فصل: تفسير الآية رقم (7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (7):

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}
{هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} شروعٌ في إبطال شُبَهِهم الناشئةِ عما نَطَق به القرآن في نعت عيسى عليه السلام بطريق الاستئناف إثرَ بيان اختصاصِ الربوبية ومناطِها به سبحانه وتعالى تارةً بعد أخرى وكونِ كل مَنْ عداه مقهوراً تحت مَلَكوته تابعاً لمشيئته. قيل: إن وفدَ نجرانَ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تزعُم يا محمد أن عيسى كلمةُ الله وروح منه؟ قال عليه السلام: «بلى» قالوا: فحسبُنا ذلك. فنعى عليهم زيغَهم وفتنتَهم وبيّن أن الكتابَ مؤسسٌ على أصول رصينةٍ وفروعٍ مَبْنية عليها ناطقةٍ بالحق قاضيةٍ ببطلان ما هم عليه من الضلال، والمرادُ بالإنزال القدرُ المشتركُ المجرَّدُ عن الدِلالة على قيد التدريج وعدمِه، ولامُ الكتاب للعهد، وتقديمُ الظرف عليه لما أشير إليه فيما قبل من الاعتناءِ بشأن بشارتِه عليه السلام بتشريف الإنزال عليه ومن التشويق إلى ما أُنزل، فإن النفسَ عند تأخير ما حقُّه التقديمُ لاسيما بعد الإشعار برفعة شأنِه أو بمنفعته تبقى مترقبةً له فيتمكن لديها عند ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ وليتصل به تقسيمه إلى قسميه {مِنْهُ آيات} الظرفُ خبر، وآياتٌ مبتدأ أو بالعكس بتأويل مر تحقيقه في قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} الآية، والأولُ أوفقُ بقواعد الصناعة، والثاني أدخلُ في جزالة المعنى إذ المقصودُ الأصليّ انقسامُ الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونُهما من الكتاب فتذكّرْ، والجملة مستأنفة في حيز النصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل الكتابَ كائناً على هذه الحال منقسماً إلى مُحْكَمٍ ومتشابهٍ أو الظرفُ هو الحال وحدَه وآياتٌ مرتفعٌ به على الفاعلية {محكمات} صفةُ آياتٌ أي قطعيةُ الدِلالة على المعنى المراد، مُحْكمةُ العبارةِ محفوظةٌ من الاحتمال والاشتباه {هُنَّ أُمُّ الكتاب} أي أصلٌ فيه وعُمدةٌ يُردُّ إليها غيرُها فالمرادُ بالكتابِ كلُّه، والإضافة بمعنى في كما في واحد العشرةِ لا بمعنى اللام فإن ذلك يؤدي إلى كون الكتاب عبارةً عما عدا المحكماتِ، والجملةُ إما صفةٌ لما قبلها أو مستأنفةٌ وإنما أفرد الأم مع تعدد الآيات لما أن المراد بيانُ أصليةِ كل واحدةٍ منها أو بيانُ أن الكل بمنزلة آية واحدة كما في قوله تعالى: {وجعلناها وابنها ءايَةً للعالمين} وقيل: اكتُفيَ بالمفرد عن الجمع كما في قول الشاعر:
بها جِيَفُ الحسْرى فأما عظامُها ** فبِيضٌ وأما جِلْدُها فصَليبُ

