فصل: تفسير الآية رقم (283):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (283):

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}
{وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ} أي مسافرين أو متوجهين إليه {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا} في المداينة، وقرئ {كِتاباً} و{كُتُباً} و{كتاباً} {فرهان مَّقْبُوضَةٌ} أي فالذي يُستوثق به أو فعليكم أو فليؤخَذ أو فالمشروعُ رهانٌ مقبوضة، وليس هذا التعليقُ لاشتراط السفر في شرعية الارتهان كما حسِبه مجاهدٌ والضحاكُ لأنه صلى الله عليه وسلم «رهَن دِرْعه في المدينة من يهودي بعشرين صاعاً من شعير أخذه لأهله» بل لإقامة التوثقِ بالارتهان مُقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مِظنةُ إعوازِها وإنما لم يتعرّض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقاً وإعوازاً، والجمهورُ على وجوب القبض في تمام الرهن غيرَ مالك وقرئ {فرُهُنٌ} كسُقُف وكلاهما جمع رَهْن بمعنى مرهون وقرئ بسكون الهاء تخفيفاً {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} أي بعضُ الدائنين بعضَ المديونين لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان، وقرئ {أُومن بعضُكم} أي آمنه الناسُ ووصفوه بالأمانة قيل: فيكون انتصابُ بعضاً حينئذ على نزع الخافض أي على متاع بعض {فَلْيُؤَدّ الذي اؤتمن} وهو المديون وإنما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقاً للإعلام ولحمله على الأداء {أمانته} أي دينه وإنما سمّي أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به وقرئ {ايتُمِن} بقلب الهمزة ياء وقرئ بإدغام الياء في التاء وهو خطأ لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم لأنها في حكمها {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} في رعاية حقوق الأمانة وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى.
{وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} أيها الشهود أو المديونون أي شهادتكم على أنفسكم عند المعاملة {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ} آثم خبر إن وقلبُه مرتفعٌ به على الفاعلية كأنه قيل: يأثم قلبه أو مرتفع بالابتداء وآثمٌ خبرٌ مقدّمٌ والجملة خبرُ إن وإسنادُ الإثم إلى القلبِ لأن الكِتمان مما اقترفه، ونظيرُه نسبةُ الزنا إلى العين والأذن، أو للمبالغة لأنه رئيسُ الأعضاء وأفعالُه أعظمُ الأفعال كأنه قيل: تمكّن الإثمُ في نفسه وملك أشرفَ مكان فيه وفاق سائر ذنوبه. عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما إن أكبرَ الكبائر الإشراكُ بالله لقوله تعالى: {فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} وشهادةُ الزور وكتمانُ الشهادة. وقرئ {قلبَه} بالنصب كما في سفهِ نفسَه وقرئ أثمَ قلبه أي جعله آثماً {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيجازيكم به إن خيراً فخيرٌ وإن شرًّا فشر.

.تفسير الآية رقم (284):

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
{للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض} من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما المتمكنةِ فيهما من أُولي العلم وغيرِهم، أي كلُّها له تعالى خَلْقاً ومُلكاً وتصرُّفاً لا شِركةَ لغيره في شيء منها بوجه من الوجوه {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} من السوء والعزمِ عليه بأن تُظهروه للناس بالقول أو بالفعل أو بهما {أَوْ تُخْفُوهْ} بأن تكتُموه منهم ولا تُظهروه بأحد الوجهين، ولا يندرج فيه ما لا يخلو عنه البشرُ من الوساوس وأحاديث النفس التي لا عقدَ ولا عزيمة فيها إذ التكليفُ بحسب الوُسع {يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} يومَ القيامة وهو حجةٌ على منكري الحساب من المعتزلة والروافض، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على الفاعل للاعتناء به، وأما تقديمُ الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله عز وجل: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله} فلِما أن المعلَّق بما في أنفسهم هاهنا هو المحاسبة، والأصلُ فيها الأعمالُ البادية، وأما العلمُ فتعلُّقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية، كيف لا وعلمُه سبحانه بمعلوماته متعالٍ عن أن يكون بطريق حصول الصور، بل وجودُ كل شيءٍ في نفسه في أيّ طور كان علمٌ بالنسبة إليه تعالى وفي هذا لا يختلف الحالُ بين الأشياء البارزةِ والكامنة خلا أن مرتبة الإخفاءِ متقدمةٌ على مرتبة الإبداء إذ ما من شيء يبدى إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمَرٌ في النفس فتعلقُ علمِه تعالى بحالته الأولى متقدمٌ على تعلّقه بحالته الثانية وقد مر في تفسير قوله تعالى: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُون} {فَيَغْفِرُ} بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفرُ بفضله {لِمَن يَشَاء} أي يغفر له {وَيُعَذّبَ} بعدله {مَن يَشَآء} أي يعذبه حسبما تقتضيه مشيئته المبنيةُ على الحِكَم والمصالِح، وتقديمُ المغفرةِ على التعذيب لتقدّم رحمته على غضبه، وقرئ بجزم الفعلين عطفاً على جواب الشرط، وقرئ بالجزم من غير فاء على أنهما بدلٌ من الجواب بدلَ البعضِ أو الاشتمالِ، ونظيره الجزمُ على البدلية من الشرط في قوله:
متى تأتِنا تُلمِمْ بنا في ديارنا ** تجدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تأججا

وإدغام الراء في اللام لحنٌ {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله، فإن كمالَ قدرته تعالى على جميع الأشياءِ مُوجِبٌ لقدرته سبحانه على ما ذُكر من المحاسبة وما فُرِّع عليه من المغفرة والتعذيب.

