فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (36):

{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)}
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} أي ما في بطنها، وتأنيثُ الضمير العائد إليه لما أن المقامَ يستدعي ظهورَ أنوثتِه واعتبارَه في حيز الشرط إذ عليه يترتب جوابُ لما، أعني قوله تعالى: {قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى} لا على وضع ولدٍ ما كأنه قيل: فلما وضعت بنتاً قالت الخ، قيل: تأنيثُه لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله تعالى أو لأنه مؤوّلٌ بالمرة من الحَبَل أو النفْس أو النَّسَمة وأنت خبير بأن اعتبارَ شيءٍ مما ذُكر في حيز الشرط لا يكون مداراً لترتب الجواب عليه وقولُه تعالى: {أنثى} حال مؤكّدة من الضمير أو بدلٌ منه، وتأنيثُه للمسارعة إلى عَرْض ما دَهَمها من خيبة الرجاء أو لما مر من التأويل بالحبْلةِ أو النسمة فالحال حينئذ مبيِّنة وإنما قالته تحزُّناً وتحسّراً على خيبة رجائِها وعكسِ تقديرِها لما كانت ترجو أن تلدَ ذكَراً ولذلك نذرَتْه محرّراً للسِّدانة، والتأكيدُ للرد على اعتقادها الباطل {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} تعظيمٌ من جهته تعالى لموضوعها وتفخيمٌ لشأنه وتجهيلٌ لها بقدره أي والله أعلم بالشيء الذي وضعتْه وما علِقَ به من عظائم الأمور وجعلِه وابنَه {للعالمين} وهي غافلةٌ عن ذلك والجملة اعتراضية وقرئ {وَضَعَتْ} على خطاب الله تعالى لها أي إنك لا تعلمين قدرَ هذا الموهوبِ وما أودع الله فيه من علو الشأنِ وسموِّ المقدار وقرئ {وَضَعَتْ} على صيغة التكلم مع الالتفات من الخطاب إلى الغَيبة إظهاراً لغاية الإجلال فيكون ذلك منها اعتذاراً إلى الله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلُح لما نذرته من السدانة، أو تسليةً لنفسها على معنى لعل لله تعالى فيه سراً وحكمة ولعل هذه الأنثى خيرٌ من الذكر فوجهُ الالتقاتِ حينئذ ظاهر وقوله تعالى: {وَلَيْسَ الذكر كالانثى} اعتراض آخرُ مبيِّن لما في الأول من تعظيم الموضوعِ ورفع منزلتِه، واللامُ في الذكَر والأنثى للعهد أي ليس الذكرُ الذي كانت تطلُبه وتتخيل كماله ليكون كواحد من السَّدَنة كالأنثى التي وُهِبتْ لها فإن دائرةَ علمِها وأمنيتها لا تكاد تُحيط بما فيها من جلائل الأمور. هذا على القراءتين الأُولَيَيْن وأما على التفسير الأخير للقراءة الأخيرة فمعناه وليس الذكر كهذه الأنثى في الفضيلة بل أدنى منها، وأما على تفسير الأول لها فمعناها تأكيدُ الاعتذارُ ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية وصلاحيةِ خدمة المتعبّدات فإنهن بمعزل من ذلك فاللامُ للجنس، وقوله تعالى: {وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} عطف على إني وضعتُها أنثى وغرضُها من عَرْضها على علام الغيوب التقربُ إليه تعالى واستدعاءُ العصمة لها فإن مريمَ في لغتهم بمعنى العابدة. قال القرطبي: معناه خادمُ الرب، وإظهارُ أنها غيرُ راجعة عن نيّتها وإن كان ما وضعته أنثى وأنها وإن لم تكن خليقةً بسِدانة بيت المقدس فلتكنْ من العابدات فيه {وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ} عطف على إني سميتها وصيغةُ المضارع للدَلالة على الاستمرار أي أُجيرُها بحفظك، وقرئ بفتح ياء المتكلم في المواضع التي بعدها همزةٌ مضمومة إلا في موضعين: {بِعَهْدِى أُوفِ} {اتُونِى أُفْرِغْ} {وَذُرّيَّتَهَا} عطف على الضمير، وتقديمُ الجار والمجرور عليه لإبراز كمالِ العناية به {مِنَ الشيطان الرجيم} أي المطرود، وأصلُ الرجم الرميُ بالحجارة. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولودٍ يولد إلا والشيطانُ يَمَسه حين يولد فيستهِلُّ صارخاً من مسّه إلا مريمَ وابنَها» ومعناه أن الشيطان يطمع في إغواء كلِّ مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها فإن الله تعالى عصَمهما ببركة هذه الاستعاذة.

