فصل: تفسير الآيات (82- 84):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (82- 84):

{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)}
{فَمَنْ تولى} أي أعرض عما ذكر {بَعْدَ ذَلِكَ} الميثاقِ والتوكيدِ بالإقرار والشهادة، فمعنى البُعد في اسم الإشارةِ لتفخيم الميثاق {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ، والجمعُ باعتبار المعنى كما أن الإفرادَ في تولى باعتبار اللفظ، وما فيه من معنى البُعد للدِلالة على ترامي أمرِهم في السوء وبُعد منزلتِهم في الشر والفساد أي فأولئك المُتولُّون المتّصفون بالصفات القبيحةِ {هُمُ الفاسقون} المتمرِّدون الخارجون عن الطاعة من الكَفَرة فإن الفاسقَ من كل طائفةٍ مَنْ كان متجاوزاً عن الحد.
{أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} عطفٌ على مقدّر أي أيتوَلَّوْن فيبغون غيرَ دينِ الله؟ وتقديمُ المفعولِ لأنه المقصودُ إنكارُه، أو على الجملة المتقدمةِ والهمزةُ متوسطةٌ بينهما للإنكار وقرئ بتاء الخطاب على تقدير وقل لهم {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السموات والارض} جملةٌ حاليةٌ مفيدةٌ لوكادة الإنكار {طَوْعًا وَكَرْهًا} أي طائعين بالنظر واتباعِ الحجةِ وكارهين بالسيف ومعاينةِ ما يُلجىء إلى اللإسلام كنَتْق الجبلِ وإدراكِ الغرقِ والإشرافِ على الموت، أو مختارين كالملائكة والمؤمنين ومسخَّرين كالكَفَرة فإنهم لا يقدِرون على الامتناع عما قُضيَ عليهم {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} أي مَنْ فيهما والجمعُ باعتبار المعنى، وقرئ بتاء الخطاب، والجملةُ إما معطوفةٌ على ما قبلها منصوبة على الحالية وإما مستأنفةٌ سيقت للتهديد والوعيد {قُلْ ءامَنَّا بالله} أمرٌ للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يُخبرَ عن نفسه ومَنْ معه من المؤمنين بالإيمان بما ذُكر، وجمعُ الضمير في قوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} وهو القرآنُ لما أنه منزلٌ عليهم أيضاً بتوسط تبليغِه إليهم أو لأن المنسوبَ إلى واحد من الجماعة قد يُنسَب إلى الكل، أو عن نفسه فقط وهو الأنسبُ بما بعده والجمعُ لإظهار جلالةِ قدرِه عليه السلام ورفعةِ محلِّه بأمره بأن يتكلَّم عن نفسه على دَيْدَن الملوكِ، ويجوز أن يكون الأمرُ عاماً، والإفرادُ لتشريفه عليه السلام والإيذانِ بأنه عليه السلام أصلٌ في ذلك كما في قوله تعالى: {الحكيم يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء}، {وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ} من الصحُف، والنزولُ كما يعدى بإلى لانتهائه إلى الرسل يعدى بعلى لأنه من فوق، ومن رام الفرق بأن على لكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإلى لكون الخطاب للمؤمنين فقد تعسف ألا يُرى إلى قوله تعالى: {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} إلخ وقوله: {بالذي أُنزِلَ عَلَى الذين الذين كَفَرُواْ} إلخ وإنما قدم المُنْزلُ على الرسول صلى الله عليه وسلم على ما أنزِل على سائر الرسل عليهم السلام مع تقدّمه عليه نزولاً لأنه المعروفُ له والعيار عليه. والأسباطُ جمع سِبْط وهو الحافد والمرادُ بهم حفَدَةُ يعقوبَ عليه السلام وأبناؤه الاثنا عشرَ وذراريهم فإنهم حفدةُ إبراهيمَ عليه السلام {وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى} من التوراة والإنجيلِ وسائرِ المعجزاتِ الظاهرةِ بأيديهما كما يُنبىء عنه إيثارُ الإيتاءِ على الإنزال الخاصِّ بالكتاب، وتخصيصُهما بالذكر لما أن الكلامَ مع اليهود والنصارى {والنبيون} عطفٌ على موسى وعيسى عليهما السلام أي وما أوتي النبيون من المذكورين وغيرِهم {مّن رَّبّهِمُ} من الكتب والمعجزات {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} كدأبِ اليهودِ والنصارى آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض، بل نؤمن بصِحةِ نبوةِ كلَ منهم وبحقّية ما أُنزل إليهم في زمانهم، وعدمُ التعرّضِ لنفي التفريق بين الكتبِ لاستلزام المذكورِ إياه وقد مرّ تفصيلُه في تفسير قوله تعالى: {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} وهمزة أحدٍ إما أصلية فهو اسمٌ موضوعٌ لمن يصلُح أن يخاطَبَ يستوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنث ولذلك صح دخولُ بين عليه كما في مثل المالُ بين الناس، وإما مُبدلةٌ من الواو فهو بمعنى واحد، وعمومُه لوقوعه في حيز النفي، وصِحةُ دخولِ {بَيْنَ} عليه باعتبار معطوفٍ قد حُذف لظهوره أي بين أحدٍ منهم وغيرِه كما في قول النابغة:
فما كان بين الخيرِ إذ جاء سالما ** أبو حَجَرٍ إلا ليالٍ قلائلُ

