فصل: تفسير الآيات (9- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (9- 17):

{لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)}
{لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي لعملها الذي عملتْهُ في الدُّنيا حيثُ شاهدتْ ثمرتَهُ {فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} مرتفعةِ المحلِّ أو عليةِ المقدارِ.
{لاَ تُسْمِعُ} أي أنتَ أو الوجوهُ {فِيهَا لاغية} لغواً أو كلمةً ذاتَ لغوٍ أو نفساً تلغُو فإنَّ كلامَ أهلِ الجنةِ كلَّه أذكارٌ وحكمٌ. وقرئ: {لا تُسمعُ} على البناءِ للمفعول بالياءِ والتاءِ ورفعِ لاغيةً {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أيْ عيونٌ كثيرةٌ تجرِي مياهُها، كقولِه تعالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} رفيعةُ السمكِ أو المقدارِ {وَأَكْوابٍ} جمعُ كوبٍ وهو إناءٌ لا عُروةَ لهُ {مَّوْضُوعَةٌ} أي بينَ أيديهِم {وَنَمَارِقُ} وسائدُ جمعُ نمرقة بالفتحِ والضمِّ {مَصْفُوفَةٌ} بعضُها إلى بعضٍ {وَزَرَابِيُّ} أي بسطٌ فاخرةٌ جمعُ زُرْبيَّةٌ {مَبْثُوثَةٌ} أيْ مبسوطةٌ {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} استئنافٌ مسوقٌ لتقريرِ ما فصلَ من حديثِ الغاشيةِ وما هو مبنيٌّ عليهِ من البعثِ الذي هم فيه مختلفونَ بالاستشهادِ عليهِ بما لا يستطيعونَ إنكارَهُ. والهمزةُ للإنكارِ والتوبيخِ، والفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ وكلمة كيفَ منصوبةٌ بما بعدَها كما في قولِه تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} معلقةٌ لفعلِ النظرِ، والجملةُ في حيزِ الجرِّ على أنَّها بدلُ اشتمالٍ من الإبلِ أي أينكرونَ ما ذُكِرَ من البعثِ وأحكامِه ويستبعدونَ وقوعَهُ من قدرةِ الله عزَّ وجلَّ فلا ينظرونَ إلى الإبلِ التي هي نصبُ أعينِهم يستعملونَها كلَّ حينٍ إلى أنَّها كيفَ خُلقتْ خلقاً بديعاً معدولاً بهِ عن سُننِ خلقةِ سائرِ أنواعِ الحيواناتِ في عظمِ جثتِها وشدةِ قوتِها وعجيبِ هيأتِها اللائقةِ بتأتِّي ما يصدرُ عنها من الأفاعيلِ الشاقةِ كالنوءِ بأوقارِها الثقيلةِ وجرِّ الأثقالِ الفادحةِ إلى الأقطارِ النازحةِ وفي صبرِها على الجوعِ والعطشِ حتى إن أظماءَها لتبلغُ العشرَ فصاعداً واكتفائِها باليسيرِ ورعيها لكلِّ ما يتيسرَ من شوكٍ وشجرٍ وغيرِ ذلكَ مما لا يكادُ يرعاهُ سائرُ البهائمِ وفي انقيادِها مع ذلكَ للإنسانِ في الحركةِ والسكونِ والبروكِ والنهوضِ حيثُ يستعملُها في ذلكَ كيفما يشاءُ ويقتادُها بقطارِها كلُّ صغيرٍ وكبيرٍ.

.تفسير الآيات (18- 23):

{وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)}
{وَإِلَى السماء} التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار {كَيْفَ رُفِعَتْ} رفعاً سحيق المدى بلا عمادٍ ولا مساكٍ بحيث لا يناله الفهم والادراك. {وَإِلَى الجبال} التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمياهها وأشجارها {كَيْفَ نُصِبَتْ} نصباً رصيناً فهيَ راسخةٌ لا تميلُ ولا تميدُ {وَإِلَى الأرض} التي يضربونَ فيها ويتقلبونَ عليها {كَيْفَ سُطِحَتْ} سطحاً بتوطئةٍ وتمهيدٍ وتسويةٍ وتوطيدٍ حسبما يقتضيهِ صلاحُ أمورِ ما عليها من الخلائقِ. وقرئ: {سُطِّحتْ} مُشدداً وقُرِئتْ الأفعالُ الأربعةُ على بناءِ الفاعلِ للمتكلمِ، وحذف الراجعِ المنصوبِ. والمعنى أفلا ينظرونَ نظرَ التدبرِ والاعتبارِ إلى كيفيةِ خلقِ هذه المخلوقاتِ الشاهدةِ بحقيةِ البعثِ والنشورِ ليرجعُوا عمَّا هُم عليهِ من الإنكارِ والنفورِ ويسمعُوا إنذاركَ ويستعدُّوا للقائِه بالإيمانِ والطاعةِ. والفاءُ في قولِه تعالى: {فَذَكّرْ} لترتيبِ الأمرِ بالتذكيرِ على ما ينبىءُ عنه الإنكارُ السابقُ من عدمِ النظرِ أي فاقتصرْ على التذكيرِ ولا تلحَّ عليهم ولا يُهمنَّكَ أنَّهم لا ينظرونَ ولا يتذكرونَ. وقولُه تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ} تعليلٌ للأمرِ. وقولُه تعالَى: {لَّسْتَ عَلَيْهِم} تقريرٌ لهُ وتحقيقٌ لمَعْنى الإنذارِ أي لستَ بمتسلطٍ عليهم تجبرُهم على ما تريدُ كقولِه تعالى: {يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} وقرئ بالسينِ على الأصلِ بالإشمامِ، وقرئ بفتحِ الطاءِ قيلَ: هي لغةُ بني تميمٍ فإنَّ سيطرَ عندهم متعدَ ومنه قولُهم: تسيطرُ. وقولُه تعالَى: {إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ} استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ من تولَّى منهم فإنَّ لله تعالَى الولايةَ والقهرَ.

.تفسير الآيات (24- 26):

{فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)}
{فَيْعَذّبُهُ الله العذاب الأكبر} الذي هُو عذابُ جهنمَ وقيلَ: استثناءٌ مُتَّصلٌ من قولِه تعالَى: {فَذَكّرْ} أي فذكرْ إلاَّ من انقطعَ طمعُكَ من إيمانِه وتولَّى فاستحقَّ العذابَ الأكبرَ وما بينهما اعتراضٌ ويعضدُ الأولَ أنه قرئ: {أَلاَ} على التنبيهِ. وقولُه تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} تعليلٌ لتعذيبِه تعالَى بالعذابِ الأكبرِ أيْ إنَّ إلينا رجوعَهُم بالموتِ والبعثِ لا إلى أحدٍ سوانا لا استقلالاً ولا اشتراكاً. وجمعُ الضميرِ فيه وفيما بعدَهُ باعتبارِ مَعْنى مَنْ كما أنَّ إفرادَهُ فيما سبقَ باعتبارِ لفظِها. وقرئ: {إيَّابَهُم} على أنَّه فِيْعَالٌ مصدرُ فَيْعَلٍ من الإيابِ، أو فِعَّالٌ من أَوَبَ كفِسَّارٍ من فَسَرَ ثمَّ قيلَ: إِيْوَاباً كدِيُوَانٍ في دِوَّانٍ ثُمَّ قُلبتْ الواوُ ياءً فأدغمتِ الياءُ الأُولى في الثانيةِ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} في المحشرِ لا على غيرِنا وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ لا في الزمانِ فإن الترتبَ الزمانيَّ بين إيابِهم وحسابِهم لا بينَ كونِ إيابِهم إليهِ تعالَى وحسابِهم عليهِ تعالى فإنَّهما أمرانِ مستمرانِ. وفي تصديرِ الجملتينِ بأنَّ وتقديمُ خبرِها وعطفُ الثانيةِ على الأُولى بكلمةِ ثُمَّ المفيدةِ لبعدِ منزلةِ الحسابِ في الشدةِ من الإنباءِ عن غايةِ السخطِ الموجبِ لتشديدِ العذابِ ما لا يَخْفى.
عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سورةَ الغاشيةِ يحاسبُه الله تعالى حساباً يسيراً».