.تفسير الآية رقم (37):

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}
{فَتَقَبَّلَهَا} أي أخذ مريمَ ورضيَ بها في النذر مكانَ الذكَر {رَبُّهَا} مالكها ومُبلِّغها إلى كمالها اللائق بها وفيه من تشريفَها ما لا يخفى {بِقَبُولٍ حَسَنٍ} قيل: الباء زائدة والقَبول مصدرٌ مؤكِّد للفعل السابق بحذف الزوائد أي تقبّلها قبولاً حسناً وإنما عدَلَ عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبُّل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فإن صيغة التفعُّل مُشعِرةٌ بحسب أصل الوضعِ بالتكليف، وكونِ الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المرادُ بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوةِ الفعل وكثرتِه وقيل: القبولُ ما يقبل به الشيء كالسَّعوط واللَّدود لما يُسعَط به ويلُدّ، وهو اختصاصُه تعالى إياها بإقامتها مُقام الذكَر في النَّذر، ولم تُقبلْ قبلها أنثى أو بأنْ تُسلِّمها أمُّها عَقيبَ الولادة قبل أن تنشأ وتصلُحَ للسِّدانة. روي أن حنة حين ولدتها، لفّتها في خرقة، وحملتْها إلى بيت المقدس، ووضعتها عند الأحبار أبناءِ هارونَ وهم في بيت المقدس كالحَجَبة في الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنتَ إمامِهم، وصاحبِ قُربانهم، فإن بني ماثانَ كانت رؤوسَ بني إسرائيلَ وملوكَهم، وقيل: لأنهم وجدوا أمرَها وأمرَ عيسى عليه الصلاة والسلام في الكتب الإلهية فقال زكريا عليه الصلاة والسلام: «أنا أحقُّ بها لأن عندي خالتَها» فأبوا إلا القُرْعةَ، وكانوا سبعةً وعشرين، فانطلقوا إلى نهر فألقَوْا فيه أقلامَهم فطفا قلمُ زكريا ورسبَتْ أقلامُهم فتكفلها. وقيل: هو مصدر وفيه مضافٌ مقدرٌ أي فتقبلها بذي قبولٍ أي بأمرٍ ذي قَبول حسن، وقيل: تقبّل بمعنى استقبل كتقصَّى بمعنى استقصى وتعجَّل بمعنى استعجل أي استقبلها في أول أمرِها حين وُلدت بقبول حسن {وَأَنبَتَهَا} مجازٌ عن تربيتها بما يُصلِحها في جميع أحوالها {نَبَاتًا حَسَنًا} مصدر مؤكّدٌ للفعل المذكور بحذف الزوائد وقيل: بل لفعل مُضمر موافقٍ له تقديرُه فنبتت نباتاً حسناً {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي جعله عليه الصلاة والسلام كافلاً لها وضامناً لمصالحها قائماً بتدبير أمورِها لا على طريقة الوحي بل على ما ذُكر من التفصيل فإن رغبتَه عليه الصلاة والسلام في كفالتها وطُفوَّ قلمِه ورسوبَ أقلامِهم وغيرَ ذلك من الأمور الجارية بينهم كلُّها من آثار قدرته تعالى، وقرئ {أَكفلَها} وقرئ {زكرياءَ} بالنصب والمد وقرئ بتخفيف الفاء وكسرِها ورفع زكرياءُ ممدوداً وقرئ {وتقبَّلْها ربَّها} {وأنبِتْها} {وكفَّلْها} على صيغة الأمر في الكل ونصبِ ربها على الدعاء أي فاقبلها يا ربها وربِّها تربيةً حسنةً واجعلْ زكريا كافلاً لها فهو تعيينٌ لجهة التربية. قيل: بنى عليه الصلاة والسلام لها مِحْراباً في المسجد أي غرفةً يُصعد إليها بسُلّم وقيل: المحرابُ أشرفُ المجالس ومُقدَّمُها كأنها وضعت في أشرف موضعٍ من بيت المقدس وقيل: كانت مساجدُهم تسمى المحاريب.