أي بين الخير وبيني {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي منقادون أو مخلصون أنفسَنا له تعالى لا نجعلُ له شريكاً فيها، وفيه تعريضٌ بإيمان أهلِ الكتاب فإنه بمعزل من ذلك.

.تفسير الآيات (85- 86):

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام} أي غيرَ التوحيد والانقيادِ لحكم الله تعالى كدأب المشركين صريحاً والمدّعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين {دِينًا} ينتحِلُ إليه وهو نصبٌ على مفعولٌ ليبتغ، وغيرَ الإسلام حال منه لما أنه كان صفةً له فلما قُدِّمت عليه انتصبت حالاً، أو هو المفعولُ وديناً تمييز لما فيه من الإبهام أو بدلٌ من غيرَ الإسلام {فَلَن يُقْبَلَ} ذلك {مِنْهُ} أبداً بل يُردّ أشدَّ ردَ وأقبحَه، وقوله تعالى: {وَهُوَ فِي الاخرة مِنَ الخاسرين} إما حالٌ من الضمير المجرور أو استئنافٌ لا محل له من الإعراب أي من الواقعين في الخُسران والمعنى أن المعرض عن الإسلامَ والطالبُ لغيره فاقدٌ للنفع واقعٌ في الخسران بإبطال الفطرةِ السليمةِ التي فُطر الناسُ عليها وفي ترتيب الرد والخُسران على مجرد الطلبِ دَلالةٌ على أن حالَ من تديّن بغير الإسلام واطمأنّ بذلك أفظعُ وأقبحُ. واستُدل به على أن الإيمانَ هو الإسلامُ إذْ لو كان غيرَه لم يقبل، والجوابُ أنه ينفي قَبولَ كلِّ دينٍ يُغايرُه لا قبولَ كل ما يغايرُه.
{كَيْفَ يَهْدِى الله} إلى الحق {قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم} قيل: هم عشرَةُ رهطٍ ارتدوا بعد ما آمنوا ولحِقوا بمكةَ، وقيل: هم يهودُ قُريظةَ والنَّضِير ومَنْ دان بدينهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل مَبْعثِه {وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَاءهُمُ البينات} استبعادٌ لأن يهديَهم الله تعالى، فإن الحائدَ عن الحق بعد ما وضَحَ له منهمِكٌ في الضلال بعيدٌ عن الرشاد، وقيل: نفيٌ وإنكار له وذلك يقتضي أن لا تقبلَ توبةُ المرتد، وقوله تعالى: {وَشَهِدُواْ} عطفٌ على إيمانهم باعتبار انحلالِه إلى جملة فعليةٍ كما في قوله تعالى: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله} إلخ فإنه في قوة أن يقال: بعد أن آمنوا، أو حالٌ من ضمير كفروا بإضمار قد، وهو دليلٌ على أن الإقرارَ باللسان خارجٌ عن حقيقة الإيمان {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي الذين ظلموا أنفسَهم بالإخلال بالنظر ووضعِ الكفر موضِعَ الإيمان فكيف مَن جاءه الحقُّ وعرَفه ثم أعرض عنه، والجملةُ اعتراضية أو حالية.

.تفسير الآيات (87- 90):

{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)}
{أولئك} إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بما مر من الصفات الشنيعة وما فيه من معنى البعدِ لما مر مراراً أو هو مبتدأ وقوله تعالى: {جَزَآؤُهُمْ} مبتدأ ثانٍ وقوله تعالى: {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملئكة والناس أَجْمَعِينَ} خبرُه والجملةُ خبرٌ لأولئك وهذا يدلُّ بمنطوقه على جواز لعنِهم وبمفهومِه ينفي جوازَ لعنِ غيرِهم، ولعل الفرقَ بينهم وبين غيرِهم أنهم مطبوعٌ على قلوب ممنوعون عن الهدى آيِسون من الرحمة رأساً بخلاف غيرِهم، والمرادُ بالناس المؤمنون أو الكلُّ فإن الكافرَ أيضاً يلعن مُنكِرَ الحقِّ والمرتدِّ عنه، ولكن لا يعرِف الحقَّ بعينه {خالدين فِيهَا} في اللعنة أو العقوبةِ أو النار وإن لم تُذكر لدَلالة الكلامِ عليها {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي يُمهَلون {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد الارتدادِ {وَأَصْلَحُواْ} أي ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيَقبلُ توبتَهم ويتفضّلُ عليهم وهو تعليلٌ لما دل عليه الاستثناءُ، وقيل: نزلت في الحارثِ بنِ سويد حين ندِم على رِدَّته فأرسل إلى قومه أن يسألوا: هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه الجُلاّس الآيةَ فرجَع إلى المدينة فتاب {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا} كاليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيلِ بعد الإيمانِ بموسى عليه الصلاة والسلام والتوراة، ثم ازدادوا كفراً حيث كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام والقرآنِ أو كفروا به عليه السلام بعد ما آمنوا به قبل مبعثِه ثم ازدادوا كفراً بالإصرار عليه والطعنِ فيه والصدِّ عن الإيمان ونقضِ الميثاق أو كقوم ارتدوا ولحِقوا بمكةَ ثم ازدادوا كفراً بقولهم: نتربّصُ به رَيْبَ المنون أو نرجِعُ إليه فننافِقُه بإظهار الإيمان.
{لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} لأنهم لا يتوبون إلا عند إشرافِهم على الهلاك فكنّى عن عدم توبتِهم بعدم قبولِها تغليظاً في شأنهم وإبرازاً لحالهم في صورة حالِ الآيسين من الرحمة، أو لأن توبتَهم لا تكونُ إلا نفاقاً لارتدادهم وازديادِهم كفراً، ولذلك لم تدخُلْ فيه الفاء {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون} الثابتون على الضلال.

.تفسير الآيات (91- 92):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الارض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ} لمّا كان الموتُ على الكفر سبباً لامتناع قبولِ الفِديةِ زيدت الفاءُ هاهنا للإشعار به، وملءُ الشيءِ ما يُملأ به، وذهباً تمييزٌ وقرئ بالرفع على أنه بدلٌ من ملء، أو خبرٌ لمحذوفِ {وَلَوِ افتدى} محمولٌ على المعنى، كأنه قيل: فلن يُقبل من أحدهم فديةٌ ولو افتدى بملء الأرضِ ذهباً أو معطوف على مضمر تقديرُه فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهباً لو تصدق به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة، أو المرادُ ولو افتدى بمثلِه كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الارض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ} والمِثلُ يحذف ويراد كثيراً لأن المِثلَين في حكم شيءٍ واحد {أولئك} إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بالصفات الشنيعةِ المذكورة {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلمٌ. اسمُ الإشارةِ مبتدأ والظرفُ خبرُه ولاعتماده على المبتدأ ارتفع به عذابٌ أليم على الفاعلية {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} في دفع العذابِ عنهم أو في تخفيفه، و{مِنْ} مزيدةٌ للاستغراق، وصيغةُ الجمعِ لمراعاة الضميرِ أي ليس لواحد منهم ناصرٌ واحد.
{لَن تَنَالُواْ البر} مِنْ ناله نيلاً إذا أصابه، والخطابُ للمؤمنين وهو كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان ما ينفعُ المؤمنين ويُقبلُ منهم إثرَ بيانِ ما لا ينفعُ الكفرةَ ولا يُقبل منهم. أي لن تبلُغوا حقيقةَ البِرِّ الذي يتنافس فيه المتنافسون ولن تُدركوا شأوَه ولن تلحَقوا بزُمْرة الأبرارِ أو لن تنالوا برَّ الله تعالى وهو ثوابُه ورحمتُه ورضاه وجنتُه {حتى تُنفِقُواْ} أي في سبيل الله عز وجل رغبةً فيما عنده، و{مِنْ} في قوله تعالى: {مِمَّا تُحِبُّونَ} تبعيضيّة ويؤيده قراءةُ من قرأ بعضَ ما تحبون، وقيل: بيانيةٌ و{مَا} موصولةٌ أو موصوفة، أي مما تهوَوْن ويُعجبُكم من كرائمِ أموالِكم وأحبَّها إليكم كما في قوله تعالى: {أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ} أو مما يعُمّها وغيرَها من الأعمال والمُهَج، على أن المرادَ بالإنفاق مطلقُ البذلِ وفيه من الإيذان بعزة منالِ البرِّ ما لا يخفى، وكان السلفُ رضي الله عنهم إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله عز وجل، ورُوي أنها لما نزلت جاء أبو طلحةَ فقال: يا رسولَ الله إن أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرحاءُ فضعْها يا رسولَ الله حيث أراك الله، فقال عليه السلام: «بخٍ بخٍ ذاك مالٌ رائجٌ أو رابحٌ وإني أرى أن تجعلَها في الأقربين»، فقسَمها في أقاربه، وجاء زيدُ بنُ حارثةَ بفرسٍ له كان يحبُّها فقال: هذه في سبيل الله فحمل عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسامةَ بنَ زيدٍ فكأن زيداً وجَدَ في نفسه وقال: إنما أردتُ أن أتصدقَ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أما إن الله تعالى قد قبِلها منك» قيل: وفيه دَلالةٌ على أن إنفاقَ أحبِّ الأموالِ على أقربِ الأقاربِ أفضلُ. وكتب عمرُ رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريِّ أن يشتريَ له جاريةً من سبْي جَلولأَ يوم فُتِحت مدائنُ كسرى فلما جاءت إليه أعجبتْه فقال: إن الله تعالى يقول: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} فأعتقها، وروي أن عمرَ بنَ عبد العزيز كانت لزوجته جاريةٌ بارعةُ الجمال وكان عمرُ راغباً فيها وكان قد طلبها منها مراراً فلم تُعطِها إياه، ثم لما وليَ الخِلافةَ زيَّنَتْها وأرسلتها إليه فقالت: قد وهبتُكَها يا أميرَ المؤمنين فلتخدُمْك، قال: من أين ملكتِها، قالت: جئتُ بها من بيت أبي عبدِ الملك، ففتش عن كيفية تملُّكِها إياها، فقيل: إنه كان على فلانٍ العاملِ ديونٌ فلما تُوفيَ أُخِذت من ترِكَته، ففتش عن حال العاملِ وأحضر ورثتَه وأرضاهم جميعاً بإعطاء المالِ ثم توجّه إلى الجارية وكان يهواها هوىً شديداً، فقال: أنت حرةٌ لوجه الله تعالى، فقالت: لمَ يا أميرَ المؤمنين وقد أزحْتَ عن أمرها كلَّ شُبهة؟ قال: لستُ إذن ممن نهى النفسَ عن الهوى. {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء} ما شرطيةٌ جازمةٌ لتنفقوا منتصبةٌ به على المفعولية ومن تبعيضيةٌ متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لاسم الشرطِ، أيْ أيَّ شيءٍ تنفقوا كائناً من الأشياء، فإن المفردَ في مثل هذا الموضعِ واقعٌ موقعَ الجمعِ، وقيل: محلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز أيْ أيَّ شيءٍ تنفقوا طيباً تحبُّونه أو خبيثاً تكرَهونه، {فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} تعليلٌ لجوابِ الشرطِ واقعٌ موقِعَه، أي فمجازيكم يحسَبه جيداً كان أو رديئاً فإنه تعالى عليمٌ بكل شيءٍ تُنفِقونه علماً كاملاً بحيث لا يخفى عليه شيءٌ من ذاته وصفاته، وتقديمُ الجارِّ والمجرور لرعاية الفواصلِ، وفيه من الترغيب في إنفاق الجيدِ والتحذيرِ عن إنفاق الرديء ما لا يخفى.

