فصل: تفسير الآيات (6- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (6- 7):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ} بيانٌ لحالِ الفريقينِ في الآخرةِ بعد بيانِ حالِهم في الدُّنيا، وذَكَرَ المشركينَ لئلاَّ يتوهَم اختصاصُ الحكمِ بأهلِ الكتابِ حسبَ اختصاصِ مشاهدةِ شواهدِ النبوةِ في الكتابِ بهم ومَعْنى كونِهم فيها أنَّهم بصيرونَ إليها يومَ القيامةِ، وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للإيذان بتحقق مضمونِها لا محالةَ أو أنَّهم فيها الآنَ إما على تنزيل ملابستِهم لما يوجبُها منزلَة ملابستِهم لها وإنَّا عَلى أنَّ ما هُم فيهِ من الكفرِ والمَعاصي عينُ النارِ إلا أنَّها ظهرتْ في هذِه النشأةِ بصورةٍ عَرَضيةٍ وستخلعُها في النشأة الآخرةِ وتظهرُ بصورتِها الحقيقيةِ كَما في قولِه تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} في سورة الأعرافِ.
{خالدين فِيهَا} حالٌ من المستكنِّ في الخبرِ، واشتراكُ الفريقينِ في دخولِ دارِ العذابِ بطريقِ الخُلودِ لا يُنافِي تفاوتَ عذابِهم في الكيفيةِ فإنَّ جهنَم دركاتٌ وعذابَها ألوانٌ {أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتَّصافِهم بما هُم فيه من القبائحِ المذكورةِ وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ بغايةِ بُعدِ منزلتِهم في الشرِّ أي أولئكَ البعداءُ المذكورونَ {هُمْ شَرُّ البرية} شرُّ الخليقةِ أي أعمالاً وهو الموافقُ لما سيأتِي في حقِّ المؤمنينَ فيكونُ في حيزِ التعليلِ لخلودِهم في النارِ، أو شرُّهم مقاماً ومصيراً فيكونَ تأكيداً لفظاعةِ حالِهم، وقرئ بالهمز على الأصل.
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} بيانٌ لمحاسن أحوالِ المؤمنينَ إثرَ بيانِ سوءِ حالِ الكفرةِ جرياً على السنةِ القرآنيةِ من شفعِ الترهيبِ بالترغيبِ {أولئك} المنعوتونَ بَما هُو في الغايةِ القاصيةِ من الشرفِ والفضيلةِ من الإيمان والطاعة. {هُمْ خَيْرُ البرية} وقرئ: {خيارُ البريةِ} وهو جمعُ خيِّر، نحوٌ جيدٌ وجيادٌ.

.تفسير الآية رقم (8):

{جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}
{جَزَآؤُهُمْ} بمقابلةِ ما لهُم من الإيمانِ والطاعةِ {عِندَ رَبّهِمْ جنات عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} إنْ أُريد بالجنَّاتِ الأشجارُ الملتفةُ الأغصانِ كمَا هو الظاهرُ، فجريانُ الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ، وإنْ أُريدَ بها مجموعُ الأرضِ ومَا عليها فهُو باعتبارِ الجزءِ الظاهرِ، وأيّاً ما كانَ فالمرادُ جريانُها بغيرِ أخدودٍ. {خالدين فِيهَا أَبَداً} متنعيمنَ بفنونِ النعمِ الجُسمانيةِ والروحانيةِ وفي تقديمِ مدحِهم بخيرية البريةِ وذكرِ الجزاءِ المؤذنِ بكونِ ما مُنحوهُ في مقابلةِ ما وُصفوا بهِ وبيان كونِه من عندِه تعالَى والتعرضِ لعنوانِ الربوبيةِ المنبئةِ عن التربيةِ والتبليغ إلى الكمالِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم وجمعِ الجنَّاتِ وتقييدِها بالإضافةِ وبما يزيدُها نعيماً وتأكيداً الخلودِ بالأبودِ من الدلالةِ على غايةِ حُسنِ حالِهم ما لا يَخْفى. {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئنافٌ مبينٌ لما يتفضلُ عليهم زيادةً على ما ذُكرَ من أجزيةِ أعمالِهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} حيثُ بلغُوا من المطالبِ قاصيتَها وملكُوا من المآربِ ناصيتَها وأُتيحَ لهم ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خَطَر على قلبِ بشرٍ {ذلك} أيْ ما ذُكرَ من الجزاءِ والرضوانِ {لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} فإنَّ الخشيةَ التي هيَ من خصائصِ العلماءِ بشؤونِ الله عزَّ وجلَّ مناطٌ لجميعِ الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ المستتبعةِ للسعادةِ الدينيةِ والدنيويةِ. والتعرضُ لعُنوانِ الربوبيةِ المعربةِ عن المالكيةِ والتربيةِ للإشعارِ بعلَّةِ الخشيةِ والتحذيرِ من الاغترارِ بالتربيةِ.
عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سورةَ البينةِ كانَ يومَ القيامةِ مع خيرِ البريةِ مساءً ومَقيلاً».

.سورة الزلزلة:

.تفسير الآيات (1- 4):

{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)}
{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض} أَيْ حُرِّكتْ تحريكاً عنيفاً مُتكرراً متداركاً {زِلْزَالَهَا} أي الزلزالُ المخصوصُ بَها عَلَى مُقْتصى المشيئةِ الإلهيةِ المبنيةِ على الحكمِ البالغةِ وهُو الزلزالُ الشديدُ الذي لا غايةَ وراءَهُ أو زلزالُها العجيبُ الذي لا يُقَادرُ قدرُهُ أو زلزالُها الداخلُ في حيزِ الإمكانِ وقرئ بفتحِ الزَّاي وهو اسمٌ وليسَ في الأبنيةِ فعلالٌ بالفتحِ إلا في المضاعفِ وقولُهم خَزْعَالٌ نادرٌ وقَدْ قيلَ: الزلزالُ بالفتحِ أيضاً مصدرٌ كالوَسواسِ والجرَجارِ والقَلقالِ وذلكَ عندَ النفخةِ الثانيةِ لقوله عز وجل: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} أي ما في جَوْفها من الأمواتِ والدفائنِ جمعُ ثَقَلٍ وهُو متاعُ البيتِ وإظهارُ الأرضِ في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التقريرِ أوْ للإيماءِ إلى تبدلِ الأرضِ غيرَ الأرضِ أو لأنَّ إخراجَ الأثقالِ حالُ بعضِ أجزائِها {وَقَالَ الإنسان} أيْ كُلُّ فردٍ من أفرادِه لما يَدهمُهْم منَ الطامَّةِ التامَّةِ ويبهرهُم مِنَ الدَّاهيةِ العامَّةِ {مَا لَهَا} زُلزلتْ هذهِ المرتبةَ الشديدةَ منَ الزلزالِ وأخرجتْ ما فيَها منَ الأثقالِ استعظاماً لما شاهدُوه منَ الأمرِ الهائلِ وقد سيرتِ الجبالُ في الجَوِّ وصيرتْ هباءً وقيلَ: هُو قولُ الكافرِ إذْ لمْ يكُنْ مؤمناً بالبعثِ والأظهرُ هُو الأولُ عَلى أنَّ المؤمنَ يقولُه بطريقِ الاستعظامُ والكافرُ بطريق التعجبِ {يَوْمَئِذٍ} بدلٌ منْ إِذا وقولُه تعالَى: {تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا} عَامِلٌ فيهمَا ويجوزُ أن يكونَ إذَا منتصباً بمضمرٍ أيْ يومُ إذْ زلزلتْ الأرضُ تحدثُ الخلقَ أخبارِها إمَّا بلسانِ الحالِ حيثُ تدلُّ دلالةً ظاهرةً على ما لأجلِه زلزالُها وإخراجُ أثقالِها وإما بلسانِ المقالِ حيثُ ينطقُها الله تعالَى فتخبرُ بما عُمِلَ عليَها منْ خيرٍ وشرَ ورُوِيَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنها تشهدُ على كُلِّ أحدٍ بما عَمِلَ عَلى ظَهرِهَا» وقرئ: {تنبىءُ أخبارَها} وقرئ: {تنبىءُ} منَ الإنباءِ.

.تفسير الآيات (5- 8):

{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}
{بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي تحدثُ أخبارَهَا بسببِ إيحاءِ ربِّكَ لَها وَأمْرِهِ إيَّاهَا بالتَّحديثِ عَلَى أَحَدِ الوجهينِ وَيَجُوزُ أَنْ يكُونَ بَدَلاً مِنْ أَخْبَارِهَا كَأنَّه قيلَ: تحدثُ بأخبارِهَا بأَنَّ ربَّكَ أوحى لأَنَّ التحديثَ يستعملُ بالباءِ وبدونِا وأَوْحَى لَها بمعنى أَوْحَى إليَها.
{يَوْمَئِذٍ} أيْ يومَ إذْ يقعُ ما ذُكِرَ {يَصْدُرُ الناس} من قبورِهم إلى موقفِ الحسابِ {أَشْتَاتاً} متفرقينَ بحسبِ طبقاتِهم بيضِ الوجوهِ آمنينَ وسودِ الوجوهِ فزعينَ كما مرَّ في قولِه تعالَى فتأتونَ أفواجاٍ وقيلَ: يصدرُون عن الموقفِ أشتاتاً ذاتَ اليمينِ إلى الجنةِ وذاتَ الشمالِ إلى النارِ {لّيُرَوْاْ أعمالهم} أي أجزيةَ أعمالِهم خيراً كانَ أَوْ شراً وقرئ: {ليَروا} بالفتحِ وقولُه تعالَى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} تفصيلٌ ليرَوا وَقرئ: {يُرَه} والذرةُ النملةُ الصغيرةُ وَقيلَ ما يُرى في شُعاعِ الشمسِ منَ الهباءِ وَأياً مَا كان فمَعنى ما يعادلُها منْ خيرٍ وشرَ إما مشاهدةُ جزائِه فَمَنِ الأُولى مختصةٌ بالسُّعداءِ والثانيةُ بالأشقياءِ كيفَ لا وحسناتُ الكافرِ محبطةٌ بالكفرِ وسيئاتُ المؤمنِ المجتنبِ عن الكبائرِ معفوةٌ وما قيلَ: مِنْ أن حسنةَ الكافرِ تؤثرُ في نقصِ العقابِ يردُّه قولُه تعالَى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} وأما مشاهدةُ نفسِه من غيرِ أنْ يعتبرَ مَعَهُ الجزاءُ ولاَ عدمُه بلْ يفوضُ كلٌّ منَهما إلى سائرِ الدلائلِ الناطقةِ بعفوِ صغائرِ المؤمنِ المجتنبِ عنِ الكبائرِ وإثابتِه بجميعِ حسناتِه وبحبوطِ حسناتِ الكافرِ ومعاقبتِه بجميعِ معاصيهِ فالمَعْنى ما رُوِيَ عنِ ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُما: «ليسَ منْ مؤمنٍ وَلاَ كافرٍ عملَ خيراً أو شراً إلا أراهُ الله تعالَى إيَّاهُ أما المؤمنُ فيغفرُ له سيئاتِه ويثيبُه بحسناتِه وأما الكافِرُ فيردُّ حسناتِه تحسراً ويعاقبُه بسيئاتِه».
عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سورةَ إذَا زلزلتْ أربعَ مراتٍ كانَ كمَنْ قرأَ القرآنَ كُلَّه» والله أعلمُ.

