها تسعةَ عشرَ، إذْ بذلكَ يتحققُ افتتانُهم باستقلالِهم له واستبعادِهم لتولي هذا العددِ القليلِ لتعذيبِ أكثر الثقلينِ واستهزائِهم بهِ حسبما ذكرَ وعليهِ يدورُ ما سيأتِي من استيقان أهلِ الكتابِ وازديادِ المؤمنينَ إيماناً قالُوا المخصصُ لهذَا العددِ أنَّ اختلافَ النفوسِ البشريةِ في النظرِ والعملِ بسببِ القُوى الحيوانيةِ الاثنتي عشرةَ والطبيعيةِ السبعِ أو أن جهنَم سبعُ دركاتَ ستٌ منها لأصنافِ الكفرةِ كلُّ صنفٍ يعذبُ بتركِ الاعتقادِ والاقرارِ والعملِ أنواعاً من العذابِ يناسبُها وعلى كلِّ نوعٍ ملكٌ أو صنفٌ أوْ صفٌّ يتولاهُ، وواحدةٌ لعُصاةِ الأمةِ يعذبونَ فيها بتركِ العملِ نوعاً يناسبُه ويتولاّه واحدٌ أو أنَّ الساعاتِ أربعٌ وعشرونَ خمسةٌ منها مصروفةٌ للصلواتِ الخمسِ فيبقى تسعةَ عشرَ قد تصرفُ إلى ما يؤاخذُ به بأنواعِ العذابِ يتولاَّها الزبانيةُ {لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} متعلقٌ بالجعل على المَعْنى المذكورِ أيْ ليكتسبُوا اليقينَ بنبوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وصدقِ القرآنِ لما شاهدُوا ما فيه موافقاً لما في كتابِهم {وَيَزْدَادَ الذين ءامَنُواْ إيمانا} أيْ يزدادُ إيمانُهم كيفيةً بما رأَوا من تسليمِ أهلِ الكتابِ وتصديقِهم أنه كذلكَ أو كميةً بانضمامِ إيمانِهم بذلكَ إلى إيمانِهم بسائرِ ما أنزلَ {وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون} تأكيدٌ لما قبله منَ الاستيقانِ وإزديادِ الإيمانِ ونفيٌ لما قد يعترِي المستيقنَ من شبهةٍ ما وإنما لم يُنظمِ المؤمنونَ في سلكِ أهلِ الكتابِ في نفي الارتيابِ حيث لم يقل ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالاً فإن انتفاء الارتياب من أهل الكتابِ مقارنٌ لما ينافيهِ من الجحود، ومن المؤمنينَ مقارنٌ لما يقتضيه من الإيمان وكم بينهما والتعبيرُ عنهم باسم الفاعلِ بعد ذكرِهم بالموصول والصلةِ الفعليةِ المنبئةِ عن الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعدَ ازديادِه ورسوخِهم في ذلك {وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شكٌّ أو نفاقٌ فيكونُ إِخباراً بَما سيكونُ في المدينةِ بعد الهجرةِ {والكافرون} المُصرّون على التكذيبِ {مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} أيْ أيُّ شيءٍ أرادَ بهذَا العددِ المستغربِ استغرابَ المثلِ وقيلَ: لما استبعدُوه حسبُوا أنه مثلٌ مضروِبٌ وإفرادُ قولِهم هذا بالتعليلِ مع كونِه من باب فتنتِهم للإشعارِ باستقلالِه في الشناعةِ {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء} ذلكَ إشارةٌ إلى ما قبلَهُ من مَعْنى الإضلالِ والهدايةِ ومحلُّ الكافِ في الأصلِ النصبُ على أنها صفةٌ محذوفٍ وأصلُ التقديرِ يضلُّ الله منْ يشاءُ {وَيَهْدِى مَن يَشَاء} إضلالاً وهدايةً كائنينِ مثلَ ما ذكرَ من الإضلالِ والهدايةِ فحذفَ المصدرُ وأقيمَ وصفُه مقامَه ثم قدمَ على الفعلِ لإفادةِ القصرِ فصارَ النظمُ مثلُ ذلكَ الإضلالِ وتلك الهدايةِ يضلُّ الله منْ يشاءُ إضلالَه لصرفِ اختيارِه إلى جانبِ الضلالِ عندَ مشاهدتِه لآيات الله الناطقة بالحق ويهدي من يشاء هدايته لصرف اختياره عن مشاهدة تلكَ الآياتِ إلى جانبِ الهُدى لا إضلالاً وهدايةً أدنى منهما.
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ} أيْ جموعَ خلقهِ التي من جُمْلتِها الملائكةُ المذكورونَ {إِلاَّ هُوَ} إِذْ لا سبيلَ لأحدٍ إلى حصر الممكناتِ والوقوفِ على حقائِقها وصفاتِها ولوْ إجمالاً فضلاً عن الاطلاع على تفاصيل أحوالِها من كمٍ وكيفٍ ونسبةٍ {وَمَا هِىَ} أي سقرُ أو عدةُ خزنتِها والآياتُ الناطقةُ بأحوالِها {إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ} إلا تذكرةً لهم.

.تفسير الآيات (32- 35):

{كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)}
{كَلاَّ} ردعٌ لمن أنكرهَا أو إنكارٌ ونفيٌ لأن يكونَ لهم تذكرٌ {والقمر * واليل إِذْ أَدْبَرَ} وقرئ: {إذْ دَبَر} بمعنى أدبرَ كقَبِلَ بمَعْنى أَقْبَلَ ومنْهُ قولِهم صارُوا كأمسِ الدابرِ قيل: هُو من دَبِرَ الليلُ النهارَ إذَا خلفَهُ {والصبح إِذَا أَسْفَرَ} أي أضاءَ وانكشفَ {إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر} جوابٌ للقسمِ أوْ تعليلٌ لكَلاَّ والقسمُ معترضٌ للتوكيدِ، والكُبرَ جمعُ الكُبْرى جعلتْ ألفُ التأنيثِ كتائِها فكَما جُمعتْ فُعْلَة على فُعَلٍ جُمعتْ فُعْلَى عَليها ونظيرُها القواصعُ في جمعِ القاصِعاءِ كأنها جمعُ قاصعةٍ أي لإِحْدى البَلايا أو لإِحْدَى الدَّواهِي الكُبرَ على مَعْنى أنَّ البلايا الكبرَ أو الدواهِيَ الكبرَ كثيرةٌ وهذهِ واحدةٌ في العظمِ لانظيرةَ لَها.

.تفسير الآيات (36- 42):

{نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)}
{نَذِيراً لّلْبَشَرِ} تمييزٌ لإحدى الكبرِ إنذاراً أو حالٌ مما دلتْ عليهِ الجملةُ أي كبرتْ منذرةً وقرئ: {نذيرٌ} بالرفعِ على أنه خبرٌ بعدَ خبرِ لأنَّ أو لمبتدأٍ محذوفٍ {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} بدلٌ من للبشر أي نذيراً لمن شاءَ منكم أن يسبقَ إلى الخير فيهديَه الله تعالى أو لم يشأْ ذلكَ فيضلَّه، وقيلَ: لمن شاء خبرٌ وأنْ يتقدمَ أو يتأخرَ مبتدأٌ فيكونُ في معنى قوله تعالى فمنْ شاءَ فليؤمنْ ومنْ شاءَ فليكفرُ {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} مرهونةٌ عندَ الله تعالى بكسبِها والرهينةُ اسمٌ بَمعْنى الرهنِ كالشتيمةِ بمعنى الشتمِ لا صفةٌ وإلا لقيلَ رهينٌ لأن فعيلاً بمعنى مفعولٍ لا يدخلُه التاءُ {إِلاَّ أصحاب اليمين} فإنهم فاكُّون رقابَهم بما أحسنُوا من أعمالِهم كما يفكُّ الراهنُ رهنَهُ بأداءِ الدينِ وقيلَ: هم الملائكةُ وقيل: الأطفالُ وقيل: هم الذين سبقتْ لهم من الله تعالى الحُسنى وقيلَ: الذين كانُوا عن يمينِ آدمٍ عليه السلامُ يومَ الميثاقِ وقيل: الذين يُعطون كتُبَهم بأيمانِهم {فِى جنات} لا يُكتنه كُنُهَها ولا يُدرك وصفُها وهو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ استئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤالٍ نشأَ مما قبَلُه من استثناء أصحابِ اليمين كأنه قيلَ: ما بالُهم فقيلَ هم في جناتٍ وقيل: حالٌ من أصحاب اليمين وقيل: من ضميرهم في قوله تعالى: {يَتَسَاءلُونَ} وقيل: ظرفٌ للتساؤلِ وليس المرادُ بتساؤلهم أنْ يسألَ بعضُهم بعضاً على أنْ يكون كلُّ واحدٍ منهم سائلاً ومسؤولاً معاً بلْ صدورُ السؤالِ عنْهم مجرداً عن وقوعه عليهم فإن صيغةَ التفاعلِ وإن وضعتْ في الأصل للدلالةِ على صدورِ الفعلِ عن المتعددِ ووقوعهِ عليه معاً بحيثُ يصير كلُّ واحدٍ من ذلك فاعلاً ومفعولاً معاً كما في قولكَ تراءى القومُ أيْ رأى كلُّ واحدٍ منهم الآخرَ لكنها قد تجردُ عن المَعْنى الثانِي ويقصد بها الدلالةُ على الأولِ فقط فيذكرُ للفعلِ حينئذٍ مفعولُ كما في قولِك تراءوا الهلالَ فمعنى يتساءلونَ {عَنِ المجرمين} يسألونُهم عن أحوالِهم وقد حُذف المسؤولُ لكونه عينَ المسؤولِ عنه وقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} مقدرٌ بقولٍ هو حالٌ من فاعل يتساءلونَ أيْ يسألونَهم قائلينَ أيُّ شيءٍ أدخلكُم فيَها فتأملْ ودعْ عنكَ ما تكلفَ فيهِ المتكلفونَ.

.تفسير الآيات (43- 50):

{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)}
{قَالُواْ} أي المجرمونَ مجيبينَ للسائلينَ {لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} للصلواتِ الواجبةِ {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين} على مَعْنى اسمترارِ نفي الإطعامِ لا على نفي استمرارِ الإطعامِ كما مرَّ مِراراً وفيه دلالةٌ على أنَّ الكفارَ مخاطبونَ بالفروعِ في حقِّ المؤاخذذةِ {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين} أي نشرعُ في الباطل مع الشارعينَ فيه {وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين} أي بيوم الجزاءِ أضافُوه إلى الجزاء مع أن فيه من الدواهِي والأهوال ما لا غايةَ لهُ لأنه أدهاهَا وأهولُها وأنهم ملابُسوه وقد مضتْ بقيةُ الدواهِي وتأخيرُ جنايتِهم هذهِ معَ كونِها أعظمَ منَ الكُلِّ لتفخيمِها كأنهم قالُوا وكنا بعد ذلكَ كلِّه مكذبينَ بيومِ الدينِ ولبيانِ كونِ تكذيبِهم به مقارناً لسائرِ جناياتِهم المعدودةِ مستمراً إلى آخرِ عمرِهم حسبَما نطقَ به قولُهم {حتى أتانا اليقين} أي الموتُ ومقدماتُه {فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين} لو شفعُوا لهم جميعاً والفاء في قولِه تعالَى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} لترتيبِ إنكارِ إعراضِهم عنِ القرآنِ بغير سببٍ على ما قبلَها من موجباتِ الإقبالِ عليهِ والاتعاظِ به من سوءِ حالِ المكذبينَ ومعرضينَ حالٌ من الضميرِ في الجارِّ الواقعِ خبراً لمَا الاستفهاميةِ وعنْ متعلقةٌ بهِ أيْ فإذَا كانَ حالُ المكذبينَ به على ما ذكرَ فأيُّ شيءٍ حصلَ لهم معرضينَ عن القرآنِ مع تعاضدِ موجباتِ الإقبالِ عليهِ وتآخذِ الدواعِي إلى الإيمانِ بهِ وقولُه تعالَى.
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} حالٌ من المستكنِّ في معرضينَ بطريقِ التداخلِ أي مشبهينَ بحمرٍ نافرةٍ.

.تفسير الآيات (51- 56):

{فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}
{فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} أيْ من أسدٍ فَعْوَلَة من القَسْرِ وهُو القهرُ والغلبةُ وقيل: هي جماعةُ الرماةِ الذين يتصيدونَها شُبهواً في إعراضِهم عن القرآنِ واستماعِ ما فيه من المواعظِ وشرادِهم عنه بحمُرٍ جدَّت في نفارِها مما أفزعَها وفيهِ من ذمِهم وتهجينِ حالِهم ما لا يَخْفى وقولُه تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} عطفٌ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ كأنه قيلَ: لا يكتفونَ بتلك التذكرة ولا يرضَون بها بلْ يريدُ كل واحدٍ منهم أنْ يُؤتى قراطيسَ تنشرُ وتقرأُ وذلكَ أنهم قالُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنْ نتبعكَ حتى تأتِي كلَّ واحدٍ منها بكتابٍ من السماءِ عنوانُه من ربِّ العالمينَ إلى فلانِ بنِ فلانٍ نؤمُر فيها باتباعكَ كما قالُوا لن نؤمنَ لرقيكَ حتى تنزلَ علينَا كتاباً نقرؤْه وقرئ: {صُحْفاً مُنْشرةً} بسكونِ الحاءِ والنونِ {كَلاَّ} ردعٌ لهم عن تلكَ الجراءة {بَل لاَّ يَخَافُونَ الأخرة} فلذلكَ يُعرضون عن التذكرة لا لامتناع إيتاءِ الصحفِ {كَلاَّ} ردعٌ عنْ إعراضِهم {إِنَّهُ} أي القرآنَ {تَذْكِرَةٌ} وأيُّ تذكرةٍ {فَمَن شَاء} أن يذكرَهُ {ذَكَرَهُ} وحازَ بسيبهِ سعادةَ الدارينِ {وَمَا يَذْكُرُونَ} بمجرد مشيئتِهم للذكر كما هُو المفهومُ من ظاهرِ قولِه تعالى فمَنْ شاءَ ذكرَهُ إذْ لا تأثيرَ لمشيئةِ العبدِ وإرادتِه في أفعالِه، وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} استئناءٌ مفرغٌ من أعم العلل أو من أعم الأحوال أيْ وما يذكرونَ بعلةٍ من العلل أو في حالٍ من الأحوالِ إلا بأنْ يشاءَ الله أو حالَ أنْ يشاءَ الله ذلكَ وهو تصريحٌ بأن أفعالَ العبادِ بمشيئةِ الله عَزَّ وجَلَّ وقرئ: {تذكرونَ} على الخطاب التفاتاً وقرئ بهمَا مشدداً {هُوَ أَهْلُ التقوى} أي حقيقٌ بأنْ يُتقى عقابُه ويؤمنَ به ويطاعَ {وَأَهْلُ المغفرة} حقيقٌ بأنْ يغفرَ لمنْ آمنَ بهِ وأطاعَهُ.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سورةَ المدثرِ أعطاهُ الله عشرَ حسناتٍ بعددِ مَنْ صدَّقَ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وكذَّبَ بهِ بمكةَ».

.سورة القيامة:

.تفسير الآيات (1- 3):

{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)}
{لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} إدخالُ لاَ النافيةِ عَلى فعلِ القسمِ شائعٌ وفائدتُها توكيدٌ القسمِ قالُوا إنَّها صلةٌ مثلُها في قولِه تعالَى لئَّلا يعلمَ أهلُ الكتابِ وقيلَ: هيَ للنفِي لكنْ لا لنفي نفسِ الإقسامِ بلْ لنفي ما ينبىءُ هُو عنْهُ منْ إعظامِ المقسمِ بهِ وتفخيمِه كأنَّ مَعْنى لا أقسمُ بكَذَا لاَ أعظمُه بإقسامِي بهِ حَقَّ إعظامِه فإنَّه حقيقٌ بأكثرَ منْ ذلكَ وأكثرَ وأما مَا قيلَ: من أنَّ المَعْنى نفيُ اللإقسامِ لوضوحِ الأمرِ فقدْ عرفتَ مَا فيهِ فِي قَوْلِه تَعَالَى: {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم} وقيلَ: إنَّ لاَ نفيٌ وردَ لكلامٍ معهودٍ قبلَ القسمِ كأنَّهم أنكرُوا البعثَ فقيلَ لاَ أيْ ليسَ الأمرُ كذلكَ ثمَّ قيلَ: أقسمُ بيومِ القيامةِ كقولِك لا والله إنَّ البعثَ حقٌّ وأيا ما كانَ ففِي الإقسامِ على تحققِ البعثِ بيوم القيامةِ منَ الجزالةِ ما لاَ مزيدَ عليهِ وقَدْ مرَّ تفصيلُه في سورةِ يس وسورةِ الزخرفِ {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} أَيْ بالنَّفسِ المتقيةِ التي تلومُ النفوسَ يومئذٍ عَلى تقصيرهنَّ فِي التَّقوى ففيهِ طَرفٌ منَ البَراعةِ التي في القسمِ السَّابقِ أوْ بالنفسِ التي لا تزالُ تلومُ نفسَها وإنِ اجتهدتْ في الطاعاتِ أو بالنفسِ المطمئنةِ اللائمةِ للنفسِ الأمارةِ وقيلَ: بالجنسِ لَما رُوي أنَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: «ليسَ منْ نفسٍ برةٍ ولا فاجرةٍ إلا وتلومُ نفسَها يومَ القيامةِ إنْ عملتْ خيراً قالتْ كيفَ لَمْ أزددْ وإنْ عملتْ شَراً قالتْ ليتني كنتُ قصرتُ» ولا يَخفْى ضعفُه فإنَّ هذَا القدرِ منَ اللومِ لا يكونُ مداراً للإعظامِ بالإقسامِ وإنْ صدرَ عنْ النفسِ المؤمنةِ المسيئةِ فكيفَ منَ الكافرةِ المندرجةِ تحتَ الجنسِ وقيلَ: بنفس آدمَ عليهِ السَّلامُ فإنَّها لا تزالُ تتلومُ عَلى فعلِها الذَّي خرجتْ بهِ منَ الجنةِ وَجَوابُ القسمِ ما دلَّ عليهِ قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} وهُو ليبعثن، والمرادُ بالإنسان الجنسُ والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه وأنْ مخففةٌ منَ الثقيلةِ وضميرُ الشأنِ الذي هُو اسُمها محذوفٌ أيْ أيحسبُ أنَّ الشأنَ لنْ نجمعَ عظامَهُ فإنَّ ذلكَ حسبانٌ بَاطِلٌ فإنَّا تجمعُها بعدَ تشتتها ورجُوعِها رَميماً ورُفاتاً مختلطاً بالترابِ وبعدَ مَا سفتَها الرِّياحُ وطيرتها في أقطارِ الأرضِ وألقتها في البحارِ وقيلَ: إنَّ عديَّ بنَ أبِي ربيعةَ ختَنَ الأخنسِ بن شُريق وهُمَا اللذانِ كانَ النبيُّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يقولُ فيهَما: «اللَّهم اكفِني جاريْ السوءِ» قالَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ حدثنى عنْ يومِ القيامةِ مَتَى يكونُ وكيفَ أمرُهُ فأخبرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: لو عاينتُ ذلكَ اليومَ لَمْ أصدقكَ، أوَ ويجمعُ الله هذهِ العظامَ.