.تفسير الآية رقم (285):

{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}
{آمَنَ لرَّسُولُ} لمّا ذُكر في فاتحة السورة الكريمة أن ما أُنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الشأنِ هدىً للمتّصفين بما فُصِّل هناك من الصفات الفاضلةِ التي من جملتها الإيمانُ به وبما أنزل قبله من الكتب الإلهيةِ، وأنهم حائزون لأثَرَتي الهدى والفلاح من غير تعيينٍ لهم بخصوصهم، ولا تصريحٍ بتحقق اتصافِهم بها إذ ليس فيما يُذكر في حيز الصلةِ حُكمٌ بالفعل وعُقّب ذلك ببيان حال من كَفر به من المجاهرين والمنافقين ثم شَرَح في تضاعيفها من فنون الشرائع والأحكام والمواعظِ والحِكَم وأخبارِ الأمم السالفة وغيرِ ذلك ممَّا تقتضي الحكمةُ شرحَه عُيِّن في خاتمتها المتّصفون بها وحُكم باتصافهم بها على طريق الشهادة لهم من جهته عز وجل بكمال الإيمان وحسنِ الطاعةِ، وذكرُه صلى الله عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حقَّ الشهادة الباقية على مر الدهور ألا يخاطَبَ بها المشهودُ له، ولم يتعرض هاهنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حُكيَ عنهم من الدعوات الآتية إيذاناً بأنه أمرٌ محقق غنيٌّ عن التصريح به لاسيما بعدما نُص عليه فيما سلف، وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالة المنبئة عن كونه عليه السلام صاحبَ كتابٍ مجيد وشرع جديد تمهيدٌ لما يعقُبه من قوله تعالى: {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ} ومزيدُ توضيحٍ لاندراجه في الرسل المؤمَنِ بهم عليهم السلام، والمرادُ بما أنزل إليه {مّن رَّبّهِ} إيماناً تفصيلياً متعلّقاً بجميع ما فيه من الشرائع والأحكامِ والقصصِ والمواعظ وأحوالِ الرسل والكتُب، وغير ذلك من حيث إنه منزلٌ منه تعالى، وأما الإيمانُ بحقية أحكامِه وصدقِ أخباره ونحوُ ذلك فمن فروع الإيمان به من الحيثية المذكورة، وفي هذا الإجمال إجلالٌ لمحلِّه عليه الصلاة والسلام وإشعارٌ بأن تعلّقَ إيمانِه بتفاصيلِ ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه من الظهور بحيث لا حاجة إلى ذكره أصلاً وكذا في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تشريفٌ له وتنبيهٌ على أن إنزاله إليه تربية وتكميلٌ له عليه السلام.