.سورة العاديات:

.تفسير الآيات (1- 5):

{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)}
{والعاديات} أقسمَ سبحانَهُ بخيلِ الغُزاةِ التي تعدُو نحوَ العدوِّ وقولُه تعالَى: {ضَبْحاً} مصدرٌ منصوبٌ إما بفعلِه المحذوفِ الواقعِ حالاً منَها أي تضبحُ ضَبْحاً وهُو صوتُ أنفاسِها عندَ عدوها أوْ بالعادياتِ فإن العدوَ مستلزمٌ للضبحِ كأنَّه قيلَ: والضابحاتِ أو حالٌ على أنَّه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ أيْ ضابحاتٌ {فالموريات قَدْحاً} الإيراءُ إخراجُ النَّارِ والقدحُ الصَّكُّ يقالَ قدحَ فأَوْرَى أيْ فالتي تُورِى النارَ منْ حوافرِها وانتصابُ قَدحاً كانتصابِ ضبحاً على الوجوهِ الثلاثةِ {فالمغيرات} أسند الإغارةَ التي هيَ مباغتةُ العدوِّ للنهبِ أو للقتلِ أو للأسرِ إليَها وهيَ حالُ أهلِها وإيذاناً بأنَّها العمدةُ في إغارتِهم {صُبْحاً} أي في وقتِ الصبحِ وهو المعتادُ في الغاراتِ يعدونَ ليلاً لئلا يشعرُ بهمْ العدوّ ويهجمونَ علهيمْ صباحاً ليَرَوا مَا يأتونَ ومَا يذرونَ وَقَولُه تعالَى: {فَأَثَرْنَ بِهِ} عطفٌ على الفعلِ الذي دلَّ عَلَيهِ اسمُ الفاعلِ إذِ المَعْنى واللاتِي عدونَ فأورينَ فأغرنَ فأثرنَ بهِ أيْ فهيجنَ بذلكَ الوقتِ {نَقْعاً} أيْ غُباراً وتخصيصُ إثارتِه بالصُّبحِ لأنَّه لا يثورُ أو لا يظهرُ ثورانُه بالليلِ وبهذا ظهرَ أنَّ الإيراءَ الذي لا يظهرُ في النهارِ واقعٌ في الليلِ ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وَقيلَ النقعُ الصياحُ والجَلَبةُ وقرئ: {فأثَّرنَ} بالتشديدِ بمَعْنى فأظهرنَ بهِ غُباراً لأنَّ التأثيرَ فيهِ مَعْنى الإظْهارِ {فَوَسَطْنَ بِهِ} أي توسطنَ بذلك الوقتِ أو توسطنَ ملتبساتٍ بالنقعِ {جَمْعاً} من جموعِ الأعداءِ والفاءاتُ للدلالةِ عَلَى ترتبِ ما بعدَ كُلَ مِنْها عَلى ما قبلَها كَما في قولِه:
يَا لهفَ زيّابةَ للحارثِ الصَّا ** بحِ فالغَانمِ فالآيبِ

فإنَّ توسطَ الجمعِ مترتبٌ عَلى الإثارةِ المترتبةِ على الإغارةِ المترتبةِ على الإيراءِ المترتبِ على العدوِ.

.تفسير الآيات (6- 11):

