فصل: تفسير الآيات (5- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (5- 11):

{ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)}
وقوله تعالى: {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} تكريرٌ للردعِ والوعيدُ للمبالغةِ في التأكيدِ والتشديدِ، وثمَّ للدلالةِ على أنَّ الوعيدَ الثَّاني أبلغُ وأشدُّ وقيلَ الأولُ عند النزعِ والثانِي في القيامةِ وقيلَ الأولُ للبعثِ والثاني للجزاءِ. وقرئ: {ستعلمونَ} بالتاءِ على نهجِ الالتفاتِ إلى الخطابِ الموافقِ لما بعدَهُ الخطاباتِ تشديداً للردعِ والوعيدِ لا على تقديرِ قُل لهم كما تُوُهم، فإنَّ فيهِ من الإخلالِ بجزالةِ النظمِ الكريمِ مَا لاَ يَخْفى. وقولُه تعالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا * والجبال أَوْتَاداً} إلخ استئنافٌ مسوقٌ لتحقيقِ النبأِ المتساءلِ عنُهُ بتعدادِ بعضِ الشواهدِ الناطقةِ بحقِّيتِه إثرَ ما نبَّه عليها بما ذُكرَ من الردع والوعيدِ، ومنْ هاهنا اتضحَ أنَّ المتساءَلَ عنه هو البعثُ، لا القرآنُ أو نبوةُ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كما قيلَ: والهمزةُ للتقريرِ. والالتفاتُ إلى الخطابِ على القراءةِ المشهورةِ للمبالغة في الإلزام والتبكيتِ. والمِهادُ البساطُ والفراشُ. وقرئ: {مَهْداً} على تشبيهها بمهدِ الصبيِّ وهو ما يُمهدُ له فيُنوَّمُ عليهِ تسميةً للمهودِ بالمصدرِ، وجعَلُ الجبالِ أوتاداً لها إرساؤُها بها كما يُرسي البيتُ بالأوتادِ. {وخلقناكم} عطفٌ في المضارعِ المنفيِّ بلم داخلٌ في حُكمِه فإنَّه في قوةِ أمَا جعلَنا الخ. أو على ما يقتضيهِ الإنكارُ التقريريُّ فإنَّه في قوةِ أنْ يقالَ قد جعلَنا الخ. {أزواجا} أصنافاً ذكراً أو أُنْثَى ليسكنَ كلٌّ من الصنفينِ إلى الآخرِ وينتظمَ أمرُ المعاشرةِ والمعاشِ ويتسنَّى التناسلُ.
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي موتاً لأنَّه أحدُ التوفيينِ لَما بينهُمَا من المشاركةِ التامَّةِ في انقطاعِ أحكامِ الحياةِ، وعليهِ قولُه تعالى: {وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل} وقولُه تعالى: {الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} وقيلَ: قطعاً عنِ الإحساسِ والحركةِ لإراحةِ القُوى الحيوانيةِ وإزاحةِ كلالِها، والأولُ هو اللائقُ بالمقامِ كما ستعرفُه. {وَجَعَلْنَا اليل} الذي فيهِ يقعُ النومُ غالباً {لِبَاساً} يستركُم بظلامِه كما ستركُم اللباسُ ولعلَّ المرادَ به ما يُستترُ به عندَ النومِ من اللحافِ ونحوِه فإنَّ شبهَ الليلِ به أكملُ واعتبارَهُ في تحقيقِ المقصدِ أدخلُ، فهو جعلَ الليلَ محلاً للنومِ الذي جْعلَ موتاً كما جعلَ النَّهارَ محلاً لليقظةِ المعبرِ عنها بالحياةِ في قولِه تعالى: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} أي وقتَ حياةٍ تُبعثونَ فيهِ من نومكم الذي هُو أخُو الموتِ، كَما في قولِه تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً وَجَعَلَ النهار نُشُوراً} وجعلُ كونِ الليلِ لباساً عبارةٌ عن سترهِ عن العيونِ لمنْ أرادَ هرباً منْ عدوَ أو بياتاً له أو نحوِ ذلكَ ممَّا لا مناسبةَ له بالمقامِ وكذا جعلُ النهارِ وقتَ التقلبِ في تحصيلِ المعايشِ والحوايجِ.

