فصل: تفسير الآيات (267- 268):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (267- 268):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)}
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ} بيانٌ لحال ما يُنفَقُ منه إثرَ بيانِ أصلِ الإنفاق وكيفيته، أي أنفقوا من حلال ما كسبتم وجيادِه لقوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مَّا تُحِبُّونَ} {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الارض} أي من طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمار والمعادِن فحذف المضافُ لدِلالة ما قبله عليه {وَلاَ تَيَمَّمُواْ} بفتح التاء أصله ولا تتيمّموا، وقرئ بضمها، وقرئ {ولا تأَمّموا} والكلّ بمعنى القصد أي لا تقصِدوا {الخبيث} أي الرديءَ الخسيسَ وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي لا تُذكرُ موصوفاتها {مِنْهُ تُنفِقُونَ} الجارُّ متعلق بتنفقون والضميرُ للخبيث والتقديمُ للتخصيص والجملةُ حال من فاعل تيمّموا أي لا تقصِدوا الخبيثَ قاصرين الإنفاقَ عليه أو من الخبيث أي مختصًّا به الإنفاقُ، وأيًّا ما كان فالتخصيصُ لتوبيخهم بما كانوا يتعاطَوْنه من إنفاق الخبيثِ خاصة لا لتسويغ إنفاقِه مع الطيب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يتصدقون بحشَفِ التمر وشِرارِه فنُهوا عنه وقيل: متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من الخبيث، والضميرُ للمال المدلول عليه بحسب المقام أو للموصولَين على طريقة قوله:
كأنه في الجلد توليعُ البَهَقْ

أو للثاني، وتخصيصُه بذلك لما أن التفاوتَ فيه أكثرُ، وتنفقون حال من الفاعل المذكور أي ولا تقصِدوا الخبيث كائناً من المال أو مما كسبتم، ومما أخرجنا لكم منفِقين إياه وقوله تعالى: {وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ} حال على كل حال من واو تنفقون أي والحال أنكم لا تأخذونه في معاملاتكم في وقت من الأوقات أو بوجه من الوجوه {إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} أي إلا وقتَ إغماضِكم فيه وهو عبارةٌ عن المسامحة بطريق الكِناية أو الاستعارة يقال: أغمضَ بصرَه إذا غضّه، وقرئ على البناء للمفعول على معنى إلا أن تُحمَلوا على الإغماض وتدخُلوا فيه أو توجَدوا مغمِضين، وقرئ {وتَغمِضوا} و{تَغمُضوا} بضم الميم وكسرها وقيل: تم الكلام عند قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} ثم استُؤنف فقيل: على طريقة التوبيخ والتقريع: منه تنفِقون والحالُ أنكم لا تأخُذونه إلا إذا أغمَضْتم فيه، ومآلُه الاستفهامُ الإنكاريُّ فكأنه قيل: أمِنْه تنفقون إلخ {واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ} عن إنفاقكم وإنما يأمرُكم به لمنفعتكم. وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمِهم به توبيخٌ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذانٌ بأن ذلك من آثار الجهلِ بشأنه تعالى فإن إعطاءَ مثلِه إنما يكون عادةً عند اعتقادِ المعطي أن الآخذَ محتاجٌ إلى ما يعطيه بل مضطرٌ إليه {حَمِيدٌ} مستحِقٌّ للحمد على نعمه العِظام وقيل: حامد بقبول الجيّد والإثابة عليه. {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر} الوعدُ هو الإخبارُ بما سيكون من جهة المخبِر مترتباً على شيء من زمان أو غيره يُستعمل في الشر استعمالَه في الخير قال تعالى: {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} أي يعدُكم في الإنفاق الفقرَ ويقول: إن عاقبة إنفاقِكم أن تفتقِروا وإنما عبر عن ذلك بالوعد مع أن الشيطان لم يُضِف مجيءَ الفقرِ إلى جهته للإيذان بمبالغته في الإخبار بتحقق مجيئه كأنه نزّله في تقرّر الوقوعِ منزلةَ أفعالِه الواقعةِ بحسب إرادته، أو لوقوعه في مقابلة وعدِه تعالى على طريقة المشاكلة وقرئ بضم الفاء والسكون وبضمتين وبفتحتين {وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء} أي بالخَصلة الفحشاء أي ويغريكم على البخل ومنه الصدقاتُ إغراءُ الآمرِ للمأمور على فعل المأمور به والعربُ تسمي البخيلَ فاحشاً قال طرفةُ بن العبد:
أرى الموتَ يعتامُ الكرامَ ويصطفي ** عقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدِّدِ

وقيل بالمعاصي والسيِّئات {والله يَعِدُكُم} أي في الإنفاق {مَغْفِرَةٍ} لذنوبكم والجارُّ في قوله تعالى: {مِنْهُ} متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ لمغفرةً مؤكدةٌ لفخامتها التي أفادها تنكيرُها أي مغفرةً أيَّ مغفرةٍ كائنةً منه عز وجل {وَفَضْلاً} صفتُه محذوفةٌ لدلالة المذكور عليها كما في قوله تعالى: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ} ونظائرِه أي وفضلاً كائناً منه تعالى أي خلَفاً مما أنفقتم زائداً عليه في الدنيا، وفيه تكذيبٌ للشيطان، وقيل: ثواباً في الآخرة {والله واسع} قدرةً وفضلاً فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلافِ ما تنفقونه {عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلم فيعلم إنفاقَكم فلا يكاد يُضيع أجرَكم أو يعلمُ ما سيكون من المغفرة والفضل فلا احتمال للخُلْف في الوعد، والجملةُ تذييلٌ مقررٌ لمضمون ما قبله.

.تفسير الآية رقم (269):

{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)}
{يُؤْتِى الْحِكْمَةَ} قال مجاهد الحِكمةُ هي القرآنُ والعلمُ والفِقهُ. روي عن ابن أبي نجيح أنها الإصابة في القول والعمل، وعن إبراهيم النخعي أنها معرفة معاني الأشياء وفهمُها وقيل: هي معرفةُ حقائِقِ الأشياءِ وقيل: هي الإقدامُ على الأفعال الحسنةِ الصائبة. وعن مقاتل أنها تفسر في القرآن بأربعة أوجهٍ: فتارةً بمواعظِ القرآنِ وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار، ومرةً بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة ولعل الأنسبَ بالمقام ما ينتظم الأحكامَ المبينة في تضاعيف الآياتِ الكريمةِ من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائِها تبيينُها والتوفيقُ للعلم والعمل بها أي يبينها ويوفِّقُ للعلم والعمل بها {مَن يَشَآء} من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعةِ فضلِه وإحاطةِ علمه كما آتاكم ما بيّنه في ضمن الآي من الحِكَم البالغة التي يدور عليها فلَكُ منافعِكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها، والموصولُ مفعول، أول ليؤتي قدم عليه الثاني للعناية به والجملةُ مستأنفة مقرّرةٌ لمضمون ما قبلها {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} على بناء المفعول وقرئ على البناء للفاعل أي ومن يؤتهِ اللَّهُ الحكمةَ والإظهارُ في مقام الإضمار لإظهار الاعتناءِ بشأنها وللإشعار بعِلة الحِكم {فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} أي أيَّ خيرٍ كثير فإنه قد خِيرَ له خيرُ الدارين {وَمَا يَذَّكَّرُ} أي وما يتعظ بما أوتي من الحكمة أو وما يتفكر فيها {إِلاَّ أُوْلُواْ الالباب} أي العقولِ الخالصةِ عن شوائب الوهم والرّكونِ إلى مشايعة الهوى وفيه من الترغيب في المحافظة على الأحكام الواردةِ في شأن الإنفاق ما لا يخفى، والجملةُ إما حالٌ أو اعتراضٌ تذييلي.

.تفسير الآيات (270- 271):

{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}
{وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ} بيانٌ لحكمٍ كلي شاملٍ لجميع أفراد النفقاتِ وما في حكمها إثرَ بيانِ حكمِ ما كان منها في سبيل الله، و{مَا} إما شرطية أو موصولة حُذف عائدُها من الصلة أي وما أنفقتموه من نفقة أيِّ نفقةٍ كانت في حق أو باطلٍ في سرَ أو علانية قليلةٍ أو كثيرة {أَوْ نَذَرْتُم} النذرُ عقدُ الضمير على شيءٍ والتزامُه، وفعلُه كضرب ونصر {مّن نَّذْرٍ} أيِّ نذرٍ كان في طاعةٍ أو معصية بشرطٍ أو بغير شرط متعلقٍ بالمال أو بالأفعال كالصيامِ والصلاةِ ونحوهما {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} الفاء على الأول داخلةٌ على الجواب وعلى الثاني مزيدةٌ في الخبر وتوحيدُ الضمير مع تعدّدِ متعلَّق العلم لاتحاد المرجع بناءً على كون العطف بكلمة أو كما في قولك: زيدٌ أو عمرٌو أكرمتُه، ولا يقال: أكرمتُهما ولهذا صِرنا إلى التأويل في قوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} بل يعادُ الضميرُ تارةً إلى المقدَّم رعايةً للأولية كما في قوله عز وعلا: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} وأخرى إلى المؤخَّر رعايةً للقُرب كما في هذه الآية الكريمة وفي قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} وحملُ النظم على تأويلهما بالمذكور ونظائِره أو على حذف الأول ثقةً بدلالة الثاني عليه كما في قوله تعالى: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} وقوله:
نحنُ بما عندنا وأنت بما ** عندكَ راضٍ والرأيُ مختلفُ

ونحوِهما مما عُطف فيه بالواو الجامعةِ تعسفٌ مستغنىً عنه. نعم يجوز إرجاعُ الضمير إلى {مَا} على تقدير كونِها موصولةً، وتصديرُ الجملة بإن لتأكيدِ مضمونِها إفادةً لتحقيق الجزاء، أي فإنه تعالى يجازيكم عليه ألبتةَ إن خيراً فخيرٌ وإن شرًّا فشرٌّ فهو ترغيبٌ وترهيب ووعدٌ ووعيد {وَمَا للظالمين} بالإنفاق والنذر في المعاصي أو بمنع الصدقاتِ وعدمِ الوفاء بالنذر أو بإنفاق الخبيثِ أو بالرياء والمنِ والأذى وغيرِ ذلك مما ينتظمُه معنى الظلم الذي هو عبارة عن وضع الشيءِ في غير موضعِه الذي يحِقُّ أن يوضعَ فيه {مِنْ أَنصَارٍ} أي أعوان ينصرونهم من بأس الله وعقابِه لا شفاعةً ولا مدافعةً، وإيرادُ صيغة الجمع لمقابلة الظالمين أي وما لظالم من الظالمين من نصيرٍ من الأنصار، والجملةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لما فيما قبله من الوعيد مفيد لفظاعة حالِ مَنْ يفعل ما يفعل من الظالمين لتحصيل الأعوانِ ورعاية الخُلاّن.
{إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ} نوعُ تفصيلٍ لبعض ما أُجمل في الشرطية وبيان له ولذلك تُرك العطف بينهما أي إن تُظهِروا الصدقاتِ فنِعمَ شيئاً إبداؤُها بعد أن لم يكن رياءٌ وسمعةٌ وقرئ بفتح النون وكسر العين على الأصل وقرئ بكسر النون وسكون العين وقرئ بكسر النون وإخفاءِ حركة العين، وهذا في الصدقات المفروضة وأما في صدقة التطوعِ فالإخفاءُ أفضلُ وهي التي أريدت بقوله تعالى: {وَإِن تُخْفُوهَا} أي تعطوها خُفية {وَتُؤْتُوهَا الفقراء} ولعل التصريحَ بإيتائها الفقراءَ مع أنه واجبٌ في الإبداء أيضاً لما أن الإخفاءَ مظِنةُ الالتباسِ والاشتباه فإن الغنيَّ ربما يدّعي الفقرَ ويُقدمُ على قَبول الصدقةِ سرًّا ولا يفعل ذلك عند الناس {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي فالإخفاءِ خيرٌ لكم من الإبداء وهذا في التطوع، ومن لم يعرف بالمال وأما في الواجب فالأمرُ بالعكس لدفع التهمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: صدقةُ السر في التطوع تفضُل علانيتها سبعين ضعفاً وصدقةُ الفريضة علانيتُها أفضلُ من سرّها بخمسة وعشرين ضِعفاً {وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ} أي والله يكفرُ أو الإخفاءُ و{مِنْ} تبعيضية أي شيئاً من سيئاتكم كما سترتموها وقيل مزيدةٌ على رأي الأخفش وقرئ بالتاء مرفوعاً ومجزوماً على أن الفعل للصدقات وقرئ بالنون مرفوعاً عطفاً على محل ما بعد الفاء أو على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف أي ونحن نكفرُ أو على أنها جملةٌ مبتدأةٌ من فعل وفاعل وقرئ مجزوماً عطفاً على محل الفاء وما بعده لأنه جوابُ الشرط {والله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الإسرار والإعلان {خَبِيرٌ} فهو ترغيب في الإسرار.

.تفسير الآية رقم (272):

{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)}
{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} أي لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى فعلِ ما أُمروا به من المحاسن والانتهاءِ عما نُهوا عنه من القبائح المعدودة وإنما الواجبُ عليك الإرشادُ إلى الخير والحثُ عليه والنهيُ عن الشر والردعُ عنه بما أوحي إليك من الآياتِ والذكرِ الحكيم {ولكن الله يَهْدِى} هدايةً خاصةً موصلةً إلى المطلوب حتماً {مَن يَشَآء} هدايتَه إلى ذلك ممن يتذكر بما ذُكّر ويتبعُ الحق ويختار الخيرَ، والجملةُ معترضة جيء بها على طريق تلوينِ الخطاب، وتوجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الالتفات إلى الغَيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين مبالغةً في حملهم على الامتثال، فإن الإخبارَ بعدم وجوب تدارُك أمرِهم على النبي صلى الله عليه وسلم مُؤْذنٌ بوجوبه عليهم حسبما ينطِق به ما بعده من الشرطية. وقيل: لما كثُر فقراءُ المسلمين نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن التصدق على المشركين كي تحمِلَهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزلت. أي ليس عليك هُدى مَنْ خالفك حتى تمنعَهم الصدقةَ لأجل دخولهم في الإسلام فلا التفاتَ حينئذٍ في الكلام، وضميرُ الغيبة للمعهودين من فقراءِ المشركين بل فيه تلوينٌ فقط وقوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} على الأول التفاتٌ من الغَيبة إلى خطاب المكلفين لزيادة هزّهم نحو الامتثال، وعلى الثاني تلوينٌ للخطاب بتوجيهه إليهم وصرفهِ عن النبي صلى الله عليه وسلم و{مَا} شرطية جازمة و{تُنفِقُواْ} منتصبة به على المفعولية ومن تبعيضية متعلقة بمحذوفٍ وقعَ صفةً لاسم الشرط مبيّنةٌ ومخصصةٌ له أي أيِّ شيءٍ تنفقوا كائنٌ من مال {فَلاِنفُسِكُمْ} أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيرُكم فلا تمنوا على من أعطيتموه ولا تؤذوه ولا تنفقوا من الخبيث، أو فنفعُه الدينيَّ لكم لا لغيركم من الفقراء حتى تمنعوه ممن لا ينتفع به من حيث الدينُ من فقراء المشركين {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله} استثناءٌ من أعم العللِ أو أعم الأحوال أي ليست نفقتُكم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء وجه الله، أو ليست في حال من الأحوال إلا حال ابتغاء وجه الله فما بالُكم تمنون بها وتنفقون الخبيثَ الذي لا يوجّه مثلُه إلى الله تعالى وقيل: هو نفيٌ في معنى النهي {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي أجرُه وثوابُه أضعافاً مضاعفة حسبما فُصّل فيما قبلُ فلا عذرَ لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه على أحسن الوجوهِ وأجملها فهو تأكيد وبيانٌ للشرطية السابقة، أو يوفَّ إليكم ما يُخلِفُه وهو من نتائج دعائه عليه السلام بقوله: «اللَّهم اجعل للمنفق خلَفاً وللمُمْسِك تلفاً» وقيل: حجت أسماءُ بنت أبي بكرٍ فأتتها أمُّها تسألها وهي مشركة فأبت أن تعطِيَها.
وعن سعيد بنِ جبير أنهم كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين. وروي أن ناساً من المسلمين كانت لهم أصهارٌ في اليهود ورَضاعٌ كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام فلما أسلموا كرِهوا أن ينفقوا عليهم فنزلت وهذا في غير الواجب وأما الواجب فلا يجوز صرفُه إلى الكافر وإن كان ذميًّا {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} لا تنقصون شيئاً مما وُعدتم من الثواب المضاعف أو من الخلَف.

.تفسير الآيات (273- 274):

{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}
{لِلْفُقَرَاء} متعلق بمحذوفٍ ينساقُ إليه الكلامُ كما في قوله عز وجل في تسع آيات إلى فرعون أي اعمِدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتِكم للفقراء {الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} بالغزو والجهاد {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} لاشتغالهم به {ضَرْبًا فِي الارض} أي ذهاباً فيها للكسب والتجارة وقيل: هم أهلُ الصُّفة كانوا رضي الله عنهم نحواً من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صُفّة المسجدِ يستغرقون أوقاتَهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون في كل سَريةٍ بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَحْسَبُهُمُ الجاهل} بحالهم {أَغْنِيَاء مِنَ التعفف} أي من أجل تعفّفهم عن المسألة {تَعْرِفُهُم بسيماهم} أي تعرِف فقرَهم واضطرارهم بما تعايِنُ منهم من الضعف ورَثاثةِ الحال، والخطابُ للرسول عليه السلام أو لكل أحدٍ ممن له حظ من الخطاب، مبالغةً في بيان وضوحِ فقرهم {لاَ يسألون الناس إلحافاً} أي إلحاحاً وهو أن يلازِمَ السائلُ المسؤولَ حتى يعطيَه من قولهم لَحفني من فضل لِحافِه أي أعطاني من فضل ما عنده والمعنى لا يسألونهم شيئاً، وإن سألوا لحاجةٍ اضْطَرَّتهم إليه لم يُلِحّوا، وقيل: هو نفيٌ لكلا الأمرين جميعاً على طريقة قوله:
على لاحِبٍ لا يُهتدَى لمنارهِ

أي لا منارَ ولا اهتداء {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} فيجازيكم بذلك أحسنَ جزاء فهو ترغيبٌ في التصدق لاسيما على هؤلاء. {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار سِرّا وَعَلاَنِيَةً} أي يعُمّون الأوقاتَ والأحوالَ بالخير والصدقة، وقيل: نزلت في شأن الصديقِ رضي الله عنه حيث تصدّق بأربعينَ ألفَ دينارٍ، عشرةَ آلافٍ منه بالليل وعشرة بالنهار وعشرةٌ سراً وعشرةٌ علانية. وقيل: في علي رضي الله عنه حين لم يكن عنده إلا أربعةُ دراهمَ فتصدق بكل واحد منها على وجهٍ من الوجوه المذكورة، ولعل تقديمَ الليل على النهارِ والسرّ على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار، وقيل: في رباط الخيل والإنفاق عليها {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ} خبرٌ للموصول، والفاءُ للدَلالة على سببية ما قبلها لما بعدَها وقيل: للعطف والخبر محذوف أي ومنهم الذين إلخ ولذلك جُوِّز الوقفُ على علانية {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} تقدم تفسيره.