فصل: تفسير الآيات (18- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (18- 24):

{وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)}
{وَلاَ تَحَاضُّونَ} بحذفِ إحْدَى التاءينِ من تَتَحاضُّون أيْ لاَ يحضُّ بعضُكم بعضاً {على طَعَامِ المسكين} أي على إطعامِه. وقرئ: {تحاضونَ} من المحاضةِ، وقرئ: {يَحُضُّونَ} بالياءِ والتاءِ {وَتَأْكُلُونَ التراث} أي الميراثَ وأصلُه ورِاثٌ {أَكْلاً لَّمّاً} أيْ ذَا لمٍ أي جمعٍ بينَ الحلالِ والحرامِ فإنهم كانُوا لا يُورثونَ النساءَ والصيبانَ ويأكلونَ أنصباءَهم أو ويأكلونَ ما جمعَهُ المورثُ من حلالٍ وحرامٍ عالمينَ بذلكَ {وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} كثيراً معَ حِرص وشرَه. وقرئ: {ويُحبونَ} بالياءِ.
{كَلاَّ} رَدْعٌ لهمُ عن ذلكَ وقولُه تعالَى: {إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً} إلخ استئنافٌ جِىءَ به بطريق الوعيدِ تعليلاً للردعِ أيْ إذَا دكتِ الأرضُ دكاً متتابعاً حتى انكسرَ وذهبَ كلُّ ما عَلى وجهِها من جبالٍ وأبنيةٍ وقصورٍ حينَ زُلزلتْ وصَارتْ هباءً مُنبثاً وقيلَ: الدكُّ حطُّ المرتفعِ بالبسطِ والتسويةِ فالمَعْنى إذا سُويتْ تسويةً بعدَ تسويةٍ ولم يبقَ عَلى وجِها شيءٌ حَتَّى صارتُ كالصخرةِ الملساءِ، وأياً مَا كانَ فهو عبارةٌ عما عرضَ لها عند النفخةِ الثانيةِ {وَجَاء رَبُّكَ} أي ظهرتْ آياتُ قُدرتِه وآثارُ قهرهِ مثلَ ذلكَ بما يظهرُ عندَ حضورِ السلطانِ من أحكامِ هيبتِه وسياستِه، وقيلَ جاءَ أمرُهُ تعالَى وقضاؤُه على حذفِ المضافِ للتهويلِ.
{والملك صَفّاً صَفّاً} أي مُصطفينَ أو ذَوِي صفوفٍ فإنه ينزلُ يومئذٍ ملائكةُ كلِّ سماءٍ فيصطفونَ صفاً بعدَ صفٍ بحسب منازلِهم ومراتبِهم مُحدقينَ بالجِنِّ والإنسِ.
{وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} كقولِه تعالَى: {وَبُرّزَتِ الجحيم} قال ابنُ مسعودٍ ومقاتلٌ تُقادُ جهنمُ بسبعينَ ألفَ زمامٍ كلُّ زمامٍ معه سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يَجرونَها حتى تُنصبَ عن يسارِ العرشِ لها تغيظٌ وزفيرٌ وقد رَواهُ مسلمٌ في صحيحِه عن ابنِ مسعودٍ مَرْفُوعاً. {يَوْمَئِذٍ} بدلٌ مِنْ إذَا دكتْ والعاملُ فيهمَا قولُه تعالى: {يَتَذَكَّرُ الإنسان} أي يتذكرُ ما فرَّطَ فيهِ بتفاصيلِه بمشاهدةِ آثارِه وأحكامِه أو بمعاينةِ عينِه على أنَّ الأعمالَ تتجسمُ في النشأةِ الآخرةِ فيبرز كلٌّ من الحسناتِ والسيئاتِ بما يناسبُها من الصورِ الحسنةِ والقبيحةِ أَوْ يتعظُ وقولُه تعالى: {وأنى لَهُ الذكرى} اعتراضٌ جِىءَ بهِ لتحقيقِ أنه ليسَ يتذكرُ حقيقةً لعرائِه عن الجَدوى بعدمِ وقوعِه في أوانه وأنَّى خبرٌ مقدمٌ والذكْرَى مبتدأٌ وله متعلقٌ بما تعلقَ بهِ الخبرُ أيْ ومنْ أينَ يكونُ له الذكْرَى وقد فاتَ أوانُها وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ أيْ وأنَّى له منفعةُ الذكْرَى، والاستدلالُ به عَلى عدم وجوبِ قبولِ التوبةِ في دارِ التكليفِ مما لا وجه لَهُ، على أن تذكّره ليسَ من التوبةِ في شيءٍ فإنَّه عالمٌ بأنَّها إنما تكونُ في الدُّنيا كما يُعربُ عنْهُ قوله تعالى: {يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} وهو بدلٌ اشتمالٍ من يتذكرُ أو استئنافٌ وقعَ جَواباً عن سؤالٍ نشأَ منْهُ كأنَّه قيلَ: ماذَا يقولُ عندَ تذكرِه، فقيلَ يقولُ يا ليتني عملتْ لأجل حياتِي هذِه أو وقتَ حياتِي في الدُّنيا أعمالاً صالحةً أنتفعُ بَها اليومَ وليس في هذا التمنِي شائبةُ دلالةٍ على استقلالِ العبدِ بفعلٍ وإنما الذي يدلُّ عليهِ ذلكَ اعتقادُ كونِه متمكناً من تقديمِ الأعمالِ الصالحةِ وأما أنَّ ذلكَ بمحضٍ قدرتِه أو بخلقِ الله تعالَى عندَ صرفِ قدرتِه الكاسبةِ إليهِ فكَلاَّ، وأما ما قيلَ من أن المحجورَ قد يتمنَّى إن كانَ ممكناً منْهُ فربما يوهُم أنَّ منْ صرفَ قدرتَهُ إلى أحدِ طَرفي الفعلِ يعتقدُ أنه محجورٌ من الطرفِ الآخرِ وليس كذلكَ بل كلُّ أحدٍ جازمٌ بأنَّه لو صرف قدرتَهُ إلى أي طرفٍ كانَ من أفعالِه الاختياريةِ لحصلَ وعلى هذا يدورُ فلكُ التكليفِ وإلزامُ الحجةِ.