.سورة الفجر:

.تفسير الآيات (1- 7):

{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)}
{والفجر} أقسمَ سبحانَهُ بالفجرِ كما أقسمَ بالصبحِ حيثُ قال: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} وقيلَ: المرادُ به صلاتُه {وَلَيالٍ عَشْرٍ} هن عشرُ ذِي الحجةِ ولذلكَ فُسِّرَ الفجرُ بفجرِ عرفةَ أو النحرِ، أو العشرُ الأواخرُ من رمضانَ وتنكيرُها للتفخيمِ وقرئ: {وَليالٍ عشرٍ} بالإضافةِ على أنَّ المرادَ بالعشرِ الأيامُ {والشفع والوتر} أي الأشياءِ كلِّها شفعِها ووترِها أو شفعِ هذه الليالِي ووترِها وقد رُويَ أن النبيَّ عليه الصلاةُ والسلامُ فسرهُمَا بيومِ النحرِ ويومِ عرفةٍ ولقد كثُرتْ فيهما الأقوالُ والله تعالَى أعلمُ بحقيقةِ الحالِ وقرئ بكسرِ الواوِ وهما لغتانِ كالحَبْرِ والحِبْرِ وقيلَ: الوَترُ بالفتحِ في العددِ وبالكسرِ في الذَحل وقرئ: {والوترِ} وقرئ: {والوَتِرِ} بفتحِ الواوِ وكسرِ التاءِ.
{واليل إِذَا يَسْرِ} أيْ يَمْضِي كقولِه تعالى: {واليل إِذْ أَدْبَرَ} {واليل إِذَا عَسْعَسَ} والتقييدُ لما فيهِ من وضوحِ الدلالةِ على كمالِ القدرةِ ووفورِ النعمةِ أو يُسرِيَ فيهِ من قولِهم: صَلَّى المقامُ أي صُلِّيَ فيهِ وحَذْفُ الياءِ اكتفاءً بالكسرِ. وقرئ بإثباتِها على الإطلاقِ وبحذفِها في الوقفِ خاصَّة وقرئ: {يسرٍ} بالتنوينِ كما قرئ: {والفجرٍ}، {والوترٍ} وهو التنوينُ الذي يقعُ بدلاً من حرفِ الإطلاقِ {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ} إلخ تحقيقٌ وتقريرٌ لفخامةِ شأنِ المُقْسَمِ بهَا وكونِها أموراً جليلةً حقيقةً بالإعظامِ والإجلالِ عندَ أربابِ العقولِ وتنبيهٌ على أنَّ الإقسامَ بها أمرٌ معتدٌّ به خليقٌ بأنّ يُؤكدَ بهِ الأخبارُ على طريقةِ قولِه تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} وذلكَ إشارةٌ إمَّا إلى الأمورِ المقسمِ بهَا والتذكيرُ بتأويلِ ما ذُكِرَ كما مَرَّ تحقيقُه أو إلى الإقسامِ بهَا وأياً ما كانَ فمَا فيه من مَعْنى البُعْدِ للإيذان بعلوِّ رتبةِ المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الشرفِ والفضلِ أيْ هِلْ فيما ذُكِرَ من الأشياءِ قسمٌ أيْ مقسمٌ بهِ {لّذِى حِجْرٍ} يراهُ حقيقاً بأنْ يقسمَ بهِ إجلالاً وتعظيماً والمرادُ تحقيقُ أنَّ الكلَّ كذلكَ وإنما أُوثرتْ هذه الطريقةُ هَضْماً للخلقِ وإيذاناً بظهورِ الأمرِ أو هَلْ في إقسامِي بتلكَ الأشياءِ إقسامٌ لذي حجرٍ مقبولٌ عندَهُ يعتدُّ بهِ ويفعلُ مثلَهُ ويؤكدُ بهِ المقسمَ عليهِ والحِجْرُ العقلُ لأنه يحجُرُ صاحبَهُ أي يمنعُهُ من التهافتِ فيمَا لا ينبغِي كما سُميَ عقلاً ونُهيةً لأنَّه يعقلُ ويَنْهَى، وحصاةً أيضاً من الإحصاءِ وهو الضبطُ. قال الفراءُ: يقالُ: إنَّه لذُو حجرٍ إذَا كانَ قاهِراً لنفسِه ضابطاً لهَا والمقسمُ عليهِ محذوفٌ وهُو ليُعذَّبَنَّ كما ينبىءُ عنه قولُه تعالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} الخ، فإنَّه استشهادٌ بعلمِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بمَا يدلُّ عليهِ من تعذيبِ عَادٍ وأضرابِهم المشاركينَ لقومِه عليه الصلاةُ والسلامُ في الطغيانِ والفسادِ على طريقةِ قولِه تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَاجَّ إبراهيم فِي رِبّهِ} الآيةَ. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ} كأنَّه قيلَ: ألم تعلم علماً يقينياً كيفَ عذبَ ربُّكَ عاداً ونظائرَهُم فيعذبُ هؤلاءِ أيضاً لاشتراكِهم فيما يوجبُه من الكفرِ والمعاصِي والمرادُ بعادٍ أولادُ عادٍ بنِ عوصَ بنِ إرمِ بنِ سامِ بنِ نوحٍ عليه السلامُ قومُ هودٍ عليه السلامُ سُمُّوا باسمِ أبيهِم كما سُمِّيَ بنُو هاشمٍ هاشماً وقد قيلَ لأوائلِهم: عادٌ الأُولى ولأواخرِهم: عادٌ الآخرةُ قال عمادُ الدينِ بنُ كثيرٍ: «كلُّ ما وردَ في القرآنِ خبرُ عادٍ الأُولى إلا مَا في سورةِ الأحقافِ» وقولُه تعالى: {إِرَمَ} عطفُ بيانٍ لعادٍ للإيذانِ بأنَّهم عادٌ الأُولى بتقديرِ مضافٍ أيْ سبطُ إرمٍ أو أهلُ إرمٍ على ما قيلَ من أنَّ إرمَ اسمُ بلدتِهم أو أرضِهم التي كانُوا فيهَا ويؤيدُه القراءةُ بالإضافةِ وأياً ما كانَ فامتناعُ صرفِها للتعريفِ والتأنيثِ وقرئ: {إِرْمَ} بإسكانِ الراءِ تخفيفاً كما قرئ: {بِوَرْقِكُم} {ذَاتِ العماد} صفةٌ لإرمَ أيْ ذاتُ القدودِ الطوالِ على تشبيهِ قاماتِهم بالأعمدةِ ومنه قولُهم: رجلٌ عمدٌ وعمدان إذا كان طويلاً أو ذاتُ الخيامِ والأعمدةِ حيثُ كانُوا بدويينَ أهلَ عُمُدٍ أو ذاتُ البناءِ الرفيعِ أو ذاتُ الأساطينِ على أنَّ إرمَ اسمُ بلدتِهم وقرئ: {إرمَ ذاتِ العمادِ} بإضافةِ إرمٍ إلى ذاتِ العمادِ.
والإرم العلمُ أي بعادٍ أهلِ إعلامِ ذاتِ العمادِ على أنها اسمُ بلدتِهم وقرئ: {إِرْمِ} ذاتَ العمادِ أي جعلَها الله تعالَى رَميماً بدلٌ من فعلَ ربُّك وقيل: هي جملةٌ دعائيةٌ اعترضتْ بين الموصوفِ والصفةِ ورُويَ أنه كانَ لعادٍ ابنانِ شديدٌ وشدادٌ فملَكا وقَهَرا ثم ماتَ شديدٌ وخلصَ الأمرُ لشدادٍ فملَك الدنيا ودانتْ له ملوكُها فسمعَ بذكرِ الجنةِ فقال: أبنِي مثلَها فبنَى إرمَ في بعضِ صَحارِي عدنٍ في ثلاثمائةِ سنةٍ وهيَ مدينةٌ عظيمةٌ قصورُها من الذهبِ والفضةِ وأساطينُها من الزبرجدِ والياقوتِ وفيها أصنافُ الأشجارِ والأنهارِ المطردةِ ولمَّا تمَّ بناؤُها سارَ إليها بأهلِ مملكتِه فلما كانَ منها على مسيرة يومٍ وليلةٍ بعثَ الله تعالى عليهم صيحةً من السماءِ فهلكُوا. وعن عبدِ اللَّهِ بنِ قلابةَ أنه خرجَ في طلبِ إبلٍ له فوقعَ عليهَا فحملَ ما قدرَ عليهِ ممَّا ثمةَ وبلغَ خبرُه معاويةَ فاستحضرَهُ فقصَّ عليهِ فبعثَ إلى كعبٍ فسألَه فقالَ: هيَ إرمُ ذاتُ العمادِ وسيدخُلُها رجلٌ من المسلمينَ في زمانِك أحمرُ أشقرُ قصيرٌ على حاجبِه خالٌ وعلى عقبِه خالٌ يخرجُ في طلبِ إبلٍ لَهُ ثم التفتَ إلى ابن قلابةٍ فقالَ: هذا ذلكَ الرجلُ.

