فصل: تفسير الآية رقم (40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (40):

{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)}
{قَالَ} استئناف مبني عن السؤال كأنه قيل: فماذا قال زكريا عليه السلام حينئذ؟ فقيل قال: {رَبّ} لم يخاطِب الملَكَ المناديَ له بملابسة أنه المباشرُ للخطاب وإن كان ذلك بطريق الحكاية عنه تعالى بل جرى نهجُ دعائه السابق مبالغةً في التضرع والمناجاة وجِدّاً في التبتل إليه تعالى واحترازاً عما عسى يوهم خطابُ الملَكِ من توهّم أن علمه سبحانه بما يصدُر عنه يتوقف على توسّطه كما يتوقف وقوفُ البشر على ما يصدر عنه سبحانه على توسّطه في عامة الأحوال وإن لم يتوقف عليه في بعضها {أنى يَكُونُ لِي غلام} فيه دَلالةٌ على أنه قد أخبر بكونه غلاماً عند التبشير كما في قوله تعالى: {إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى} وأنى بمعنى كيف أو من أين وكان تامة وأنى واللام متعلقتان بها وتقديمُ الجارِّ على الفاعل لما مر مراراً من الاعتناء بما قُدم والتشويقِ إلى ما أُخر، أي كيف أو من أين يحدُث لي غلام ويجوزُ أن تتعلق اللامُ بمحذوف وقع حالاً من غلام إذ لو تأخر لكان صفة له، أو ناقصة واسمُها ظاهرٌ وخبرها إما أنى واللام متعلقة بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى منصوب على الظرفية {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} حال من ياء المتكلم أي أدركني كِبَرُ السِّنِّ وأثّر فيَّ، كقولهم: أدركته السنُّ وأخذته السن، وفيه دلالةٌ على أن كبرَ السن من حيث كونُه من طلائع الموت طالبٌ للإنسان لا يكاد يتركه، قيل: كان له تسعٌ وتسعون سنة، وقيل: اثنتان وتسعون، وقيل: مائة وعشرون، وقيل: ستون، وقيل: خمس وستون، وقيل: سبعون، وقيل: خمس وسبعون، وقيل: خمس وثمانون ولامرأته ثمانٍ وتسعون {وامرأتى عَاقِرٌ} أي ذاتُ عُقر وهو أيضاً حال من الياء في لي عند من يجوز تعدد الحال أو من ياء {بَلَغَنِي} أي كيف يكون لي ذلك والحال أني وامرأتي على حالة منافية له كلَّ المنافاة وإنما قاله عليه الصلاة والسلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه لاسيما بعد مشاهدته عليه الصلاة والسلام للشواهد السالفة استعظاماً لقدرة الله سبحانه وتعجيباً منها واعتداداً بنعمته عز وجل عليه في ذلك لا استبعاداً له وقيل: بل كان ذلك للاستبعاد حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنةً وكان قد نسِيَ دعاءَه وهو بعيد، وقيل: كان ذلك استفهاماً عن كيفية حدوثه {قَالَ} استئناف كما سلف {كذلك} إشارةٌ إلى مصدر {يَفْعَلُ} في قوله عز وجل: {الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} أي ما يشاء أن يفعلَه من عجيب الأفاعيل الخارقةِ للعادات فالله مبتدأ ويفعل خبره والكاف في محل النصب على أنها في الأصل نعتٌ لمصدر محذوف أي الله يفعل ما يشاء أن يفعله فعلاً مثلَ ذلك الفعل العجيبِ والصنعِ البديعِ الذي هو خلقُ الولد من شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقر، فقُدِّم على العامل لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه، واعتبرت الكافُ مقحمةً لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} أو على أنها حال من ضمير المصدرِ المقدر معرِفةٌ أي يفعل ما يشاء بيانٌ لذلك الشأن المبهم أو كذلك خبرٌ لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وقوله تعالى: {الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} بيانٌ له.