.تفسير الآيات (25- 27):

{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)}
{فَيَوْمَئِذٍ} أي يومَ إذْ يكونُ ما ذُكِرَ منَ الأحوالِ والأقوالِ.
{لاَّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} الهاءُ لله تعالَى أيْ لا يتولَّى عذابَ الله تعالَى ووثاقَهُ أحدٌ سواهُ إذِ الأمرُ كلُّه لهُ أو للإنسانِ أي لا يعذبُ أحدٌ من الزبانيةِ مثلَ ما يعذبونَهُ وقرئ الفعلانِ على البناءِ للمفعولِ والضميرُ للإنسان أيضاً وقيل المراد به أُبيّ بن خلف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يُوثقُ بالسلاسلِ والأغلالِ مثلَ وثاقِه لتناهيهِ في الكفرِ والعنادِ وقيلَ: لا يحملُ عذابَ الإنسانِ كقولِه تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} وقولُه تعالى: {يأَيَّتُهَا النفس المطمئنة} حكايةٌ لأحوالِ مَنِ اطمأنَّ بذكرِ الله عزَّ وجلَّ وطاعتِه إثرَ حكايةِ أحوالِ مَنِ اطمأنَّ بالدُّنيَا، وصفتْ بالاطمئنانِ لأنَّها تترقَى في معارجِ الأسبابِ والمسبباتِ إلى المبدأِ المؤثرِ بالذاتِ فتستقرُ دونَ معرفتِه وتَستْغني بهِ في وجودِها وسائرِ شؤونِها عن غيرِه بالكليةِ، وقيلَ؛ هي النفسُ المؤمنةُ المطمئنةُ إلى الحقِّ الواصلةُ إلى ثَلَجِ اليقينِ بحيثُ لا يُخالجها شكٌّ مَا وقيلَ: هي الآمنةُ التي لا يستفزُهَا خوفٌ ولا حزنٌ ويؤيدُه أنَّه قرئ: {يا أيتها النفسُ الآمنةُ المطمئنةُ} أي يقولُ الله تعالَى ذلكَ بالذاتِ كما كلَّم مُوسى عليه السلامُ أو على لسان المَلَكِ عندَ تمامِ حسابِ الناسِ وهو الأظهرُ وقيلَ: عندَ البعثِ وقيلَ عند الموتِ.

