فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (20):

{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)}
{وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ} أي تزوُّجَ امرأةٍ ترغبون فيها {مَّكَانَ زَوْجٍ} ترغبون عنها بأن تُطلقوها {وآتيتُمْ إحْدَاهُنَّ} أي إحدى الزوجاتِ فإن المرادَ بالزوج هو الجنسُ، والجملةُ حاليةٌ بإضمار قد لا معطوفةٌ على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها {قِنْطَاراً} أي مالاً كثيراً {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ} أي من ذلك القنطارِ {شَيْئاً} يسيراً فضلاً عن الكثير {أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير النهْي والتنفيرِ عن المنهيِّ عنه، والاستفهامُ للإنكار والتوبيخِ، أي أتأخذونه باهتين وآثمين، أو للبهتان والإثم، فإن أحدَهم كان إذا تزوج امرأةً بَهَت التي تحته بفاحشة حتى يُلجِئَها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرِفه إلى تزوج الجديدةِ فنُهوا عن ذلك، والبهتانُ الكذبُ الذي يبهَتُ المكذوبَ عليه ويُدهِشه، وقد يستعمل في الفعل الباطلِ ولذلك فُسِّر هاهنا بالظلم.

.تفسير الآيات (21- 22):

{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)}
وقوله عز وجل: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} إنكارٌ لأخذه إثرَ إنكارٍ وتنفيرٌ عنه بعد تنفيرٍ، وقد بولغ فيه حيث وُجّه الإنكارُ إلى كيفية الأخذِ إيذاناً بأنه مما لا سبيل له إلى التحقق والوقوعِ أصلاً لأن ما يدخُل تحت الوجودِ لابد أن يكون على حال من الأحوال فإذا لم يكن لشيء حالٌ أصلاً لم يكن له حظٌّ من الوجود قطعاً، وقوله عز وجل: {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} حالٌ من فاعل تأخُذونه مفيدةٌ لتأكيد النكيرِ وتقريرِ الاستبعادِ، أي على أي حالٍ أو في أي حالٍ تأخُذونه والحالُ أنه قد جرى بينكم وبينهن أحوالٌ منافيةٌ له من الخَلْوة وتقرُّرِ المَهرِ وثبوتِ حقِّ خِدْمتِهن لكم وغير ذلك {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} عطفٌ على ما قبله داخلٌ في حكمه أي أخذْنَ منكم عهداً وثيقاً وهو حقُّ الصحبةِ والمعاشرةِ أو ما وثّق اللَّهُ تعالى عليهم في شأنهن بقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} أو ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام: «أخذتُموهن بأمانةِ اللَّهِ واستحللتم فروجَهن بكلمة الله تعالى».
{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} شروعٌ في بيان من يحْرُم نكاحُها من النساء ومَنْ لا يحرُم، وإنما خُصَّ هذا النكاحُ بالنهي ولم يُنْظَمْ في سلك نكاحِ المحرِّماتِ الآتيةِ مبالغةً في الزجر عنه حيث كانوا مُصِرِّين على تعاطيه قال ابنُ عباسٍ وجمهورُ المفسِّرين: كان أهلُ الجاهليةِ يتزوّجون بأزواج آبائِهم فنُهوا عن ذلك، واسمُ الآباءِ ينتظِمُ الأجدادَ مجازاً فتثبُت حرمةُ ما نكحوها نصاً وإجماعاً، ويستقِلُّ في إثبات هذه الحُرمةِ نفس النكاحِ إذا كان صحيحاً وأما إذا كان فاسداً فلابد في إثباتها من الوطء أو ما يجري مجراه من التقبيل والمسِّ بشهوة ونحوِهما، بل هو المثبِتُ لها في الحقيقة حتى لو وقع شيءٌ من ذلك بحكم مِلكِ اليمينِ أو بالوجه المحرَّمِ تثبتُ به الحُرمةُ عندنا خلافاً للشافعي في المحرّم أي لا تنكحوا التي نكحها آباؤكم، وإيثارُ (ما) على مَنْ للذهاب إلى الوصف، وقيل ما مصدريةٌ على إرادة المفعولِ من المصدر {مّنَ النساء} بيانٌ لما نُكِح على الوجهين {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} استثناءٌ مما نكَحَ مفيدٌ للمبالغة في التحريم بإخراج الكلامِ مُخرَجَ التعليقِ بالمُحال على طريقةِ قولهِ:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم ** بهنّ فُلولٌ من قراع الكتائبِ

والمعنى لا تنكِحوا حلائلَ آبائِكم إلا من ماتت منهن، والمقصودُ سدُّ طريقِ الإباحةِ بالكلية ونظيرُه قوله تعالى: {حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمّ الخياط} وقيل: هو استثناء مما يستلزِمُه النهي ويستوجبه مباشرةً المنهيُّ عنه كأنه قيل: لا تنكِحوا ما نكح آباؤكم من النساء فإنه موجبٌ للعقاب إلا ما قد مضى فإنه معفوٌّ عنه، وقيل: هو استثناءٌ منقطعٌ معناه لكنْ ما قد سلف لا مؤاخذةَ عليه لا أنه مقرَّرٌ، ويأباهما قولُه تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً} فإنه تعليلٌ للنهي وبيانٌ لكون المنهيِّ عنه في غاية القُبحِ مبغوضاً أشدَّ البُغضِ وأنه لم يزَلْ في حكم الله تعالى وعلمِه موصوفاً بذلك ما رَخَّص فيه لأمة من الأمم فلا يلائم أن يُوسَّطَ بينهما ما يُهوِّن أمرَه من ترك المؤاخذةِ على ما سلفَ منه {وَسَاء سَبِيلاً} في كلمة {سَاء} قولانِ: أحدُهما أنها جاريةٌ مَجرى بئسَ في الذم والعملِ ففيها ضميرٌ مُبْهمٌ يفسِّره ما بعده والمخصوصُ بالذم محذوفٌ تقديرُه وساء سبيلاً سبيلُ ذلك النكاحِ كقوله تعالى: {بِئْسَ الشراب} أي ذلك الماءُ، وثانيهما أنها كسائر الأفعالِ وفيها ضميرٌ يعود إلى ما عاد إليه ضميرُ {أَنَّهُ}، وسبيلاً تمييز، والجملةُ إما مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو معطوفةٌ على خبر كان محكيةٌ بقول مُضْمرٍ هو المعطوفُ في الحقيقة تقديرُه ومقولاً في حقه ساء سبيلاً، فإن ألسنةَ الأممِ كافةً لم تزَلْ ناطقةً بذلك في الأعصار والأمصار. قيل: مراتبُ القُبحِ ثلاثٌ: القبحُ الشرعيُّ والقبحُ العقليُّ والقبحُ العاديُّ، وقد وصف الله تعالى هذا النكاحَ بكل ذلك، فقولُه تعالى: {فاحشة} مرتبةُ قُبحِه العقليِّ وقولُه تعالى: {وَمَقْتاً} مرتبةُ قبحِه الشرعيِّ وقولُه تعالى: {وَسَاء سَبِيلاً} مرتبةُ قبحِه العاديِّ، وما اجتمع فيه هذه المراتبُ فقد بلغَ أقصى مراتبِ القُبحِ.

.تفسير الآية رقم (23):

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}
{حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الاخ الاخ وَبَنَاتُ الاخت} ليس المرادُ تحريمَ ذواتِهن بل تحريمَ نكاحِهن وما يُقصد به من التمتع بهن وبيانَ امتناعِ ورودِ مِلكِ النكاحِ عليهن وانتفاءِ محلِّيتِهن له أصلاً، وأما حرمةُ التمتُّع بهن بملك اليمينِ في الموادّ التي يُتصور فيها قرارُ المِلكِ كما في بعض المعطوفاتِ على تقدير رِقِّهن فثابتةٌ بدِلالة النصِّ لاتحاد المدارِ الذي هو عدمُ مَحلّيةِ أبضاعِهن للمِلْك لا بعبارته بشهادة سباقِ النظمِ الكريمِ وسياقِه، وإنما لم يوجب المدارُ المذكورُ امتناعَ ورودِ مِلكِ اليمينِ عليهن رأساً، ولا حرمةَ سببِه الذي هو العقدُ أو ما يجري مَجراه كما أوجب حرمةَ عقدِ النكاحِ وامتناعَ ورودِ حُكمِه عليهن لأن مورِدَ مِلكِ اليمينِ ليس هو البُضعَ الذي هو مورِدُ ملكِ النكاحِ حتى يفوتَ بفوات مَحلِّيتِه له كملك النكاحِ فإنه حيث كان موردُه ذلك فات بفوات محلّيتِه له قطعاً، وإنما مورِدُه الرقبةُ الموجودةُ في كل رقيق فيتحقق بتحقق محلِّه حتماً ثم يزول بوقوع العِتقِ في المواد التي سببُ حرمتِها محضُ القرابةِ النَّسَبية كالمذكورات ويبقى في البواقي على حاله مستتبِعاً لجميع أحكامِه المقصودةِ منه شرعاً، وأما حلُّ الوطءِ فليس من تلك الأحكامِ فلا ضيرَ في تخلُّفه عنه كما في المجوسية. والأمهاتُ تعُمُّ الجداتِ وإن عَلَوْن، والبناتُ تتناول بناتِهن وإن سفَلْن والأخواتُ ينتظِمْن الأخواتِ من الجهات الثلاثِ وكذا الباقياتُ، والعمةُ كلُّ أنثى ولدَها مَنْ وَلدَ والدَك، والخالةُ كلُّ أنثى ولدَها مَنْ ولدَ والدتَك قريباً أو بعيداً، وبناتُ الأخِ وبناتُ الأختِ تتناول القريبةَ والبعيدةَ {وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مّنَ الرضاعة} نزّل الله تعالى الرَّضاعة منزلةَ النَسَب حتى سمَّى المُرضِعةَ أماً للرضيع والمُرْضَعة أختاً، وكذلك زوجُ المرضعةِ أبوه وأبواه جدّاه، وأختُه عمتُه، وكلُّ ولدٍ وُلد له من غير المُرْضِعة قبلَ الرّضاعِ وبعده فهم إخوتُه وأخواتُه لأبيه، وأمُّ المرضعةِ جدتُه وأختُها خالتُه، وكلٌّ مِنْ ولدِها من هذا الزوجِ فهم إخوتُه وأخواتُه لأبيه وأمه، ومِنْ ولدها من غيره فهم إخوتُه وأخواتُه لأمه، ومنه قولُه عليه السلام: «يحرُم من الرَّضاع ما يحرُم من النَسَب» وهو حكمٌ كليٌّ جارٍ على عمومه، وأما أمُّ أخيه لأب وأختُ ابنِه لأم وأمُّ أمِّ ابنِه وأمُّ عمِّه وأمُّ خالِه لأب فليست حرمتُهن من جهة النسبِ حتى يحِلَّ بعمومه ضرورةَ حلِّهن في صور الرضاعِ بل من جهة المصاهرةِ ألا يرى أن الأولى موطوءةُ أبيه والثانيةَ بنتُ موطوءتِه والثالثةَ أمُّ موطوءتِه والرابعةَ موطوءةُ جدِّه الصحيحِ والخامسةَ موطوءةُ جدِّه الفاسد.
{وأمهات نِسَائِكُمْ} شروعٌ في بيان المحرَّماتِ من جهة المصاهرةِ إثرَ بيان المحرَّماتِ من جهة الرَّضاعةِ التي لها لُحمةٌ كلُحمةِ النَسبِ، والمرادُ بالنساء المنكوحاتُ على الإطلاق سواءٌ كن مدخولاً بهن أو لا وعليه جمهورُ العلماء.
روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في رجل تزوج امرأةً ثم طلقها قبل أن يدخُلَ بها إنه لا بأس بأن يتزوجَ ابنتَها ولا يحِلُّ له أن يتزوجَ أمَّها. وعن عمرَ وعِمرانَ بنِ الحصين رضي الله عنهما: أن الأمَّ تحرُم بنفس العقدِ، وعن مسروقٍ: هي مُرسلةٌ فأرسِلوا ما أرسلَ الله. وعن ابن عباس: أبهِموا ما أبهم الله، خلا أنه روي عنه وعن علي وزيد وابنِ عمرَ وابنِ الزبيرِ رضي الله عنهم أنهم قرَؤا وأمهاتُ نسائِكم اللاتي دخلتم بهن، وعن جابر روايتان وعن سعيدِ بنِ المسيِّبَ عن زيد أنه إذا ماتت عنده فأخذ ميراثَها كُره أن يخلُفَ على أمها وإذا طلقها قبل أن يدخُل بها فإن شاء فَعَل، أقام الموتَ في ذلك مُقام الدخولِ كما قام مقامَه في باب المهرِ والعِدّةِ، ويُلحقُ بهن الموطوءاتُ بوجه من الوجوه المعدودةِ فيما سبَق والممسوساتُ ونظائرُهن. والأمهاتُ تعم المرضِعاتِ كما تعم الجداتِ حسبما ذكر {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِي حُجُورِكُمْ} الربائبُ جمعُ ربيبة فعيل بمعنى مفعول، والتاء للنقل إلى الاسمية والربيبُ ولدُ المرأةِ من آخَرَ سمي به لأنه يرُبُّه غالباً كما يرُبُّ ولدَه وإن لم يكن ذلك أمراً مطَّرِداً، وهو المعنيُّ بكونهن في الحُجور فإن شأنهن الغالبَ المعتادَ أن يكنّ في حضانة أمهاتِهن تحت حمايةِ أزواجِهن لا كونُهن كذلك بالفعل، وفائدةُ وصفِهن بذلك تقويةُ عِلةِ الحُرمةِ وتكميلُها كما أنها هي النُّكتةُ في إيرادهن باسم الربائبِ دون بناتِ النساءِ فإن كونَهن بصدد احتضانِهم لهن وفي شرف التقلّبِ في حجورهم وتحت حمايتِهم وتربيتِهم مما يقوِّي الملابسةَ والشبَهَ بينهن وبين أولادِهم ويستدعي إجراءَهن مُجرى بناتِهم، لا تقييدُ الحرمةِ بكونهن في حجورهم بالفعل، كما روي عن علي رضي الله عنه وبه أخذ داودُ، ومذهبُ جمهورِ العلماءِ ما ذكر أولاً بخلاف ما في قوله تعالى: {مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فإنه لتقييدها به قطعاً فإن كلمةَ مِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من ربائبكم اللاتي استقرَرْنَ في حجوركم كائناتٍ من نسائكم الخ، ولا مساغَ لجعله حالاً من أمهاتُ أو مما أضيفت هي إليه خاصةً وهو بيِّنٌ لا سِترةَ به ولا مع ما ذكر أو لا ضرورةَ أن حاليتَه من ربائبكم أو من ضميرها تقتضي كونَ كلمةِ مِنْ ابتدائيةً وحاليتُه من أمهاتُ أو من نسائكم تستدعي كونَها بيانيةً، وادعاءُ كونِها اتصاليةً منتظمةٌ لمعنى الابتداءِ والبيان، وجعلُ الموصولِ صفةً للنساءَيْنِ مع اختلاف عاملَيْهما مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثاله مع أنه سعيٌ في إسكات ما نطَق به النبيُّ عليه الصلاة والسلام واتفق عليه الجمهورُ حسبما ذُكر فيما قبلُ، وأما ما نقل من القراءة فضعيفةُ الروايةِ وعلى تقدير الصحةِ محمولةٌ على النسخ ومعنى الدخولِ بهن إدخالُهن السِّترَ، والباءُ للتعدية وهي كنايةٌ عن الجماع كقولهم: بنى عليها وضرَب عليها الحجابَ وفي حكمه اللمسُ ونظائرُه كما مر {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ} أي فيما قبل {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} أصلاً {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي في نكاح الربائبِ، وهو تصريحٌ بما أَشعَرَ به ما قبله، والفاءُ الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن بيانَ حكمِ الدخولِ مستتبِعٌ لبيانِ حكمِ عدمِه {وحلائل أَبْنَائِكُمُ} أي زوجاتُهم، سُمّيت الزوجةُ حليلةً لحِلّها للزوج أو لحلولها في محله، وقيل: لَحِلّ كلَ منهما إزارَ صاحبِه، وفي حكمهن مزْنياتُهم ومَن يجرين مَجراهن من الممسوسات ونظائرِهن، وقولُه تعالى: {الذين مِنْ أصلابكم} لإخراج الأدعياءِ دون أبناءِ الأولادِ والأبناءِ من الرَّضاع فإنهم وإن سفَلوا في حكم الأبناءِ الصُلْبيين {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين} في حيز الرفعِ عطفاً على ما قبله من المحرمات، والمرادُ به جمعُهما في النكاح لا في مِلك اليمينِ، وأما جمعُهما في الوطء بملك اليمينِ فملحقٌ به بطريق الدِلالةِ لاتحادهما في المدار ولقوله عليه الصلاة والسلام:
«مَنْ كان يؤمن بالله واليومِ الآخرِ فلا يجمَعَنّ ماءَه في رحم أختين» بخلاف نفسِ ملكِ اليمينِ فإنه ليس في معنى النكاحِ في الأفضاء إلى الوطء ولا مستلزِماً له، ولذلك يصَحُّ شراءُ المجوسيةِ دون نكاحِها حتى لو وطِئهما لا يحِلّ له وطءُ إحداهما حتى يحرُمَ عليه وطءُ الأخرى بسبب من الأسباب، وكذا لو تزوج أختَ أَمَتِه الموطوءةِ لا يحل له وطءُ إحداهما حتى يحرُم عليه الأخرى، لأن المنكوحةَ موطوءةٌ حكماً فكأنه جمعهما وطئاً، وإسنادُ الحرمةِ إلى جمعهما لا إلى الثانية منهما بأن يقال: وأخواتُ نسائِكم للاحتراز عن إفادة الحُرْمةِ المؤبدةِ كما في المحرماتِ السابقاتِ ولكونه بمعزل من الدِلالة على حرمة الجمعِ بينهما على سبيل المعية، ويسترك في هذا الحكمِ الجمعُ بين المرأةِ وعمتِها ونظائرِها، فإن مدارَ حرمةِ الجمعِ بين الأختين إفضاؤُه إلى قطع ما أمر الله بوصله وذلك متحققٌ في الجمع بين هؤلاءِ بل أولى، فإن العمةَ والخالةَ بمنزلة الأمِّ فقوله عليه السلام: «لا تُنكحُ المرأةُ على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها» من قبيل بيان التفسيرِ لا بيانِ التغييرِ، وقيل: هو مشهورٌ يجوز به الزيادةُ على الكتاب {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} استثناءٌ منقطعٌ أي لكن ما قد مضى لا تؤاخذون به ولا سبيل إلى جعله متصلاً بقصد التأكيدِ والمبالغةِ كما مر فيما سلف لأن قوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} تعليلٌ لما أفاده الاستثناءُ فيتحتم الانقطاعُ، وقال عطاء والسدي: معناه إلا ما كان من يعقوبَ عليه السلام فإنه قد جمع بين لي أمِّ يهوذا وبين راحيلَ أمِّ يوسفَ عليه الصلاة والسلام، ولا يساعده التعليلُ لأن ما فعله يعقوبُ عليه السلام كان حلالاً في شريعته، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أهلُ الجاهليةِ يحرِّمون ما حرم الله تعالى إلا امرأةَ الأبِ والجمعَ بين الأختين. وروى هشامُ بنُ عبدِ اللَّه عن محمد بنِ الحسنِ أنه قال: كان أهلُ الجاهلية يعرِفون هذه المحرماتِ إلا اثنتين: نكاحَ امرأةِ الأبِ والجمعَ بين الأختين، ألا يُرى أنه قد عُقِّب النهيُ عن كل منهما بقوله تعالى: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وهذا يُشير إلى كون الاستثناءِ فيهما على سَنن واحدٍ ويأباه اختلافُ التعليلين.

.تفسير الآية رقم (24):

{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)}
{والمحصنات} بفتح الصاد وهن ذواتُ الأزواجِ أحصنهنّ التزوجُ أو الأزواجُ أو الأولياءُ أي أَعَفَّهن عن الوقوع في الحرام، وقرئ على صيغة اسمِ الفاعلِ فإنهن أحصَنَّ فزوجَهن عن غير أزواجِهن، أو أحصَنَّ أزواجَهن. وقيل: الصيغةُ للفاعل على القراءة الأولى أيضاً وفتحُ الصادِ محمولٌ على الشذوذ كما في نظيريه مُلقَح ومسهَب من ألقح وأسهب، قيل: قد ورد الإحصانُ في القرآن على أربعة معانٍ، الأولُ: التزوجُ كما في هذه الآية الكريمةِ، والثاني: العفةُ كما في قوله تعالى: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين}، الثالث: الحريةُ كما في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات} والرابع: الإسلامُ كما في قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قيل في تفسيره: أي أسلمن وهي معطوفةٌ على المحرمات السابقة، وقوله تعالى: {مّنَ النساء} متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً منها أي كائناتٍ من النساء، وفائدتُه تأكيدُ عمومِها في دفع توهُّمِ شمولِها للرجال بناءً على كونها صفةً للأنفس كما تُوهِّم {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} استثناءٌ من المحصَنات استثناءَ النوعِ من الجنس، أي ملكتُموه، وإسنادُ المِلكِ إلى الأَيْمان لما أن سببَه الغالبَ هو الصفةُ الواقعةُ بها وقد اشتهر ذلك في الإرِقاء، لاسيما في إناثهم وهن المراداتُ هاهنا رعايةً للمقابلة بينه وبين مِلكِ النكاحِ الواردِ على الحرائر، والتعبيرُ عنهن بما لإسقاطهن بما فيهن من قصور الرقِّ عن رتبة العقلاءِ، وهي إما عامةٌ حسب عمومِ صلتِها فالاستثناءُ حينئذ ليس لإخراج جميعِ أفرادِها من حكم التحريمِ بطريق شمولِ النفي بل بطريق نفيِ الشمولِ المستلزِمِ لإخراج بعضِها أي حُرمت عليكم المحصَناتُ على الإطلاق إلا المحصناتِ اللاتي ملكتُموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لا يحرُم نكاحُهن في الجملة وهن المسْبياتُ بغير أزواجِهن أو مطلقاً حسب اختلافِ الرأيين، وإما خاصةٌ بالمذكورات فالمعنى: حُرمت عليكم المحصناتُ إلا اللاتي سُبِين فإن نكاحَهن مشروعٌ في الجملة أي لغير مُلاّكِهن، وأما حِلُّهن لهم بحكم ملكِ اليمينِ فمفهومٌ بدِلالة النصِّ لاتحاد المَناطِ لا بعبارته لما عرفت من أن مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيان حرمةِ التمتعِ بالمحرمات المعدودةِ بحكم ملكِ النكاحِ، وإنما ثبوتُ حرمةِ التمتعِ بهن بحكم مِلكِ اليمينِ بطريق دِلالةِ النصِّ وذلك مما لا يجري فيه الاستثناءُ قطعاً، وأما عدُّهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفُرقةِ بينهن وبين أزواجِهن قطعاً يالتبايُن أو بالسبْي على اختلاف الرأيين فمبنيٌّ على اعتقاد الناسِ حيث كانوا حينئذ غافلين عن الفُرقة، ألا ترى إلى ما رُوي عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه من أنه قال: أصبْنا يومَ أوطاس سبايا لهن أزواجٌ فكرِهْنا أن نقَع عليهن فسألنا النبيَّ عليه السلام. وفي رواية عنه قلنا: يا رسولَ الله كيف نقَع على نساءٍ قد عرَفنا أنسابَهن وأزواجَهن؟ فنزلت، والمحصناتُ من النساء إلا ما ملكت إيمانُكم فاستحللناهن.
وفي رواية أخرى عنه ونادى منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا توطأَ حاملٌ حتى تضَعَ ولا حائلٌ حتى تحيضَ فأباح وطأَهن بعد الاستبراءِ، وليس في ترتيب هذا الحكمِ على نزول الآيةِ الكريمةِ ما يدل على كونها مَسوقةً له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدِلالةِ لا على إفادتها بطريق العبارةِ أو نحوِها.
هذا وقد روي عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: إنها نزلت من نساءٍ كنّ يهاجِرْن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواجٌ فيتزوجُهن بعضُ المسلمين ثم يقدَمُ أزواجُهن مهاجرين فنهى عن نكاحهن، فالمحصناتُ حينئذ عبارةٌ عن المهاجرات اللاتي يَتَحقق أو يُتوقع من أزواجهن الإسلامُ والمهاجَرَة، ولذلك لم يزُلْ عنهن اسمُ الإحصانِ، والنهيُ للتحريم المحقق، وتعرُّفِ حالِ المتوقعِ، وإلا فما عداهن بمعزل من الحُرمة واستحقاقِ إطلاقِ الاسمِ عليهن، كيف لا وحين انقطعت العلاقةُ بين المَسْبيةِ وزوجِها مع اتحادهما في الدين فلأَنْ تنقطِعَ ما بين المهاجِرَةِ وزوجِها أحقُّ وأولى كما يُفصح عنه قولُه عز وجل: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الآية.
{كتاب الله} مصدرٌ مؤكّدٌ أي كتَبَ الله {عَلَيْكُمْ} تحريمَ هؤلاءِ كتاباً وفرضه فرضاً، وقيل: منصوبٌ على الإغراء بفعل مضمرٍ أي الزَموا كتابَ الله وعليكم متعلقٌ إما بالمصدر وإما بمحذوف وقع حالاً منه وقيل: هو إغراءٌ آخَرُ مؤكدٌ لما قبله قد حُذف مفعولُه لدِلالة المذكورِ عليه أو بنفس عليكم على رأي من جوّز تقديمَ المنصوبِ في باب الإغراءِ كما في قوله:
يا أيها المائحُ دَلْوي دونكا ** إني رأيتُ الناسَ يحمَدونكا

وقرئ {كُتُبُ الله} بالجمع والرفع أي هذه فرائضُ الله عليكم وقرئ {كتَبَ الله} بلفظ الفعل {وَأُحِلَّ لَكُمْ} عطفٌ على حُرّمت عليكم الخ، وتوسيطُ قوله تعالى: {كتاب الله عَلَيْكُمْ} بينهما للمبالغة في الحمل على المحافظة عن المحرمات المذكورةِ، وقرئ على صيغة المبنيِّ للفاعل فيكون معطوفاً على الفعل المقدّرِ، وقيل: بل على حرمت الخ، فإنهما جملتانِ متقابلتانِ مؤسِّستانِ للتحريم والتحليلِ المنوطَيْن بأمر الله تعالى ولا ضير في اختلاف المُسندِ إليه بحسب الظاهِرِ لاسيما بعد ما أُكّدت الأولى بما يدل على أن المحرِّمَ هو الله تعالى {مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} إشارةٌ إلى ما ذُكر من المحرمات المعدودةِ أي أُحِلَّ لكم نِكاحُ ما سواهن انفراداً وجمعاً، ولعل إيثارَ اسمِ الإشارةِ المتعرِّضِ لوصف المشارِ إليه وعنوانِه على الضمير المتعرِّضِ للذات فقط لتذكير ما في كل واحدةٍ منهن من العنوان الذي يدور عليه حُكمُ الحرمةِ فيُفهم مشاركةُ مَنْ في معناهن لهن فيها بطريق الدلالةِ فإن حرمةَ الجمعِ بين المرأةِ وعمتِها وبينها وبين خالتِها ليست بطريق الدِلالةِ كما سلف، وقيل: ليس المرادُ بالإحلالِ مطلقاً أي على جميع الأحوالِ حتى يردَ أنه يلزمُ منه حِلُّ الجمعِ بين المرأةِ وعمتِها وبينها وبين خالتِها، بل إنما هو إحلالُهن في الجملة أي على بعض الأحوالِ ولا ريب في حل نكاحِهن بطريق الانفرادِ، ولا يقدَحُ في ذلك حرمتُه بطريق الجمعِ، ألا ترى أن حرمةَ نكاحِ المعتدّةِ والمطلقةِ ثلاثاً والخامسةِ ونكاحِ الأمةِ على الحرة ونكاحِ الملاعنةِ لا تقدَحُ في حل نكاحِهن بعد العدةِ، وبعد التحليلِ، وبعد تطليقِ الرابعةِ وانقضاءِ العدةِ، وبعد تطليقِ الحرةِ، وبعد إكذابِ الملاعِنِ نفسَه.
وأنت خبير بأن الحلَّ يجب أن يتعلق هاهنا بما تعلق به الحرمةُ فيما سلف وقد تعلق هناك بالجمع فلابد أن يتعلق الحِلُّ هاهنا به أيضاً {أَن تَبْتَغُواْ} متعلقٌ بالمفعولين المذكورين على أنه مفعولٌ له لكن لا باعتبار ذاتِهما بل باعتبار بيانِهما وإظهارِهما أي بيّن لكم تحريمَ المحرماتِ المعدودةِ وإحلالَ ما سواهن إرادةَ أن تبتغوا بأموالكم، والمفعولُ محذوفٌ أي تبتغوا النساءَ، أو متروكٌ أي تفعلوا الابتغاءَ {بأموالكم} بصَرْفها إلى مهورهن، أو بدلُ اشتمالٍ مما وراءَ ذلكم بتقدير ضميرِ المفعولِ {مُّحْصِنِينَ} حالٌ من فاعل تبتغوا والإحصانُ العفةُ وتحصينُ النفسِ عن الوقوع فيما يوجب اللومَ والعِقابَ {غَيْرَ مسافحين} حالٌ ثانيةٌ منه أو حالٌ من الضمير محصِنين، والسِفاحُ الزنا والفجورُ من السَّفْح الذي هو صبُّ المنيِّ، سُمّي به لأنه الغرضُ منه، ومفعولُ الفعلين محذوفٌ أي محصِنين فروجَكم غيرَ مسافحين الزّواني، وهي في الحقيقة حالٌ مؤكدةٌ لأن المحصَنَ غيرُ مسافحٍ ألبتةَ، وما في قوله تعالى: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} إما عبارةٌ عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال، وعلى التقديرين فهي إما شرطيةٌ ما بعدها شرطُها، وإما موصولةٌ ما بعدها صلتُها، وأياً ما كان فهي مبتدأٌ خبرُها على تقدير كونِها شرطيةً: إما فعلُ الشرطِ أو جوابُه أو كلاهما على الخلاف المعروفِ، وعلى تقدير كونِها موصولةً قولُه تعالى: {فآتوهنَّ أجورهُنَّ} والفاءُ لتضمُّن الموصولِ معنى الشرطِ ثم على تقدير كونِها عبارةً عن النساء فالعائدُ إلى المبتدأ هو الضميرُ المنصوبُ في فآتوهن، سواءٌ كانت شرطيةً أو موصولةً، ومن بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ محلُّها النصبُ على الحالية من الضمير المجرورِ في به، والمعنى فأيُّ فردٍ استمتعتم به أو فالفردُ الذي استمتعتم به حالَ كونِه من جنس النساءِ أو بعضِهن فآتوهن، وقد روعيَ تارةً جانبُ اللفظِ فأُفرِدَ الضميرُ أولاً، وأخرى جانبُ المعنى فجمع ثانياً وثالثاً، وأما على تقدير كونِها عبارةً عما يتعلق بهن فمن ابتدائيةٌ متعلقةٌ بالاستمتاع والعائدُ إلى المبتدأ محذوفٌ والمعنى أيُّ فعلٍ استمتعتم به من جهتهن من نكاح أو خلوةٍ أو نحوِهما، أو فالفعلُ الذي استمتعتم به من قِبَلهن من الأفعال المذكورةِ فآتوهن أجورَهن لأجله أو بمقابلته والمرادُ بالأجور المهورُ فإنها أجورُ أبضاعِهن.
{فَرِيضَةً} حالٌ من الأجور بمعنى مفروضةً أو نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي إيتاءً مفروضاً أو مصدرٌ مؤكدٌ أي فُرض ذلك فريضةً أي لهن عليكم {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ} أي لا إثمَ عليكم فيما تراضيتم به من الحط عن المهر أو الإبراءِ منه على طريقة قوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شيء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ} إثرَ قولِه تعالى: {وَءاتُواْ النساء صدقاتهن} وقوله تعالى: {إَّلا أَن يَعْفُونَ} وتعميمُه للزيادة على المسمى لا يساعدُه رفعُ الجُناحِ عن الرجال لأنها ليست مَظِنةَ الجُناحِ إلا أن يُجعلَ الخِطابُ للأزواج تغليباً فإن أخذَ الزيادةِ على المسمّى مظِنةُ الجُناحِ على الزوجة، وقيل: فيما تراضيتم به من نفقة ونحوِها، وقيل: من مقام أو فِراقٍ، ولا يساعدُه قوله تعالى: {مِن بَعْدِ الفريضة} إذ لا تعلقَ لهما بالفريضة إلا أن يكون الفِراقُ بطريق المخالعةِ، وقيل: نزلت في المتعة التي هي النكاحُ إلى وقت معلومٍ من يوم أو أكثرَ، سُمِّيت بذلك لأن الغرضَ منها مجردُ الاستمتاعِ بالمرأة واستمتاعِها بما يُعطى، وقد أبيحت ثلاثةَ أيامٍ حين فُتحت مكةُ شرَّفها الله تعالى ثم نُسخت لما روي أنه عليه السلام أباحها ثم أصبح يقول: «ياأيها الناسُ إني كنتُ أمرتُكم بالاستمتاع من هذه النساءِ ألا أنَّ الله حَرَّمَ ذَلِكَ إلى يومِ القَيامَةِ» وقيل: أُبيح مرتين وحُرِّم مرتين، ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رجَع عن القول بجوازه عند موتِه، وقال: «اللهم إني أتوبُ إليك من قولي بالمتعة وقولي في الصرْف» {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بمصالح العبادِ {حَكِيماً} فيما شرَع لهم من الأحكام ولذلك شرَع لكم هذه الأحكامَ اللائقةَ بحالكم.