{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}
وقولُه تعالَى: {إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ} أَيْ لكفورٌ مِنْ كندَ النعمةَ كنوداً جوابُ القسمِ والمرادُ بالإنسانِ بعضُ أفرادِه. رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثَ إلى أناسٍ منْ بنِي كنانةَ سريةً واستعملَ عليَها المنذرَ بنَ عمروٍ الأنصاريَّ وكانَ أحدَ النقباءِ فأبطأ عليهِ الصلاةُ والسلامُ خبرُهَا شهراً فقالَ المنافقونَ إنُهم قُتلوا فنزلتْ السورةُ إخباراً للنبيِّ عليهِ عليه الصلاةُ والسلامُ بسلامتِها وبشارةً لهُ بإغارتِها على القومِ ونعياً على المُرجفينَ في حقِّهم مَا هُم فيهِ من الكنودِ وفي تخصيصِ خيلِ الغُزاةِ بالإقسامِ بَها منَ البراعةِ ما لا مزيدَ عليهِ كأنه قيلَ: وخيلِ الغُزاةِ التي فعلتْ كيتَ وكيتَ وقد أرجفَ هؤلاءِ في حقِّ أربابِها ما أرجفُوا أنهم مبالغونَ في الكفرانِ {وَإِنَّهُ على ذَلِكَ} أيْ وإنَّ الإنسانَ على كنودِه {لَشَهِيدٌ} يشهدُ عَلى نفسِه بالكنودِ لظهورِ أثرِه عليهِ {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير} أي المالِ كمَا في قولِه تعالَى إنْ تركَ خيراً {لَشَدِيدٌ} أيْ قويٌ مطيقٌ مجدٌّ في طلبِه وتحصيلِه متهالكٌ عليهِ يقالُ هُوَ شديدٌ لهذا الأمرِ وقويٌّ لَهُ إذا كانَ مطيقاً لَهُ ضَابطاً وقيلَ: الشديدُ البخيلُ أيْ إنَّه لأجلِ حُبِّ المالِ وثقلِ إنفاقِه عليهِ لبخيلٌ ممسكٌ ولعَلَّ وصفَهُ بهذا الوصفِ القبيحِ بعدَ وصفِه بالكنودِ للإيماءِ إلى أنَّ من جملةِ الأمورِ الداعيةِ للمنافقينَ إلى النفاقِ حبَّ المالِ لأنَّهم بما يظهرونَ من الإيمانِ يعصمونَ أموالَهُم ويحوزونَ من الغنائمِ نصيباً وقولُه تعالَى: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور} إلخ تهديدٌ ووعيدٌ والهمزةُ للإنكارِ والفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أيفعلُ ما يفعلُ من القبائحِ أو أَلا يلاحظُ فلا يعلمُ حالَهُ إذا بعثَ منْ فِي القبورِ من المَوْتى وإيرادُ ما لكونِهم إذْ ذاكَ بمعزلَ عنْ رتبةِ العقلاءِ وقرئ: {بُحْثرَ} و{بُحِثَ} و{بَحْثَر} و{بَحَثَ} على بنائهِما للفاعلِ {وَحُصّلَ} أَيْ جمعَ محصلاً أوْ ميز خيرُه من شرِّهِ وقرئ: {وحَصَّلَ} مبنياً للفاعلِ وحَصَلَ مخففاً {مَا فِي الصدور} منَ الأسرارِ الخفيةِ التي منْ جُملتِها ما يخفيه المنافقونَ من الكفرِ والمعاصِي فضلاً عن الأعمالِ الجليةِ {إِنَّ رَبَّهُم} أي المبعوثينَ كَنَّى عنْهُم بعدَ الإحياءِ الثاني بضميرِ العُقلاءِ بعدَ مَا عبرَ عنهُمْ قبلَ ذلكَ بَما بناءً على تفاوتِهم في الحالينِ كما فعلَ نظيرَهُ بعد الإحياءِ الأولِ حيثُ التفتَ إلى الخطابِ في قولِه تعالَى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار} الأيةَ بعدَ قولِه: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} إيذاناً بصلاحيتِهم للخطابِ بعد نفخِ الروحِ وبعدمِها قبلَه كما أُشيرَ إليهِ هناكَ {بِهِمُ} بذواتِهم وصفاتِهم وأحوالِهم بتفاصيلِها {يَوْمَئِذٍ} يومَ إذْ يكونُ ما ذكرَ من بعثِ ما في القبورِ وتحصيلِ مَا فِي الصدورِ {لَّخَبِيرٌ} أيْ عالمٌ بظواهرِ ما عملُوا وبواطنِه علماً موجباً للجزاءِ متصلاً بهِ كما ينبىءُ عنْهُ تقييدُه بذلكَ اليومِ وإلاَّ فمطلقُ علمِه سبحانَهُ محيطٌ بَما كانَ وما سيكونُ وقولُه تعالَى بِهم ويومئذَ متعلقانِ بخبيرٍ قدمَا عليه لمراعاة الفواصلِ واللامُ غيرُ مانعةٍ من ذلكَ وقرأ ابنُ السَّماكِ إنَّ ربَّهم بهمْ يومئذٍ خبيرٌ.
عنِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سورةَ والعادياتِ أُعْطِيَ منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعددِ منْ باتَ بمزدلفةَ وشهدَ جَمْعاً».