أي وأما جلودها {وَأَخَّرَ} نعتُ المحذوف معطوفٌ على آياتٌ أي وآياتٌ أخَرُ وهي جمع أخرى، وإنما لم ينصَرِفْ لأنه وصف معدول عن الآخِر أو عن آخر من {متشابهات} صفة لأخَرُ وفي الحقيقة صفةٌ للمحذوف أي محتمِلاتٌ لمعانٍ متشابهة لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الإرادة بها ولا يتضح الأمرُ إلا بالنظر الدقيق والتأملِ الأنيق، فالتشابه في الحقيقة وصفٌ لتلك المعاني وُصف به الآياتُ على طريقة وصف الدالِّ بوصف المدلول، وقيل: لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجِزَ العقل عن التمييز بينها سُمِّي كل ما لا يهتدي إليه العقل متشابهاً وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المُشكِل في الأصل ما دخل في أشكاله وأمثاله ولم يُعلم بعينه، ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضُه من تلك الجهة، وإنما جعل ذلك كذلك ليظهر فضلُ العلماء ويزدادَ حِرصهم على الاجتهاد في تدبرها وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباطُ ما أريد بها من الأحكام الحقة فينالوا بها وبإتعاب القرائح في استخراج مقاصدِها الرائقة ومعانيها اللائقة المدارجَ العالية ويعرِّجوا بالتوفيق بينها وبين المُحْكمات من اليقين والاطمئنان إلى المعارج القاصيةِ، وأما قولُه عز وجل: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته} فمعناه أنها حُفِظت من اعتراء الخلل أو من النسخ، أو أُيِّدت بالحُجج القاطعةِ الدالةِ على حقِّيتها أو جُعلت حكيمةً لانطوائها على جلائل الحِكَم البالغةِ ودقائقِها، وقوله تعالى: {كتابا متشابها مَّثَانِيَ} معناه متشابهُ الأجزاء أي يشبه بعضُها بعضاً في صحة المعنى وجزالةِ النظم وحقية المدلول.
{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميلٌ عن الحق إلى الأهواء الباطلة. قال الراغبُ: الزيغُ الميلُ عن الاستقامة إلى أحد الجانبين، وفي جعل قلوبهم مقراً للزيغ مبالغةٌ في عدولهم عن سَنن الرشاد وإصرارِهم على الشر والفساد {فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ} مُعْرضين عن المُحْكمات أي يتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب أو بتأويل باطلٍ لا تحرِّياً للحق بعد الإيمان بكونه من عند الله تعالى بل {ابتغاء الفتنة} أي طلبَ أن يفتِنوا الناسَ عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضةِ المُحكم بالمتشابه كما نُقل عن الوفد {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} أي وطلبَ أن يؤوّلوه حسبما يشتهونه من التأويلات الزائغةِ والحال أنهم بمعزل من تلك الرتبة وذلك قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والرسخون فِي العلم} فإنه حالٌ من ضمير {فَيَتَّبِعُونَ} باعتبار العلة الأخيرة أي يتّبعون المتشابهِ لابتغاء تأويلِه والحالُ أنه مخصوصٌ به تعالى وبمن وفّقه له من عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبَتوا وتمكّنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزالِّ الأقدام، وفي تعليل الاتّباعِ بابتغاء تأويلِه دون نفسِ تأويلِه وتجريدِ التأويل عن الوصف بالصحة أو الحقية إيذانٌ بأنهم ليسوا من التأويل في شيء وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلاً لا أنه تأويلٌ غيرُ صحيح قد يُعذر صاحبه، ومن وقف على {إِلاَّ الله} فسّر المتشابهَ بما استأثر الله عز وعلا بعلمه كمدة بقاءِ الدنيا ووقتِ قيام الساعة وخواصِّ الأعداد كعدد الزبانية أو بما دل القاطعُ على عدم إرادة ظاهرِه ولم يدل على ما هو المراد به.
{يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} أي بالمتشابه، وعدمُ التعرُّض لإيمانهم بالمُحْكم لظهوره، أو بالكتاب والجملة على الأول استئنافٌ موضِّحٌ لحال الراسخين أو حال منه وعلى الثاني خبر لقوله تعالى: {والرسخون} وقوله تعالى: {كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} من تمام المَقول مقرِّر لما قبله ومؤكِّد له أي كلُّ واحدٍ منه ومن المحكم، أو كلُّ واحدٍ من متشابهه ومحكَمِه منزلٌ من عنده تعالى لا مخالفةَ بينهما، أو آمنا به وبحقيته على مراده تعالى {وَمَا يَذَّكَّرُ} حقَّ التذكر {إِلاَّ أُوْلُواْ الالباب} أي العقولِ الخاصةِ عن الركون إلى الأهواء الزائغةِ وهو تذييلٌ سيق من جهته تعالى مدحاً للراسخين بجَوْدة الذهن وحسنِ النظر وإشارةً إلى ما به استعدوا للاهتداء إلى تأويله من تجرد العقلِ عن غواشي الحِسِّ، وتعلقُ الآيةِ الكريمة بما قبلها من حيث إنها جوابٌ عما تشبّث به النصارى من نحو قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ} على وجه الإجمال وسيجيء الجوابُ المفصل بقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}