{والمؤمنون} أي الفريقُ المعروفون بهذا الاسم فاللاَّم عهدية لا موصولة لإفضائها إلى خلو الكلام عن الجدوى وهو مبتدأ، وقوله عز وجل: {كُلٌّ} مبتدأ ثانٍ، وقوله تعالى: {آمن} خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول، والرابطُ بينهما الضمير الذي ناب منابَه التنوين، وتوحيدُ الضمير في آمن مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المرادَ بيانُ إيمانِ كل فردِ منهم من غير اعتبار الاجتماعِ كما اعتُبر ذلك في قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين} وتغييرُ سبْكِ النظم الكريمِ عما قبلَه لتأكيد الإشعارِ بما بين إيمانهِ على السلام المبنيِّ على المشاهدة والعِيان وبين إيمانِهم الناشىءِ عن الحجة والبرهانِ من التفاوت البيِّن والاختلاف الجليِّ كأنهما متخالفان من كل وجهٍ حتى في هيئة التركيب الدالِّ عليهما، وما فيه من تكرير الإسناد لما في الحُكم بإيمان كلِّ واحدٍ منهم على الوجه الآتي من نوعِ خفاءٍ مُحوِجٍ إلى التقوية والتأكيد، أي كلُّ واحد منهم آمن {بالله} وحده من غير شريكٍ له في الألوهية والمعبودية {وَمَلَئِكَتُهُ} أي من حيث إنهم عبادٌ مُكْرمون له تعالى من شأنهم التوسطُ بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاءِ الوحي، فإن مدارَ الإيمان بهم ليس من خصوصيات ذواتِهم في أنفسهم بل هو من إضافتهم إليه تعالى من الحيثية المذكورة كما يلُوح به الترتيبُ في النظم.
{وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} أي من حيث مجيئُهما من عنده تعالى لإرشاد الخلقِ إلى ما شرَع لهم من الدين بالأوامر والنواهي لكن لا على الإطلاق بل على أن كلَّ واحدٍ من تلك الكُتُب منْزلٌ منه تعالى إلى رسول معيّنٍ من أولئك الرسلِ عليهم الصلاة والسلام حسبما فُصل في قوله تعالى: {قُولُواْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والاسباط وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى وَمَا} الآية، ولا على أن مناطَ الإيمان خصوصيةُ ذلك الكتاب أو ذلك الرسولِ بل على أن الإيمانَ بالكل مندرِجٌ في الإيمان بالكتاب المُنْزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومستنِدٌ إليه لِما تُليَ من الآية الكريمة ولا على أن أحكامَ الكتبِ السالفة وشرائعَها باقيةٌ بالكلية ولا على أن الباقيَ منها معتبرٌ بالإضافة إليها بل على أن أحكامَ كلِّ واحد منها كانت حقةً ثابتة إلى ورود كتابٍ آخرَ ناسخٍ له وأن ما لم يُنسَخْ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتةٌ من حيث إنها من أحكام هذا الكتاب المَصونِ عن النسخ إلى يوم القيامة، وإنما لم يُذكر هاهنا الإيمانُ باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى: {ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الاخر والملئكة والكتاب والنبيين} لاندراجه في الإيمان بكتُبه وقرئ {وكتابِه} على أن المرادَ به القرآنُ أو جنسُ الكتاب كما في قوله تعالى: {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب}
والفرقُ بينه وبين الجمع أنه شائعٌ في أفراد الجنس والجمعِ في جموعه، ولذلك قيل: الكتابُ أكثرَ من الكتب، وهذا نوعُ تفصيلٍ لما أُجمل في قوله تعالى: {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ} اقتُصر عليه إيذاناً بكفايته في الإيمان الإجمالي المتحقِّق في كل فردٍ من أفراد المؤمنين من غير نفيٍ لزيادةٍ، ضرورةَ اختلاف طبقاتهم وتفاوتِ إيمانهم بالأمور المذكورة في مراتب التفصيل تفاوتاً فاحشاً فإن الإجمالَ في الحكاية لا يوجب الإجمالَ في المحكيِّ، كيف لا وقد أُجمل في حكاية إيمانه عليه السلام بما أُنزل إليه من ربه مع بداهة كونهِ متعلِّقاً بتفاصيلِ ما فيه من الجلائل والدقائق، ثم إن الأمورَ المذكورةَ حيث كانت من الأمور الغيبية التي لا يُوقف عليها إلا من جهة العليم الخبير كان الإيمانُ بها مِصداقاً لما ذُكر في صدر السورة الكريمة من الإيمان بالغيب وأما الإيمان بكتُبه تعالى، فإشارة إلى ما في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} هذا هو اللائقُ بشأن التنزيل والحقيقُ بمقداره الجليل، وقد جُوّز أن يكون