.تفسير الآيات (8- 13):

{الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)}
{التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} صفةٌ أُخرى لإرمَ أيْ لم يُخلقْ مثلُهم في عظمِ الأجرامِ والقوةِ حيثُ كانَ طولُ الرجلِ منهم أربعمائةِ ذراعٍ وكانَ يأتِي الصخرةَ العظيمةَ فيحملُها ويُلقيها على الحي فيهلكُهم أو لم يُخلقْ مثلُ مدينةِ شدادٍ في جميعِ بلادِ الدُّنيا وقرئ: {لَم يخلُقْ} على إسنادِه إلى الله تعالَى.
{وَثَمُودُ} عطفٌ على عادٍ وهي قبيلةٌ مشهورةٌ سُمِّيتْ باسمِ جدِّهم ثمودَ أَخِي جَديسٍ وهما ابنَا عامرِ بنِ إرمَ بن سامِ بن نوحٍ عليه السلامُ وكانُوا عرباً من العاربةِ يسكنونَ الحجرَ بين الحجازِ وتبوكَ وكانُوا يعبدونَ الأصنامَ كعادٍ {الذين جَابُواْ الصخر بالواد} أي قطعُوا صخرَ الجبالِ فاتخذُوا فيها بُيوتاً نحتوهَا من الصخرِ، كقولِه تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً} قيلَ: هُم أول من نحتَ الجبالَ والصخورَ والرخامَ وقد بَنَوا ألفاً وسبعمائةِ مدينةٍ كلها من الحجارةِ {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} وصفَ بذلكَ لكثرة جنودِه وخيامِهم التي يضربُونَها في منازلِهم، أو لتعذيبه بالأوتادِ {الذين طَغَوْاْ فِي البلاد} إما مجرورٌ على أنه صفةٌ للمذكورينَ أو منصوبٌ أو مرفوعٌ على الذمِّ أي طَغَى كلُّ طائفةٍ منهُم في بلادِهم وكذا الكلامُ في قولِه تعالى: {فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد} أي بالكفرِ وسائرِ المعاصِي {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ} أي أنزلَ إنزالاً شديداً على كلِّ طائفةٍ من أولئكَ الطوائفِ عقيبَ ما فعلتْهُ من الطغيانِ والفسادِ {سَوْطَ عَذَابٍ} أي عذابٌ شديدٌ لا يُدركُ غايتُهُ وهو عبارةٌ عمَّا حلَّ بكُلَ منهُم من فنون العذابِ التي شُرِحتْ في سائر السورِ الكريمةِ وتسميتُه سوطاً للإشارةِ إلى أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى ما أَعدَّ لَهُم في الآخرةِ بمنزلةِ السوطِ عندَ السيفِ والتعبيرُ عن إنزالِه بالصبِّ للإيذانِ بكثرتِه واستمرارِه وتتابعِه فإنه عبارةٌ عن إراقةِ شيءٍ مائعٍ أو جارٍ مجراهُ في السيلانِ كالرملِ والحبوبِ، وإفراغِه بشدةٍ وكثرةٍ واستمرارٍ ونسبته إلى السوطِ مع أنه ليسَ من ذلكَ القبيلِ باعتبار تشبيهِه في نزولِه المتتابعِ المتداركِ على المضروبِ بقطراتِ الشيءِ المصبوبِ، وقيلَ: السوطُ خلطُ الشيءِ بعضَه ببعضٍ فالمَعْنى ما خُلِطَ لهم من أنواعِ العذابِ وقد فُسِّرَ بالتصببِ وبالشدةِ أيضاً لأن السوطَ يطلقُ على كلَ منهُما لغةً فلا حاجةَ حينئذٍ في تشبيهِه بالمصبوبِ إلى اعتبارِ تكررِ تعلقِه بالمعذبِ كما في المَعْنى الأولِ فإن كلَّ واحدٍ من هذه المعاني مما يقبلُ الاستمرارَ في نفسه.