.تفسير الآيات (8- 9):

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} من تمام مقالةِ الراسِخين أي لا تُزِغْ قلوبَنا عن نهج الحقِّ إلى اتباع المتشابهِ بتأويلٍ لا ترتضيه، قال صلى الله عليه وسلم: «قلبُ ابن آدمَ بين أصْبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه على الحقّ وإن شاء أزاغه عنه» وقيل: معناه لا تَبْلُنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} أي إلى الحق والتأويل الصحيح أو إلى الإيمان بالقسمين وبعد نُصبَ بلا تزِغ على الظرف وإذْ في محل الجر بإضافته إليه خارجٌ من الظرفية أي بعد وقت هدايتِك إيانا وقيل: إنه بمعنى أنْ {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ} كِلا الجارّين متعلقٌ بهَبْ وتقديم الأول لما مر مراراً ويجوز تعلّقُ الثاني بمحذوف هو حالٌ من المفعول أي كائنة من لدنك ومن لابتداء الغاية المجازية ولدُنْ في الأصل ظرف بمعنى أولُ غايةِ زمانٍ أو مكان أو غيرِهما من الذوات نحوُ من لدُنْ زيدٍ وليست مرادفةً لعند إذ قد تكون فضلة، وكذا لدى، وبعضُهم يخُصُّها بظرف المكان وتضاف إلى صريح الزمان كما في قوله:
تنتفضُ الرّعدةُ في ظُهَيْري ** من لدنِ الظُهرِ إلى العُصَيرِ

ولا تُقطع عن الإضافة بحال، وأكثرُ ما تضاف إلى المفردات وقد تضاف إلى أنْ وصلتِها كما في قوله:
ولم تقْطعَ اصلاً من لدنْ أنْ ولِيتَنا ** قرابةَ ذي رَحْمٍ ولا حقَّ مسلمِ

أي من لدن ولايتِك إيانا وقد تضاف إلى الجملة الاسميةِ كما في قوله:
تَذَكَّرُ نُعماه لدُنْ أنت يافعُ ** وإلى الجملة الفعلية أيضاً كما في قوله:

لزِمنا لدنْ سالمتمونا وِفاقَكم ** فلا يكُ منكم للخِلاف جُنوحُ

وقلما تخلو عن من كما في البيتين الأخيرين {رَحْمَةً} واسعةً تُزلِفُنا إليك ونفوزُ بها عندك أو توفيقاً للثبات على الحق، وتأخيرُ المفعول الصريح عن الجارّين لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن من حقه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً لوروده لاسيما عند الإشعارِ بكونه من المنافعِ باللام فإذا أورده يتمكن عندها فضلُ تمكّنٍ {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} تعليل للسؤال أو لإعطاء المسؤولِ وأنت إما مبتدأٌ أو فصلٌ أو تأكيدٌ لاسم إنّ وإطلاقُ الوهاب ليتناول كلَّ موهوب، وفيه دِلالة على أن الهدى والضلال من قِبله تعالى وأنه متفضّلٌ بما يُنعم به على عباده من غير أن يجب عليه شيء.
{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ} أي لحساب يومِ أو لجزاء يوم حُذف المضاف وأقيم مُقامه المضافُ إليه تهويلاً له وتفظيعاً لما يقع فيه {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في وقوعه ووقوعِ ما فيه من الحشر والحسابِ والجزاء، ومقصودُهم بهذا عرضُ كمالِ افتقارِهم إلى الرحمة وأنها المقصِدُ الأسنى عندهم، والتأكيدُ لإظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينةِ وقوة اليقينِ بأحوال الآخرة {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} تعليلٌ لمضمون الجملة المؤكدةِ أو لانتفاء الريب، والتأكيد لما مر، وإظهارُ الاسمِ الجليل مع الالتفات لإبراز كمالِ التعظيم والإجلالِ الناشىء من ذكر اليوم المَهيب الهائل بخلاف ما في آخر السورة الكريمة فإنه مقامُ طلب الإنعام كما سيأتي وللإشعار بعلة الحُكم فإن الألوهيةَ منافيةٌ للإخلاف وقد جُوّز أن تكون الجملةُ مَسوقةً من جهته تعالى لتقرير قولِ الراسخين، والميعادُ مصدرٌ كالميقات واستُدل به الوعيدية وأجيب بأن وعيدَ الفساقِ مشروطٌ بعدم العفو بدلائلَ مفصلةٍ كما هو مشروط بعدم التوبة وِفاقاٌ.