روي أنه كان لا يدخل عليها إلا هو وحده وإذا خرج غلّق عليها سبعة أبواب {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب} تقديمُ الظرف على الفاعل لإظهار كمالِ العناية بأمرِها ونصبُ المحراب على التوسّع وكلمة {كُلَّمَا} ظرف على أن ما مصدرية والزمان محذوف، أو نكرةٌ موصوفة معناها الوقتُ والعائد محذوفٌ والعامل فيها جوابُها أي كلَّ زمانِ دخولِه عليها أو كلَّ وقتٍ دخل عليها فيه {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} أي نوعاً منه غيرَ معتاد إذ كان ينزل ذلك من الجنة. وكان يجد عندها في الصيف فاكهةَ الشتاء وفي الشتاء فاكهةَ الصيف ولم ترضَعْ ثدياً قط {قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال زكريا عليه الصلاة والسلام عند مشاهدةِ هذه الآية؟ فقيل قال: {قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا} أي من أين جاء لك هذا الذي لا يُشبه أرزاقَ الدنيا والأبوابُ مغلقةٌ دونك؟ وهو دليل على جواز الكرامةِ للأولياء ومن أنكرها جعلَ هذا إرهاصاً وتأسيساً لرسالة عيسى عليه الصلاة والسلام، وأما جعلُه معجزةً لزكريا عليه الصلاة والسلام فيأباه اشتباهُ الأمر عليه، عليه السلام، وإنما خاطبها عليه الصلاة والسلام بذلك مع كونها بمعزلٍ من رتبة الخطاب لما علم بما شاهده أنها مؤيَّدةٌ من عند الله تعالى بالعلم والقدرة {قَالَتْ} استئناف كما قبله كأنه قيل: فماذا صنعت مريمُ وهي صغيرة لا قدرة لها على فهم السؤال ورد الجواب؟ فقيل قالت: {هُوَ مِنْ عِندِ الله} فلا تعجبْ ولا تستبعد {إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء} أن يرزُقَه {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بغير تقدير لكثرته أو بغير استحقاقٍ تفضلاً منه تعالى وهو تعليل لكونه من عند الله إما من تمام كلامِها فيكونُ في محل النصب وإما من كلامه عز وجل فهو مستأنفٌ، روي «أن فاطمة الزهراءَ رضي الله عنها أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغيفين وبضعةَ لحم فرجع بها إليها فقال: هلُمّي يا بنية فكشف عن الطبق فإذا هو مملوءٌ خبزاً ولحماً فقال لها: أنى لك هذا؟ قالت: {هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}، فقال عليه الصلاة والسلام: الحمدُ لله الذي جعلك شبيهةً بسيدة بني إسرائيلَ»، ثم جمع علياً والحسنَ والحسينَ وجميعَ أهلِ بيته رضوانُ الله عليهم أجمعين فأكلوا وشبِعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها.