قوله تعالى: {والمؤمنون} معطوفاً على {الرسول} فيوقف عليه، والضميرُ الذي عُوّض عنه التنوينُ راجعٌ إلى المعطوفَيْن معاً كأنه قيل: آمن الرسولُ والمؤمنون بما أُنزل إليه من ربه، ثم فُصِّل وقيل: كلُّ واحدٍ من الرسل والمؤمنين آمن بالله الخ، خلا أنه قُدّم المؤمَنُ به على المعطوف اعتناءً بشأنه وإيذاناً بأصالته عليه السلام في الإيمان به، ولا يخفى أنه مع خلوّه عما في الوجه الأول من كمالِ وإجلالِ شأنهِ عليه السلام وتفخيمِ إيمانه مخلٌّ بجزالة النظمِ الكريم لأنه إنْ حُمل كلٌّ من الإيمانين على ما يليق بشأنه عليه الصلاة والسلام من حيث الذاتُ ومن حيث التعلقُ بالتفاصيل استحالَ إسنادُهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكريرُ، وإن حُملا على ما يليق بشأن آحادِ الأمةِ كان ذلك حطاً لرتبته العليةِ عليه السلام، وأما حملُهما على ما يليق بكل واحدٍ ممن نُسبا إليه من الآحاد ذاتاً وتعلقاً بأن يُحمَلا بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلقِ بجميع التفصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمةِ على الإيمان المكتسَب من جهته عليه السلام اللائقِ بحالهم في الإجمال والتفصيل فاعتسافٌ بيّن ينبغي تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله، وقوله تعالى: {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} في حيز النصب بقولٍ مقدرٍ على صيغة الجمع رعايةً لجانب المعنى، منصوبٌ على أنه حال من ضمير آمن، أو مرفوعٌ على أنه خبرٌ آخرُ (لكلٌّ) أي يقولون لا نفرّق بينهم بأن نؤمنَ ببعض منهم ونكفُرَ بآخَرين بل نؤمنُ بصحة رسالةِ كلِّ واحدٍ منهم. قيّدوا به إيمانَهم تحقيقاً للحق وتخطِئةً لأهل الكتابين حيث أجمعوا على الكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم واستقلت اليهودُ بالكفر بعيسى عليه السلام أيضاً على أن مقصودَهم الأصليَّ إبرازُ إيمانهم بما كفروا به من رسالته عليه السلام لا إظهارُ موافقتهم لهم فيما آمنوا به، وهذا كما ترى صريحٌ في أن القائلين آحادُ المؤمنين خاصة إذ لا يمكن أن يسند إليه عليه السلام أن يقول: لا أفرق بين أحدٍ من رسله وهو يريد به إظهارَ إيمانه برسالة نفسِه وتصديقَه في دعواها، وعدمُ التعرُّضِ لنفي التفريق بين الكتُب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يُعكَسْ مع تحقق التلازم من الطرفين لما أن الأصلَ في تفريق المفرِّقين هو الرسلُ، وكفرُهم بالكتب متفرِّع على كفرهم بهم، وقرئ بالياء على إسناد الفعل إلى كل، وقرئ {لا يفرِّقون} حملاً على المعنى كما في قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين} فالجملة نفسُها حال من الضمير المذكور، وقيل: خبرٌ ثان لكلٌّ كما قيل في القول المقدر فلابد من اعتبار الكلية بعد النفي دون العكس إذ المرادُ شمولُ النفي لا نفيُ الشمول، والكلام في همزة (أحدٍ) وفي دخول (بين) عليه قد مر تفصيله عند قوله تعالى: {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} وفيه من الدلالة صريحاً على تحقق عدم التفريقِ بين كل فردٍ فرد منهم وبين مَن عداه كائناً مَنْ كان ما ليس في أن يقال: لا نفرِّق بين رسله، وإيثارُ إظهارِ الرسلِ على الإضمار الواقعِ مثلُه في قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكةِ في الحُكم، أو للإشعار بعلة عدمِ التفريقِ، أو للإيماء إلى عنوانه، لأن المعتبرَ عدمُ التفريق من حيث الرسالةُ دون سائرِ الحيثيات الخاصة {وَقَالُواْ} عطفٌ على آمن، وصيغةُ الجمعِ باعتبار جانب المعنى وهو حكايةٌ لامتثالهم بالأوامر إثرَ حكايةِ إيمانِهم {سَمِعْنَا} أي فهمنا ما جاءنا من الحق وتيقنا بصحته {وَأَطَعْنَا} ما فيه من الأوامر والنواهي وقيل سمِعنا: أجبنا دعوتك وأطعنا أمرَك {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أي اغفِرْ لنا غفرانك أو نسألك غُفرانك ذنوبنا المتقدمة أو ما لا يخلو عنه البشرُ من التقصير في مراعاة حقوقِك، وتقديمُ ذكرِ السمعِ والطاعةِ على طلب الغفران لما أن تقديمَ الوسيلةِ على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إليهم للمبالغة في التضرُّع والجُؤار.
