فصل: تفسير الآية رقم (247):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (247):

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)}
{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ} شروعٌ في تفصيل ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأقوال والأفعال إثرَ الإشارةِ الإجمالية إلى مصير حالِهم أي قال لهم بعد ما أُوحي إليه ما أوحي: {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} طالوتُ علمٌ عِبْريٌّ كداودَ، وجعلُه فَعْلوتاً من الطول يأباه منعُ صرفِه و{مَلَكًا} حال منه. رُوي أنه عليه السلام لما دعا ربه أن يجعل لهم ملِكاً أتى بعصاً يُقاس بها من يملِكُ عليهم فلم يساوِها إلا طالوتُ {قَالُواْ} استئناف كما مر {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} أي من أين يكون أو كيف يكون ذلك {وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ المال} الواو الأولى حاليةٌ والثانيةُ عاطفةٌ جامعةٌ للجملتين في الحُكم أي كيف يتملّك علينا والحالُ أنه لا يستحِقُّ التملكُ لوجود من هو أحقُّ منه ولعدم ما يتوقف عليه الملكُ من المال، وسبب هذا الاستبعادِ أن النبوةَ كانت مخصوصةً بسِبطٍ معينٍ من أسباط بني إسرائيلَ، وهو سِبطُ لاوي بنِ يعقوبَ عليه السلام والمملكةِ بسبطِ يهوذا ومنه داودُ وسليمانُ عليهما السلام ولم يكن طالوتُ من أحد هذين السِبطين بل من ولد بنيامين قيل: كان راعياً وقيل: دبّاغاً وقيل: سقّاءً.
{قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} لمّا استبعدوا تملُّكَه بسقوط نسَبِه وبفقره ردَّ عليهم ذلك أولاً بأن مَلاكَ الأمرِ هو اصطفاءُ الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم، وثانياً بأن العُمدة فيه وُفورُ العلم ليتمكَّنَ به من معرفة أمورِ السياسةِ، وجسامةُ البدن ليعظُم خطرُه في القلوب ويقدِرَ على مقاومة الأعداءِ ومكابدةِ الحروب وقد خصه الله تعالى منهما بحظَ وافرٍ وذلك قولُه عز وجل: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم} أي العلمِ المتعلِّقِ بالمُلك أو به وبالديانات أيضاً وقيل: قد أوحي إليه ونُبِّىءَ {والجسم} قيل: بطول القامة فإنه كان أطولَ من غيره برأسه ومنكبيه حتى إن الرجلَ القائم كان يمد يدَه فينال رأسه وقيل: بالجمال وقيل: بالقوة {والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء} لما أنه مالِكُ المُلكِ والملَكوتِ فعّالٌ لما يريد فله أن يؤتِيَه من يشاءُ من عباده {والله واسع} يوسِّع على الفقير ويُغنيه {عَلِيمٌ} بمن يليقُ بالملك ممن لا يليق به، وإظهارُ الاسم الجليلِ لتربية المهابة.