.تفسير الآية رقم (41):

{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)}
{قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً} أي علامة تدلني على تحقق المسؤول ووقوعِ الحبَل وإنما سألها لأن العلوقَ أمرٌ خفيٌّ لا يوقف عليه فأراد أن يُطلعه الله تعالى عليه ليتلقّى تلك النعمةَ الجليلة من حين حصولِها بالشكر ولا يؤخِّرَه إلى أن يظهر ظهوراً معتاداً، ولعل هذا السؤالَ وقع بعد البشارة بزمانٍ مديد إذ به يظهر ما ذُكر من كون التفاوت بين سِني يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاثِ سنينَ لأن ظهورَ العلامة كان عَقيبَ تعيينها لقوله تعالى في سورة مريم: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب فأوحى إِلَيْهِمْ} الآية، اللهم إلا أن تكونَ المجاوَبةُ بين زكريا ومريمَ في حالة كِبَرها وقد عُدت من جملة من تكلم في الصِغَر بموجب قولها المحكي والجعلُ إبداعيّ واللام متعلقة به والتقديم لما مر مراراً من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أُخر أو بمحذوف وقع حالاً من آية وقيل: هو بمعنى التصيير المستدعي لمفعولين أولُهما {ءايَةً} وثانيهما {لِى} والتقديم لأنه لا مسوّغ لكون آيةٌ مبتدأً عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الجار فلا يتغير حالهما بعد دخول الناسخ {قَالَ آيتك ألا تُكَلّمَ الناس} أي أن تقدر على تكليمهم {ثلاثة أَيَّامٍ} أي متوالية لقوله تعالى في سورة مريم: {ثلاث لَيَالٍ سَوِيّاً} مع القدرة على الذكر والتسبيح وإنما جُعلت آيتُه ذلك لتخليص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاءً لحق النعمة كأنه قيل: آيةُ حصولِ المطلوب ووصول النعمة أن تحبِسَ لسانك إلا عن شكرها، وأحسنُ الجواب ما اشتق من السؤال {إِلاَّ رَمْزًا} أي إشارةً بيد أو رأس أو نحوِهما وأصلُه التحركُ يقال: ارتمزَ أي تحرك ومنه قيل للبحر: الراموز، وهو استثناء منقطعٌ لأن الإشارة ليست من قبيل الكلام، أو متصلٌ على أن المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولا ريب في كون الرمز من ذلك القبيل وقرئ {رَمَزاً} بفتحتين على أنه جمع رامز كخَدَم وبضمتين على أنه جمع رَموز كرُسُل على أنه حال منه ومن الناس معاً بمعنى مترامزين كقوله:
متى ما تلْقني فردَيْنِ ترجُف ** روانف إليَتَيكَ وتُستطارا

{واذكر رَّبَّكَ} أي في أيام الحبس شكراً لحصول التفضُّل والإنعام كما يُؤْذِن به العَرْضُ لعنوان الربوبية {كَثِيراً} أي ذكراً كثيراً أو زماناً كثيراً {وَسَبّحْ} أي سبحه تعالى أو افعل التسبيحَ {بالعشى} أي من الزوال إلى الغروب وقيل: من العصر إلى ذهاب الليل {والإبكار} من طلوع الفجرِ إلى الضحى، قيل: المرادُ بالتسبيح الصلاةُ بدليل تقييده بالوقت كما في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وقيل: الذكر اللساني كما أن المراد بالذكر الذكرُ القلبي وقرئ {الأبكار} بفتح الهمزة على أنه جمعُ بكَر كسحرَ وأسحار.

.تفسير الآية رقم (42):

{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)}
{وَإِذْ قَالَتِ الملئكة} شروعٌ في شرح بقيةِ أحكامِ اصطفاء آلِ عمران إثرَ الإشارةِ إلى نُبَذٍ من فضائل بعضِ أقاربهم أعني زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام لاستدعاء المقامِ إياهما حسبما أشير إليه، وقرئ بتذكير الفعل، والمرادُ بالملائكة جبريلُ عليه الصلاة والسلام وقد مر ما فيه من الكلام، وإذ منصوبٌ بمُضمر معطوفٍ على المُضمر السابق عطفَ القِصة على القصة، وقيل: معطوفٌ على الظرف السابق أعني قولَه: {إِذْ قَالَتِ امرأت عمران} منصوبٌ بناصبة فتدبرْ. أي واذكر أيضاً من شواهد اصطفائِهم وقتَ قولِ الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام {يا مَرْيَمَ} وتكريرُ التذكير للإشعار بمزيد الاعتناء بما يحكى من أحكام الاصطفاءِ والتنبيهِ على استقلالها وانفرادِها عن الأحكام السابقة فإنها من أحكام التربية الجُسمانية اللائقة بحال صِغَر مريمَ وهذه من باب التربية الروحانية بالتكاليف الشرعيةِ المتعلقة بحال كِبَرها، قيل: كلّموها شِفاهاً كرامةً لها أو إرهاصاً لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام لمكان الإجماعِ على أنه تعالى لم يَستنبِىء امرأةً وقيل: ألهموها {إِنَّ الله اصطفاك} أولاً حيث تقبّلك من أمك بقبولٍ حسن ولم يتقبل غيرَك أنثى وربّاك في حِجْرِ زكريا عليه السلام ورزقك من رزق الجنةِ وخصّك بالكرامات السنية {وَطَهَّرَكِ} أي مما يُستقذر من الأحوال والأفعال ومما قذفك به اليهودُ بإنطاق الطفلِ {واصطفاك} آخِراً {على نِسَاء العالمين} بأن وهبَ لك عيسى عليه الصلاة والسلام من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء وجعلكما آيةً للعالمين، فعلى هذا ينبغي أن يكون تقديمُ حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتِها بعيسى عليه الصلاة والسلام لما مر مراراً من التنبيه على أن كلاً منهما مستحِقٌّ للاستقلال بالتذكير، ولو رُوعي الترتيبُ الخارجيُّ لتبادر كونُ الكل شيئاً واحداً وقيل: المرادُ بالاصطفاءين واحدٌ والتكريرُ للتأكيد وتبيينِ مَن اصطفاها عليهن فحينئذ لا إشكالَ في ترتيب النظم الكريم إذ يُحمل حينئذ الاصطفاءُ على ما ذُكر أولاً، وتُجعل هذه المقاولةُ قبل بشارتها بعيسى عليه الصلاة والسلام إيذاناً بكونها قبل ذلك متوفرةً على الطاعات والعبادات حسبما أُمِرت بها مجتهدةً فيها مُقْبِلةً على الله تعالى مُتبتِّلةً إليه تعالى منسلخةً عن أحكام البشرية مستعدةً لفيضان الروح عليها.

.تفسير الآيات (43- 44):

{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)}
{ياَ مَرْيَمُ} تكريرُ النداءِ للإيذان بأن المقصودَ بالخطاب ما يرِدُ بعده وأن ما قبله من تذكير النِعم كان تمهيداً لذِكره وترغيباً في العمل بموجبه {اقنتى لِرَبّكِ} أي قومي في الصلاة أو أطيلي القيام فيها له تعالى، والتعرضُ لعنوان ربوبيته تعالى لها للإشعار بعلة وجوبِ الامتثالِ بالأمر {واسجدى واركعى مَعَ الركعين} أُمِرت بالصلاة بالجماعة بذكر أركانها مبالغةً في إيجاب رعايتها وإيذاناً بفضيلة كلَ منها وأصالتِه، وتقديمُ السجود على الركوع إما لكون الترتيب في شريعتهم كذلك وإما لكون السجودِ أفضلَ أركانِ الصلاة وأقصى مراتبِ الخضوع، ولا يقتضي ذلك كونَ الترتيب الخارجيِّ كذلك بل اللائقُ به الترقي من الأدنى إلى الأعلى وإما لِيَقْترِن اركعي بالراكعين للإشعار بأن من لا ركوعَ في صلاتهم ليسوا مصلّين. وأما ما قيل من أن الواوَ لا توجب الترتيبَ فغايتُه التصحيحُ لا الترجيح، وتجريدُ الأمر بالرُكنين الأخيرين عما قُيِّد به الأولُ لما أن المراد تقييدُ الأمر بالصلاة بذلك وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها، وقيل: المرادُ بالقنوت إدامةُ الطاعات كما في قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل ساجدا وَقَائِماً} وبالسجود الصلاةُ لما مر من أنه أفضلُ أركانها وبالركوع الخشوعُ والإخباتُ، قيل: لمّا أُمِرَت بذلك قامت في الصلاة حتى ورِمَتْ قدَماها وسالت دماً وقيحاً {ذلك} إشارةٌ إلى ما سلف من الأمور البديعة، وما فيه من معنى البعد للتنبيه على علوِّ شأنِ المشارِ إليه وبُعد منزلتِه في الفضل، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى: {مِنْ أَنبَاء الغيب} أي من الأنباء المتعلقةِ بالغيب، والجملةُ مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب وقوله تعالى: {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} جملةٌ مستقلة مبينةٌ للأولى وقيل: الخبرُ هو الجملة الثانية و{مِنْ أَنبَاء الغيب} إما متعلق بنوحيه أو حال من ضميره أي نوحي من أنباء الغيب أو نوحيه حال كونه من جملة أنباء الغيب وصيغةُ الاستقبال للإيذان بأن الوحيَ لم ينقطعْ بعد {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي عند الذين اختلفوا وتنازعوا في تربية مريمَ وهو تقريرٌ وتحقيق لكونه وحياً على طريقة التهكم بمُنكِريه كما في قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى} الآية {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} الآية، فإن طريقَ معرفةِ أمثالِ هاتيك الحوادثِ والواقعات إما المشاهدةُ وإما السماعُ، وعدمُه محققٌ عندهم فبقيَ احتمالُ المعاينة المستحيلةِ ضرورةً فنُفِيَت تهكماً بهم {إِذْ يُلْقُون أقلامهم} ظرفٌ للاستقرار العامل في لديهم و{أقلامهم} أقداحُهم التي اقترعوا بها وقيل: اقترعوا بأقلامهم التي كانوا يكتُبون بها التوراة تبركاً {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} متعلقٌ بمحذوف دلَّ عليه {يُلْقُون أقلامهم} أي يُلْقونها ينْظرون أو ليعلموا أيُّهم يكفلها {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي في شأنها تنافُساً في كفالتها حسبما ذكر فيما سبق. وتكريرُ ما كنت لديهم مع تحقق المقصودِ بعطف {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} على إذ يُلقون كما في قوله عز وجل: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى} للدِلالة على أن كلَّ واحدٍ من عدم حضورِه عليه السلام عند إلقاءِ الأقلام وعدمِ حضوره عند الاختصام مستقلٌ بالشهادة على نبوَّته عليه السلام لاسيما إذا أريد باختصامهم تنازعُهم قبل الاقتراعِ فإن تغييرَ الترتيبِ في الذكر مؤكدٌ له.