.تفسير الآيات (10- 11):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} إثرَ ما بين الدينَ الحقَّ والتوحيد وذكر أحوالَ الكتب الناطقةِ به وشرح شأن القرآنِ العظيم وكيفيةِ إيمانِ العلماء الراسخين به شَرَع في بيان حال مَنْ كفر به، والمرادُ بالموصول جنسُ الكفرة الشاملُ لجميع الأصناف، وقيل: وفدُ نجرانَ أو اليهودُ من قريظةَ والنضِير أو مشركو العرب {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ} أي لن تنفعَهم وقرئ بالتذكير وبسكون الياء جِدّاً في استثقال الحركة على حروف اللين {أموالهم} التي يبذُلونها في جلب المنافع ودفعِ المضارّ {وَلاَ أولادهم} الذين بهم يتناصرون في الأمور المُهمة وعليهم يعوّلون في الخطوب المُلمة، وتأخيرُ الأولاد عن الأموال مع توسيط حرف النفي بينهما إما لعراقة الأولادِ في كشف الكروب، أو لأن الأموال أولُ عُدّة يُفزع إليها عند نزول الخطوب {مِنَ الله} من عذابه تعالى {شَيْئاً} أي شيئاً من الإغناء، وقيل: كلمة من بمعنى البدل والمعنى بدلَ رحمةِ الله أو بدلَ طاعته كما في قوله تعالى: {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا} أي بدل الحق ومنه قوله: ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدُّ أي لا ينفعه جَدُّه بدلك أي بدلَ رحمتك كما في قوله تعالى: {وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} وأنت خبير بأن احتمال سدِّ أموالِهم وأولادهم مسدَّ رحمة الله تعالى أو طاعته مما لا يخطُر ببال أحد حتى يُتصدَّى لنفيه، والأولُ هو الأليقُ بتفظيع حال الكفرة وتهويل أمرهم والأنسبُ بما بعده من قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار} ومن قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الله} أي أولئك المتّصفون بالكفر حطبُ النار وحصَبُها الذي تُسعّر به، فإن أريد بيانُ حالِهم عند التسعير فإيثارُ الجملةِ الاسمية للدِلالة على تحقق الأمر وتقرّره، وإلا فهو للإيذان بأن حقيقة حالِهم ذلك، وأن أحوالهم الظاهرةَ بمنزلة العدم فهم حال كونهم في الدنيا وَقودُ النار بأعيانهم. وفيه من الدلالة على كمال ملابستهم بالنار ما لا يخفى و{هُمْ} يحتمل الابتداءَ وأن يكون ضميرَ فصلٍ والجملة إما مستأنفةٌ مقرِّره لعدم الإغناء أو معطوفة على خبر إن، وأيا ما كان ففيها تعيينٌ للعذاب الذي بيّن أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم منه شيئاً. وقرئ {وُقود النار} بضم الواو وهو مصدر أي أهلُ وقودها {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} الدأبُ مصدر دأَبَ في العمل إذا كدح فيه وتعِب غلب استعمالُه في معنى الشأن والحال والعادة، ومحلُّ الكاف الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوف وقد جُوِّز النصبُ بلن تغني أو بالوَقود أي لن تغني عنهم كما لم تغنِ عن أولئك أو توقد بهم النارُ كما توقد بهم، وأنت خبير بأن المذكور في تفسير الدأب إنما هو التكذيبُ والأخذ من غير تعرُّض لعدم الإغناء لاسيما على تقدير كونِ مِنْ بمعنى البدل كما هو رأيُ المجوِّز، ولا لإيقاد النار فيُحمل على التعليل وهو خلافُ الظاهر على أنه يلزَمُ الفصلُ بين العامل والمعمول بالأجنبي على تقدير النصب بأن تغني وهو قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار} إلا أن يُجعل استئنافاً معطوفاً على خبر إن فالوجهُ هو الرفعُ على الخبرية أي دأبُ هؤلاءِ في الكفر وعدمِ النجاة من أخْذِ الله تعالى وعذابه كدأب آلِ فرعون {والذين مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل آلِ فرعونَ من الأمم الكافرة، فالموصولُ في محل الجر عطفاً على ما قبله وقوله تعالى: {كَذَّبُواْ بئاياتنا} بيانٌ وتفسير لدأبهم الذي فعلوا، على طريق الاستئناف المبني على السؤال كأنه قيل: كيف كان دأبهم؟ فقيل: كذبوا بآياتنا وقوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الله} تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم أي فأخذهم الله وعاقبهم ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصاً، فدأبُ هؤلاء الكفرةِ أيضاً كدأبهم، وقيل: كذبوا إلخ حال من {فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ} على إضمار قد أي دأبُ هؤلاء كدأب أولئك وقد كذبوا الخ، وأما كونه خبراً عن الموصول كما قيل فمما يذهب برونق النظم الكريم، والالتفاتُ إلى التكلم أولاً للجري على سنن الكبرياء، وإلى الغَيبة ثانياً بإظهار الجلالة لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة.
{بِذُنُوبِهِمْ} إن أريد بها تكذيبُهم بالآيات فالباء للسببية جيء بها تأكيداً لما تفيده الفاء من سببية ما قبلها لما بعدها وإن أريد بها سائرُ ذنوبهم فالباء للملابسة جيء بها للدلالة على أن لهم ذنوباً أخرى أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غيرَ تائبين عنها كما في قوله تعالى: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} والذنب في الأصل التِلْوُ والتابع، وسُمّيت الجريمةُ ذنباً لأنها تتلو أي يتبعُ عقابُها فاعلَها {والله شَدِيدُ العقاب} تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله من الأخذ وتكملةٌ له.

