فصل: تفسير الآيات (252- 253):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (252- 253):

{تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)}
{تِلْكَ} إشارة إلى ما سلف من حديث الألوفِ وخبرِ طالوتَ على التفصيل المرقومِ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأنِ المشارِ إليه {آيات الله} المنزلةُ من عنده تعالى، والجملةُ مستأنفة، وقوله تعالى: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} أي بواسطة جبريلَ عليه السلام إما حالٌ من الآيات والعاملُ معنى الإشارة وإما جملةٌ مستقلة لا محل لها من الإعراب {بالحق} في حيز النصبِ على أنه حالٌ من مفعول نتلوها أي ملتبسةً باليقين الذي لا يرتاب فيه أحد من أهل الكتاب وأربابِ التواريخ لما يجدونها موافقةً لما في كتبهم، أو من فاعلِه أي نتلوها عليك ملتبسين بالحق والصواب، أو من الضمير المجرور أي ملتبساً بالحق والصدق {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} أي من جملة الذين أُرسلوا إلى الأمم لتبليغ رسالاتِنا وإجراءِ أوامرِنا وأحكامنا عليهم فإن هذه المعاملةَ لا تجري بيننا وبين غيرهم فهي شهادة منه سبحانه برسالته عليه الصلاة والسلام إثرَ بيانِ ما يستوجبها، والتأكيدُ من مقتضيات مقامِ الجاحدين بها.
{تِلْكَ الرسل} استئنافٌ فيه رمزٌ إلى أنه عليه الصلاة والسلام من أفاضلِ الرسلِ العظامِ عليهم الصلاة والسلام إثرَ بيانِ كونِه من جملتهم والإشارةُ إلى الجماعة الذين من جملتهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فاللام في المآل للاستغراق وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتِهم وبُعدِ منزلتهم وقيل: إلى الذين ذُكرت قِصصُهم في السورة وقيل: إلى الذين ثبت علمُه صلى الله عليه وسلم بهم {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} في مراتب الكمالِ بأن خصَصْناه حسبما تقتضيه مشيئتُنا بمآثِرَ جليلةٍ خلا عنها غيرُه {مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} تفصيلٌ للتفصيل المذكور إجمالاً أي فضله بأن كلمهُ تعالى بغير سفيرٍ وهو موسى عليه الصلاة والسلام حيث كلمهُ تعالى ليلةَ الخِيْرة وفي الطور وقرئ {كلام الله} بالنصب وقرئ {كالَمَ الله} من المكالمة فإنه كلّم الله تعالى كما أنه تعالى كلمه، ويؤيده كليمُ الله بمعنى مكالمِه، وإيرادُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفات لتربية المهابةِ، والرمزِ إلى ما بين التكليم والرفعِ وبين ما سبَقَ من مطلق التفضيل وما ألحق من إيتاء البيناتِ والتأييدِ بروحِ القدسِ من التفاوت {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} أي ومنهم من رفعه على غيره من الرسل المتفاوتين في معارجِ الفضل بدرجات قاصيةٍ ومراتبَ نائيةٍ، وتغييرُ الأسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحالِ في درجات الشرفِ، والظاهرُ أنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كما ينبىء عنه الإخبارُ بكونه عليه الصلاة والسلام منهم فإن ذلك في قوة بعضهم فإنه قد خُصَّ بالدعوة العامة والحُجج الجمة والمعجزاتِ المستمرة والآياتِ المتعاقبة بتعاقُب الدهور والفضائلِ العلمية والعمليةِ الفائتة للحصر، والإبهامُ لتفخيم شأنه وللإشعار بأنه العلَمُ الفردُ الغنيُّ عن التعيين وقيل: إنه إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام حيث خصه تعالى بكرامة الخُلّة وقيل: إدريسُ عليه السلام حيث رفعه مكاناً علياً وقيل: أوُلو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام.
