فصل: تفسير الآيات (28- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (28- 29):

{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)}
{لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء} نُهوا عن موالاتهم لقرابة أو صداقة جاهلية ونحوِهما من أسباب المصادقة والمعاشرة كما في قوله سبحانه: {الحكيم ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} وقولِه تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} حتى لا يكونَ حبهم ولا بغضهم إلا لله، أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية {مِن دُونِ المؤمنين} في موضع الحال أي متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالاً أو اشتراكاً وفيه إشارة إلى أنهم الأحقاءُ بالموالاة وأن في موالاتهم مندوحةً عن موالاة الكفرة {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي اتخاذَهم أولياءَ، والتعبيرُ عنه بالفعل للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره {فَلَيْسَ مِنَ الله} أي من ولايته تعالى {فِي شَىْء} يصِح أن يُطلق عليه اسمُ الولاية فإن موالاة المتعاديَيْن مما لا يكاد يدخُل تحت الوقوع قال:
تودُّ عدوِّي ثم تزعُم أنني ** صديقُك ليس النَّوْكُ عنك بعازبِ

والجملة اعتراضية. قوله تعالى: {إِلا أَن تَتَّقُواْ} على صيغة الخطابِ بطريق الالتفاتِ استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال، والعامل فعل النهي معتبَراً فيه الخطابُ كأنه قيل: لا تتخذوهم أولياءَ ظاهراً أو باطناً في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم {مِنْهُمْ} أي من جهتهم {تقاة} أي اتقاءً أو شيئاً يجب اتقاؤه على أن المصدر واقعٌ موقعَ المفعول فإنه يجوز إظهارُ الموالاة حينئذ مع اطمئنان النفس بالعداوة والبغضاء وانتظار زوالِ المانع من قَشْر العصا وإظهار ما في الضمير كما قال عيسى عليه السلام: كن وسَطاً وامشِ جانباً. وأصلُ (تقاة) وُقْيَةً ثم أبدلت الواو تاءً كتُخمة وتُهمة وقلبت الياء ألفاً وقرئ {تُقْيةً} {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} أي ذاتَه المقدسة فإن جواز إطلاقِ لفظِ النفسِ مراداً به الذاتُ عليه سبحانه بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين، وقد صرح بعضُ محققي المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات بلا مشاكلة، وفيه من التهديد ما لا يخفى عُظْمُه، وذكرُ النفس للإيذان بأن له عقاباً هائلاً لا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة {وإلى الله المصير} تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتماً {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ} من الضمائر التي من جملتها ولايةُ الكفرةِ {أَوْ تُبْدُوهُ} فيما بينكم {يَعْلَمْهُ الله} فيؤاخذْكم بذلك عند مصيرِكم إليه، وتقديمُ الإخفاء على الإبداء قد مر سره في تفسير قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} {وَيَعْلَمُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض} كلامٌ مستأنف غيرُ معطوف على جواب الشرط وهو من باب إيرادِ العام بعد الخاص تأكيداً له وتقريراً {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدِرُ على عقوبتكم بما لا مزيدَ عليه إن لم تنتهوا عما نُهيتم عنه، وإظهارُ الاسم الجليل في موضع الإضمارِ لتربية المهابة وتهويلِ الخطب وهو تذييلٌ لما قبله مبين لقوله تعالى: {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} بأن ذاته المقدسةَ المتميزةَ عن سائر الذوات المتصفةَ بما لا يتصف به شيء منها من العلم الذاتي المتعلقِ بجميع المعلومات متصفةٌ بالقدرة الذاتية الشاملةِ لجميع المقدورات بحيث لا يخرُج من ملكوته شيءٌ قطُّ.

.تفسير الآيات (30- 31):

{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)}
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ} أي من النفوس المكلفة {مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} عندها بأمر الله تعالى وفيه من التهويل ما ليس في حاضراً {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء} عطف على {مَّا عَمِلَتْ} والإحضار معتبرٌ فيه أيضاً إلا أنه خُص بالذكر في الخير للإشعار بكون الخير مراداً بالذات وكونِ إحضارِ الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية {تَوَدُّ} عامل في الظرف والمعنى تود وتتمنى يوم تجد صحائفَ أعمالها من الخير والشر أن أجزِيتَها محْضَرة {لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} أي بين ذلك اليوم {أَمَدَا بَعِيدًا} لشدة هوله وفي إسناد الود إلى كل نفس سواءٌ كان لها عملٌ سيء أو لا بل كانت متمحِّضةً في الخير من الدلالة على كمال فظاعةِ ذلك اليوم وهول مطلعِه ما لا يخفى، اللهم إنا نعوذ بك من ذلك ويجوز أن يكون انتصابُ يومَ على المفعولية بإضمار اذكروا وتودّ إما حال من كل نفس أو استئنافٌ مبني على السؤال أي اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشر محضراً وادّةً أن بينها وبينه أمداً بعيداً أو كأن سائلاً قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم: فماذا يكون إذ ذاك؟ قيل: تود لو أن بينها إلخ أو {تَجِدُ} مقصورٌ على ما عملت من خير، وتود خبرُ ما عملت من سوء ولا تكون ما شرطية لارتفاع تود وقرئ {ودّت} فحينئذ يجوز كونُها شرطيةً لكن الحمل على الخبر أوقعُ معنىً لأنها حكايةُ حالً ماضية وأوفقُ للقراءة المشهورة {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} تكرير لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لإفادة ما يفيده قوله عز وجل: {والله رَءوفٌ بالعباد} من أن تحذيرَه تعالى من رأفته بهم ورحمتِه الواسعةِ أو أن رأفته بهم لا تمنعُ تحقيقَ ما حذّرهُموه من عقابه وأن تحذيرَه ليس مبنياً على تناسي صفةِ الرأفة بل هو متحققٌ مع تحققها أيضاً كما في قوله تعالى: {ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} فالجملة على الأول اعتراضٌ، وعلى الثاني حال وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى} المحبة ميلُ النفس إلى الشيء لكمالٍ أدركتْه فيه بحيث يحمِلها على ما يقرّبها إليه، والعبدُ إذا علم أن الكمالَ الحقيقيَّ ليس إلا الله عز وجل وأن كلَّ ما يراه كمالاً من نفسه أو من غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبُّه إلا لله وفي الله، وذلك مقتضى إرادةِ طاعته والرغبةِ فيما يقرّبه إليه، فلذلك فُسِّرت المحبةُ بإرادة الطاعة وجُعلت مستلزِمةً لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادته والحرصِ على مطاوعته {يُحْبِبْكُمُ الله} أي يرضَ عنكم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي يكشفِ الحجبَ عن قلوبكم بالتجاوز عما فرَطَ منكم فيقرّبكم من جناب عزِّه ويبوِّئُكم في جوار قدْسِه، عبّر عنه بالمحبة بطريق الاستعارة أو المشاكلة {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لمن يتحبّب إليه بطاعته ويتقرّب إليه باتباع نبيِّه عليه الصلاة والسلام فهو تذييلٌ مقررٌ لما قبله مع زيادة وعد الرحمةِ، ووضعُ الاسمِ الجليل موضع الضمير للإشعار باستتباع وصفِ الألوهية للمغفرة والرحمة، روي أنها نزلت لما قالت اليهودُ: نحن أبناءُ الله وأحباؤه، وقيل: نزلت في وفد نجرانَ لما قالوا: إنا نعبدُ المسيحَ حباً لله تعالى، وقيل: في أقوام زعَموا على عهده عليه الصلاة والسلام أنهم يُحبون الله تعالى فأُمروا أن يجعلوا لقولهم مِصداقاً من العمل.

.تفسير الآيات (32- 33):

{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)}
{قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} أي في جميع الأوامرِ والنواهي فيدخلُ في ذلك الطاعةُ في اتباعه عليه الصلاة والسلام دخولاً أولياً، وإيثارُ الإظهار على الإضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الإطاعة والإشعارِ بعلّتها فإن الإطاعة المأمورَ بها إطاعتُه عليه الصلاة والسلام من حيث إنه رسولُ الله لا من حيث ذاتُه ولا ريب في أن عنوانَ الرسالة من موجبات الإطاعةِ ودواعيها {فَإِن تَوَلَّوْاْ} إما من تمام مقولِ القول فهي صيغة المضارعِ المخاطَب بحذف إحدى التاءين أي تتولوا وإما كلام متفرِّعٌ عليه مَسوقٌ من جهته تعالى فهي صيغةُ الماضي الغائب، وفي ترك ذكرِ احتمالِ الطاعةِ كما في قوله تعالى: {فَإِنْ أَسْلَمُواْ} تلويحٌ إلى أنه غيرُ محتمَلٍ منهم {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} نفي المحبة كنايةٌ عن بغضه تعالى لهم وسُخطِه عليهم أي لا يرضى عنهم ولا يثني عليهم، وإيثارُ الإظهارِ على الإضمار لتعميم الحكمِ لكل الكفَرَة والإشعار بعلّته فإن سخطه تعالى عليهم بسبب كفرهم والإيذان بأن التولّيَ عن الطاعة كفرٌ وبأن محبتَه عز وجل خاصة بالمؤمنين.
{إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} لما بيّن الله تعالى أن الدين المرضيِّ عنده هو الإسلامُ والتوحيدُ وأن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغي والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوطٌ باتباع الرسولِ صلى الله عليه وسلم وطاعته شرَعَ في تحقيق رسالته وكونِه من أهل بيت النبوة القديمةِ فبدأ ببيان جلالةِ أقدارِ الرسل عليهم الصلاة والسلام كافةً وأتبعه ذكرَ مبدأ أمرِ عيسى عليه الصلاة والسلام وأمِّه وكيفيةِ دعوتِه للناس إلى التوحيد والإسلام تحقيقاً للحق وإبطالاً لما عليه أهلُ الكتابين في شأنهما من الإفراط والتفريط ثم بين بطلانَ مُحاجّتهم في إبراهيم عليه الصلاة والسلام وادعائِهما الانتماءَ إلى ملته ونزّه ساحتَه العلية عما هم عليه من اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميعَ الرسل عليهم الصلاة والسلام دعاةٌ إلى عبادة الله عز وجل وحده وطاعتِه منزَّهون عن احتمال الدعوة إلى عبادة أنفسِهم أو غيرِهم من الملائكة والنبيين وأن أممهم قاطبةً مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسولٍ مصدقٍ لما معهم تحقيقاً لوجوب الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه المصدِّق لما بين يديه من التوراة والإنجيل ووجوب الطاعة له حسبما سيأتي تفصيلُه، وتخصيصُ آدمَ عليه الصلاة والسلام بالذكر لأنه أبو البشر ومنشأ النبوة وكذا حالُ نوحٍ عليه السلام فإنه آدمُ الثاني، وأما ذكرُ آل إبراهيمَ فلترغيب المعترفين باصطفائهم في الإيمان بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم واستمالتِهم نحوَ الاعترافِ باصطفائه بواسطة كونِه من زُمرتهم مع ما مر من التنبيه على كونه عليه الصلاة والسلام عريقاً في النبوة من زمرة المصطفَيْنَ الأخيار، وأما ذكرُ آلِ عمرانَ مع اندراجهم في آل إبراهيمَ فلإظهار مزيدِ الاعتناء بتحقيق أمرِ عيسى عليه الصلاة والسلام لكمال رسوخِ الخلاف في شأنه فإن نسبةَ الاصطفاءِ إلى الأب الأقرب أدلُّ على تحققه في الآل وهو الداعي إلى إضافة الآلِ إلى إبراهيمَ دون نوحٍ وآدمَ عليهم الصلاة والسلام، والاصطفاء أخذُ ما صفا من الشيء كالاستصفاء، مثّل به اختيارَه تعالى إياهم النفوسَ القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانيةِ والكمالاتِ الجُسمانية المستتبعةِ للرسالة في نفس المصطفى كما في كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام، أو فيمن يلابسه وينشأ منه كما في مريمَ، وقيل: اصطفى آدمَ عليه الصلاة والسلام بأن خلقه بيده في أحسنِ تقويمٍ وبتعليم الأسماء وإسجادِ الملائكة له وإسكانِ الجنة، واصطفى نوحاً عليه الصلاة والسلام بكونه أولَ من نسخ الشرائعَ إذ لم يكن قبل ذلك تزويجُ المحارم حراماً وبإطالة عُمره وجعْلِ ذريتِه هم الباقين واستجابةِ دعوتِه في حق الكفرة والمؤمنين، وحملِه على متن الماء، والمرادُ بآل إبراهيمَ إسماعيلُ وإسحاقُ والأنبياءُ من أولادهما الذين من جملتهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأما اصطفاءُ نفسِه عليه الصلاة والسلام فمفهومٌ من اصطفائهم بطريق الأولوية، وعدمُ التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرةِ أمرِه في الخِلّة وكونِه إمامَ الأنبياء وقدوةً للرسل عليهم الصلاة والسلام وكونِ اصطفاء آله بدعوته بقوله: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ} الآية، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ». وبآل عمرانَ عيسى وأمُّه مريمُ ابنةُ عِمرانَ بنِ ماثانَ بنِ أبي بور بن رب بابل بن ساليان بن يوشيان بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحز بن يوثم بن عزياهو بن يهوشافاط بن أسا بن رحبعم بن سليمانَ بنِ داودَ عليهما الصلاة والسلام ابن بيشا بن عوفيذ بن بوعز بن سلمون بن نحشون بن عمينوذب بن رم بن حصرون بن بارص بن يهوذا بنِ يعقوبَ عليه الصلاة والسلام، وقيل: موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه الصلاة والسلام وبين العمرانين ألفٌ وثمانمائة سنة فيكون اصطفاءُ عيسى عليه الصلاة والسلام حينئذ بالاندراج في آل إبراهيمَ عليه السلام والأولُ هو الأظهرُ بدليل تعقيبِه بقصة مريمَ واصطفاءِ موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام بالانتظام في سلك آلِ إبراهيمَ عليه السلام انتظاماً ظاهراً، والمرادُ بالعالمين أهلُ زمان كل واحدٍ منهم أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه.