.تفسير الآية رقم (45):

{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)}
{إِذْ قَالَتِ الملئكة} شروعٌ في قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وهو بدلٌ من {وَإِذْ قَالَتِ الملئكة} منصوبٌ بناصبه وما بينهما اعتراضٌ جيءَ به تقريراً لما سبق وتنبيهاً على استقلاله وكونِه حقيقاً بأن يُعدَّ كنظائره من شواهدِ النبوةِ، وتركُ العطف بينهما بناءً على اتحاد المخاطِب والمخاطَب وإيذاناً بتقارُن الخطابين أو تقاربُهما في الزمان، وقيل: منصوبٌ بمُضمرٍ معطوفٍ على ناصبه وقيل: بدل من {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} كأنه قيل: وما كنت حاضراً في ذلك الزمان المديد الذي وقع في طرفٍ منه الاختصامُ وفي طرفٍ آخرَ هذا الخطابُ إشعاراً بإحاطته عليه الصلاة والسلام بتفاصيلِ أحوالِ مريمَ من أولها إلى آخرها والقائلُ جبريلُ عليه الصلاة والسلام، وإيرادُ صيغة الجمعِ لما مر {يامريم إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ} مِنْ لابتداءِ الغاية مَجازاً متعلقةٌ بمحذوف وقعَ صفةً لكلمة أي بكلمة كائنةٍ منه عز وجل {اسمه} ذُكر الضميرُ الراجعُ إلى الكلمة لكونها عبارةً عن مذكّر وهو مبتدأ خبرُه {المسيح} وقوله تعالى: {عِيسَى} بدل منه أي عطفُ بيانٍ، وقيل: خبرٌ آخرُ وقيل: خبرُ مبتدإ محذوفٍ وقيل: منصوبٌ بإضمار أعني مدحاً، وقوله تعالى: {ابن مَرْيَمَ} صفة لعيسى وقيل: المرادُ بالاسم ما به يتميز المسمَّى عمن سواه فالخبرُ حينئذ مجموعُ الثلاثةِ إذ هو المميّز له عليه الصلاة والسلام تمييزاً عن جميع مَنْ عداه والمسيحُ لَقَبُه عليه الصلاة والسلام وهو من الألقاب المشرّفة كالصّدّيق، وأصلُه بالعبرية مشيحاً ومعناه المبارَك وعيسى معرّبٌ من إيشوع والتصدّي من المسْح والعَيْس وتعليلُه بأنه عليه الصلاة والسلام مُسِحَ بالبركة أو بما يطهِّره من الذنوب أو مسَحَه جبريلُ عليهما الصلاة والسلام أو مسَح الأرضَ ولم يُقِمْ في موضع، أو كان عليه الصلاة والسلام يمسَح ذا العاهةِ فيبرَأُ وبأنه كان في لونه عيس أي بياض يعلوه حُمرةٌ من قبيل الرَّقْم على الماء وإنما قيل: ابنُ مريم مع كون الخطابِ لها تنبيهاً على أنه يُولدُ من غير أبٍ فلا يُنسب إلا إلى أمه وبذلك فُضّلت على نساء العالمين، {وَجِيهًا فِي الدنيا والاخرة} الوجيهُ ذو الجاه وهو القوةُ والمنَعةُ والشرَفُ وهو حال مقدرة من {كَلِمَةَ} فإنها وإن كانت نكرةً لكنها صالحة لأن ينتصِبَ بها الحال وتذكيرُها باعتبار المعنى والوجاهةُ في الدنيا النبوةُ والتقدمُ على الناس وفي الآخرة الشفاعةُ وعلوُّ الدرجة في الجنة {وَمِنَ المقربين} أي من الله عز وجل وقيل: هو إشارةٌ إلى رفعه إلى السماء وصُحبةِ الملائكة، وهو عطفٌ على الحال الأولى وقد عُطف عليه.

