فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (3):

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغيب} إما موصولٌ بالمتقين، ومحلُّه الجرُّ على أنه صفةٌ مقيِّدةٌ له إن فُسّر التقوى بترك المعاصي فقط، مترتبةٌ عليه ترتّبَ التحلية على التَّخْلية، وموضِّحةٌ إن فُسِّر بما هو المتعارَفُ شرعاً والمتبادَرُ عُرفاً، من فعل الطاعات وتركِ السيئات معاً، لأنها حينئذٍ تكون تفصيلاً لما انطوى عليه اسمُ الموصوف إجمالاً، وذلك لأنها مشتملة على ما هو عمادُ الأعمال وأساسُ الحسنات، من الإيمان والصلاة والصدقة، فإنها أمهاتُ الأعمال النفسانية والعباداتِ البدنية والمالية المستتبِعة لسائر القُرَب الداعيةِ إلى التجنب عن المعاصي غالباً، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشاء والمنكر} وقوله عليه السلام: «الصلاةُ عمادُ الدين، والزكاةُ قنطرةُ الإسلام» أو مادحةً للموصوفين بالتقوى المفسَّرِ بما مر من فعل الطاعات وتركِ السيئات.
وتخصيصُ ما ذكر من الخِصال الثلاثِ بالذكر لإظهار شرفِها وإنافتها على سائر ما انطوى تحت اسمِ التقوى من الحسنات، أو النصبُ على المدح بتقدير أعني أو الرفعُ عليه بتقدير هم، وإما مفصولٌ عنه مرفوعٌ بالابتداء خبرُه الجملةُ المصدّرةُ باسم الإشارة كما سيأتي بيانُه، فالوقفُ على {المتقين} حينئذ وقفٌ تام، لأنه وقف على مستقلٍ، ما بعده أيضاً مستقل، وأما على الوجه الأول فحسنٌ لاستقلال الموقوف عليه، غيرُ تامَ لتعلق ما بعده به وتبعيّته له، أما على تقدير الجر على الوصفية فظاهر، وأما على تقدير النصبِ أو الرفع على المدح فلما تقرَّر من أن المنصوبَ والمرفوعَ مدحاً وإن خرجا عن التبعية لما قبلهما صورةً حيث لم يتبعاه في الإعراب، وبذلك سُمّيا قطعاً لكنهما تابعان له حقيقة، ألا ترى كيف التزموا حذفَ الفعل والمبتدأ في النصب والرفع رَومْاً لتصوير كلَ منهما بصورة متعلِّقٍ من متعلقات ما قبله وتنبيهاً على شدة الاتصال بينهما، قال أبو علي: إذا ذُكرت صفاتٌ للمدح وخولف في بعضها الإعرابُ فقد خولف للافتنان، أي للتفنن الموجب لإيقاظ السامع وتحريكه إلى الجِدّ في الإصغاء، فإن تغيير الكلامِ المَسوقِ لمعنىً من المعاني وصَرْفَه عن سَننه المسلوكِ يُنبىء عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم، ويستجلب مزيدَ رغبةٍ فيه من المخاطب.
إن قيل: لا ريب في أن حال الموصول عند كونه خبراً لمبتدأ محذوف كحاله عند كونه مبتدأ خبرُه {أولئك على هدى} في أنه ينسبك به جملةً اسميةً مفيدة، لاتصاف المتقين بالصفات الفاضلة، ضرورةَ أن كلاًّ من الضمير المحذوف والموصولِ عبارةٌ عن المتقين. وأن كلاًّ من اتصافهم بالإيمان وفروعِه، وإحرازهم للهدى والفلاحِ من النعوت الجليلة، فما السرُّ في أنه جُعل ذلك في الصورة الأولى من توابع المتقين، وعُدَّ الوقفُ غيرَ تام، وفي الثانية مقتطعاً عنه، وعُدَّ الوقفُ تامًّا؟ قلنا: السرُّ في ذلك أن المبتدأ في الصورتين وإن كان عبارة عن المتقين، لكن الخبرَ في الأولى لما كان تفصيلاً لما تضمنه المبتدأ إجمالاً حسبما تحققته معلومُ الثبوت له بلا اشتباه، غيرُ مفيد للسامع سوى فائدةِ التفصيلِ والتوضيح، نُظم ذلك في سلك الصفاتِ مراعاةً لجانب المعنى، وإن سمي قطعاً مراعاة لجانب اللفظ، كيف لا وقد اشتهر في الفن أن الخبر إذا كان معلومَ الانتساب إلى المُخبَر عنه فحقُّه أن يكون وصفاً له، كما أن الوصف إذا لم يكن معلومَ الانتساب إلى الموصوف حقُّه أن يكون خبراً له، حتى قالوا: إن الصفاتِ قبل العلم بها أخبارٌ، والأخبارُ بعد العلم بها صفات.
وأما الخبرُ في الثانية فحيث لم يكن كذلك بل كان مشتملاً على ما لا ينبىء عنه المبتدأ من المعاني اللائقة كما ستحيط به خبراً مفيداً للمخاطب فوائدَ رائقة، جُعل ذلك مقتطعاً عما قبله محافظةً على الصورة والمعنى جميعاً.
والإيمانُ إفعالٌ من الأمن المتعدّي إلى واحد، يقال آمنتُه، وبالنقل تعدى إلى اثنين، يقال آمنَنيه غيري، ثم استُعمل في التصديق، لأن المصَدِّقَ يؤمِنُ المُصَدَّق، أي يجعله أميناً من التكذيب والمخالفة، واستعماله بالباء لتضمينه معنى الاعتراف، وقد يطلق على الوثوق، فإن الواثقَ يصير ذا أمنٍ وطُمأنينة، ومنه ما حُكي عن العرب ما آمِنْتُ أن أجد صحابة، أي ما صِرْتُ ذا أمنٍ وسكون، وكلا الوجهين حسنٌ هنا وهو في الشرع لا يتحقق بدون التصديق بما عُلم، ضرورةَ أنه من دين نبينا عليه الصلاة والسلام، كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ونظائرها، وهل هو كافٍ في ذلك أو لابد من انضمام الإقرار إليه للتمكن منه؟.
والأول رأيُ الشيخ الأشعري ومن شايعه، فإن الإقرارَ عنده منشأٌ لإجراء الأحكام، والثاني مذهبُ أبي حنيفة ومن تابعه وهو الحق، فإنه جعلهما جزأين له، خلا أن الإقرارَ ركنٌ محتمِلٌ للسقوط بعذر، كما عند الإكراه، وهو مجموعُ ثلاثةِ أمور: اعتقادُ الحق، والإقرارُ به، والعملُ بموجبه عند جمهورِ المحدثين والمعتزلة والخوارج، فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق، ومن أخل بالإقرارِ فهو كافر، ومن أخل بالعمل فهو فاسق اتفاقاً وكافرٌ عند الخوارج، وخارجٌ عن الإيمان غيرُ داخلٍ في الكفر عند المعتزلة.
وقرئ {يُومنون} بغير همزة، والغيبُ إما مصدرٌ وُصف به الغائبُ مبالغةً كالشهادة في قوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة} أو فعيل خُفّف كقَتْل في قتيل وهيْنٍ في هيّن، وميْتٍ في ميِّت، لكن لم يُستعمل فيه الأصلُ كما استعمل في نظائره. وأيًّا ما كان فهو ما غاب عن الحس والعقلِ غَيْبة كاملةً، بحيث لا يُدرَك بواحد منهما ابتداءً بطريق البَداهة، وهو قسمان: قسم لا دليل عليه، وهو الذي أريد بقوله سبحانه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} وقسم نُصب عليه دليل كالصانع وصفاتِه، والنبواتِ وما يتعلق بها من الأحكام والشرائع، واليومِ الآخر وأحوالِه من البعث والنشورِ والحسابِ والجزاء، وهو المرادُ هاهنا، فالباءُ صلةٌ للإيمان، إما بتضمينه معنى الاعتراف، أو بجعله مجازاً من الوثوق، وهو واقعٌ موقعَ المفعول به، وإما مصدرٌ على حاله كالغَيبة، فالباءُ متعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من الفاعل كما في قوله تعالى: {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} وقوله تعالى: {لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} أي يؤمنون ملتبسين بالغيبة، إما عن المؤمن به، أي غائبين عن النبي صلى الله عليه وسلم غيرَ مشاهدين لما فيه من شواهد النبوة، لما رُوي أن أصحابَ ابنِ مسعود رضي الله عنه، ذكروا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانَهم، فقال رضي الله عنه: إن أمرَ محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام كان بيِّناً لمن رآه، والذي لا إله غيرُه ما آمن مؤمنٌ أفضلَ من الإيمان بغيب، ثم تلا هذه الآية. وإما عن الناس، أي غائبين عن المؤمنين، لا كالمنافقين الذين إذا لقُوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلَوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم.
وقيل: المرادُ بالغيب القلبُ، لأنه مستور، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فالباءُ حينئذٍ للآلة، وتركُ ذكرِ المؤمَن به على التقادير الثلاثةِ إما للقصد إلى إحداث نفسِ الفعلِ كما في قولهم فلانٌ يُعطي ويمنع، أي يفعلون الإيمان، وإما للاكتفاء بما سيجيء، فإن الكتبَ الإلهية ناطقةٌ بتفاصيل ما يجب الإيمانُ به.
{وَيُقِيمُونَ الصلاة} إقامتُها عبارةٌ عن تعديل أركانها، وحفظِها من أن يقع في شيء من فرائضها وسننها وآدابِها زيغٌ، من إقامة العُودِ إذا قوّمه وعدّله. وقيل عن المواظبة عليها، مأخوذٌ من قامت السُّوق إذا نفَقت، وأقمتُها إذا جعلتُها نافقة، فإنها إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يُرغب فيه، وقيل عن التشمُّر لأدائها عن غير فتورٍ ولا تَوانٍ، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدَّ فيه واجتهد، وقيل عن أدائها، عبَّر عنه بالإقامة لاشتماله على القيام، كما عبَّر عنه بالقنوت الذي هو القيامُ وبالركوع والسجود والتسبيح، والأولُ هو الأظهر، لأنه أشهرُ، وإلى الحقيقة أقربُ، والصلاةُ فَعْلةٌ، من صلَّى إذا دعا، كالزكاة من زكّى، وإنما كُتبتا بالواو مراعاةَ اللفظِ المفخّم، وإنما سُمِّيَ الفعلُ المخصوصُ بها لاشتماله على الدعاء، وقيل: أصلُ صلى حرَّك الصَّلَوَيْنِ، وهما العظمان الناتئان في أعلى الفخِذين، لأن المصليَ يفعله في ركوعه وسجوده، واشتهارُ اللفظ في المعنى الثاني دون الأول لا يقدح في نقله عنه، وإنما سُمِّيَ الداعي مصلياً تشبيهاً له في تخشّعه بالراكع والساجد.
{وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} والرزقُ في اللغة العطاءُ، ويطلق على الحظ المعطى، نحو ذِبْحٍ ورِعْيٍ للمذبوح والمَرْعيِّ. وقيل: هو بالفتح مصدر، وبالكسر اسم، وفي العُرف ما ينتفِعُ به الحيوان.
والمعتزلةُ لما أحالوا تمكينَ الله تعالى من الحرام لأنه منَعَ من الانتفاع به وأمرَ بالزجر عنه قالوا: الرزقُ لا يتناول الحرام، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزقَ إلى ذاته إيذاناً بأنهم يُنفِقون من الحلال والصِّرْف، فإن إنفاقَ الحرام بمعزل من إيجاب المدح، وذمَّ المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} جعلوا الإسنادَ المذكورَ للتعظيم والتحريضِ على الإنفاق، والذمَّ لتحريم ما لم يحرّم، واختصاصَ ما رزقناهم بالحلال للقرينة.
وتمسكوا لشمول الرزق لهما بما رُوي عنه عليه السلام في حديث عَمْرو بن قرَّة حين أتاه فقال: يا رَسُول الله، إنَّ الله قد كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ، فلا أرى أُرْزَقُ إلاَّ مِنْ دُفِّي بِكَفِّي، فَأْذَنْ لِي فِي الغِنَاءِ، من غيرِ فَاحِشَةٍ، من أنه قال عليه السلام: «لاَ آذَنُ لَكَ وَلاَ كَرَامةَ، ولا نُعْمَةَ عَيْنٍ كَذَبْتَ أيْ عَدُوَّ الله، والله لَقَدْ رَزَقَكَ الله حَلاَلاً طَيِّباً، فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ الله عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكَانَ مَا أَحَلَّ الله لَكَ مِنْ حَلاَلِهِ» وبأنه لو لم يكن الحرامُ رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً، وقد قال الله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} والإنفاقُ والإنفادُ أخوانِ، خلا أن في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول، والمرادُ بهذا الإنفاق الصَّرْفُ إلى سبيل الخير، فرضاً كان أو نفلاً، ومن فسَّره بالزكاة ذكر أفضلَ أنواعه الأصلَ فيه، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقُها، والجملة معطوفة على ما قبلها من الصلة، وتقديمُ المفعول للاهتمام، والمحافظةِ على رؤوس الآي، وإدخال من التبعيضية عليه للكف عن التبذير.
هذا وقد جاز أن يراد به الإنفاقُ من جميع المعاون التي منحهم الله تعالى من النعم الظاهرة والباطنة، ويؤيده قوله عليه السلام: «إن علماً لا يُنال به ككنز لا يُنفق منه» وإليه ذهب من قال: ومما خَصَصْناهم من أنوار المعرفة يَفيضون.

.تفسير الآية رقم (4):

{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}
{والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} معطوفٌ على الموصول الأول، على تقدير وصلِه بما قبله، وفصلُه عنه مندرجٌ معه في زُمرة المتقين من حيث الصورةُ والمعنى معاً، أو من حيث المعنى فقط، اندراجَ خاصَّيْنِ تحت عام، إذ المرادُ بالأولين الذين آمنوا بعد الشركِ والغفلةِ عن جميع الشرائعِ كما يُؤذِن به التعبيرُ عن المؤْمَن به بالغيب، وبالآخرين الذين آمنوا بالقرآن بعد الإيمان بالكتب المنزلةِ قبله، كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه، أو على المتقين على أن يراد بهم الأولون خاصة، ويكون تخصيصُهم بوصف الاتقاءِ للإيذان بتنزّههم عن حالتهم الأولى بالكلية، لما فيها من كمال القباحة والمباينةِ للشرائعِ كلِّها، الموجبةِ للاتقاء عنها، بخلاف الآخرين، فإنهم غيرُ تاركين لما كانوا عليه بالمرة، بل متمسكون بأصول الشرائعِ التي لا تكاد تختلف باختلاف الأعصار، ويجوز أن يُجعلَ كِلا الموصولين عبارةً عن الكل مندرجاً تحت المتقين، ولا يكون توسيطُ العاطفِ بينهما لاختلاف الذوات، بل لاختلاف الصفات كما في قوله:
إلى الملِكِ القَرْم وابنِ الهُمام ** وليثِ الكتيبةِ في المُزدَحَمْ

وقولِه: يا لَهفَ زيّابةَ للحارثِ الصابحِ فالغانِمِ فالآيبِ للإيذان بأن كلَّ واحدٍ من الإيمان بما أشير إليه من الأمور الغائبةِ، والإيمان بما يشهد بثبوتها من الكتب السماوية نعتٌ جليلٌ على حِياله، له شأنٌ خطير مستتبِعٌ لأحكام جمّة، حقيقٌ بأن يُفردَ له موصوفٌ مستقل، ولا يُجعل أحدُهما تتمةً للآخر، وقد شُفِع الأولُ بأداء الصلاة والصدقة اللتين هما من جملة الشرائعِ المندرجةِ تحت تلك الأمور المؤمَن بها تكملةً له، فإن كمالَ العلم بالعمل، وقُرن الثاني بالإيقان بالآخرة مع كونه منطوياً تحت الأول تنبيهاً على كمال صِحتِه، وتعريضاً بما في اعتقاد أهلِ الكتابين من الخلل كما سيأتي، هذا على تقدير تعلّقِ الباءِ بالإيمان، وقِسْ عليه الحالَ عند تعلّقِها بالمحذوف، فإن كلاً من الإيمان الغيبيِّ المشفوعِ بما يصدّقه من العبادتين مع قطع النظر عن المؤمَن به والإيمانِ بالكتب المنزلةِ الشارحة لتفاصيل الأمور التي يجب الإيمانُ بها مقروناً بما قُرن به فضيلةٌ باهرة، مستدعية لما ذكر، والله تعالى أعلم.
وقد حُمل ذلك على معنى أنهم الجامعون بين الإيمانِ بما يدركه العقلُ جملةً والإتيانِ بما يصدّقه من العبادات البدنية والمالية، وبين الإيمانِ لا طريقَ إليه غيرُ السمع. وتكريرُ الموصول للتنبيه على تغايُر القَبيلَيْن، وتباينُ السبيلين فلْيُتأمَّلْ، وأن يراد بالموصول الثاني بعد اندراج الكلِّ في الأول فريقٌ خاصٌّ منهم، وهم مؤمنو أهلِ الكتاب، بأن يُخَصّوا بالذكر تخصيصَ جبريلَ ومكائيلَ به إثرَ جَرَيانِ ذكر الملائكة عليهم السلام تعظيماً لشأنهم وترغيباً لأمثالهم وأقرانِهم في تحصيل ما لهم من الكمال.
معنى إنزال الكتاب:
والإنزالُ النقلُ من الأعلى إلى الأسفل، وتعلُّقه بالمعاني إنما هو بتوسّط تعلّقِه بالأعيان المستتبعة لها، فنزولُ ما عدا الصحفَ من الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم السلام والله تعالى أعلم بأن يتلقاها الملَكُ من جنابه عز وجل تلقياً روحانياً، أو يحفَظَها من اللوح المحفوظ، فينزِلَ بها إلى الرسل فيُلقِيهَا عليهم عليهم السلام، والمراد {بما أنزل إليك} هو القرآنُ بأسره، والشريعةُ عن آخرها.
والتعبيرُ عن إنزاله بالماضي مع كون بعضِه مُترقَّباً حينئذ لتغليب المحقَّقِ على المقدَّر، أو لتنزيل ما في شرَفِ الوقوعِ لتحقُّقه منزلةَ الواقع، كما في قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} مع أن الجنَّ ما كانوا سمعوا الكتابَ جميعاً ولا كان الجميعُ إذ ذاك نازلاً، وبما أنزل من قبلك التوراةُ والإنجيلُ وسائرُ الكتب السالفة، وعدمُ التعرضِ لذكر من أُنزل إليه من الأنبياء عليهم السلام، لقصد الإيجازِ مع عدم تعلُّقِ الغرَض بالتفصيل حسَبَ تعلقِه به في قوله تعالى: {قُولُواْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل} الآية. والإيمانُ بالكل جملةً فرضٌ، وبالقرآنِ تفصيلاً من حيث إنا متعبَّدون بتفاصيله فرضُ كفاية، فإن في وجوبه على الكل عَيناً حَرَجاً بيناً، وإخلالاً بأمر المعاش، وبناءُ الفعلين للمفعول للإيذان بتعيُّن الفاعل، والجَرْيِ على سَنن الكِبرياء، وقد قُرئا على البناء للفاعل.
{وبالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ} الإيقانُ إتقانُ العلم بالشيء بنفي الشكِّ والشبهةِ عنه، ولذلك لا يُسمَّى علمُه تعالى يقيناً، أي يعلمون علماً قطعياً مُزيحاً لما كان أهلُ الكتاب عليه من الشكوك والأوهام التي من جملتها زعمُهم أن الجنة لا يدخُلها إلا من كان هوداً أو نصارى، وأن النارَ لن تمسَّهم إلا أياماً معدوداتٍ، واختلافُهم في أن نعيمَ الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا، وهل هو دائم أو لا، وفي تقديم الصلة وبناءِ {يوقنون} على الضمير تعريضٌ بمن عداهم من أهل الكتاب، فإن اعتقادَهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة فضلاً عن الوصول إلى مرتبة اليقين. والآخرةُ تأنيثُ الآخِر، كما أن الدنيا تأنيثُ الأدنى، غَلَبتا على الدارين فجرَتا مجرى الأسماء، وقرئ بحذف الهمزة وإلقاءِ حركتها على اللام، وقرئ {يؤقنون} بقلب الواو همزة، إجراءً لضم ما قبلها مجرى ضمِّها في وجوه ووقتت، ونظيره ما في قوله:
لحب المؤقدان إلى مؤسى ** وجعدة إذ أضاءهما الوقود