فصل: تفسير الآية رقم (141):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (141):

{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)}
وقوله تعالى: {وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ} أي ليُصَفِّيَهم ويُطهرَهم من الذنوب، عطفٌ على يتخذ، وتكريرُ اللامِ لتذكير التعليلِ لوقوع الفصلِ بينهما بالاعتراض، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لإبراز مزيدِ الاعتناءِ بشأن التمحيصِ، وهذه الأمورُ الثلاثة عللٌ للمداولة المعهودةِ باعتبار كونِها على المؤمنين قُدِّمت في الذكر لأنها المحتاجةُ إلى البيان. ولعل تأخيرَ العلةِ الأخيرةِ عن الاعتراض لئلا يُتوَهَّمَ اندراجُ المذنبين في الظالمين، أو ليقترِنَ بقوله عز وجل: {وَيَمْحَقَ الكافرين} فإن التمحيصَ فيه محوُ الآثارِ وإزالةُ الأوضارِ كما أن المَحْقَ عبارةٌ عن النقض والإذهابِ. قال المفضِّلُ: هو أن يذهبَ الشيءُ بالكلية حتى لا يرى منه شيءٌ ومنه قولُه تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا} أي يستأصله وهذه علة للمداولة باعتبار كونها على الكافرين والمرادُ بهم الذين حاربوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحُدٍ وأصرّوا على الكفر وقد محقَهم الله عز وجل جميعاً.

.تفسير الآية رقم (142):

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}
{أَمْ حَسِبْتُمْ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان ما هي الغايةُ القصوى من المُداولة والنتيجةِ لما ذُكر من تمييز المخلِصين وتمحيصِهم واتخاذِ الشهداءِ وإظهارِ عزةِ منالِها، والخطابُ للذين انهزموا يوم أحُدٍ وأمْ منقطعةٌ وما فيها من كلمةِ بل للإضراب عن التسلية ببيان السببِ فيما لقُوا من الشدّة إلى تحقيق أنها مبادئ الفوزِ بالمطلب الأسني، والهمزةُ للإنكار والاستبعادِ أي بل أحسِبتم {أَن تَدْخُلُواْ الجنة} وتفوزوا بنعيمها. وقوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ} حالٌ من ضمير تدخُلوا مؤكدةٌ للإنكار، فإن رجاءَ الأجرِ بغير عملٍ ممن يعلم أنه منوطٌ به مستبعَدٌ عند العقولِ، وعدمُ العلم كنايةٌ عن عدم المعلومِ لما بينهما من اللزومِ المبنيِّ على لزوم تحققِ الأولِ لتحقق الثاني ضرورةَ استحالةِ تحققِ شيءٍ بدون علمِه تعالى به، وإيثارُها على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المرادِ فإنها إثباتٌ لعدم جهادِهم بالبرهان، وللإيذان بأن مدارَ ترتبِ الجزاءِ على الأعمال إنما هو علمُ الله تعالى بها كأنه قيل: والحالُ أنه لم يوجَد الذين جاهدوا منكم، وإنماوجِّه النفيُ إلى الموصوفين مع أن المنفيَّ هو الوصفُ فقط وكان يكفي أن يقال: ولما يعلمِ الله جهادَكم كنايةً عن معنى ولما تجاهدوا للمبالغة في بيان انتفاءِ الوصفِ وعدمِ تحققِه أصلاً، وفي كلمة لما إيذانٌ بأن الجهادَ متوقَّعٌ منهم فيما يُستقبل إلا أنه غيرُ معتبَرٍ في تأكيد الإنكارِ، وقرئ {يعلمَ} بفتح الميم على أن أصله يعلَمَن فحُذفت النونُ، أو على طريقة إِتباعِ الميمِ لما قبلها في الحركة لإبقاء تفخيمِ اسمِ الله تعالى، و{مّنكُمْ} حالٌ من الذين {وَيَعْلَمَ الصابرين} منصوبٌ بإضمار أن على أن الواوَ للجمع كما في قولك: لا تأكُلِ السمكَ وتشرَبَ اللبن أي لا يكن منك أكلُ السمك وشربُ اللبن والمعنى أم حسبتم أن تدخُلوا الجنة والحالُ أنه لم يتحقق منكم الجهادُ والصبرُ أي الجمعُ بينهما، وإيثارُ اسمِ الفاعلِ على الموصول للدِلالة على أن المعتبرَ هو الاستمرارُ على الصبر، وللمحافظة على الفواصلِ، وقيل: مجزومٌ معطوفٌ على المجزوم قبله قد حُرِّك لالتقاء الساكنين بالفتح للخِفة والإتباعِ كما مر، ويؤيِّده القراءةُ بالكسر على ما هو الأصلُ في تحريك الساكن، وقرئ {يعلمُ} بالرفع على أن الواوُ للحال وصاحبُها الموصولُ، والمبتدأُ محذوفٌ أي وهو يعلمُ الصابرين كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون؟

.تفسير الآيات (143- 144):

{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)}
{وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} أي تتمنُّون الحربَ فإنها من مبادئ الموتِ، أو الموتَ بالشهادة، والخطابُ للذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنَّوْن أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لينالوا ما ناله شهداءُ بدرٍ من الكرامة فألحُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج ثم ظهر منهم خلافُ ذلك {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} متعلقٌ بتَمنَّون مبينٌ لسبب إقدامِهم على التمني أي من قبل أن تشاهدوه وتعرِفوا هولَه وشدَّته، وقرئ {تلاقوه} {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي ما تتمنَّونه من أسباب الموتِ، أو الموتَ بمشاهدة أسبابِه، وقولُه تعالى: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} حال من ضمير المخاطبين، وفي إيثار الرؤيةِ على الملاقاة وتقييدِها بالنظر مزيدُ مبالغةٍ في مشاهدتهم له، والفاءُ فصيحةٌ كأنه قيل: إن كنتم صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتُموه معاينين له حين قُتل بين أيديكم مَنْ قُتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تُقتلوا فلِمَ فعلتم ما فعلتم؟ وهو توبيخٌ لهم على تمنِّيهم الحربَ وتسبُّبهم لها ثم جُبنِهم وانهزامِهم، لا على تمني الشهادةِ بناءً على تضمُّنها لغلَبة الكفارِ، لما أن مطلبَ من يتمنّاها نيلُ كرامةِ الشهداءِ من غير أن يخطرُ بباله شيءٌ غيرُ ذلك فلا يستحِقُّ العتابَ من تلك الجهة.
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} مبتدأٌ وخبرٌ ولا عمل لما بالاتفاق، لانتقاض نفيِه بإلا وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} صفةٌ لرسول منبئةٌ عن كونه في شرف الخُلوِّ، فإن خلوَّ مشاركيه في منصِب الرسالةِ من شواهد خلوِّه عليه الصلاة والسلام لا محالة كأنه قيل: قد خلت من قبله أمثالُه فسيخْلو كما خلَوْا، والقصرُ قلبيٌّ، فإنهم لمّا انقلبوا على أعقابهم فكأنهم اعتقدوا أنه عليه الصلاة والسلام رسولٌ لا كسائر الرسلِ في أنه يخلو كما خلَوْا، أو يجب التمسكُ بدينه بعده كما يجب التمسك بدينهم بعدَهم فرُدَّ عليهم بأنه ليس إلا رسولاً كسائر الرسلِ، فسيخلو كما خلَوْا ويجب التمسكُ بدينه كما يجب التمسكُ بدينهم، وقيل: هو قصرُ إفرادٍ فإنهم لما استعظموا عدمَ بقائِه عليه الصلاة والسلام لهم نُزِّلوا منزلةَ المستبعِدين لهلاكه كأنهم يعتقدون فيه عليه الصلاة والسلام وصفَيْن: الرسالة والبعدَ عن الهلاك فرُدَّ عليهم بأنه مقصورٌ على الرسالة لا يتجاوزها إلى البعد عن الهلاك فلابد حينئذ من جعل قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ} الخ، كلاماً مبتدأً مَسوقاً لتقرير عدمِ براءتِه عليه الصلاة والسلام من الهلاك وبيانِ كونِه أُسوةً لمن قبله من الرسل عليهم السلام وأياً ما كان فالكلامُ يخرج على خلاف مقتضى الظاهرِ {أفَإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلى أعْقَابِكُمْ} إنكارٌ لارتدادهم وانقلابِهم عن الدين بخُلوِّه بموتٍ أو قتلٍ بعد علمِهم بخلوِّ الرسلِ قبله وبقاءِ دينِهم متمسَّكاً به، وقيل: الفاءُ للسببية والهمزةُ لإنكار أن يجعلوا خُلوَّ الرسلِ قبله سبباً لانقلابهم بعد وفاتِه مع كونه سبباً في الحقيقة لثباتهم على الدين، وإيرادُ الموتِ بكلمة إن مع علمهم به اْلبتةَ لتنزيل المخاطَبيين منزلةَ المتردِّدين فيه لما ذُكر من استعظامهم إياه، وهكذا الحالُ في سائر المواردِ فإن كلمةَ إنْ في كلام الله تعالى لا تجري على ظاهرها قطُّ ضرورة علمِه تعالى بالوقوع أو اللاوقوعِ، بل تُحملُ على اعتبار حالِ السامعِ أو أمرٍ آخرَ يناسب المقامَ، وتقديمُ تقديرِ الموتِ مع أن تقديرَ القتلِ هو الذي ثار منه الفتنةُ وعظُم فيه المحنةُ لِما أن الموتَ في شرف الوقوعِ فزجرُ الناسِ عن النُكوص عنده وحملُهم على التثبُّت هناك أهمُّ، ولأن الوصفَ الجامعَ بينه وبين الرسلِ عليهم السلام وهو الخلوُّ بالموت دون القتل.
روي أنه لما التقى الفئتانِ حمل أبو دجانةَ في نفر من المسلمين على المشركين فقاتل قِتالاً شديداً، وقاتل عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه قتالاً عظيماً حتى التوى سيفُه، وكذا سعدُ بنُ أبي قاصٍ فقتلوا جماعةً من المشركين وهزموهم، فلما نظر الرماةُ إليهم ورأَوْا أنهم قد انهزموا أقبلوا على النَّهْب ولم يلتفتوا إلى نهي أميرِهم عبدِ اللَّهِ بنِ جبيرٍ، فلم يبقَ منهم عنده إلا ثمانيةُ نفرٍ فلما رآهم خالدُ بنُ الوليدِ قد اشتغلوا بالغنيمة حمل عليهم في مائتين وخمسين فارساً من المشركين من قِبَل الشِّعبِ وقتلوا من بقيَ من الرُماة ودخلوا خلفَ أقفيةِ المسلمين ففرّقوهم وهزموهم، وحملوا على أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوهم حتى أصيب هناك نحوُ ثلاثين رجلاً كلٌّ منهم يجثو بين يديه ويقول: وجهي لوجهك وقاءٌ، نفسي لنفسك فداءٌ وعليك سلامُ الله غيرَ مُودَّعٍ. ورمى عبدُ اللَّه بنُ قميئةَ الحارثيُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رَباعيتَه وشج وجهَه الكريمَ فذبّ عنه مصعبُ بنُ عميرٍ رضي الله عنه وكان صاحبَ الرايةِ حتى قتله ابنُ قميئة وهو يزعُم أنه قتل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: قتلتُ محمداً. وصرخ صارخ قيل إنه إبليسُ: ألا أن محمداً قد قُتل فانكفأ الناسُ وجعل الرسولُ صلى الله عليه وسلم يدعو: إليَّ عبادَ الله، قال كعبُ بنُ مالك: كنت أولُ من عرف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين فناديت بأعلى صوتي: يا معشرَ المسلمين هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحملوه حتى كشفوا عنه المشركين وتفرّق الباقون وقال بعضُهم: ليت ابنَ أُبيَ يأخذ لنا أماناً من أبي سفيانَ، وقال ناس من المنافقين: لو كان نبياً لما قُتل ارجِعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم، فقال أنسُ بنُ النضر وهو عمُّ أنس بنِ مالك: يا قوم إن كان قُتل محمدٌ فإن ربَّ محمدٍ حيٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقاتِلوا على ما قاتل عليه وموتوا كِراماً على ما مات عليه.
ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاءِ وأبرَأُ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شدّ بسيفه وقاتل حتى قُتل.
وتجويزُهم لقتله عليه الصلاة والسلام مع قوله تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} لما أن كلَّ آيةٍ ليس يسمعها كلُّ أحدٍ ولا كلُّ من يسمعها يستحضِرُها في كل مقام لاسيما في مثل ذلك المقامِ الهائل، وقد غفَل عمرُ رضي الله عنه عن هذه الآية الكريمةِ عند وفاتِه عليه الصلاة والسلام وقام في الناس فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعُمون أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم توفي وإن رسولَ الله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بنُ عمرانَ غاب عن قومه أربعين ليلةً ثم رجع، والله ليرجِعَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولأُقطِّعن أيديَ رجالٍ وأرجلَهم يزعُمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يزل يكرِّرُ ذلك إلى أن قام أبو بكر رضي الله عنه فحمِد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال: أيها الناسُ من كان يعبُد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبُد الله فإن الله حيٌّ لا يموت ثم تلا {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} الآية، قال الراوي: والله لكأن الناسَ لم يعلموا أن هذه الآيةَ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تلاها أبو بكر، وقال عمرُ رضي الله عنه: والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر رضي الله عنه يتلوها فعقِرتُ حتى ما تحمِلُني رجلاي وعرفتُ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد مات {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} بإدباره عما كان يُقبل عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أمر الجهادِ وغيرِه وقيل: بارتداده عن الإسلامِ، وما ارتد يومئذ أحدٌ من المسلمين إلا ما كان من المنافقين {فَلَن يَضُرَّ الله} بما فعل من الانقلاب {شَيْئاً} أي شيئاً من الضرر وإنما يضُرُّ نفسَه بتعريضها للسُخط والعذاب {وَسَيَجْزِى الله الشاكرين} أي الثابتين على دين الإسلامِ الذي هو أجلُّ نعمةٍ وأعزُّ معروفٍ. سُمّوا بذلك لأن الثباتَ عليه شكرٌ له وعِرفانٌ لحقه وفيه إيماءٌ إلى كُفران المنقلبين. ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بهم الطائعون لله تعالى من المهاجرين والأنصارِ، وعن علي رضي الله عنه أبو بكرٍ وأصحابُه رضي الله عنهم. وعنه رضي الله عنه أنه قال: أبو بكر من الشاكرين، ومن أحبّاء الله تعالى، وإظهارُ الاسمِ الجليل في موقع الإضمار لإبراز مزيدِ الاعتناءِ بشأن جزائِهم.

.تفسير الآية رقم (145):

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)}
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} كلامٌ مستأنفٌ سيق للتنبيه على خطئهم فيما فعلوا حذراً من قتلهم، وبناءً على الإرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام ببيان أن موتَ كلِّ نفسٍ منوطٌ بمشيئة الله عز وجل لا يكاد يقع بدون تعلقها به وإن خاضت مواردَ الحتوفِ واقتحمت مضايقَ كلِّ هولٍ ومَخُوفٍ، وقد أشير بذلك إلى أنها لم تكن متعلقةً بموتهم في الوقت الذي حذِروه فيه ولذلك لم يُقتلوا حينئذ لا لإحجامهم عن مباشرة القتالِ، وكلمة كان ناقصةٌ اسمُها أن تموت وخبرُها الظرفُ على أنه متعلقٌ بمحذوف.
وقوله تعالى: {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأسباب أي وما كان الموتُ حاصلاً لنفس من النفوس بسبب من الأسباب إلا بمشيئته تعالى على أن الإذنَ مَجازٌ منها لكونها من لوازمه أو إلا بإذنه لملك الموتِ في قبض روحِها، وسَوْقُ الكلامِ مَساقَ التمثيل بتصوير الموتِ بالنسبة إلى النفوس بصورةِ الأفعالِ الاختياريةِ التي لا يتسنى للفاعل إيقاعُها والإقدامُ عليها بدون إذنِه تعالى أو بتنزيل إقدامِها على مباديه أعني القتالَ منزلةَ الإقدام على نفسه للمبالغة في تحقيق المرامِ فإن موتَها حيث استحال وقوعُه عند إقدامِها عليه أو على مباديه وسعْيِها في إيقاعه فلأَنْ يستحيلَ عند عدمِ ذلك أولى وأظهر، وفيه من التحريض على القتال ما لا يخفى {كتابا} مصدرٌ مؤكّدٌ لمضمون ما قبله، أي كتبه الله كتاباً {مُّؤَجَّلاً} مؤقتاً بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخَّرُ ولو ساعةً. وقرئ {مُوَجّلاً} بالواو بدلَ الهمزةِ على قياس التخفيفِ، وبعد تحقيقِ أن مناطَ الموتِ والحياةِ محضُ مشيئةِ الله عز وجل من غير أن يكونَ فيه مدخلٌ لأحد أصلاً أشير إلى أن توفيةَ ثمراتِ الأعمالِ دائرةٌ على إرادتهم ليصْرِفوها عن الأغراض الدنيئةِ إلى المطالب السنيةِ فقيل: {وَمَن يُرِدِ} أي بعمله {ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ} بنون العظمةِ على طريق الالتفات {مِنْهَا} أي من ثوابها ما نشاء أن نؤتيَه إياه كما في قوله عز وجل: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} وهو تعريضٌ بمن شغلتهم الغنائمُ يومئذ وقد مر تفصيلُه {وَمَن يُرِدِ} أي بعمله {ثَوَابَ الاخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي من ثوابها ما نشاء من الأضعاف حسبما جريَ به الوعدُ الكريمُ {وَسَنَجْزِى الشاكرين} نعمةَ الإسلامِ الثابتين عليه الصارفين لما آتاهم الله تعالى من القُوى والقدر إلى ما خُلِقت هي لأجله من طاعة الله تعالى لا يَلْويهم عن ذلك صارفٌ أصلاً، والمرادُ بهم إما المجاهدون المعهودون من الشهداءِ وغيرهم وإما جنسُ الشاكرين وهم داخلون فيه دخولاً أولياء. والجملة اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله ووعدٌ بالمزيد عليه وفي تصديرها بالسين وإبهامِ الجزاءِ من التأكيد والدَّلالة على فخامة شأنِ الجزاءِ وكونِه بحيث يقصُر عنه البيانُ ما لا يخفى. وقرئ الأفعالُ الثلاثةُ بالياء.

.تفسير الآية رقم (146):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)}
{وَكَأَيّن} كلامٌ مبتدأٌ ناعٍ عليهم تقصيرَهم وسوءَ صنيعِهم في صدودهم عن سَنن الربانيين المجاهدين في سبيل الله مع الرسل الخالين عليهم السلام، و{كأين} لفظةٌ مركبةٌ من كاف التشبيهِ وأي، حدث فيها بعد التركيب معنى التكثيرِ كما حدث في كذا وكذا، والنون تنوينٌ أُثبتت في الخط على غير قياسٍ، وفيها خمسُ لغاتٍ هي إحداهن والثانيةُ كائِنْ مثلُ كاعن والثالثة كأْيِن مثل كعْيِن والرابعةُ كَيْئِن بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة وهي قلبُ ما قبلها والخامسةُ كأْن مثلُ كعن، وقد قرئ بكل منها ومحلُّها الرفعُ بالابتداء وقولُه تعالى: {مّن نَّبِىٍّ} تمييزٌ لها لأنها مثلُ كم الخبرية، وقد جاء تمييزُها منصوباً كما في قوله:
أطرُد اليأسَ بالرجا فكأيِّن ** آملاً حُمَّ يسرُه بعد عُسرِ

وقوله تعالى: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ} خبرٌ لها على أن الفعلَ مسندٌ إلى الظاهر، والرابطُ هو الضمير المجرورُ في معه، وقرئ {قُتِل} و{قُتّل} على صيغة المبني للمفعول مخففةً ومشددةً، والرِّبِّيُّ منسوبٌ إلى الرب كالرَّباني وكسرُ الراء من تغييرات النّسْبِ وقرئ بضمها وبفتحها أيضاً على الأصل وقيل: هو منسوبٌ إلى الرَّبة وهي الجماعة، أي كثيرٌ من الأنبياء قاتلَ معه لإعلاء كلمةِ الله وإعزاز دينِه علماءُ أتقياءُ أو عابدون أو جماعاتٌ كثيرة، فالظرفُ متعلقٌ بقاتل أو بمحذوف وقع حالاً من فاعله كما في القراءتين الأخيرتين إذ لا احتمالَ فيهما لتعلقه بالفعل أي قُتلوا أو قُتّلوا كائنين معه في القتال لا في القتل. قال سعيد بن جبير: ما سمعنا بنبي قُتل في القتال، وقال الحسنُ البصري وجماعةٌ من العظماء: لم يقتَلْ نبي في حرب قطُّ، وقيل: الفعلُ مسنَدٌ إلى ضمير النبي والظرفُ متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً منه، والرابطُ هو الضميرُ المجرورُ الراجعُ إليه، وهذا واضحٌ على القراءة المشهورةِ بلا خوف أي كم نبيَ قاتلَ كائناً معه في القتال ربيون كثير، وأما على القراءتين الأخيرتين فغيرُ ظاهرٍ لاسيما على قراءة التشديد وقد جوّزه بعضُهم وأيّده بأن مدارَ التوبيخِ انخذالُهم للإرجاف بقتلِه عليه السلام أي كم من نبي قُتل كائناً معه في القتل أو في القتال ربيون الخ، وقوله تعالى: {فَمَا وَهَنُواْ} عطفٌ على قاتل على أن المرادَ به عدمُ الوهنِ المتوقَّعِ من القتال كما في قولك: وعظتُه فلم يتَّعِظْ وصِحْتُ به فلم ينزجِرْ فإن الإتيانَ بالشيء بعد ورودِ ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمراراً عليه بحسب الظاهرِ ولكنه بحسب الحقيقةِ صنعٌ جديدٌ مصحِّحٌ لدخول الفاءِ المرتبةِ له على ما قبله أي فما فتَروا وما انكسرت هِمتُهم {لِمَا أَصَابَهُمْ} في أثناء القتالِ وهو علةٌ للمنفيّ دون النفيِ، نعم يُشعِرُ بعلّته قوله تعالى: {فِى سَبِيلِ الله} فإن كونَ ذلك في سبيله عز وجل مما يقوِّي قلوبَهم ويُزيلُ وهنَهم، وما موصولةٌ أو موصوفةٌ، فإن جُعِل الضميران لجميع الرِّبيِّين فهي عبارةٌ عما عدا القتلِ من الجراح وسائرِ المكارِه المعتريةِ للكل، وإن جعلاً للبعض الباقين بعد ما قُتل الآخَرون كما هو الأليقُ بمقام توبيخِ المنخذِلين بعد ما استُشهد الشهداءُ فهي عبارةٌ عما ذُكر مع ما اعتراهم من قتل إخوانِهم من الخوف والحُزْن وغيرِ ذلك.
هذا على القراءة المشهورةِ وأما على القراءتين الأخيرتين: فإن أُسندَ الفعلُ إلى الرّبيّين فالضميران للباقين منهم حتماً، وإن أُسند إلى ضمير النبي كما هو الأنسبُ بالتوبيخ على الانخذال بسبب الإرجافِ بقتله عليه الصلاة والسلام فهما للباقين أيضاً إن اعتُبر كونُ الرّبيّين مع النبي في القتل وللجميع إن اعتُبر كونُهم معه في القتال {وَمَا ضَعُفُواْ} عن العدو، وقيل: عن الجهاد، وقيل: في الدين {وَمَا استكانوا} أي وما خضَعوا للعدو وأصلُه استكنَ من السكون لأن الخاضعَ يسكُن لصاحبه ليفعلَ به ما يريدُه، والألفُ من إشباع الفتحةِ أو استكْوَن من الكون لأنه يُطلب أن يكون لمن يُخضَع له. وهذا تعريضٌ بما أصابهم من الوهن والانكسارِ عند استيلاءِ الكفرةِ عليهم والإرجافِ بقتل النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبضَعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتِهم لهم حين أرادوا أن يعتضِدوا بابن أُبيّ المنافق في طلب الأمانِ من أبي سفيان {والله يُحِبُّ الصابرين} أي على مقاساة الشدائدِ ومعاناةِ المكاره في سبيل الله فينصُرهم ويُعظّم قدرَهم، والمرادُ بالصابرين إما المعهودون، والإظهارُ في موضع الإضمارِ للثناء عليهم بحسن الصبرِ والإشعارِ بعلة الحُكم، وإما الجنسُ وهم داخلون فيه دخولاً أولياً والجملة تذييل لما قبلها.