.تفسير الآيات (46- 47):

{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)}
قوله تعالى: {وَيُكَلّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً} أي يكلمهم حال كونِه طفلاً وكهلاً كلام الأنبياء من غير تفاوت، والمهدُ مصدرٌ سُمِّي به ما يُمْهَد للصبيِّ أي يُسوَّى من مضجعه وقيل: إنه رفع شاباً والمراد وكهلاً بعد نزوله وفي ذكر أحوالِه المختلفة المتنافيةِ إشارةٌ إلى أنه بمعزلٍ من الألوهية {وَمِنَ الصالحين} حالٌ أخرى من كلمة معطوفة على الأحوال السالفة أو من الضمير في يكلم.
{قَالَتْ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كأنه قيل: فماذا قالت مريمُ حين قالت لها الملائكةُ ما قالت؟ فقيل: قالت متضرعةً إلى ربها: {رَبّ أنى يَكُونُ} أي كيف يكونُ أو من أين يكون {لِى وَلَدٌ} على وجه الاستبعاد العادي والتعجب واستعظامِ قدرةِ الله عز وجل وقيل: على وجه الاستفهامِ والاستفسارِ بأنه بالتزوج أو بغيره يكون الولدُ، ويكون إما تامةٌ وأنى واللام متعلقتان بها، وتأخيرُ الفاعل عن الجار والمجرور لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر، ويجوز أن تتعلق اللامُ بمحذوفٍ وقع حالاً من ولد إذ لو تأخرَ لكان صفة له، وإما ناقصةٌ واسمُها ولد وخبرها إما أنى واللامُ متعلقةٌ بمضمر وقع حالاً كما مر، أو خبر وأنى نصبَ على الظرفية وقوله تعالى: {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} جملةٌ حالية محقّقةٌ للاستبعاد أي والحال أني على حالة منافيةٍ للولادة {قَالَ} استئنافٌ كما سلف والقائلُ هو الله تعالى أو جبريلُ عليه الصلاة والسلام {كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء} الكلامُ في إعرابه كما مر في قصة زكريا بعينه خلا أن إيراد {يَخْلُقُ} هاهنا مكانَ يفعلُ هناك لما أن ولادةَ العذراءِ من غير أن يمسَّها بشرٌ أبدعُ وأغربُ من ولادة عجوزٍ عاقرٍ من شيخ فانٍ، فكان الخلقُ المُنبىءُ عن الاختراع أنسبَ بهذا المقام من مطلق الفعل، ولذلك عقّب ببيان كيفيته فقيل: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} من الأمور أي أراد شيئاً كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} وأصلُ القضاءِ الأحكامُ أُطلق على الإرادة الإلهية القطعيةِ المتعلقةِ بوجود الشيءِ لإيجابها إياه البتةَ، وقيل: الأمرُ ومنه قوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ} {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} لا غيرُ {فَيَكُونُ} من غير تريثٍ وهو كما ترى تمثيلٌ لكمال قدرته تعالى وسهولةِ حصولِ المقدوراتِ حسبما تقتضيه مشيئتُه وتصويرٌ لسرعة حدوثِها بما هو علم فيها من طاعة المأمورِ المطيعِ للآمرِ القويّ المطاعِ، وبيانٌ لأنه تعالى كما يقدِر على خلق الأشياءِ مُدرَجاً بأسباب وموادَّ معتادةٍ يقدِر على خلقها دفعةً من غير حاجة إلى شيء من الأسباب والمواد.