{وَإِلَيْكَ المصير} أي الرجوعُ بالموت والبعث لا إلى غيرك، وهو تذييلٌ لما قبله مقرِّرٌ للحاجة إلى المغفرة لما أن الرجوعَ للحساب والجزاء.

.تفسير الآية رقم (286):

{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}
وقوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} جملةٌ مستقلة جيءَ بها إثرَ حكايةِ تلقِّيهم لتكاليفه تعالى بحسن الطاعة إظهاراً لما له تعالى عليهم في ضمن التكليف من محاسنِ آثارِ الفضل والرحمة ابتداءً لا بعد السؤال كما سيجيء، هذا وقد رُوي أنه لما نزل قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} الآية، اشتد ذلك على أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأتَوْه ثم برَكوا على الرُكَب فقالوا: أيْ رسولَ الله كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاةُ والصومُ والحج والجهاد وقد أُنزل إليك هذه الآية ولا نُطيقُها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمِعنا وعصَينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غُفرانَك ربنا وإليك المصير» فقرأها القومُ فأنزل الله عز وجل: {آمَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون} إلى قوله تعالى: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} فمسؤولهُم الغفرانُ المعلَّق بمشيئته عز وعلا في قوله: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} (3) ثم أنزل الله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} تهويناً للخطب عليهم ببيانِ أن المرادَ بما في أنفسهم ما عزَموا عليه من السوء خاصة لا ما يعُمُّ الخواطرَ التي لا يُستطاع الاحتراز عنها والتكليفُ إلزامُ ما فيه كُلفةٌ ومشقة، والوُسعُ ما يسَعُ الإنسانَ ولا يَضيقُ عليه أي سُنّتُه تعالى أنه لا يكلِّف نفساً من النفوس إلا ما يتَّسع فيه طَوقُها ويتيسّر عليها دون مدى الطاقةِ والمجهود فضلاً منه تعالى ورحمةً لهذة الأمة كقوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} وقرئ {وَسعها} بالفتح وهذا يدل على عدم وقوعِ التكليفِ بالمحال لا على امتناعه وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} للترغيب في المحافظة على مواجبِ التكليف والتحذيرِ عن الإخلال بها ببيان أن تكليفَ كل نفسٍ مع مقارنته لنعمة التخفيفِ والتيسير تتضمنُ مراعاتُه منفعةً زائدة، وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبِعُ الإخلالُ به مضرةً تَحيق بها لا بغيرها، فإن اختصاصَ منفعةِ الفعل بفاعله من أقوى الدواعىِ إلى تحصيله، واقتصارَ مضرَّتِه عليه من أشد الزواجر عن مباشرته، أي لها ثوابُ ما كسبت من الخير الذي كُلّفت فعلَه لا لغيرها استقلالاً أو اشتراكاً ضرورةَ شمُول كلمةِ (ما) لكل جزءٍ من أجزاءِ مكسوبها، وعليها لا على غيرها بأحد الطريقين المذكورين عقابُ ما اكتسبت من الشر الذي كُلِّفت تركه، وإيرادُ الاكتسابِ في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشىءٍ من اعتناء النفسِ بتحصيل الشر وسعيها في طلبه {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} شروعٌ في حكاية بقيةِ دعواتِهم إثرَ بيانِ سرِّ التكليف، أي لا تؤاخِذنا بما صدر عنا من الأمور المؤدية إلى النسيان أو الخطأ من تفريطٍ وقلةِ مبالاة ونحوِهما مما يدخُل تحت التكليف، أو بأنفسهما من حيث ترتّبُهما على ما ذكر، أو مطلقاً إذ لا امتناعَ في المؤاخذة بهما عقلاً، فإن المعاصيَ كالسُّموم فكما أن تناولها ولو سهواً أو خطأً مؤدَ إلى الهلاك فتعاطي المعاصي أيضاً لا يبعُد أن يفضِيَ إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة، ووعدُه تعالى بعدمه لا يوجب استحالةَ وقوعه، فإن ذلك من آثار فضلِه ورحمتِه كما ينبىء عنه الرفعُ في قوله عليه السلام:
«رُفعَ عن أُمِّتي الخطأُ والنِّسيانُ». وقد روي أن اليهود كانوا إذا نسُوا شيئاً عُجِّلت لهم العقوبة، فدعاؤُهم بعد العلم بتحقق الموعود للاستدامة والاعتداد بالنعمة في ذلك كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} عطفٌ على ما قبله، وتوسيطُ النداء بينهما لإبراز مزيدِ الضراعة، والإصرُ العِبءُ الثقيلُ الذي يأصِرُ صاحبَه أي يحبِسُه مكانه والمرادُ به التكاليفُ الشاقة، وقيل الإصرُ الذنبُ الذي لا توبةَ له فالمعنى اعصِمْنا من اقترافه، وقرئ {آصاراً}، وقرئ {لا تُحَمِّلْ} بالتشديد للمبالغة {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} في حيز النصب على أنه صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي حَمْلاً مثلَ حملِك إياه على مَنْ قبلَنا، أو على أنه صفةٌ لإصراً أي إصراً مثلَ الإصرِ الذي حَمَلته على مَنْ قبلنا وهو ما كُلّفه بنو إسرائيل من بخْعِ النفس في التوبة، وقطع موضِعِ النجاسةِ، وخمسينَ صلاةً في يوم وليلة وصرفِ رُبُع المال للزكاة وغيرِ ذلك من التشديدات فإنهم كانوا إذا أتَوْا بخطيئة حَرُم عليهم من الطعام بعضُ ما كان حلالاً لهم قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقد عصمَ الله عز وجل بفضله ورحمته هذه الأمة عن أمثال ذلك وأنزل في شأنهم: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وقال عليه السلام: «بُعثتُ بالحنيفية السهلة السَّمْحة» وعن العقوبات التي عوقب بها الأولون من المسْخِ والخسْف وغيرِ ذلك قال عليه السلام: «رُفع عن أُمَّتي الخسفُ والمسخُ والغَرَق».
{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} عطفٌ على ما قبله واستعفاءٌ عن العقوبات التي لا تُطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليه التفريطُ فيه من التكاليف الشاقة التي لا يكاد مَنْ كُلِّفها يخلو عن التفريط فيها كأنه قيل: لا تكلِّفْنا تلك التكاليفَ ولا تعاقِبْنا بتفريطنا في المحافظة عليها فيكونُ التعبيرُ عن إنزال العقوباتِ بالتحميل باعتبار ما يؤدي إليها، وقيل: هو تكريرٌ للأول وتصويرٌ للإصر بصورةِ ما لا يُستطاع مبالغة، وقيل: هو استعفاءٌ عن التكليف بما لا تفي به الطاقةُ البشرية حقيقة، فيكون دليلاً على جوازه عقلاً وإلا لما سُئل التخلصُ عنه، والتشديد هاهنا لتعدية الفعل إلى مفعول ثانٍ {واعف عَنَّا} أي آثارِ ذنوبنا {واغفر لَنَا} واستُرْ عيوبَنا ولا تفضَحْنا على رؤوس الأشهادِ {وارحمنا} وتعطَّفْ بنا وتفضَّلْ علينا، وتقديمُ طلبِ العفوِ والمغفرةِ على طلب الرحمةِ لما أن التخلِيَةَ سابقة على التحلية {أَنتَ مولانا} سيدُنا ونحن عبيدُك أو ناصرُنا أو متولي أمورِنا {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} فإن من حقّ المولى أن ينصُرَ عبده ومن يتولّى أمرَه على الأعداء، والمرادُ به عامةُ الكفرة، وفيه إشارة إلى أن إعلأَ كلمةِ الله والجهادَ في سبيله تعالى حسبما أُمر في تضاعيف السورة الكريمة غايةُ مطالبهم، رُوي أنه عليه الصلاة والسلام لمّا دعا بهذه الدعواتِ قيل له عند كلِّ دعوةٍ: قد فعلتُ، وعنه عليه السلام...