.تفسير الآية رقم (34):

{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}
{ذُرّيَّةِ} نُصب على البدلية من الآلَيْن أو على الحالية منهما وقد مر بيانُ اشتقاقها في قوله تعالى: {وَمِن ذُرّيَتِى} وقوله تعالى: {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} في محل النصب على أنه صفةٌ لذرية أي اصطفى الآلَيْن حالَ كونهم ذريةً متسلسلةً متشعّبةَ البعضِ من البعض في النسَب كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لكونه ذرية وقيل: بعضُها من بعض في الدين فالاستمالةُ على الوجه الأول تقريبيةٌ وعلى الثاني برهانية {والله سَمِيعٌ} لأقوال العباد {عَلِيمٌ} بأعمالهم البادية والخافية فيصطفي مِن بينِهم لخِدمته مَنْ تظهر استقامتُه قولاً وفعلاً على نهج قوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} والجملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها.

.تفسير الآية رقم (35):

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)}
{إِذْ قَالَتِ امرأت عمران} في حيِّز النصب على المفعولية بفعل مقدَّرٍ على طريقة الاستئنافِ لتقرير اصطفاءِ آلِ عمرانَ وبيانِ كيفيته أي اذكر لهم وقت قولِها إلخ وقد مر مراراً وجهُ توجيهِ التذكيرِ إلى الأوقات مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث، وقيل: هو منصوبٌ على الظرفية لما قبله أي سميع لقولها المحكيِّ عليمٌ بضميرها المَنْويّ، وقيل: هو ظرفٌ لمعنى الاصطفاء المدلول عليه باصطفى المذكور كأنه قيل: واصطفى آلَ عمران إذ قالت إلخ فكان من عطف الجُمل على الجمل دون عطفِ المفردات على المفردات ليلزَمَ كونُ اصطفاءِ الكلِّ في ذلك الوقت، وامرأةُ عمرانَ هي حنّةُ بنتُ فاقوذا جدةُ عيسى عليه الصلاة والسلام وكانت لعِمرانَ بنِ يَصْهرَ بنتٌ اسمُها مريمُ أكبرُ من موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام فظن أن المراد زوجتُه وليس بذاك، فإن قضيةَ كفالةِ زكريا عليه الصلاة والسلام قاضيةٌ بأنها زوجةُ عمرانَ بنِ ماثانَ لأنه عليه الصلاة والسلام كان معاصراً له وقد تزوج إيشاع أختَ حنة أم يحيى عليه الصلاة والسلام وأما قولُه عليه الصلاة والسلام في شأن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام: «هما ابنا خالة» فقيل: تأويلُه أن الأختَ كثيراً ما تُطلق على بنت الأخت وبهذا الاعتبار جعلهما عليهما الصلاة والسلام ابنيْ خالة وقيل: كانت إيشاعُ أختَ حنةَ من الأم وأختَ مريمَ من الأب، على أن عمرانَ نكحَ أولاً أمَّ حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناءً على نكاح الربائبِ في شريعتهم فولدَتْ مريمَ فكانت إيشاعُ أختَ مريمَ من الأب وخالتَها من الأم لأنها أخت حنة من الأم، روي أنها كانت عجوزاً عاقراً فبينما هي ذاتَ يوم في ظل شجرة إذ رأت طائراً يُطعم فرخَه فحنّت إلى الولد، وتمنتْه، وقالت: اللهم إن لك عليَّ نذراً إن رَزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكونَ من سَدَنته. وكان هذا النذرُ مشروعاً عندهم في الغلمان ثم هلك عِمرانُ وهي حامل. وحينئذ فقولها: {رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} لابد من حمله على التكرير لتأكيد نذرِها وإخراجِه عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز، والتعرضُ لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاحُ المربوب مع الإضافة إلى ضميرها لتحريك سلسلة الإجابة، ولذلك قيل: إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدعُ الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته، وتأكيدُ الجملة لإبراز وفورِ الرغبة في مضمونها، وتقديمُ الجارّ والمجرور لكمال الاعتناءِ به، وإنما عُبّر عن الولد (بما) لإبهام أمرِه وقصورِه عن درجه العقلاء {مُحَرَّرًا} أي مُعْتقاً لخدمة بيتِ المقدس لا يشغَلُه شأن عنه، أو مُخلَصاً للعبادة، ونصبُه على الحالية من الموصول والعامل فيه {نَذَرْتُ} وقيل: من ضميره في الصلة والعامل معنى الاستقرار فإنها في قوة ما استقر في بطني، ولا يخفى أن المراد تقييدُ فعلِها بالتحرير ليحصُل به التقربُ إليه تعالى لا تقييدُ ما لا دخلَ لها فيه من الاستقرار في بطنها {فَتَقَبَّلْ مِنّي} أي ما نذرتُه والتقبُّل أخذُ الشيء على وجه الرضا وهذا في الحقيقة استدعاءٌ للولد إذ لا يُتصور القَبولُ بدون تحقيق المقبول بل للولد الذكَرِ لعدم قَبول الأنثى {إِنَّكَ أَنتَ السميع} لجميع المسموعات التي من جملتها تضرعي ودعائي {العليم} بكل المعلومات التي من زمرتها ما في ضميري لا غير، وهو تعليلٌ لاستدعاء القبول لا من حيث إن كونه تعالى سميعاً لدعائها عليماً بما في ضميرها مصحّحٌ للتقبل في الجملة بل من حيث إن علمَه تعالى بصحة نيتها وإخلاصِها مستدعٍ لذلك تفضلاً وإحساناً، وتأكيدُ الجملة لعرض قوةِ يقينها بمضمونها، وقصرُ صفتي السمعِ والعلم عليه تعالى لعرض اختصاص دعائِها به تعالى وانقطاعِ حبل رجائها عما عداه بالكلية مبالغةً في الضراعة والابتهال.