.تفسير الآية رقم (38):

{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)}
{هُنَالِكَ} كلامٌ مستأنفٌ وقصةٌ مستقلة سيقت في تضاعيف حكايةِ مريمَ لما بينهما من قوة الارتباطِ وشدةِ الاشتباك مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتُها من بيان اصطفاءِ آلَ عمران، فإن فضائلَ بعض الأقرباء أدلةٌ على فضائل الآخَرين، وهنا ظرفُ مكانٍ واللامُ للدِلالة على البُعد والكافُ للخطاب أي في ذلك المكان حيث هو قاعدٌ عند مريمَ في المحراب أو في ذلك الوقت إذ يستعار هنا وثمَةَ وحيث للزمان {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} لما رآى كرامةَ مريمَ على الله ومنزلتَها منه تعالى رغِب في أن يكون له من إيشاعَ ولدٌ مثلُ ولدِ حنّةَ في النجابة والكرامة على الله تعالى وإن كانت عاقِراً عجوزاً فقد كانت حنة كذلك وقيل: لما رأى الفواكهَ في غير إِبّانِها تنبه لجواز ولادةِ العجوز العاقرِ من الشيخ الفاني فأقبل بالدعاء من غير تأخير كما يُنبىء عنه تقديمُ الظرف على الفعل لا على معنى أن ذلك كان هو الموجبَ للإقبال على الدعاء فقط بل كان جزءاً أخيراً من العلة التامة التي من جملتها كِبَرُ سِنّه عليه الصلاة والسلام وضَعفُ قواه وخوفُ مَواليه حسبما فُصِّل في سورة مريم {قَالَ} تفسيرٌ للدعاء وبيانٌ لكيفيته لا محل له من الإعراب {رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ} كلا الجارَّين متعلقٌ بهَبْ لاختلاف معنييهما فاللامُ صلةٌ له و{مِنْ} لابتداء الغايةِ مجازاً أي أعطني من مَحْض قدرتِك من غير وسطٍ معتاد {ذُرّيَّةً طَيّبَةً} كما وهبتَها لحنّةَ، ويجوز أن يتعلق مِنْ بمحذوفٍ وقع حالاً من {ذُرّيَّةِ} أي كائنة من لدنك، والذريةُ النسلُ تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد هاهنا ولدٌ واحد فالتأنيث في الصفة لتأنيث لفظ الموصوف كما في قول من قال:
أبوك خليفةٌ ولدتْه أُخرى ** وأنت خليفةٌ، ذاك الكمالُ

وهذا إذا لم يُقصَدْ به واحدٌ معين أما إذا قُصد به المعيَّنُ امتنع اعتبارُ اللفظِ نحو طلحة وحمزة فلا يجوز أن يقال: جاءت طلحة وذهبت حمز {إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء} أي مجيبُه وهو تعليلٌ لما قبله وتحريكٌ لسلسلة الإجابة.

.تفسير الآية رقم (39):

{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)}
{فَنَادَتْهُ الملئكة} كان المناديَ جبريلُ عليه الصلاة والسلام كما تُفصح عنه قراءةُ من قرأ فناداه جبريلُ، والجمع كما في قولهم: فلان يركب الخيلَ ويلبَس الثياب وما له غيرُ فرس وثوب، قال الزجاج: أي أتاه النداءُ من هذا الجنس الذين هم الملائكة وقيل: لما كان جبرائيل عليه الصلاة والسلام رئيسَهم عَبّر عنه باسم الجماعة تعظيماً له وقيل: الرئيسُ لابد له من أتباع فأسند النداء إلى الكل مع كونه صادراً عنه خاصة وقرئ {فنادِاه} بالإمالة {وَهُوَ قَائِمٌ} جملة حالية من مفعول النداء مقرِّرةٌ لما أفاده الفاءُ من حصول البِشارة عَقيب الدعاء، وقوله تعالى: {يُصَلّى} إما صفةٌ لقائمٌ أو خبرٌ ثانٍ عند من يرى تعدُّدَه عند كونِ الثاني جملةً كما في قوله تعالى: {فَإِذَا هي حَيَّةٌ تسعى} أو حال أخرى منه على القول بتعددها بلا عطف ولا بدلية أو حالٌ من المستكنِّ في قائم وقوله تعالى: {فِى المحراب} أي في المسجد أو في غرفةِ مريمَ متعلق بيصلي أو بقائم على تقدير كونِ يصلّي حالاً من ضمير قائمٌ لأن العامل فيه وفي الحال حينئذ شيء واحد فلا يلزم الفصلُ بالأجنبي كما يلزم على التقادير الباقية.