.تفسير الآية رقم (248):

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}
{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ} توسيطُه فيما بين قوليه المحكِيَّيْن عنه عليه السلام للإشعار بعدم اتصالِ أحدِهما بالآخر، وتخلُّلُ كلامٍ من جهة المخاطبين متفرِّعٌ على السابق مستتبِعٌ للاحق كأنهم طلبوا منه عليه السلام آيةً تدل على أنه تعالى اصطفى طالوتَ وملّكه عليهم. رُوي أنهم قالوا: ما آيةُ مُلكِه فقال: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أن يأتيكم التابوت} أي الصُندوقُ وهو فَعْلوتٌ من التَّوْب الذي هو الرجوعُ لما أنه لا يزال يرجِعُ إليه ما يخرُج منه، وتاؤه مزيدةٌ لغير التأنيث كمَلَكوت ورَهَبوت والمشهورُ أن يوقف على تائه من غير أن تُقلبَ هاءً ومنهم من يقلِبُها إياها، والمراد به صُندوقُ التوراةِ، وكان قد رفعه الله عز وجل بعد وفاةِ موسى عليه السلام سُخطاً على بني إسرائيلَ لما عَصَوا واعتدَوْا فلما طلب القوم من نبيهم آيةً تدل على مُلك طالوتَ قال لهم: «إن آية ملكِه أن يأتيَكم التابوتُ من السماءِ والملائكةُ يحفَظونه» فأتاهم كما وصف والقومُ ينظرون إليه حتى نزل عند طالوتَ. وهذا قولُ ابن عباس رضي الله عنهما وقال: أربابُ الأخبارِ إن الله تعالى أنزل على آدمَ تابوتاً فيه تماثيلُ الأنبياء عليهم السلام من أولاده وكان من عُود الشمشاد نحواً من ثلاثة أذرُعٍ في ذراعين فكان عند آدمَ عليه السلام إلى أن توفي فتوارثه أولادُه واحدٌ بعد واحدٍ إلى أن وصلَ إلى يعقوبَ عليه السلام ثم بقي في أيدي بني إسرائيلَ إلى أن وصلَ إلى موسى عليه السلام فكان عليه الصلاة والسلام يضعُ فيه التوراةَ وكان إذا قاتل قدّمه فكانت تسكُن إليه نفوسُ بني إسرائيلَ وكان عنده إلى أن توُفي ثم تداولتْه أيدي بني إسرائيلَ وكانوا إذا اختلفوا في شيء تحاكَموا إليه فيكلِّمهم ويحكُم بينهم وكانوا إذا حضروا القتالَ يقدِّمونه بين أيديهم ويستفتِحون به على عدوهم وكانت الملائكةُ تحمِلُه فوق العسكر ثم يقاتلون العدوَّ فإذا سمعوا من التابوت صيحةً استيقنوا النصرَ فلما عصَوا وأفسدوا سلّط الله عليهم العمالقةَ فغلبوهم على التابوت وسلبوه وجعلوه في موضع البولِ والغائطِ فلما أراد الله تعالى أن يُملِّك طالوتَ سلط عليهم البلاء حتى إن كلَّ من بال عنده ابتُلي بالبواسير وهلكت من بلادهم خمسُ مدائنَ فعلم الكفارُ أن ذلك بسبب استهانتهم بالتابوت فأخرجوه وجعلوه على ثورَيْن فأقبل الثورانِ يسيران وقد وكل الله تعالى بهما أربعةً من الملائكة يسوقونهما حتى أتَوا منزلَ طالوت فلما سألوا نبيَّهم البينةَ على مُلك طالوتَ قال لهم النبيُّ: «إن آيةَ مُلكِه أنكم تجِدون التابوتَ في داره» فلما وجدوه عنده أيقنوا بمُلكه. {فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أي في إتيانِه سكونٌ لكم وطُمَأْنينةٌ كائنةٌ من ربكم أو في التابوت ما تسكُنون إليه وهو التوراةُ المُودَعة فيه بناءً على ما مر من أن موسى عليه السلام إذا قاتل قدَّمه فتسكُن إليه نفوسُ بني إسرائيلَ وقيل: السكينةُ صورةٌ كانت فيه من زَبَرْجَدٍ أو ياقوتٍ «لها رأسٌ وذنبٌ كرأس الهرِّ وذنبِه وجناحانِ فتئِنُّ فيزحَفُ التابوتُ نحوَ العدوِّ وهم يمضُون معه فإذا استقر ثبتوا وسكَنوا ونزل النصرُ» وعن علي رضي الله عنه كان لها وجهٌ كوجه الإنسان وفيها ريحٌ هفّافة {وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ موسى وَءالُ هارون} هي رضاض الألواحِ وعصا موسى وثيابُه وشيءٌ من التوراة، وكان قد رفعه الله تعالى بعد وفاةِ موسى عليه السلام، وآلُهما أبناؤُهما أو أنفسُهما، والآلُ مقحَمٌ لتفخيم شأنهما، أو أنبياءُ بني إسرائيلَ {تَحْمِلُهُ الملائكة} حال من التابوت أي إن آيةَ ملكِه إتيانُه حال كونِه محمولاً للملائكة وقد مر كيفيةُ ذلك ولعل حملَ الملائكةِ على الرواية الأخيرة عبارةٌ عن سَوْقهم للثورين الحاملين له {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذكر من شأن التابوت فهو من تمام كلامِ النبي عليه السلام لقومه أو إلى نَقلِ القصة وحكايتها، فهو ابتداءُ كلامٍ من جهة الله تعالى جيءَ به قبل تمامِ القصةِ إظهاراً لكمال العنايةِ به، وإفرادُ حرفِ الخطاب مع تعدُّد المخاطَبين على التقديرين بتأويل الفريق أو غيرِه كما سلف {لآيَةً} عظيمةً {لَكُمْ} دالةً على مُلك طالوتَ أو على نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بهذه التفاصيل على ما هي عليه من غير سماعٍ من البشر {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي مصدِّقين بتكليمه أو بشيءٍ من الآيات، وإن شرطيةٌ والجواب محذوفٌ ثقةً بما قبله وقيل: هي بمعنى إذ.

.تفسير الآية رقم (249):

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود} أي انفصل بهم عن بيت المقدسِ والأصلُ فصلَ نفسَه، ولما اتحد فاعلُه ومفعولُه شاع استعمالُه محذوفَ المفعول حتى نزل منزِلة القاصِرِ كانفصل، وقيل: فصَل فصُولاً وقد جُوّز كونه أصلاً برأسه ممتازاً من المتعدي بمصدره كوقف وقوفاً ووقَفه وقفاً وكصدَّ صُدوداً وصدَّه صداً ورجَع رجوعاً ورجَعه رجعاً، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً من طالوت أي ملتبساً بهم ومصاحباً لهم. رُوي أنه قال لقومه: «لا يخرج معي رجل بنى بناءً لم يفرُغْ منه ولا تاجرٌ مشتغلٌ بالتجارة ولا متزوجٌ بامرأة لم يبْنِ عليها ولا أبتغي إلا الشابَّ النشيطَ الفارغ» فاجتمع إليه ممن اختارهم ثمانون ألفاً وكان الوقت قَيظاً وسلكوا مفازةً فسألوا أن يُجرِيَ الله تعالى لهم نهراً فبعد ما ظهر له ما تعلقت به مشيئتُه تعالى من جهة النبي عليه السلام أو بطريق الوحي عند من يقول بنبوته {قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} بفتح الهاء وقرئ بسكونها {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ} أي ابتدأ شُربه من النهر بأن كرَع لأنه الشرب منه حقيقة {فَلَيْسَ مِنّي} أي من جُملتي وأشياعي المؤمنين وقيل: ليس بمتصلٍ بي ومتحدٍ معي من قولهم: فلان مني كأنه بعضُه لكمال اختلاطِهما {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} أي لم يذُقه من طعِم الشيءَ إذا ذاقه مأكولاً كان أو مشروباً أو غيرَهما قال:
وإن شئت حرمتُ النساءَ سواكم ** وإن شئت لم أطعَمْ نُقاخاً ولا بردا

أي نوماً {فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ} استثناء من قوله تعالى: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي} وإنما أُخّر عن الجملة الثانية لإبراز كمالِ العناية بها ومعناه الرخصةُ في اغتراف الغرفةِ باليد دون الكَرْع والغرفة ما يُغرَف، وقرئ بفتح الغين على أنها مصدرٌ والباء متعلقةٌ باغترف أو بمحذوف وقعَ صفةً لغرفة أي غرفةً كائنةً بيده. يروى أن الغرفة كانت تكفي الرجل لشربه وإدواتِه ودوابِّه وأما الذين شرِبوا منه فقد اسودت شفاهُهم وغلبهم العطشُ {فَشَرِبُواْ مِنْهُ} عطفٌ على مقدر يقتضيه المقامُ أي فابتلُوا به فشرِبوا منه {إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} وهم المشارُ إليهم فيما سلف بالاستثناء من التولي وقرئ {إلا قليلٌ منهم} ميلاً إلى جانب المعنى وضرباً عن عُدوة اللفظِ جانباً فإن قوله تعالى: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ} في قوة أن يقال: فلم يُطيعوه فحُقَّ أن يرد المستثنى مرفوعاً كما في قول الفرزدق:
وعضُّ زمانٍ يا ابنَ مروانَ لم يدَع ** من المال إلا مُسحَتٌ أو مُجلِّفُ

فإن قوله لم يدع في حكم لم يبق {فَلَمَّا جَاوَزَهُ} أي النهرَ {هُوَ} أي طالوتُ {والذين ءامَنُواْ مَعَهُ} عطفٌ على الضمير المتصلِ المؤكدِ بالمنفصل، والظرفُ متعلقٌ بجاوزَ لا بآمنوا وقيل: الواوُ حالية والظرفُ متعلقٌ بمحذوف وقع خبراً من الموصول كأنه قيل: فلما جاوزه والحالُ أن الذين آمنوا كائنون معه وهم أولئك القليلُ وفيه إشارةٌ إلى أن مَنْ عداهم بمعزل من الإيمان {قَالُواْ} أي بعضُ مَنْ معه من المؤمنين لبعضٍ {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} أي بمحاربتهم ومقاومتِهم فضلاً عن أن يكونَ لنا غلبةٌ عليهم لما شاهدوا من الكثرة والشدة، قيل: كانوا مائةَ ألفِ مقاتلٍ شاكي السِّلاح {قَالَ} استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال مخاطبُهم؟ فقيل قال: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} قيل: أي الخُلَّصُ منهم الذين يوقنون بلقاءِ الله تعالى بالبعث ويتوقّعون ثوابَه، وإفرادُهم بذلك الوصف لا ينافي إيمانَ الباقين فإن درجاتِ المؤمنين في التيقن والتوقع مُتفاوتةٌ أو الذين يعلمون أنهم يُستشهدون عما قريب فيلقَوْن الله تعالى، وقيل: الموصولُ عبارةٌ عن المؤمنين كافةً والضميرُ في قالوا للمنخذِلين عنهم كأنهم قالوه اعتذاراً عن التخلُّف والنهرُ بينهما.
{كَم مّن فِئَةٍ} أي فِرْقة وجماعة من الناس من فأَوْتُ رأسَه إذا شققتها أو من فاء إليه إذا رجَع فوزنُها على الأول فِعةٌ وعلى الثاني فِلَةٌ {قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً} وكم خبرية كانت أو استفهامية مفيدةٌ للتكثير وهي في حيز الرفعِ بالابتداء خبرُها غلبتْ أي كثيرٌ من الفئات القليلةِ غلبت الفئاتِ الكثيرةَ {بِإِذُنِ الله} أي بحُكمه وتيسيرِه فإن دورانَ كافةِ الأمور على مشيئته تعالى فلا يذِلُّ من نصرَه وإن قل عددُه ولا يعِزُّ مَنْ خَذله وإن كثُرت أسبابُه وعُددُه وقد روُعيَ في الجواب نُكتةٌ بديعة حيث لم يقُلْ أطاقت بفئة كثيرةٍ حسبما وقع في كلام أصحابهم مبالغةً في رد مقالتِهم وتسكينِ قلوبهم، وهذا كما ترى جواب ناشىء من كمال ثقتِهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاءِ الله تعالى بالبعث لاسيما بالاستشهاد فإن العلمَ به ربما يورِثُ اليأسَ من الغَلَبة ولا لتوقُّع ثوابِه تعالى ولا ريب في أن ما ذُكر في حيز الصلةِ ينبغي أن يكونَ مداراً للحكم الواردِ على الموصول فلا أقلَّ من أن يكون وصفاً ملائماً له، فلعل المرادَ بلقائه تعالى لقاءُ نصرِه وتأييدُه عُبر عنه بذلك مبالغةً كما عُبر عن مقارَنةِ نصرِه تعالى لمعيَّته سبحانه حيث قيل: {والله مَعَ الصابرين} فإن المرادَ به معيّةُ نصرِه وتوفيقِه حتماً، وحملُها على المعية بالإثابة كما فعل يأباه أنهم إنما قالوه تتميماً لجوابهم وتأييداً له بطريق الاعتراضِ التذييليِّ تشجيعاً لأصحابهم وتثبيتاً لهم على الصبر المؤدي إلى الغَلَبة، ولا تعلّقَ له بما ذكر من المعية بالإثابة قطعاً وكذا الحالُ إذا جُعل ذلك ابتداءَ كلامٍ من جهة الله تعالى جيء به تقريراً لكلامهم، والمعنى قال الذين يظنون أو يعلمون من جهة النبي أو من جهة التابوتِ والسكينة أنهم ملاقوا نصرِ الله العزيزِ: كم من فئةٍ قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله تعالى فنحن أيضاً نغلِبُ جالوتَ وجنودَه، وإيرادُ خبرِ أن اسماً مع أن اللقاءَ مستقبلٌ للدَلالة على تقرره وتحققه.

.تفسير الآيات (250- 251):

{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}
{وَلَمَّا بَرَزُواْ} أي ظهر طالوتُ ومن معه من المؤمنين وصاروا إلى براز من الأرض في موطن الحرب {لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} وشاهدوا ما هم عليه من العَدد والعُدد وأيقنوا أنهم غيرُ مطيقين لهم عادة {قَالُواْ} أي جميعاً عند تقوى قلوب الفريقُ الأولُ منهم بقول الفريق الثاني متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} على مقاساة شدائِد الحربِ واقتحامِ مواردِه الصعبةِ الضيقة وفي التوسل بوصف الربوبية المُنبىء عن التبليغ إلى الكمال وإيثارِ الإفراغِ المعرب عن الكثرة وتنكيرِ الصبر المفصح عن التفخيم من الجزالة ما لا يخفى {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} في مداحض القتالِ ومزالِّ النزال وثباتُ القدم عبارةٌ عن كمال القوةِ والرسوخِ عند المقارعة وعدمِ التزلزل وقت المقاومة لا مجرد التقرّر في حيز واحد {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} بقهرهم وهزمِهم، ووضعُ الكافرين في موضع الضمير العائد إلى جالوتَ وجنودِه للإشعار بعِلة النصرِ عليهم، ولقد راعَوْا في الدعاء ترتيباً بديعاً حيث قدموا سؤالَ إفراغِ الصبر الذي هو مِلاكُ الأمر ثم سؤالَ تثبيتِ القدم المتفرغِ عليه ثم سؤالَ النصرِ الذي هو الغاية القصوى {فَهَزَمُوهُم} أي كسروهم بلا مكث {بِإِذُنِ الله} بنصره وتأييده إجابةً لدعائهم، وإيثارُ هذه الطريقة على طريقة قوله عز وجل: {فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا} إلخ للمحافظة على مضمون قولِهم: غلَبتْ فئةً كثيرةً بإذن الله {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} كان إيشى أبو داودَ في عسكر طالوتَ معه ستةٌ من بنيه وكان داودُ عليه السلام سابعَهم وكان صغيراً يَرعى الغنم فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوتَ فطلبه من أبيه فجاء، وقد مر في طريقه بثلاثة أحجار قال له كل منها: احمِلنا فإنك بنا تقتُل جالوتَ فحملها في مِخْلاته وقيل: لما أبطأ على أبيه خبرُ إخوته في المصافِّ أرسل داودُ إليهم ليأتيَه بخبرهم فأتاهم وهم في القراع وقد برز جالوتُ بنفسه إلى البِراز ولا يكاد يبارزه أحدٌ وكان ظلُّه ميلاً فقال داودُ لإخوته: أما فيكم من يخرجُ إلى هذا الأقلفِ فزجروه فتنحّى ناحية أخرى ليس فيها أخوتُه وقد مر به طالوتُ وهو يحرِّض الناسِ على القتال فقال له داودُ: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلفَ؟ قال طالوتُ: أُنكِحُه ابنتي وأعطيه شطرَ مملكتي فبرز له داودُ فرماه بما معه من الأحجار بالمِقلاع فأصابه في صدره فنفذت الأحجارُ منه وقتلت بعده ناساً كثيرين. وقيل: إنما كلمته الأحجارُ عند بروزه لجالوتَ في المعركة فأنجز له طالوتُ ما وعده وقيل: إنه حسده وأخرجه من مملكته ثم ندم على ما صنعه فذهب يطلبه إلى أن قُتل، ومُلِّك داودُ عليه السلام وأعطيَ النبوةَ وذلك قوله تعالى: {وآتاه الله الملك} أي مُلكَ بني إسرائيلَ في مشارقِ الأرض المقدسةِ ومغاربِها {والحكمة} أي النبوةَ ولم يجتمع في بني إسرائيلَ الملكُ والنبوةُ قبله إلا له بل كان الملكُ في سِبط والنبوة في سبط آخرَ وما اجتمعوا قبله على ملك قط {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} أي مما يشاء الله تعالى تعليمَه إياه لا مما يشاء داودُ عليه السلام كما قيل لأن معظم ما علمه تعالى إياه مما لا يكاد يخطرُ ببال أحد ولا يقع في أمنية بشرٍ ليتمكنَ من طلبه ومشيئته كالسَّرَد بإِلانةِ الحديد ومنطقِ الطير والدوابِّ ونحو ذلك من الأمور الخفية.
{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم} الذين يباشرون الشر والفساد {بِبَعْضِ} آخرَ منهم بردِّهم عما هم عليه بما قدر الله تعالى من القتل كما في القصة المحكية أو غيره، وقرئ دِفاعُ الله على أن صيغةَ المغالبة للمبالغة {لَفَسَدَتِ الارض} وبطلت منافعُها وتعطلت مصالحُها من الحرْث والنسل وسائر ما يعمُر الأرضَ ويُصلِحها. وقيل: لولا أن الله ينصُر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرضُ بعيثهم وقتلهم المسلمين أو لو يدفعهم بالمسلمين لعم الكفر ونزلت السخطة فاستؤصلَ أهلُ الأرض قاطبة {ولكن الله ذُو فَضْلٍ} عظيم لا يقادَر قدرُه {عَلَى العالمين} كافةً وهذا إشارةٌ إلى قياس استثنائي مؤلفٍ من وضعِ نقيضِ المقدّمِ المنتج لنقيض التالي خلا أنه قد وُضع موضعَه ما يستتبعه ويستوجبه أعني كونه تعالى ذا فضلٍ على العالمين إيذاناً بأنه تعالى متفضِّلٌ في ذلك الدفع من غير أن يجبَ عليه ذلك وأن فضلَه تعالى غيرُ منحصرٍ فيه بل هو فردٌ من أفراد فضلِه العظيم، كأنه قيل: ولكنه تعالى يدفع فسادَ بعضِهم ببعض فلا تفسُدُ الأرضُ وتنتظم به مصالِحُ العالمِ وتنصَلِحُ أحوالُ الأمم.