.تفسير الآيات (14- 17):

{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)}
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} تعليلٌ لما قبلَهُ وإيذانٌ بأن كفارَ قومِه عليه الصلاةُ والسلامُ سيصيبُهم مثلُ ما أصابَ المذكورينَ من العذابِ كما ينبىءُ عنْهُ التعرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِه عليه الصلاةُ والسلامُ وقيلَ: هو جوابُ القسمِ وما بينهما اعتراضٌ والمرصادُ المكانُ الذي يَترقبُ فيه الرصدُ مِفْعَالٌ منْ رصدَهُ كالميقاتِ من وقتَهُ وهذا تمثيلٌ لإرصادِه تعالى بالعُصاةِ وأنَّهم لا يفوتونَهُ. وقولُه تعالى: {فَأَمَّا الإنسان} إلخ متصلٌ بما قبلَهُ كأنَّه قيلَ: إنه تعالَى بصددِ مراقبةِ أحوالِ عبادِه ومجازاتِهم بأعمالِهم خيراً وشراً فأما الإنسانُ فلاَ يهمُّهُ ذلكَ وإنما مطمحُ أنظارِه ومرصدُ أفكارِه الدُّنيا ولذائذِها {إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ} أي عاملَهُ معاملةَ من يبتليهِ بالغِنَى واليسارِ والفاءُ في قولِه تعالى: {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} تفسيريةٌ فإنَّ الإكرامَ والتنعيمَ من الابتلاءِ {فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ} أي فضلنِي بما أعطانِي من المال والجاهِ حسَبما كنتُ أستحقهُ ولا يخطُر بباله أنه فضلٌ تفضلَ به عليهِ ليبلوَهُ أيشكرُ أم يكفرُ، وهوُ خبرٌ للمبتدأ الذي هُوَ الإنسانُ والفاءُ لما في أمَّا منْ مَعْنى الشرطِ، والظرفُ المتوسطُ على نيةِ التأخيرِ كأنَّه قيلَ فأمَّا الإنسانُ فيقولُ ربِي أكرمنِ وقتَ ابتلائِه بالإنعامِ وإنما تقديمُه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ الإكرامَ والتنعيمَ بطريق الابتلاءِ ليتضحَ اختلالُ قولِه المحكيِّ {وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه} أيْ وأما هُو إذا ما ابتلاهُ ربُّه {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكمِ البالغةِ {فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ} ولا يخطر ببالِه أنَّ ذلكَ ليبلوهُ أيصبرُ أم يجزعُ مع أنه ليسَ من الإهانةِ في شيءٍ بل التقتيرُ قد يُؤدِّي إلى كرامةِ الدارينِ والتوسعةُ قد تُفْضِي إلى خسرانِهما وقرئ: {فقدَّرَ} بالتشديدِ وقرئ: {أكرمني} و{أهانني} بإثبات الياء، و{أكرمنْ} و{أهاننْ} بسكون النون في الوقف. {كَلاَّ} ردعٌ للإنسانِ عن مقالتِه المحكيةِ وتكذيبٌ له فيهَا في كلتَا الحالتينِ قالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا المَعْنى لم أبتله بالغِنَى لكرامتِه عليَّ ولم أبتلِه بالفقرِ لهوانِه عليَّ بلْ ذلكَ لمحضِ القضاءِ والقدرِ، وحملُ الردعِ والتكذيبِ إلى قولِه الأخيرِ بعيدٌ. وقولُه تعالَى: {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} انتقالٌ من بيانِ سوءِ أقوالِه إلى بيانِ سوءِ أفعالِه والالتفاتُ إلى الخطابِ للإيذانِ باقتضاءِ ملاحظةِ جنايته السابقةِ لمشافهتِه بالتوبيخِ تشديداً للتقريعِ وتأكيداً للتشنيعِ والجمعُ باعتبارِ مَعْنى الإنسانِ إذِ المرادُ هو الجنسُ أي بَلْ لكم أحوالٌ أشدُّ شَراً مما ذُكِرَ وأدلُّ عَلى تهالُكِكم على المالِ حيثُ يُكْرمكم الله تعالَى بكثرةِ المالِ فلاَ تُؤدونَ ما يلزمكُم فيهِ من إكرامِ اليتيمِ بالمبرةِ به وقرئ: {لا يكرمونَ}.