.تفسير الآية رقم (12):

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)}
{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} المرادُ بهم اليهودُ لما رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهودَ المدينة لما شاهدوا غلبةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على المشركين يومَ بدرٍ قالوا: والله إنه النبيُّ الأميُّ الذي بشرنا به موسى في التوراة نعتُه وهموا باتباعه فقال بعضُهم: لا تعجَلوا حتى ننظُر إلى وقعة له أخرى فلما كان يومُ أحُد شكّوا وقد كان بينهم وبين رسول الله عهدٌ إلى مدة فنقضوه وانطلق كعبُ بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وعن سعيد بن جبير وعِكرمةَ عن ابن عباس رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصاب قريشاً ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهودَ في سوق بني قَينُقاع فحذّرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش فقالوا: لا يغرَّنك أنك لقِيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبْتَ منهم فرصة لئن قاتلْتَنا لعلِمْتَ أنا نحنُ الناسُ فنزلت، أي قل لهم: {سَتُغْلَبُونَ} اْلبتةَ عن قريب في الدنيا وقد صدق الله عز وجل وعدَه بقتل بني قريظة وإجلاءِ بني النضِير وفتح خبير وضربِ الجزية على مَنْ عداهم وهو من أوضح شواهد النبوة وأما ما روي عن مقاتل من أنها نزلت قبل بدر وأن الموصول عبارة عن مشركي مكةَ ولذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «إنَّ الله غالبُكم وحاشرُكم إلى جهنم وبئس المهاد» فيؤدي إلى انقطاع الآية الكريمة عما بعدها لنزوله بعد وقعة بدر {وَتُحْشَرُونَ} أي في الآخرة {إلى جَهَنَّمَ} وقرئ الفعلان بالياء على أنه عليه السلام أُمر بأن يحكيَ لهم ما أخبر الله تعالى به من وعيدهم بعبارته كأنه قيل: أدِّ إليهم هذا القول {وَبِئْسَ المهاد} إما من تمام ما يقال لهم أو استئنافٌ لتهويل جهنم وتفظيع حالِ أهلها، والمخصوصُ بالذم محذوف أي وبئس المهاد جهنمُّ أو ما مَهَدوه لأنفسهم.