{وآتينا عيسى ابن مَرْيَمَ البيِّنات} الآياتِ الباهرةَ والمعجزاتِ الظاهرةَ من إحياء الموتى وإبراءِ الأكمة والأبرصِ والإخبارِ بالمغيّبات، أو الإنجيلَ {وأيدناه} أي قويناه {بِرُوحِ القدس} بضم الدال وقرئ بسكونها أي بالروح المقدسة كقولك: رجلُ صِدْقٍ وهي روحُ عيسى وإنما وصفت بالقدس للكرامة أو لأنه عليه السلام لم تضمَّه الأصلابُ والأرحامُ الطوامث وقيل: بجبريلَ وقيل: بالإنجيلِ كما مر، وإفرادُه عليه السلام بما ذكر لرد ما بين أهلِ الكتابين في شأنه عليه السلام من التفريط والإفراط، والآيةُ ناطقة بأن الأنبياءَ عليهم السلام متفاوتةُ الأقدار، فيجوزُ تفضيلُ بعضِهم على بعض ولكن بقاطع {وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم} أي جاءوا من بعد الرسلِ من الأمم المختلفة أي لو شاء الله عدمَ اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلَهم متفقين على اتباع الرسلِ المتفقةِ على كلمة الحقِّ فمفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ على القاعدة المعروفة وقيل: تقديرُه ولو شاء هدى الناس جميعاً ما اقتتل إلخ وليس بذاك {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ} من جهة أولئك الرسلِ {البينات} المعجزاتُ الواضحةُ والآياتُ الظاهرة الدالةُ على حقية الحقِّ الموجبةِ لاتباعهم، الزاجرةُ عن الإعراض عن سَننهم المؤدِّي إلى الاقتتال (فمِنْ) متعلقةٌ باقتتل {ولكن اختلفوا} استدراك من الشرطية أُشير به إلى قياس استثنائي مؤلفٍ من وضع نقيض مقدّمها المنتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وُضع فيه الاختلافُ موضعَ نقيضِ المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتالَ ناشىء من قِبَلهم لا من جهته تعالى ابتداءً كأنه قيل: ولكن لم يشأ عدمَ اقتتالِهم لأنهم اختلفوا اختلافاً فاحشاً {فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ} بما جاءت به أولئك الرسلُ من البينات وعمِلوا به {وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} بذلك كفراً لا ارعواءَ له عنه فاقتضت الحِكمةُ عدمَ مشيئتِه تعالى لعدم اقتتالِهم فاقتتلوا بموجبِ اقتضاءِ أحوالِهم {وَلَوْ شَاء الله} عدمَ اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضاً من الاختلاف والشقاق المستتبعين للاقتتال بحسب العادة {مَا اقتتلوا} وما نبَض منهم عِرقُ التطاول والتعادي لما أن الكل تحت ملَكوتِه تعالى، فالتكريرُ ليس للتأكيد كما ظُن بل للتنبيه على أن اختلافهم ذلك ليس موجباً لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك موضعه بل هو سبحانه مختار في ذلك حتى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما اقتتلوا كما يفصح عنه الاستدراك بقوله عز وجل: {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
أي من الأمور الوجودية والعدمية التي من جملتها عدم مشيئته عدم اقتتالهم فإن الترك أيضاً من جملة الأفعال أي يفعل ما يريد حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه منه مانع وفيه دليل بيّن على أن الحوادث تابعة لمشيئته سبحانه خيراً كان أو شراً إيماناً كان أو كفراً.

.تفسير الآيات (254- 255):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ} في سبيل الله {مِمَّا رزقناكم} أي شيئاً مما رزقناكموه على أن (ما) موصولة حُذف عائدُها، والتعرضُ لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق كما في قوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} والمرادُ به الإنفاقُ الواجبُ بدلالة ما بعده من الوعيد {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة} كلمةُ (مِن) متعلقةٌ بما تعلقت به أختها ولا ضير فيه لاختلاف معنييهما فإن الأولى تبعيضيةٌ وهذه لابتداء الغايةِ أي أنفِقوا بعضَ ما رزقناكم من قبل أنْ يأتيَ يومٌ لا تقدِرون على تلافي ما فرّطتم فيه إذ لا تبايُعَ فيه حتى تتبايعوا ما تُنفقونه أو تفتدون به من العذاب ولا خُلةٌ حتى يسامحَكم به أخلاؤكم أو يُعينوكم عليه ولا شفاعةٌ إلا لمن أذِنَ له الرحمن ورضِيَ له قولاً حتى تتوسلوا بشفعاءَ يشفعون لكم في حطّ ما في ذمتكم، وإنما رُفعت الثلاثةُ مع قصد التعميم لأنها في التقدير جوابُ هل فيه بيعٌ أو خلةٌ أو شفاعةٌ وقرئ بفتح الكل {والكافرون} أي والتاركون للزكاة، وإيثارُه عليه للتغليظ والتهديد كما في قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ} مكانَ ومَنْ لم يحُجّ وللإيذان بأن تركَ الزكاة من صفات الكفار قال تعالى: {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ * الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة} {هُمُ الظالمون} أي الذين ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعقاب ووضعوا المالَ في غير موضعِه وصرفوه إلى غير وجهه {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} مبتدأٌ وخبرٌ أي هو المستحِقُّ للمعبودية لا غير، وفي إضمار خبرِ لا مِثلَ في الوجود أو يصِح أن يوجد خلاف للنحاة معروفٌ {الحى} الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء، وهو إما خبرٌ ثانٍ أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أو بدل من لا إله إلا هو، أو بدلٌ من الله أو صفة له، ويعضُده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت {القيوم} فَيْعولٌ، من قام بالأمر إذا حفِظه أي دائمُ القيام بتدبير الخلق وحفظه، وقيل: هو القائمُ بذاته المقيمُ لغيره {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} السِنةُ ما يتقدم النومَ من الفتور قال عديُّ بنُ الرقاعِ العاملي:
وَسْنانُ أقصده النعاسُ فرنَّقت ** في عينه سِنةٌ وليس بنائمِ

والنومُ حالةٌ تعرِضُ للحيوان من استرخاء أعصابِ الدماغِ من رُطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقِف المشاعرُ الظاهرةُ عن الإحساس رأساً والمرادُ بيان انتفاءِ اعتراءِ شيءٍ منهما له سبحانه لعدم كونهما من شأنه تعالى لا لأنهما قاصران بالنسبة إلى القوة الإلهية فإنه بمعزل من مقامِ التنزيهِ فلا سبيلَ إلى حمل النظم الكريمِ على طريقة المبالغةِ والترقي بناءً على أن القادرَ على دفع السِنة قد لا يقدرُ على دفع النوم القويِّ كما في قولك: فلانٌ يقِظٌ لا تغلِبُه سِنةٌ ولا نوم وإنما تأخيرُ النوم للمحافظة على ترتيب الوجودِ الخارجي، وتوسيطُ كلمةِ لا للتنصيص على شمول النفي لكلَ منهما كما في قوله عز وجل: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} الآية. وأما التعبيرُ عن عدم الاعتراءِ والعُروضِ بعدم الأخذ فلمراعاة الواقع إذ عُروضُ السِنةِ والنومِ لمعروضهما إنما يكون بطريق الأخذِ والاستيلاء، وقيل: هو من باب التكميل، والجملةُ تأكيدٌ لما قبلها من كونه تعالى حياً قيّوماً فإن مَنْ يعتريه أحدُهما يكونُ موقوفَ الحياةِ قاصراً في الحفظ والتدبيرِ وقيل: استئنافٌ مؤكدٌ لما سبق وقيل: حال مؤكدةٌ من الضمير المستكِّن في القيوم {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض} تقريرٌ لقيّوميّته تعالى واحتجاجٌ به على تفرّده في الألوهية، والمرادُ بما فيهما ما هو أعمُّ من أجزائهما الداخلةِ فيهما ومن الأمور الخارجةِ عنهما المتمكّنة فيهما من العقلاء وغيرهم.
{مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} بيانٌ لكبرياء شأنه وأنه لا يدانيه أحدٌ ليقدِر على تغيير ما يريده شفاعةً وضراعةً فضلاً عن أن يُدافعه عِناداً أو مُناصبةً {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي ما قبلهم وما بعدهم أو بالعكس لأنك مستقبِلُ المستقبَل ومستدبِرُ الماضي، أو أمورَ الدنيا أو أمورَ الآخرة أو بالعكس أو ما يُحسّونه، وما يعقِلونه أو ما يدركونه وما لا يدركونه، والضميرُ لما في السموات والأرض بتغليب ما فيهما من العقلاء على غيرهم أو لما دل عليه من ذا الذي من الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ} أي من معلوماته {إِلاَّ بِمَا شَاء} أن يعلموه، وعطفُه على ما قبله لما أنهما جميعاً دليلٌ على تفرّده تعالى بالعلم الذاتي التامِّ الدالِّ على وحدانيته {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والارض} الكرسي ما يُجلَس عليه ولا يفضُلُ عن مقعد القاعد، وكأنه منسوبٌ إلى الكِرْس الذي هو المُلبَّد، وليس ثمةَ كُرسيٌّ ولا قاعدٌ ولا قُعود وإنما هو تمثيل لعظمةِ شأنه عز وجل وسَعة سلطانه وإحاطةِ علمه بالأشياء قاطبةً على طريقة قوله عز قائلاً: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} وقيل: كرسيُّه مجازٌ عن علمِه أخذاً من كرسيِّ العالِم وقيل: عن مُلكه أخذاً من كرسيّ المُلك فإن الكرسيَّ كلما كان أعظمَ تكون عظمةُ القاعدِ أكثرَ وأوفرَ فعبر عن شمول علمه أو بسطةِ ملكه وسلطانِه بسَعة كرسيِّه وإحاطته بالأقطار العلوية والسفلية وقيل: هو جِسمٌ بين يدي العرشِ محيطٌ بالسموات السبْع لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما السموات السبعُ والأرضونَ السبعُ مع الكرسي إلا كحلقةٍ في فلاة وفضلُ العرشِ على الكرسيِّ كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» ولعله الفلَكُ الثامن، وعن الحسن البصريّ أنه العرش.
{وَلاَ يَؤُودُهُ} أي لا يُثقِله ولا يشُقُّ عليه {حِفْظُهُمَا} أي حفظُ السموات والأرضِ وإنما لم يتعرَّضْ لذكر ما فيهما لما أن حفظهما مستتبعٌ لحفظه {وَهُوَ العلى} المتعالي بذاته عن الأشباه والأنداد {العظيم} الذي يُستحْقَر بالنسبة إليه كلُّ ما سواه ولما ترى من انطواء هذه الآيةِ الكريمةِ على أمهات المسائل الإلهية المتعلقةِ بالذات العليةِ والصفاتِ الجلية فإنها ناطقةٌ بأنه تعالى موجودٌ متفردٌ بالإلهية متصفٌ بالحياة واجبُ الوجود لذاته موجدٌ لغيره لما أن القيومَ هو القائمُ بذاته المقيمُ لغيره منزَّهٌ عن التحيز والحلول مبرأٌ عن التغير والفتور، لا مناسبةَ بينه وبين الأشباح ولا يعتريه ما يعتري النفوسَ والأرواحَ مالكُ المُلك والملكوتِ ومُبدعُ الأصولِ والفروع، ذو البطش الشديد لا يشفَع عنده إلا من أذِن له فيه، العالِمُ وحده بجميع الأشياء جليِّها وخفيِّها كليِّها وجزئيِّها واسعُ الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يُملَكَ ويُقدَرَ عليه لا يشُقّ عليه شاقٌّ ولا يشغَلُه شأنٌ عن شأن، متعالٍ عما تناله الأوهامُ، عظيمٌ لا تُحدق به الأفهام، تفردت بفضائلَ رائقةٍ وخواصَّ فائقة خلت عنها أخواتُها قال صلى الله عليه وسلم:
«إن أعظمَ آيةٍ في القرآن آيةُ الكرسي. من قرأها بعث الله تعالى ملِكاً يكتُب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة» وقال عليه الصلاة والسلام: «ما قُرئت هذه الآيةُ في دار إلا هجرتْها الشياطينُ ثلاثين يوماً ولا يدخُلها ساحرٌ ولا ساحرةٌ أربعينَ ليلةً» وقال: «يا عليُّ علِّمْها ولدَك وأهلَك وجيرانَك فما نزلت آيةٌ أعظمُ منها» وقال عليه السلام: «مَنْ قرأ آيةَ الكرسيِّ في دُبُرِ كلِّ صلاة مكتوبةٍ لم يمنعْه من دخول الجنةِ إلا الموتُ ولا يواظِبُ عليها إلا صدِّيق أو عابدٌ ومن قرأها إذا أخذ مضجعَه أَمَّنَه الله تعالى على نفسه وجارِه، وجار جاره، والأبياتِ حوله» وقال عليه الصلاة والسلام: «سيدُ البشر آدمُ وسيد العربِ محمدٌ ولا فخرٌ وسيدُ الفُرس سلمانُ وسيدُ الرومِ صُهيبٌ وسيدُ الحبشةِ بلالٌ وسيد الجبال الطورُ وسيدُ الأيام يومُ الجمعة وسيدُ القرآنِ سورةُ البقرة وسيدُ البقرةِ آيةُ الكرسي» وتخصيصُ سيادته صلى الله عليه وسلم للعرب بالذكر في أثناء تعدادِ السيادات الخاصةِ لا يدل على نفي ما دلت عليه الأخبارُ المستفيضةُ وانعقد عليه الإجماعُ من سيادته عليه السلام لجميع أفرادِ البشر.

.تفسير الآية رقم (256):

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}
{لا إِكْرَاهَ فِي الدين} جملةٌ مستأنفة جِيء بها إثرَ بيانِ تفرُّدِه سبحانه وتعالى بالشؤون الجليلةِ الموجبةِ للإيمان به وحده إيذاناً بأن مِنْ حق العاقلِ ألا يحتاجَ إلى التكليف والإلزام بل يختارُ الدينَ الحقَّ من غير ترددٍ وتلعثم وقيل: هو خبرٌ في معنى النهي أي لا تُكرِهوا في الدين فقيل: منسوخٌ بقوله تعالى: {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} وقيل: خاصٌّ بأهل الكتاب حيث حصَّنوا أنفسَهم بأداءِ الجزية ورُوي أنه كان لأنصاريَ من بني سالم بن عوفٍ ابنان قد تنصّرا قبل مبعثه عليه السلام ثم قدِما المدينة فلزِمهما أبوهما وقال: والله لا أدَعُكما حتى تُسلما فأَبَيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فخلاّهما {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} استئنافٌ تعليلي صُدّر بكلمة التحقيقِ لزيادة تقريرِ مضمونِه كما في قوله عز وجل: {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً} أي إذ قد تبين بما ذُكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهُّمُ اشتراك غيرِه في شيء منها الإيمانُ الذي هو الرشدُ الموصل إلى السعادة الأبدية من الكفر الذي هو الغيُّ المؤدي إلى الشقاوة السرمدية {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت} هو بناءُ مبالغة من الطغيان كالمَلَكوت والجَبَروت قُلب مكانُ عينه ولامِه فقيل: هو في الأصل مصدر وإليه ذهب الفارسيُّ وقيل: اسمُ جنسٍ مُفرَدٍ مذكر، وإنما الجمعُ والتأنيثُ لإرادة الآلهةِ وهو رأيُ سيبويه، وقيل: هو جمعٌ وهو مذهبُ المبرِّد وقيل: يستوي فيه المُفرَد والجمعُ والتذكيرُ والتأنيثُ أي فمن يعملْ إثرَ ما تميز الحقُّ من الباطل بموجب الحُججِ الواضحةِ والآياتِ البينة ويكفرْ بالشيطان أو بالأصنام أو بكل ما عُبد من دون الله تعالى أو صَدَّ عن عبادته سبحانه تعالى لِما تبيّن له كونُه بمعزل من استحقاق العبادة {وَيُؤْمِن بالله} وحدَه لِما شاهد من نعوتِه الجليلةِ المقتضيةِ لاختصاص الألوهيةِ به عز وجل الموجبةِ للإيمان والتوحيدِ، وتقديمُ الكفرِ بالطاغوت على الإيمان به تعالى لتوقفه عليه فإن التخليةَ متقدّمةٌ على التحلية {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} أي بالغَ في التمسُّك بها كأنه وهو ملتبسٌ به يطلُبُ من نفسه الزيادةَ فيه والثباتَ عليه {لاَ انفصام لَهَا} الفصْم الكسرُ بغير صوت كما أن القَصْم هو الكسرُ بصوت، ونفيُ الأول يدل على انتفاءِ الثاني بالأولوية، والجملةُ إما استئنافٌ مقرِّر لما قبلها من وَثاقة العُروة وإما حالٌ من العروة والعاملُ استمسك أو من الضمير المستتر في الوثقى ولها في حيز الخبر، أي كائن لها والكلامُ تمثيلٌ مبنيٌّ على تشبيه الهيئة العقليةِ المنتزَعةِ من ملازمة الاعتقادِ الحقِّ الذي لا يحتمل النقيضَ أصلاً لثبوته بالبراهين النيِّرة القطعية بالهيئة الحِسّية المنتزَعه من التمسُّك بالحبل المُحْكَم المأمونِ انقطاعُه فلا استعارةَ في المفردات ويجوز أن تكونَ العُروةُ الوثقى مستعارةً للاعتقاد الحقِّ الذي هو الإيمانُ والتوحيدُ لا للنظر الصحيح المؤدّي إليه كما قيل فإنه غيرُ مذكورٍ في حيز الشرط، والاستمساكُ بها مستعاراً لِما ذكر من الملازمة أو ترشيحاً للاستعارة الأولى {والله سَمِيعٌ} بالأقوال {عَلِيمٌ} بالعزائم والعقائدِ، والجملةُ اعتراضٌ تذييلي حاملٌ على الإيمان رادِعٌ عن الكفر والنفاق بما فيه من الوعد.