{أَنَّ الله يُبَشّرُكَ بيحيى} أي بأن الله وقرئ بكسر الهمزة على تقدير القول أو إجراء النداء مُجراه لكونه نوعاً منه وقرئ {يُبْشِرُك} من الإبشار ويَبْشُرُك من الثلاثي وأياً ما كان ينبغي أن يكون هذا الكلام إلى آخره محكياً بعبارته عن الله عز وجل على منهاج قوله تعالى: {قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} الآية، كما يلوح من مراجعته عليه الصلاة والسلام في الجواب إليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك، والعدولُ عن إسناد التبشير إلى نون العظمة حسبما وقع في سورة مريم للجري على سنن الكبرياء كما في قول الخلفاء: أميرُ المؤمنين يرسُم لك بكذا وللإيذان بأن ما حُكي هناك من النداء والتبشير وما يترتّب عليه من المحاورة كان كلُّ ذلك بتوسط الملك بطريق الحِكاية عنه سبحانه لا بالذات كما هو المتبادر، وبهذا يتضح اتحادُ المعنى في السورتين الكريمتين فتأمل. ويحيى اسمٌ أعجمي وإن جعل عربياً فمنعُ صرفه للتعريف ووزن الفعل.
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما سُمّي يحيى لأن الله تعالى أحيا به عُقرَ أمِه. وقال قتادة: لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان، قال القرطبيُّ: كان اسمُه في الكتاب الأول حيا، ولابد من تقدير مضافٍ يعود إليه الحالُ أي بولادة يحيى فإن التبشيرَ لا يتعلق بالأعيان {مُصَدّقاً} حال مقدرة من يحيى {بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} أي بعيسى عليه الصلاة والسلام وإنما سمي كلمة لأنه وجد بكلمة كائنة منه تعالى قيل: هو أولُ من آمن به وصدق بأنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه وقال السدي: لقِيَتْ أم يحيى أم عيسى فقالت: «يا مريم أشَعرتِ بحبَلي؟»، فقالت مريم: «وأنا أيضاً حُبلى»، قالت: «فإني وجدتُ ما في بطنك»، فذلك قوله تعالى: {مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ} إلخ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «إن يحيى كان أكبرَ من عيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهرٍ»، وقيل: بثلاث سنين، وقتل قبل رفعِ عيسى عليهما الصلاة والسلام بمدة يسيرةٍ وعلى كل تقديرٍ يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمانٌ مديد لما أن مريمَ ولَدت وهي بنتُ ثلاثَ عشرةَ سنة أو بنتُ عشرِ سنين وقيل: {بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} أي بكتابِ الله سمّي كلمةً كما قيل: كلمة الحويدرة لقصيدته {وَسَيّدًا} عطفٌ على مصدقاً أي رئيساً يسود قومَه ويفوقهم في الشرف وكان فائقاً للناس قاطبةً فإنه لم يُلِمَّ بخطيئة ولم يَهُمَّ بمعصية فيا لها من سيادة ما أسناها {وَحَصُورًا} عطف على ما قبله أي مبالِغاً في حصر النفس وحبسِها عن الشهوات مع القدرة، روي أنه مرَّ في صباه بصبيان فدعَوْه إلى اللعب فقال: «ما لِلَّعب خُلقنا» {وَنَبِيّا} عطف على ما قبله مترتب على ما عُدِّد من الخصال الحميدة {مّنَ الصالحين} أي ناشئاً منهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو كائناً من جملة المشهورين بالصلاح كما في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الاخرة لَمِنَ الصالحين} والمراد بالصلاح ما فوق الصلاحِ الذي لابد منه في منصِب النبوة من أقاصي مراتبه، وعليه مبنيٌّ دعاءُ سليمانَ عليه السلام: {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين}