فصل: تفسير الآيات (19- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (19- 20):

{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}
{إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} جملةٌ مستأنفة مؤكدةٌ للأولى أي لا دينَ مرضياً لله تعالى سوى الإسلام الذي هو التوحيدُ والتدرُّع بالشريعة الشريفة، وعن قتادة أنه شهادةُ {أَن لاَّ إله إِلاَّ الله} والإقرارُ بما جاء من عند الله تعالى وقرئ {إن الدين عند الله الإسلام} وقرئ {أن الدين} إلخ على أنه بدلُ الكل إن فُسر الإسلامُ بالإيمان أو بما يتضمنه وبدلُ الاشتمال إن فسر بالشريعة أو على أن شهد واقعٌ عليه تقديرُ قراءةِ {إنه} بالكسر كما أشير إليه {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلامَ الذي جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنكروا نبوّته، والتعبيرُ عنهم بالموصول وجعْلُ إيتاءِ الكتاب صلةً لزيادة تقبيحِ حالهم فإن الاختلاف ممن أوتي ما يزيلُه ويقطع شأفته في غاية القُبح والسماجة وقوله تعالى: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} استثناءٌ مفرَّغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات أي وما اختلفوا في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا بأنه الحقُّ الذي لا محيدَ عنه أو بعد أن علموا حقيقةَ الأمرِ وتمكّنوا من العلم بها بالحُجج النيّرة والآيات الباهرةِ وفيه من الدِلالة على ترامي حالِهم في الضلالة ما لا يزيد عليه فإن الاختلافَ بعد حصول تلك المرتبةِ مما لا يصدر عن العاقل وقوله تعالى: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي حسداً كائناً بينهم وطلباً للرياسة لا لشبهة وخفاءٍ في الأمر، تشنيعٌ إثرَ تشنيعٍ.
{وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله} أي بآياته الناطقةِ بما ذكر من أن الدينَ عند الله تعالى هو الإسلامُ ولم يعمَلْ بمقتضاها أو بأية آيةٍ كانت من آياته تعالى على أن يدخل فيها ما نحن فيه دخولاً أولياً {فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} قائمٌ مقامَ جوابِ الشرطِ علةٌ له أي ومن يكفرْ بآياته فإنه يجازيه ويعاقبه عن قريب فإنه سريعُ الحساب أي يأتي حسابُه عن قريب أو يتم ذلك بسرعة، وإظهارُ الجلالة لتربية المهابة وإدخالِ الروعة، وفي ترتيب العقاب على مطلق الكفرِ بآياته تعالى من غير تعرضٍ لخصوصية حالِهم من كون كفرِهم بعد إيتاء الكتاب وحصولِ الاطلاع على ما فيه وكونِ ذلك للبغي دلالةٌ على كمال شدة عقابهم {فَإنْ حَاجُّوكَ} أي في كون الدين عند الله الإسلامَ أو جادلوك فيه بعد ما أقمت عليهم الحجج {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ} أي أخلصتُ نفسي وقلبي وجملتي، وإنما عبر عنها بالوجه لأنه أشرفُ الأعضاء الظاهرة ومظهرُ القُوى والمشاعر ومجمعُ معظم ما تقع به العبادةُ من السجودِ والقراءة وبه يحصل التوجُّه إلى كل شيء {لِلَّهِ} لا أشرك به فيها غيرَه وهو الدينُ القويم الذي قامت عليه الحججُ ودعت إليه الآياتُ والرسلُ عليهم السلام {وَمَنِ اتبعن} عطفٌ على المتصل في أسلمتُ وحسُن ذلك لمكان الفصل الجاري مجرى التأكيد بالمنفصل أي وأسلم من اتبعني أو مفعول معه {وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب} أي من اليهود والنصارى، وُضِع الموصولُ موضعَ الضمير لرعاية التقابل بين وصفي المتعاطِفَيْن {والاميين} أي الذين لا كتابَ لهم من مشركي العرب {ءأَسْلَمْتُمْ} متّبعين لي كما فعل المؤمنون فإنه قد أتاكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه لا محالة فهل أسلمتم وعمِلتم بمقتضاها، أو أنتم على كفركم بعدُ؟ كما يقول من لخّص لصاحبه المسألة ولم يدَعْ من طرق التوضيح والبيان مسلكاً إلا سلكه فهل فهِمتها؟ على منهاج قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} إثرَ تفصيلِ الصوارفِ عن تعاطي الخمر والميسِر وفيه من استقصارهم وتعبيرِهم بالمعاندة وقلةِ الإنصافِ وتوبيخِهم بالبلادة وكلّة القريحةِ ما لا يخفى.
{فَإِنْ أَسْلَمُواْ} أي كما أسلمتم وإنما لم يصرّح به كما في قوله تعالى: {فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ} حسماً لباب إطلاق اسم الإسلام على شيء آخر بالكلية {فَقَدِ اهتدوا} أي فازوا بالحظ الأوفر ونجَوْا عن مهاوي الضلال {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن الاتباع وقَبول الإسلام {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} قائم مقامَ الجواب أي لم يضرّوك شيئاً إذْ ما علي إلا البلاغُ وقد فعلت على أبلغِ وجه، رُوي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآيةَ على أهل الكتاب قالوا: أسلمنا، فقال عليه السلام لليهود: «أتشهدون أن عيسى كلمةُ الله وعبدُه ورسولُه؟» فقالوا: معاذ الله، قال عليه الصلاة والسلام للنصارى: «أتشهدون أن عيسى عبدُ الله ورسولُه؟» فقالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبداً وذلك قولُه عز وجل: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} {والله بَصِيرٌ بالعباد} عالم بجميع أحوالهم وهو تذييل فيه وعد ووعيد.

.تفسير الآية رقم (21):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)}
{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله} أيَّ آيةٍ كانت فيدخُل فيهم الكافرون بالآيات الناطقةِ بحقية الإسلام على الوجه الذي مر تفصيلُه دخولاً أولياً {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ} هم أهلُ الكتاب قتل أوّلوهم الأنبياءَ عليهم السلام وقتلوا أتباعَهم وهم راضون بما فعلوا وكانوا قاتلهم الله تعالى حائمين حول قتلِ النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن عصَم الله تعالى ساحتَه المنيعة، وقد أُشير إليه بصيغة الاستقبال، وقرئ بالتشديد للتكثير، والتقييدُ بغير حق للإيذان بأنه كان عندهم أيضاً بغير حق {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} أي بالعدل، ولعل تكريرَ الفعل للإشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافهما في الوقت، عن أبي عبيدة بن الجراح قلتُ: يا رسول الله أيُّ الناسِ أشدُّ عذاباً يوم القيامة؟ قال: «رجل قتل نبياً، أو رجلاً أمر بمعروف ونهي عن منكر» ثم قرأها ثم قال: «يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيلَ ثلاثةً وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائةٌ واثنا عشرَ رجلاً من عبّاد بني إسرائيل فأمروا قَتلَتهم بالمعروف ونهَوْهم عن المنكر فقُتلوا جميعاً من آخر النهار» وقرئ {ويقاتلون} الذين {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} خبر إن والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط فإنها بالنسخ لا تغير معنى الابتداء بل تزيده تأكيداً وكذا الحال في النسخ بأن المفتوحة كما في قوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شيء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} وكذا النسخ بلكن كما في قوله:
فوالله ما فارقتُكم عن ملالة ** ولكنّ ما يقضى فسوف يكون

وإنما يتغير معنى الابتداء في النسخ بليت ولعل وقد ذهب سيبويه والأخفش إلى منع دخول الفاء عند النسخ مطلقاً فالخبر عندهما.

.تفسير الآيات (22- 23):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}
قوله تعالى: {أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والاخرة} كما في قولك: الشيطانُ فاحذر عدوٌ مبين وعلى الأول هو استئناف واسم الإشارة مبتدأ وما فيه من معنى البعد للدِلالة على ترامي أمرهم في الضلال وبُعد منزلتهم في فظاعة الحال، والموصولُ بما في حيز صلته خبرُه أي أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة أو المبتلون بأسوأ الحال الذين بطلت أعمالُهم التي عمِلوها من البر والحسنات ولم يبق لها أثر في الدارين بل بقي لهم اللعنة والخزيُ في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} ينصرونهم من بأس الله وعذابِه في إحدى الدارين، وصيغةُ الجميع لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعددِ الأنصار من كل واحد منهم كما في قوله تعالى: {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ}.
{أَلَمْ تَرَ} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه الرؤيةُ من حال أهل الكتاب وسوءِ صنيعِهم، وتقرير لما سبق من أن اختلافهم في الإسلام إنما كان بعد ما جاءهم العلم بحقّيته أي ألم تنظرُ {إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} أي التوراةِ على أن اللامَ للعَهدْ وحملُه على جنس الكتبِ الإلهية تطويلٌ للمسافة إذ تمامُ التقريب حينئذ بكون التوراة من جملتها لأن مدار التشنيع والتعجيب إنما هو إعراضُهم عن المحاكمة إلى ما دُعوا إليه وهم لم يُدْعَوا إلا إلى التوراة، والمرادُ بما أوتوه منها ما بُيِّن لهم فيها من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علِموه من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وحقّية الإسلام، والتعبيرُ عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصِه بهم وكونِه حقاً من حقوقهم التي يجبُ مراعاتُها والعملُ بموجبها وما فيه من التنكير للتفخيم، وحملُه على التحقير لا يساعده مقامُ المبالغة في تقبيح حالِهم {يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله} الذي أوتوا نصيباً منه وهو التوراة، والإظهارُ في مقام الإضمار لإيجاب الإجابة، وإضافتُه إلى الاسم الجليلِ لتشريفه وتأكيدِ وجوب المراجعةِ إليه، والجملةُ استئنافٌ مبيِّنٌ لمحل التعجيب مبنيّ على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل: ماذا يصنعون حتى ينظُرَ إليهم؟ فقيل: يُدعون إلى كتاب الله تعالى، وقيل: حال من الموصول {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مِدراسَهم فدعاهم إلى الإيمان فقال له نعيمُ بن عمرو، والحارث بن زيد: على أيّ دين أنت؟ قال عليه الصلاة والسلام: «على ملة إبراهيم» قالا: إن إبراهيمَ كان يهودياً فقال صلى الله عليه وسلم لهما: «إن بيننا وبينكم التوراةَ فهلُمّوا إليها» فأبيا. وقيل: نزلت في الرجم وقد اختلفوا فيه وقيل: {كتاب الله} القرآنُ فإنهم قد علموا أنه كتابُ الله ولم يشكوا فيه، وقرئ {ليُحكَم} على بناء المجهول فيكون الاختلافُ بينهم بأن أسلم بعضُهم كعبد اللَّه بن سلام وأضرابه وعاداهم الآخرون {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ} استبعاد لتولّيهم بعد علمِهم بوجوب الرجوع إليه {وَهُم مُّعْرِضُونَ} إما حال من {فَرِيقٌ} لتخصصه بالصفة أي يتولون من المجلس وهم معرضون بقلوبهم، أو اعتراضٌ أي وهم قوم ديدنُهم الإعراضُ عن الحق والإصرارُ على الباطل.

.تفسير الآيات (24- 26):

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}
{ذلك} إشارة إلى ما مر من التولي والإعراض، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ} أي حاصل بسبب أنهم {قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار} باقتراف الذنوب وركوب المعاصي {إِلا أَيَّامًا معدودات} وهي مقدارُ عبادتهم العجلَ، ورسَخ اعتقادُهم على ذلك وهوّنوا على أنفسهم الخطوب {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من قولهم ذلك وما أشبهه من قولهم: إن آباءنا الأنبياءَ يشفعون لنا أو إن الله تعالى وعد يعقوبَ عليه السلام ألا يعذبَ أولادَه إلا تحِلّةَ القَسَم ولذلك ارتكبوا ما ارتكبوا من القبائح {فَكَيْفَ} ردٌّ لقولهم المذكور وإبطالٌ لما عراهم باستعظام ما سيدهَمُهم وتهويلِ ما سيحيق بهم من الأهوال أي فكيف يكون حالُهم؟ {إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ} أي لجزاءِ يوم {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في وقوعه ووقوعِ ما فيه، روي أن أولَ رايةٍ ترفع يوم القيامة من رايات الكفر رايةُ اليهود فيفضَحُهم الله عز وجل على رؤوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي جزاءَ ما كسبت من غير نقص أصلاً كما يزعُمون، وإنما وُضِع المكسوبُ موضعَ جزائه للإيذان بكمال الاتصالِ والتلازم بينهما كأنهما شيء واحد، وفيه دَلالة على أن العبادة لا تَحْبَط وأن المؤمن لا يخلّد في النار لأن توْفيةَ جزاءِ إيمانِه وعملِه لا تكون في النار ولا قبل دخولها فإذن هي بعد الخلاصِ منها {وَهُمْ} أي كلُّ الناس المدلولِ عليهم بكل نفس {لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة عذابٍ أو بنقص ثواب بل يصيب كلاً منهم مقدارُ ما كسبه {قُلِ اللهم} الميم عوضٌ عن حرف النداء ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص الاسمِ الجليل كدخوله عليه مع حرف التعريفِ وقطعِ همزتِه ودخولِ تاء القسمِ عليه وقيل: أصلُه يا ألله أُمَّنا بخير أي اقصدنا به فخُفف بحذف حرف النداء ومتعلقاتِ الفعل وهمزته {مالك الملك} أي مالك جنسِ المُلك على الإطلاق مُلكاً حقيقياً بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وتعذيباً وإثابةً من غير مشارِك ولا ممانعٍ وهو نداءٌ ثانٍ عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية {تُؤْتِى الملك} بيان ق لبعض وجوه التصرفِ الذي تستدعيه مالكيةُ الملك وتحقيقٌ لاختصاصها به تعالى حقيقةً وكونِ مُلك غيرِه بطريق المجاز كما يُنبىءُ عنه إيثارُ الإيتاءِ الذي هو مجردُ الإعطاء على التمليك المؤْذِن بثبوت المالكيةِ حقيقةً {مَن تَشَاء} أي إيتاءه إياه {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء} أي نزْعَه منه، فالملكُ الأولُ حقيقي عام ومملوكيتُه حقيقية والآخرانِ مجازيان خاصان ونِسبتُهما إلى صاحبهما مجازية، وقيل: الملكُ الأول عام والآخرانِ بعضانِ منه فتأمل. وقيل: المراد بالملك النبوة ونزعُها نقلُها من قوم إلى آخرين {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء} أن تُعِزَّه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما بالنصر والتوفيق {وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} أن تُذِله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعةٍ من الغير ولا مدافعة {بِيَدِكَ الخير} تعريفُ الخير للتعميم، وتقديمُ الخبر للتخصيص أي بقدرتك الخيرُ كلُّه لا بقدرة أحدٍ غيرِك تتصرف فيه قبضاً وبسطاً حسبما تقتضيه مشيئتُك، وتخصيصُ الخير بالذكر لما أنه مقضيٌّ بالذات وأما الشرُّ فمقضيٌّ بالعَرَض إذ ما من شر جزئي إلا وهو متضمِّنٌ لخير كلي أو لأن في حصول الشر دخْلاً لصاحبه في الجملة لأنه من أجزية أعماله، وأما الخير ففضلٌ محضٌ أو لرعاية الأدب أو لأن الكلام فيه فإنه رُوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرةٍ من أهل المدينة أربعين ذِراعاً وأخذوا يحفِرونه خرج من بطن الخندق صخرةٌ كالتل لم تعمَلْ فيها المعاوِلُ فوجهوا سلمانَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخبره فجاء عليه السلام وأخذ منه المِعْول فضربها ضربة صدعَتْها وبرَقَ منها برقٌ أضاء ما بين لابتيها لكأن مِصباحاً في جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون وقال:
«أضاءت لي منها قصورُ الحِيرة كأنها أنياب الكلاب» ثم ضرب الثانية فقال: «أضاءت لي منها القصورُ الحُمْرُ من أرض الروم» ثم ضرب الثالثة فقال: «أضاءت لي قصورُ صنعاء وأخبرني جبريلُ أن أمتي ظاهرةٌ على كلها فأبشروا» فقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يُمنّيكم ويعِدُكم الباطلَ ويخبركم أنه يُبصر من يثربَ قصورَ الحِيرة ومدائن كسرى وأنها تُفتح لكم وأنتم إنما تحفِرون الخندقَ من الفرَق لا تستطيعون أن تبرُزوا فنزلت {إِنَّكَ على كُلّ شيء قَدِيرٌ} تعليل لما سبق وتحقيقٌ له.