.تفسير الآيات (28- 30):

{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}
{ارجعى إلى رَبّكِ} أي إلى موعدِه أو إلى أمرِه {رَّاضِيَةٍ} بما أوتيتِ من النعيم المقيمِ {مَّرْضِيَّةً} عندَ الله عزَّ وجَلَّ {فادخلى فِي عِبَادِى} في زمرةِ عبادِي الصالحينَ المختصينَ بي {وادخلى جَنَّتِى} معهُم أو انتظمِي في سلكِ المقربينَ واستضئِي بأنوارهم فإنَّ الجواهرَ القدسيةَ كالمَرَايا المتقابلة وقيل: المرادُ بالنفسِ الروحُ والمَعنْى فادخُلى أجسادَ عبادِي التي افترقتِ عنْهَا وادخُلِي دارَ ثوابِي، وهَذا يؤيدُ كونَ الخطابِ عندَ البعثِ وقرئ: {فادخلي في عَبْدِي} وقرئ: {في جسدِ عَبْدي} وقيلَ: نزلتْ في حمزةَ بنِ عبد المطلبِ وقيل: في حُبيبِ بنِ عديَ رضيَ الله عنهُمَا والظاهرُ العمومُ.
عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «منْ قرأَ سورةَ الفجرِ في الليالِي العشرِ غُفرَ لَهُ ومنْ قرأهَا في سائرِ الأيامِ كانتْ له نوراً يومَ القيامةِ».

.سورة البلد:

.تفسير الآيات (1- 3):

{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)}
{لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} أقسمَ سبحانَهُ بالبلدِ الحرامِ وبَما عُطفَ عليهِ عَلى أنَّ الإنسانَ خُلقَ ممنوَّاً بمقاساةِ الشدائدِ ومعاناةِ المشاقِّ واعترضَ بينَ القسمِ وجوابِه بقولِه تعالَى: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} إمَّا لتشريفهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بجعلِ حلولِه بهِ مناطاً لإعظامِه بالإقسامِ بهِ أو التنبيهِ منْ أولِ الأمرِ عَلى تحققِ مضمونِ الجوابِ بذكرِ بعضِ موادِّ المكابدةِ على نهجِ براعةِ الاستهلالِ وبيانِ أنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ معَ جلالةِ قدرةِ وعظمِ حُرمتِه قد استحلُّوه في هَذا البلدِ الحرامِ وتعرضُوا لَهُ بما لاَ خيرَ فيهِ وهمُّوا بما لَمْ ينالُوا عن شُرَحْبيلَ يحرمونَ أن يقتلُوا بَها صيداً ويعضدُوا بَها شجرةً ويستحلُّونَ إخراجَكَ وقتلكَ أو لتسليتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بالوعدِ بفتحِه عَلى مَعْنى وأنتَ حلٌّ بهِ في المستقبلِ كَما في قولِه تعالَى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} تصنعُ فيهِ ما تريدُ من القتلِ والأسرِ وقد كانَ كذلكَ حيثُ أحلَّ له عليهِ الصلاةُ والسلامُ مكةَ وفتحَها عليهِ وما فتحتْ عَلى أحدٍ قَبْله ولاَ أحلتْ لهُ فأحلَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فيهَا ما شاءَ وحرَّم ما شاءَ قتلَ ابْنَ خطلٍ وهو متعلقٌ بأستارِ الكعبةِ ومقيسَ بْنَ ضبابةَ وغيرَهُما وحرَّمَ دارَ أبي سفيانَ ثمَّ قالَ: «إنَّ الله حرَّمَ مكةَ يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ فهَى حرامٌ إلى أنْ تقومَ الساعةُ لم تحلَّ لأحدٍ قَبْلي ولنْ تحلَّ لأحدٍ بعدي ولم تحلَّ لي إلا ساعةً من نهارٍ فَلا يُعضدُ شجرُهَا ولا يُختلى خَلاها ولا ينفرُ صيدُهَا ولا تحلُّ لُقطتُها إلا لمنشدٍ فقالَ العباسُ يا رسولَ الله إلا الإِذْخِرَ فإنَّه لقيونِنا وقبورِنا وبيوتِنا فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ إلاَّ الإذخرَ» {وَوَالِدٍ} عطفٌ على هَذا البلدِ والمرادُ بهِ إبراهيمُ وبقوله تعالى: {وَمَا وَلَدَ} إسماعيلُ والنبيُّ صلواتُ الله عليهمْ أجمعينَ حسبَما ينبىءُ عنْهُ المعطوفُ عليهِ فإنُه حرمُ إبراهيمَ ومنشأُ إسماعيلَ ومسقطُ رأسِ رسولِ الله عليهمُ الصلاةُ والسلامُ والتعبيرُ عنهمَا بَما دُونَ مَنْ للتفخيمِ والتعظيمِ كتنكيرِ والدٍ، وإيرادُهم بعنوانِ الولادِ ترشيحٌ لمضمونِ الجوابِ وإيماءٌ إلى أنَّه متحققٌ في حَالتِي الوالديةِ والولديةِ وقيلَ: آدمُ عليهِ السلامُ ونسلُه وهُو أنسبُ لمضمونِ الجوابِ من حيثُ شمولُه للكُلِّ إلا أنَّ التفخيمَ المستفادَ من كلمةِ مَا لابد فيهِ من اعتبارِ التغليبِ وقيلَ: وكُلُّ والدٍ وولدهُ.