.تفسير الآية رقم (93):

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)}
{كُلُّ الطعام} أي كلُّ أفرادِ المطعوم أو كلُّ أنواعِه {كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل} أي حلالاً لهم، فإن الحلَّ مصدرٌ نُعت به، ولذلك استوى فيه الواحدُ والجمعُ والمذكرُ والمؤنث كما في قوله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ} استثناءٌ متصلٌ من اسم كان، أي كان كلُّ المطعوماتِ حلالاً لبني إسرائيلَ إلا ما حرم إسرائيلُ أي يعقوبُ عليه السلام على نفسه وهو لحومُ الإبلِ وألبانُها، قيل: كان به وجعُ النَّسا فنذَرَ لئن شُفِيَ لا يأكلُ أحبَّ الطعامِ إليه وكان ذلك أحبَّه إليه، وقيل: فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباءِ، واحتج به من جوّز للنبي الاجتهادَ. وللمانع أن يقولَ: كان ذلك بإذنٍ من الله تعالى فيه فهو كتحريمه ابتداءً {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} متعلقٌ بقوله تعالى: {كَانَ حِلاًّ} ولا ضيرَ في توسيط الاستثناءِ بينهما، وقيل: متعلق بحرَّمَ وفيه أن تقييدَ تحريمِه عليه السلام بقَبْلية تنزيلِ التوراة ليس فيه مزيدُ فائدة أي كان ما عدا المستثنى حلالاً لهم قبلَ أن تنزّلَ التوراةُ مشتمِلةً على تحريم ما حُرِّم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبةً لهم وتشديداً وهو ردٌّ على اليهود في دعواهم البراءةَ عما نعى عليهم قولُه تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقوله تعالى: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} الآيتين، بأن قالوا: لسنا أولَ من حُرِّمتْ عليه وإنما كانت محرمةً على نوحٍ وإبراهيمَ ومَنْ بعدَهما حتى انتهى الأمرُ إلينا فحرمت علينا، وتبكيتٌ لهم في منع النسخِ والطعنِ في دعوى الرسولِ صلى الله عليه وسلم موافقتَه لإبراهيمَ عليه السلام بتحليله لحومِ الإبلِ وألبانِها.
{قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها} أُمر عليه الصلاة والسلام بأن يُحاجَّهم بكتابهم الناطقِ بأن تحريمَ ما حُرِّم عليهم تحريمٌ حادثٌ مترتِّبٌ على ظلمهم وبغي كلما ارتكبوا معصيةً من المعاصي التي اقترفوها حُرِّم عليهم من الطيبات عقوبةً لهم، ويكلّفهم إخراجَه وتلاوتَه ليُبَكِّتَهم ويُلقِمَهم الحجَرَ ويُظهرِ كذِبَهم، وإظهارُ اسم التوراةِ لكون الجملةِ كلاماً مع اليهود منقطعاً عما قبله، وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في دعواكم أنه تحريمٌ قديمٌ، وجوابُ الشرط محذوفٌ لدلالة المذكورِ عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها فإن صدْقَكم مما يدعوكم إلى ذلك اْلبتةَ. روي أنهم لم يجسَروا على إخراج التوراةِ فبُهتوا وانقلبوا صاغرين وفي ذلك من الحجة النيرة على صدق النبيِّ صلى الله عليه وسلم وجوازِ النسخ الذي يجحَدونه ما لا يخفى، والجملةُ مستأنفةٌ مقرِّرة لما قبلها.