.تفسير الآية رقم (27):

{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}
{تُولِجُ اليل فِي النهار} أي تُدخِله فيه بتعقيبه إياه أو بنقص الأول وزيادةِ الثاني {وَتُولِجُ النهار فِي اليل} على أحد الوجهين {وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} أي تنشىء الحيواناتِ من موادها أو من النطفة، وقيل: تخرِجُ المؤمنَ من الكافر {وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} أي تخرج النطفة من الحيوان وقيل: تخرج الكافر من المؤمن {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال أبو العباس المَقَّرِي: ورد لفظُ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجهٍ بمعنى التعب قال تعالى: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} وبمعنى العدد قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وبمعنى المطالبة قال تعالى: {فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} والباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً من فاعل ترزق أو من مفعوله وفيه دَلالةٌ على أن من قدَر على أمثال هاتيك الأفاعيلِ العظامِ المحيِّرة للعقول والأفهام فقُدرته على أن ينزعَ الملكَ من العجم ويُذِلهم ويُؤتيَه العربَ ويُعِزَّهم أهونُ من كل هيّن. عن علي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فاتحة الكتاب وآيةَ الكرسيِّ وآيتين من آل عمران شهد الله أنه {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} و{قُلِ اللهم مالك الملك} إلى قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} معلقاتٌ ما بينهن وبين الله تعالى حجابٌ»، قلن: يا رب تُهبِطُنا إلى أرضك وإلى من يعصيك؟ قال الله تعالى: «إني حلفت أنه لا يقرؤكُنّ أحدٌ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ إلا جعلتُ الجنّةَ مثواه على ما كان منه وأسكنتُه في حظيرة القدس، ونظرت بعيني كل يوم سبعين مرةً وقضيتُ له سبعين حاجة أدناها المغفرة، وأعذتُه من كل عدو وحاسدٍ، ونصرتُه عليهم» وفي بعض الكتب: «أنا الله ملكُ الملوك، قلوبُ الملوكِ ونواصِيهم بيدي فإنِ العبادُ أطاعوني جعلتهم لهم رحمة وإنِ العبادُ عصَوْني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسبِّ الملوك ولكن توبوا إليَّ أُعطِّفْهم عليكم» وهو معنى قوله عليه السلام: «كَما تَكُونُوا يُولَّ عَلَيْكُم».