.تفسير الآيات (4- 11):

{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)}
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} أي تعبٌ ومشقةٌ فإنَّه لا يزالُ يُقاسِي فنونَ الشدائدِ منْ وقتِ نفخِ الروحِ إِلى حينِ نَزْعِها وما وراءَهُ يقالُ كبدَ الرجلُ كَذا إذَا وجعتْ كبدُه وأصلُه كبدَهُ إذَا أصابَ كبدَهُ ثم اتْسعَ فيهِ حَتَّى استعملَ في كُلِّ نصبٍ ومشقةٍ، ومنهُ اشتقتْ المكابدةُ كما قيلَ: كبتَهُ بمعنى أهلَكُه وهو تسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم مما كانَ يكابدُه من كفارِ قريشٍ والضميرُ في قولِه تعالَى: {أَيَحْسَبُ} لبعضِهم الذي كانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ يكابدُ منهمْ مايكابدُ كالوليدِ بنِ المغيرةِ وأضرابِه وقيلَ: هُوَ أبُو الأشدِّ بنُ كَلَدةٍ الجُمَحيُّ وكان شديدَ القوةِ مغتراً بقوتِه وكان يبسطُ له الأديمُ العكاظيُّ فيقومُ عليهِ ويقولُ منْ أزالَني عنْهُ فلَهُ كَذا فيجذبُهُ عشرةٌ فينقطعُ قطعاً ولا تزلُّ قدماهُ أيْ أيظنُّ هَذا القويُّ الماردُ المتضعفُ للمؤمنينَ {أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} أنْ مخففةٌ منْ أنَّ واسمُهَا الذي هُو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ أيْ أيحسبُ أنَّه لنْ يقدرَ عَلى الانتقامِ منهُ أحدٌ {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} يريدُ كثرةَ ما أنفقَهُ فيَما كانَ أهلُ الجاهليةِ يسمونَها مكارمَ ويدعونَها معاليَ ومفاخرَ {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} حينَ كانَ ينفقُ وأنه تعالَى لا يسألُه عنْهُ ولا يجازيِه عليهِ {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ} يبصرُ بهمَا {وَلِسَاناً} يترجمُ بهِ عنْ ضمائرِه {وَشَفَتَيْنِ} يسترُ بهمَا فاهُ ويستعينُ بهَما على النطقِ والأكلِ والشربِ وغيرِها {وهديناه النجدين} أيْ طَريقي الخيرِ والشرِّ أو الثديينِ وأصلُ النجدِ المكانُ المرتفعُ {فَلاَ اقتحم العقبة} أيْ فَلمْ يشكرْ تلكَ النعمَ الجليلةَ بالأعمالِ الصالحةِ وعبرَ عنْهَا بالعقبةِ التي هيَ الطريقُ في الجبل لصعوبة سلوكِها.