.تفسير الآيات (12- 14):

{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)}
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} أي سبعَ سمواتٍ قويةِ الخلقِ محكمةِ البناءِ لا يُؤثر فيها مرُّ الدهورِ وكرُّ العصورِ، والتعبيرُ عن خلقِها بالنباءِ مبنيٌّ على تنزيلِها منزلةَ القبابِ المضروبةِ على الخلقِ، وتقديمُ الظرفِ على المفعولِ ليسَ لمراعاةِ الفواصلِ فقطْ بلْ للتشويقِ إليهِ فإنَّ ما حقَّه التقديمُ إذا أُخرَ تبقى النفسُ مترقبةً له فإذا وردَ عليها تمكّنَ عندَها فضلُ تمكنٍ {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} هذا الجعلُ بمعنى الإنشاءِ والإبداعِ كالخلقِ خَلا أنه مختصٌ بالإنشاءِ التكوينيِّ وفيه مَعنى التقديرِ والتسويةِ وهذا عامٌّ له كَما في الآيةِ الكريمةِ وللتشريعيِّ أيضاً كَما في قولِه تعالى: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} إلخ وقولِه تعالى: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} وأياً ما كانَ ففيهِ إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخرَ بأنْ يكونَ فيهِ أولَهُ أو مِنْهُ أو نحوُ ذلكَ ملابسةً مصححةً لأنْ يتوسطَ بينهُمَا شيء من الظروفِ لغواً كانَ أو مستقراً لكنْ لا على أنْ يكونَ عمدةً في الكلامِ بل قيداً فيهِ، كَما في قولِه تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} وقولِه تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} وقولِه تعالى: {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} الآيةَ. فإنَّ كلَّ واحدٍ من هذهِ الظروفِ إمَّا متعلقٌ بنفسِ الجعلِ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعولِه تقدمتْ عليه لكونِه نكرةً وأياً ما كانَ فهو قيدٌ في الكلامِ حتَّى إذا اقتضَى الحالُ وقوعَهُ عمدةً فيه يكونُ الجعلُ متعدياً إلى اثنينِ هُو ثانيهما كما في قولِه تعالى: {يَجْعَلُونَ أصابعهم فِي ءاذَانِهِم} ورُبَّما يشتبهُ الأمرُ فيظنَّ أنَّه عمدةٌ فيهِ، وهو في الحقيقيةِ قيدٌ بأحدِ الوجهينِ كما سلفَ في قولِه تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} والوهَّاجُ الوقَّادُ المتلألىءُ من وهجتِ النارُ إذا أضاءتْ أو البالغُ في الحرارةِ من الوهجِ والمرادُ به الشمسُ والتعبيرُ عنها بالسراجِ من روادفِ التعبيرِ عن خلقِ السمواتِ بالبناءِ.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} هي السحائبُ إذا أَعْصرتْ أي شَارفتْ أنْ تعصُرَها الرياحُ فتمطرَ كما في أحصدَ الزرعُ إذا حانَ له أنْ يُحصدَ ومنه أعصرتِ الجاريةُ إذا دنتْ أنْ تحيضَ، أو الرياحُ التي حانَ لها أن تعصُرَ السحابَ. وقرئ: {بالمعصرات} ووجهُ ذلكَ أنَّ الإنزالَ حيثُ كانَ من المعصراتِ سواء أريدَ بها السحائبَ أو الرياحَ فقد كانَ بها كما يقالُ أعطاهُ من يدِه وبيدِه وقد فسرتِ المعصراتُ بالرياحِ ذواتِ الأعاصيرِ ووجههُ أنَّ الرياحَ هي التي تنشىءُ السحابَ وتقدرُ أخلافَه فصلحتْ أنْ تجعلَ مبتدأً للإنزالِ {مَآءً ثَجَّاجاً} أي مُنصبَّاً بكثرةٍ، يقالُ ثجَّ الماءُ أي سالَ بكثرةٍ وثجَّه أيْ أسالَه، ومنه قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أفصلُ الحَجِّ العَجُّ والثَّجُّ» أي رفعُ الصوتِ بالتلبيةِ وصبُّ دماءِ الهَدي. وقرئ: {ثَجَّاحاً} بالحاءِ بعدَ الجيمِ، قالُوا، مثاجحُ الماءِ مصابُّه.

.تفسير الآيات (15- 17):

{لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)}
{لِّنُخْرِجَ بِهِ} بذلك الماءِ {حَبّاً} يقتاتُ كالحنطةِ والشعيرِ ونحوهِما {وَنَبَاتاً} يعتلفُ كالتبنِ والحشيشِ، وتقديمُ الحبِّ مع تأخرهِ عن النباتِ في الإخراجِ لأصالتِه وشرفِه لأنَّ غالبَهُ غذاءُ الإنسانِ {وجنات} الجنَّةُ في الأصلِ هي المرةُ من مصدرِ جنَّه إذا سترَهُ تطلقُ على النخلِ والشجرِ المتكاثفِ المُظللِ بالتفافِ أغصانِه، قالَ زُهيرٌ بنُ أبي سُلْمَى:
كأنَّ عيني في غَربي مقتلة ** منَ النَّواضحِ تَسقِي جنَّةً سُحُقاً

وعَلَى الأرضِ ذاتِ الشجرِ، قال الفَرَّاءُ الجنةُ ما فيهِ النخيلُ والفردوسُ ما فيه الكَرْمُ والأولُ هو المرادُ. وقولُه تعالَى: {أَلْفَافاً} أي ملتفةً تداخلَ بعضُها في بعضٍ، قالُوا لا واحدَ له كالأوزاعِ والأخيافِ، وقيلَ: الواحدُ لِفٌّ كَكِنَ وأكنانٍ أو لفيفٌ كشريفٍ وأشرافٍ، وقيلَ: هو جمعُ لف جمع لفَّاءَ، كخضر وخضراءَ وقيلَ: جمعُ ملتفةٍ بحذفِ الزوائدِ. واعلم أنَّ فيما ذكر من أنَّ أفعالَه عزَّ وجلَّ دلالةٌ على صحة البعثِ وحقِّيتِه من وجوه ثلاثةٍ: الأولُ: باعتبار قدرتِه تعالَى فإنَّ مَن قدرَ على إنشاءِ هذهِ الأفعالِ البديعةِ من غيرِ مثالٍ يحتذيهِ ولا قانونٍ ينتحيهِ كانَ على الإعادةِ أقدرَ وأقوى، الثَّانِي: باعتبار علمِه وحكمتِه فإنَّ من أبدعَ هذه المصنوعاتِ على نمطِ رائع مستتبعٍ لغاياتِ جليلةٍ ومنافعَ جميلةٍ عائدةً إلى الخلق يستحيلُ أنْ يفنيَها بالكلية ولا يجعلَ لها عاقبةً باقيةً، والثالثُ: باعتبار نفسِ الفعلِ فإنَّ اليقظةَ بعد النومِ أنموذجٍ للبعث بعد الموتِ يشاهدونَها كلَّ يومٍ وكَذا إخراجُ الحبِّ والنباتِ من الأرض الميتةِ بعاينونَه كلَّ حينٍ كأنَّه قيلَ: ألم نفعلْ هذهِ الأفعالَ الآفاقيةَ والأنفسيةَ الدالةَ بفنون الدلالاتِ على حقية البعثِ الموجبةِ للإيمان به فما لكُم تخوضونَ فيه إنكاراً وتتساءلونَ عنه استهزاءً. وقولُه تعالَى: {إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ ميقاتا} شروعٌ في بيان سرِّ تأخيرِ ما يتساءلونَ عنه ويستعجلونَ به قائلينَ متَى هذا الوعدُ إنْ كنتُم صادقينَ ونوعُ تفصيلٍ لكيفيةِ وقوعِه وما سيلقونَهُ عند ذلكَ من فنونِ العذابِ حسبما جَرى به الوعيدُ إجمالاً، أي إنَّ يومَ فصلِ الله عزَّ وجلَّ بينَ الخلائقِ كان في علمِه وتقديرِه ميقاتاً وميعاداً لبعثِ الأولينَ والآخرينَ وما يترتبُ عليهِ من الجزاءِ ثواباً وعقاباً لا يكادُ يتخطاهُ بالتقدمِ والتأخرِ وقيل: حداً توقتُ به الدُّنيا وتنتهي عندَهُ أو حداً للخلائقِ ينتهونَ إليهِ ولا ريبَ في أنَّهما بمعزلٍ من التقريب الذي أشيرَ إليه على أنَّ الدنيا تنتهي عند النفخةِ الأُولى.

.تفسير الآيات (18- 19):

{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)}
وقوله تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} أي نفخةً ثانيةً بدلٌ من يومِ الفصلِ أو عطفُ بيانٍ له مقيدٍ لزيادةِ تفخيمِه وتهويلِه ولا ضيرَ في تأخرِ الفصلِ عن النفخِ فإنَّه زمانٌ ممتدٌّ يقعُ في مبدئه النفخةُ وفي بقيته الفصلُ ومباديه وآثارُه، والصُّور هُو القرنُ الذي ينفخُ فيه إسرافيلُ عليه السَّلامُ. عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «لمَّا فرغَ الله تعالى من خلقِ السمواتِ والأرضِ خلقَ الصُّور فأعطاهُ إسرافيلَ فهُو واضعُه على فيهِ شاخصٌ بصرُه إلى العرشِ متى يُؤمرُ بالنفخِ فيهِ فيؤمرُ بهِ فينفخُ فيه نفخةً لا يبقى عندَها في الحياةِ غيرُ من شاءَ الله. وذلكَ قولُه تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السموات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله} ثم يُؤمرُ بأُخرى فينفُخ نفخةً لا يبقَى معها ميتٌ إلا بُعثَ وقامَ وذلكَ قولِه تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ}». والفاءُ في قولِه تعالى: {فَتَأْتُونَ} فصيحةٌ تفصحُ عن جملة قد حُذفتْ ثقةً بدلالة الحالِ عليَها وإيذاناً بغاية سرعةِ الإتيانِ كمَا في قولِه تعالى: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} أي فتبعثونَ من قبورِكم فتأتونَ إلى الموقفِ عقيبَ ذلكَ من غير لبثٍ أصلاً {أَفْوَاجاً} أمماً كلُّ أمةٍ معَ إمامِها كما في قولِه تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} أو زمراً وجماعاتٍ مختلفةَ الأحوالِ متباينةَ الأوضاعِ حسبَ اختلافِ أعمالِهم وتباينِها. عن معاذٍ رضيَ الله عنِهُ أنَّه سألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «يا معاذُ سألتَ عن أمرٍ عظيمٍ من الأمورِ» ثم أرسلَ عينيهِ وقالَ: «تحشرُ عشرةُ أصنافٍ من أمَّتي بعضُهم على صورةِ القردةِ وبعضُهم على صورةِ الخنازيرِ وبعضُهم منكسونَ أرجلُهم فوقَ وجوهِهم يُسحبونَ عليها وبعضُهم عميٌ وبعضُهم صمٌّ وبكمٌ وبعضُهم يمضعونَ ألسنتَهُم فهيَ مدلاَّةٌ على صدورِهم يسيلُ القيحُ من أفواههم يتقذرهُم أهلُ الجمعِ وبعضُهم مقطعةٌ أيديهم وأرجلُهم وبعضُهم مصلَّبونَ على جذوعٍ من نارٍ وبعضُهم أشدّ نتناً من الجيف وبعضُهم يلبسونَ جباباً سابغةً من قطرانٍ لازقةً بجلودِهم فأمَّا الذينَ على صورةِ القردةِ فالقتَّاتُ من الناسِ وأمَّا الذينَ على صورة الخنازيره فأهلُ السحتِ وأمَّا المنكسونَ على وجوهِهم فأكلةُ الرِّبا وأما العميُ فالذينَ يجورونَ في الحكمِ وأمَّا الصمُّ والبكمُ فالمعجبونَ بأعمالِهم وأمَّا الذينَ يمضغُون ألسنتَهُم فالعلماءُ الذينَ خالفتْ أقوالُهم أعمالَهم وأما الذينَ قُطعتْ أيديهم وأرجلُهم فهم الذين يؤذونَ جيرانَهم وأما المصلبونَ على جذوعٍ من نارٍ فالسعاةُ بالناسِ إلى السلطانِ وأمَّا الذينَ هم أشدُّ نتناً من الجيفِ فالذينَ يتبعون الشهواتِ واللذاتِ ومنعُوا حقَّ الله تعالى في أموالِهم وأما الذينَ يلبسونَ الجبابَ فأهلُ الكبرِ والفخرِ والخُيلاَءِ». {وَفُتِحَتِ السماء} عطفٌ على ينفخُ، وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحققِ. وقرئ: {فُتِّحتْ} بالتشديدِ وهو الأنسبُ بقولِه تعالى: {فَكَانَتْ أبوابا} أي كثُرتْ أبوابُها المفتحةُ لنزولِ الملائِكةِ نزولاً غيرَ مُعتادٍ حتى صارتْ كأنَّها ليستْ إلاَّ أبواباً مفتحةً كقولِه تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} كأنَّ كلها عيونٌ متفجرةٌ وهو المرادُ بقولِه تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام} وهو الغمامُ والذي ذُكرَ في قولِه تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} أي أمرُه وبأسُه في ظلٍ من الغمامِ والملائكةِ وقيلَ: الأبوابُ الطرقُ والمسالكُ أي تكشطُ فينفتحُ مكانُها وتصيرُ طرقاً لا يسدُّها شيءٌ.

.تفسير الآيات (20- 22):

{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22)}
{وَسُيّرَتِ الجبال} أي في الجوِّ على هيئاتِها بعد قلعِها من مقارِّها كما يعربُ عنه قولُه تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} أي تراها رأيَ العينِ ساكنةً في أماكِنها والحالُ أنَّها تمرُّ مرَّ السحابِ الذي يسيرُه الرياحُ سيراً حثيثاً وذلكَ أنَّ الأجرامَ العظامَ إذا تحركتْ نحواً من الأنحاءِ لا تكادُ يتبينُ حركتُها وإنْ كانتْ في غايةِ السرعةِ لاسيما من بعيدٍ وعليهِ قولُ مَنْ قالَ:
بأرعنَ مثلِ الطودِ تحسبُ أنَّهم ** وقوفٌ لحاجٍ والركابُ تهملجُ

وقد أُدمجَ في هذا التشبيهِ تشبيهُ حالِ الجبالِ بحال السحابِ في تخلخل الأجزاءِ وانتفاشِها كما ينطقُ به قولُه تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} يبدلُ الله تعالى الأرضَ ويغيرُ هيأتَها ويسيرُ الجبالُ على تلكَ الهيئةِ الهائلةِ عند حشرِ الخلائقِ بعد النفخةِ الثانيةِ ليشاهدُوها ثم يفرقها في الهواء وذلك قوله تعالى: {فَكَانَتْ سَرَاباً} أي فصارتْ بعدَ تسييرِها مثلَ السرابِ كقولِه تعالى: {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء} أي غُباراً مُنتشراً وهيَ وإنْ اندكتْ وانصدعتْ عند النفخةِ الأُولى لكن تسييرُها وتسويةُ الأرضِ إنما يكونانِ بعد النفخةِ الثانيةِ كما نطقَ به قولُه تعالَى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى} وقولُه تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} فإنَّ ابتاعَ الدَّاعِي الذي هو إسرافيلُ عليه السَّلامُ وبرزُوا لخلق الله تعالى لا يكونُ إلا بعد النفخةِ الثانيةِ.
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} شروعٌ في تفصيل أحكامِ الفصلِ الذي أضيفَ إليه اليومُ إثرَ بيانِ هولِه، ووجهُ تقديمِ بيانِ حالِ الكفارِ غنيٌّ عن البيان. والمرصادُ اسمٌ للمكان الذي يُرصد فيه كالمضمارِ الذي هُو اسمٌ للمكان الذي يُضمَّر فيه الخيلُ والمنهاجُ اسمٌ للمكانِ الذي ينهجُ فيهِ أيْ أنَّها كانتْ في حكمِ الله تعالى وقضائِه موضعَ رصدٍ يرصدُ فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها. {للطاغين} متعلق بمضمر هو إمَّا نعتٌ لمرصاداً أي كائناً للطاغينَ وقولُه تعالَى: {مَئَاباً} بدلٌ منه أيْ مرجعاً يرجعونَ إليهِ لا محالةَ وإمَّا حالٌ مِنْ مآبا قُدمتْ عليهِ لكونِه نكرةٌ ولو تأخرتْ لكانتْ صفةً له وقد جُوِّزَ أنْ يتعلقَ بنفسِ مآبا على أنَّها مرصادٌ للفريقينِ مآبٌ للكافرينِ خاصَّة ولا يَخفى بُعدُه فإنَّ المتبادرَ من كونِها مرصاداً لطائفةٍ كونُهم معذبينَ بَها وقد قيلَ: إنَّها مرصادٌ لأهل الجنةِ يرصدُهم الملائكةُ الذين يستقبلونَهم عندَها لأنَّ مجازَهم عليها وهي مآبٌ للطاغين وقيل المرصاد صيغة مبالغة من الرصد، والمعنى أنها مجدة في ترصد الكفار لئلاَّ يشذَّ منُهم أحدٌ. وقرئ: {أنَّ} بالفتحِ على تعليلِ قيامِ الساعةِ بأنَّها مرصادٌ للطاغينَ.

.تفسير الآيات (23- 29):

{لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)}
{لابثين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من المستكنِّ في للطاغينَ وقرئ: {لبثينَ}. وقوله تعالى: {أَحْقَاباً} ظرفٌ للبثِهم أي دُهُوراً متتابعةً كلما مضَى حقبٌ تبعَهُ حقبٌ آخرُ إلى غيرِ نهايةٍ فإن الحقبَ لا يكادُ يستعملُ إلا حيثُ يرادُ تتابعُ الأزمنةِ وتواليها فليسَ فيه ما يدلُّ على تَنَاهِي تلكَ الأحقابِ ولو أُريدَ بالحقب ثمانونَ سنةً أو سبعونَ ألفَ سنةٍ. وقولُه تعالى: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} جملةٌ مبتدأه أخبرَ عنُهم بأنَّهم لا يذقونَ فيها شيئاً ما من بردَ ورَوْحٍ ينفسُ عنُهم حرَّ النَّارِ ولا من شرابٍ يُسكِّنُ من عطشِهم ولكنْ يذوقونَ فيها حميماً وغسَّاقاً، وقيلَ: البردُ النومُ وقرئ: {غَسَاقاً} بالتفخيف وكلاهُما ما يسيلُ من صديدِهم {جَزَاء} أي جُوزوا بذلكَ جزاءً {وفاقا} ذَا وفاقٍ لأعمالِهم أو نفسُ الوفاقِ مبالغةٌ أو وافقَها وِفاقاً، وقرئ: {وَفَاقاً} على أنَّه فَعالٌ من وَفَقُه كذا أي لاقَهُ {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} تعليلٌ لاستحقاقِهم الجزاءَ المذكورَ أي كانُوا لا يخافونَ أنْ يُحاسبُوا بأعمالِهم {وَكَذَّبُواْ بئاياتنا} الناطقةِ بذلكَ {كِذَّاباً} أي تكذيباً مُفرطاً ولذلكَ كانُوا مصرينَ على الكفرِ وفنونِ المَعَاصِي وفِعَّالٌ من بابِ فَعَّلَ شائعٌ فيما بينَ الفصحاءِ وقرئ بالتفخيف وهو مصدرُ كذبَ قالَ:
فَصدَقتُها وَكذَبتُها ** والمرءُ ينفعُهُ كِذَابُه

وانتصابُه إمَّا بفعلِه المدلولِ عليهِ بكذبوا أي وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً وإما بنفس كذبوا لتضمنه معنى كذَّبوا فإنَّ كلَّ مَنْ يكذبُ بالحقِّ فهو كاذبٌ. وقرئ: {كُذَّاباً} وهو جَمعُ كاذبَ فانتصابُه على الحاليةِ أي كذَّبُوا بآياتِنا كاذبينَ وقد يكونُ الكذَّابُ بمعنى الواحدِ البليغِ في الكذبِ فيجعلُ صفةً لمصدرِ كذَّبوا أي تكذيباً كذباً مُفرطاً كذبُه {وَكُلَّ شىْء} من الأشياءِ التي منْ جُملتِها أعمالُهم. وانتصابُه بمضمرٍ يفسرُه {أحصيناه} أي حفظناهُ وضبطناهُ. وقرئ بالرفعِ على الابتداءِ {كتابا} مصدرٌ مؤكدٌ لأحصيناهُ لما أنَّ الإحصاءَ والكتبةَ من وادٍ واحدٍ أو لفعلِه المقدرِ أو حالٌ بمعنى مكتوباً في اللوحِ أو في صحفِ الحفظةِ، والجملةُ اعتراضٌ.