.سورة القارعة:

.تفسير الآيات (1- 4):

{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)}
{القارعة} القرعُ هو الضربُ بشدةٍ واعتمادٍ بحيثُ يحصلُ منهُ صوتٌ شديدٌ وَهيَ القيامةُ التي مبدؤُهَا النفخةُ الأُولى ومُنتهاهَا فصلُ القضاءِ بينَ الخلائقِ كما مرَّ في سورةِ التكويرِ سميتْ بَها لأنَّها تقرعُ القلوبَ والأسماعَ بفنونِ الأفزاعِ والأهوالِ وتُخْرِجُ جميعَ الأجرامِ العلويةِ والسفليةِ منْ حالٍ إلى حالٍ السماءَ بالانشقاقِ والانفطارِ والشمسَ والنجومَ بالتكويرِ والانكدارِ والانتشارِ والأرضَ بالزلزالِ والتبديلِ والجبالَ بالدكِّ والنسفِ وهيَ مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالَى: {مَا القارعة} على أنَّ مَا الاستفهاميةَ خبرُ القارعةِ مبتدأٌ لا بالعكسِ لَما مرَّ غيرَ مرةٍ أنَّ محطَّ الفائدةِ هُوَ الخبرُ لا المبتدأُ ولا ريبَ في أنَّ مدارَ إفادةِ الهولِ والفخامةِ هاهنا هُو كلمةُ مَا لاَ القارعةِ أَيْ أَيُّ شيءٍ عجيبٍ هيَ في الفخامةِ والفظاعةِ وقد وضعَ الظاهرَ موضعَ الضميرِ تأكيداً للتهويل وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا القارعة} تأكيد لهولِها وفظاعتِها ببيانِ خروجِها عنْ دائرةِ علومِ الخلقِ على مَعْنى أنَّ عِظمَ شَأْنِها ومَدَى شِدَّتِها بحيثُ لا تكادُ تنالُه درايةُ أحدٍ حَتَّى يدريكَ بَها وَمَا فِي حيزِ الرفعِ على الابتداءِ وأدراكَ هو الخبرُ وَلا سبيل إلى العكسِ هاهنا ومَا القارعةُ جملةٌ كما مَرَّ محلّها النصبُ على نزعِ الخافضِ لأنَّ أَدْرى يتعدَّى إلى المفعولِ الثانِي بالباءِ كما في قولِه تعالَى: {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} فلما وقعتْ الجملةُ الاستفهاميةُ معلقةً لهُ كانتْ فِي مَوْقعِ المفعولِ الثانِي له والجملةُ الكبيرةُ معطوفةٌ على ما قبلَها من الجملةِ الواقعةِ خبراً للمبتدأِ الأولِ أيْ وأيُّ شيءٍ أعلمكَ مَا شأنُ القارعةِ ولما كانَ هذَا منبئاً عن الوعدِ الكريمِ بإعلامِها أنجزَ ذلكَ بقوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} عَلى أنَّ يومَ مرفوعٌ عَلَى أَنَّهُ خبرُ مبتدأٍ محذوفِ وحركتُه الفتحُ لإضافتِه إلى الفعلِ وإنْ كانَ مضارعاً كَما هُو رأيُ الكوفيينَ أيْ هيَ يومٌ يكونُ الناسُ فيهِ كالفراشِ المبثوثِ في الكثرةِ والانتشارِ والضعفِ والذلةِ والاضطرابِ والتطايرِ إلى الداعِي كتطايرِ الفَراشِ إلى النارِ أو منصوبٌ بإضمارِ اذكُرْ كأنَّه قيلَ بعدَ تفخيمِ أمرِ القارعةِ وتشويقِه عليه الصلاةُ والسلامُ إلى معرفتِها اذكُرْ يومَ يكونُ الناسِ إلخ فإنَّه يدريكَ ما هيَ هَذا وقد قيلَ: إنه ظرفٌ ناصبُه مضمرٌ يدلُّ عليهِ القارعةُ أيْ تقرعُ يومَ يكونُ الناس إلخ وقيلَ: تقديرُه ستأتيكُم القارعةُ يومَ يكونُ الخ.