.تفسير الآيات (12- 20):

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}
وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة} أيْ أيُّ شيءٍ أعلمكَ ما اقتحامُ العقبةِ لزيادةِ تقريرِها وكونِها عندَ الله تعالَى بمكانةٍ رفيعةٍ {فَكُّ رَقَبَةٍ} أيْ هُو إعتاقُ رقبةٍ {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ} أيْ مجاعةٌ {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} أيْ قَرابةٌ {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} أي افتقارٌ وحيثُ كانَ المرادُ باقتحامِ العقبةِ هذهِ الأمورَ حسُنَ دخولُ لاَ عَلى الماضِي فإنَّها لا تكادُ تقعُ إلا مكررةً إذِ المَعْنى فلا فكَّ رقبةً ولا أطعَم يتيماً أو مسكيناً والمسغبةُ والمقربةُ والمتربةُ مفعلاتٌ من سغِبَ إذا جاعَ وقرُبَ منْ النسبِ وترِبَ إذا افتقرَ وقرئ: {فكَّ رقبةٍ أوْ أطعمَ} على الإبدالِ من اقتحمَ {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} عطفٌ عَلى المنفيِّ بَلا وثمَّ للدلالة عَلى تراخي رتبة الإيمانِ ورفعةِ محلِّه لاشتراط جميعِ الأعمالِ الصالحةِ بهِ {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} عطفٌ على آمنُوا أيْ أوصَى بعضُهم بعضاً بالصبر على طاعة الله {وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} بالرحمةِ عَلى عبادهِ أو بموجباتِ رحمتِه من الخيراتِ {أولئك} إشارةٌ إلى الموصولِ باعتبار اتصافِه بَما في حيز صلتِه، وما فيهِ من مَعْنى البعد معَ قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ للإيذانِ ببعدِ درجتِهم في الشرفِ والفضلِ أيْ أولئكَ الموصوفونَ بالنعوتِ الجليلةِ المذكورةِ {أصحاب الميمنة} أي اليمينُ أو اليمنُ {والذين كَفَرُواْ بئاياتنا} بما نصبنَاهُ دليلاً على الحقِّ من كتابٍ وحجة أو بالقرآنِ {هُمْ أصحاب المشئمة} أي الشمالِ أو الشؤمِ {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ} مطبقةٌ من آصدتُ البابَ إذا أطبقتهُ وأغلقتَهُ وقرئ: {مُوصدةٌ} بغيرِ همزةٍ منْ أوصدتُهُ.
عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ {لاَ أقسمُ بهذَا البلدِ} أعطاهُ الله تعالَى الأمانَ من غضبِه يومَ القيامةِ».

.سورة الشمس:

.تفسير الآيات (1- 6):

{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)}
{والشمس وضحاها} أي ضوئِها إذَا أشرقتْ وقام سلطانُها، وقيل: الضَّحوةُ ارتفاعُ النهارِ والضُّحى فوقَ ذلكَ والضحاءُ بالفتحِ والمدِّ إذا امتدَّ النهارُ وكادَ ينتصفُ {والقمر إِذَا تلاها} بأنْ طلعَ بعد غروبِها وقيل: إذا تلا طلوعُه طلوعَها وقيلَ: إذا تلاهَا في الاستدارةِ وكمال النُّورِ {والنهار إِذَا جلاها} أي جَلَّى الشمسَ فإنها تتجلَّى عند انبساطِ النهارِ فكأنه جلاَّها مع أنَّها التي تبسطُه أو جلَّى الظلمةَ أو الدُّنيا أو الأرضَ وإن لم يجرِ لها ذِكْرٌ للعلمِ بَها {واليل إِذَا يغشاها} أي الشمسَ فيُغطِّي ضوءَها أو الآفاقَ أو الأرضَ وحيثُ كانت الواواتُ العاطفةُ نوائبَ للواو الأُولى القسميةِ القائمةِ مقامَ الفعلِ والباءُ سادَّةً مسدَّهما معاً في قولكَ أقسمُ بالله حققْن أن يعمَلن عملَ الفعلِ والجارّ جميعاً كما تقول ضرب زيد عَمراً وبكرٌ خالداً {والسماء وَمَا بناها} أيْ ومَنْ بنَاها وإيثارُ مَا على مَنْ لإرادةِ الوصفيةِ تفخيماً كأنَّه قيلَ: والقادرِ العظيمِ الشأنِ الذي بناهَا وجعلَها مصدريةً مخلٌّ بالنظمِ الكريمِ وكذا الكلامُ في قولِه تعالَى: {والأرض وَمَا طحاها} أي بسطَها من كلِّ جانبٍ كدحَاهَا.

.تفسير الآيات (7- 13):

{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)}
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أي أنشأَها وأبدعَها مستعدةً لكمالاتِها والتنكيرُ للتفخيمِ على أنَّ المرادَ نفسُ آدمٍ عليه السلامُ أو للتكثيرِ وهو الأنسبُ للجوابِ {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أي أفهمَها إيَّاهُمَا وعرَّفَها حالَها من الحُسْنِ والقُبحِ وما تؤدي إليه كلٌّ منهُمَا ومكَّنها من اختيارِ أيِّهما شاءتْ وتقديمُ الفجورِ لمراعاةِ الفواصلِ {قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها} أيْ فازَ بكلِّ مطلوبٍ ونجَا من كلِّ مكروهٍ مَنْ أنماهَا وأعلاها بالتقوى وهو جوابُ القسمِ وحذفُ اللامِ لطولِ الكلامِ وتكريرُ قَدْ في قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَن دساها} لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِه والإيذانِ بتعلقِ القسمِ بهِ أيضاً أصالةً أيْ خسرَ مَنْ نقصَها وأخفَاها بالفجورِ وأصلُ دَسَّى دَسَّسَ كتقضَّى وتَقْضَّضَ وقيلَ: هو كلامٌ تابعٌ لقولِه تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} بطريقِ الاستطرادِ وإنما الجوابُ ما حذفَ تعويلاً على دلالة قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} عليه كأنَّه قيلَ: ليُدَمدِمنّ الله تعالى على كفارِ مكةَ لتكذيبِهم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كما دمدمَ على ثمودَ لتكذيبِهم صالحاً عليهِ السلامُ وهو على الأولِ استئنافٌ واردٌ لتقريرِ مضمونِ قولِه تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَن دساها} والطَّغوى بالفتحِ الطُّغيانُ والباءُ للسببيةِ أيْ فعلتِ التكذيبَ بسببِ طُغيانِها كما تقولُ ظلمنِي بجراءتِه على الله تعالى أو صلةٌ للتكذيبِ أيْ كذَّبتْ بمَا أُوعدتْ بهِ منَ العذابِ ذي الطَّغوى كقولِه تعالَى: {فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} وقرئ: {بطُغواهَا} بضم الطاء وهو أيضاً مصدرٌ كالرُّجعى {إِذِ انبعث أشقاها} منصوبٌ بكذبتْ أو بالطَّغوى أيْ حينَ قامَ أَشْقى ثمودٍ وهُو قُدارُ بنُ سالفٍ أو هُو ومَنْ تصدَّى معه لعقرِ الناقةِ من الأشقياءِ فإنَّ أفعلَ التفضيلِ إذا أضيفَ يصلُح للواحدِ والمتعددِ والمذكرِ والمؤنثِ وفضلُ شقاوتِهم على مَنْ عداهُم لمباشرتِهم العقَر معَ اشتراكِ الكلِّ في الرِّضا بهِ {فَقَالَ لَهُمُ} أي لثمودَ {رَسُولِ الله} أي صالحٌ عليه السلامُ عبرَ عنه بعنوانِ الرسالةِ إيذاناً بوجوبِ طاعتِه وبياناً لغايةِ عتوِّهم تمادِيهم في الطغيانِ وهو السرُّ في إضافةِ الناقةِ إلى الله تعالَى في قولِه تعالَى: {نَاقَةُ الله} أي ذرُوا ناقةَ الله {وسقياها} ولا تذودُوها عنها في نوبتها.