فصل: تفسير الآية رقم (30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (30):

{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)}
{وَمَن يَفْعَلْ ذلك} إشارةٌ إلى القتل خاصةً أو لما قبله من أكل الأموالِ، وما فيه من معنى البُعدِ للإيذان ببُعْد منزلتِهم في الفساد {عدوانا وَظُلْماً} أي إفراطاً في التجاوز عن الحد وإتياناً بما لا يستحقّه، وقيل: أُريد بالعدوان التعدّي على الغير وبالظلم الظلمُ على النفس بتعريضها للعقاب، ومحلُّهما النصبُ على الحالية أو على التعليل، أي متعدياً وظالماً أو للعدوان والظلم، وقرئ {عِدواناً} بكسرالعين {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ} جوابٌ للشرط أي ندخلُه، وقرئ بالتشديد من صلّى وبفتح النون من صَلاة يَصْليه ومنه شاةٌ مَصْليةٌ، ويُصليه بالياء والضمير لله تعالى أو لذلك من حيث أنه سببٌ للصَّلْي {نَارًا} أي ناراً مخصوصةً هائلةً شديدةَ العذابِ {وَكَانَ ذلك} أي إصلاؤُه النار {عَلَى الله يَسِيراً} لتحقق الداعي وعدمِ الصارفِ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتربية المهابةِ وتأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التذييليِّ.

.تفسير الآيات (31- 32):

{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)}
{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} أي كبائرَ الذنوبِ التي نهاكم الشرعُ عنها مما ذكر هاهنا وما لم يُذكرْ، وقرئ {كبيرَ} على إرادة الجنسِ {نُكَفّرْ عَنْكُمْ} بنون العظمةِ على طريقة الالتفاتِ، وقرئ بالياء بالإسنادِ إليه تعالى، والتكفيرُ إماطةُ المستحَقِّ من العقاب بثوابٍ أُريد أو بتوبة أي نغفِرْ لكم {سَيّئَاتِكُمْ} صغائرَكم ونمحُها عنكم، قال المفسرون: «الصلاةُ إلى الصلاة والجمعةُ إلى الجمعة ورمضانُ إلى رمضانَ مكفِّراتٌ لما بينهن من الصغائر إذا اجتُنِبَت الكبائرُ». واختلف في الكبائر والأقربُ أن الكبيرةَ كلُّ ذنبٍ رتّب الشارعُ عليه الحدَّ أو صرح بالوعيد فيه، وقيل: ما عُلم حرمتُه بقاطع، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنها سبعٌ: الإشراكُ بالله تعالى وقتلُ النفسِ التي حرمها الله تعالى وقذفُ المحصناتِ وأكلُ مالِ اليتيمِ والربا والفِرارُ من الزحف وعقوقُ الوالدين. وعن علي رضي الله عنه: التعقيبُ بعد الهجرةِ مكان عقوقِ الوالدين، وزاد ابنُ عمر رضي الله عنهما: السحرَ واستحلالَ البيتِ الحرامِ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له: الكبائر سبعٌ، قال: هي إلى سبعمائةٍ أقربُ منها إلى سبع، وروي عنه إلى سبعين إذْ لا صغيرةَ مع الإصرار ولا كبيرةَ مع الاستغفار، وقيل: أريد به أنواعُ الشركِ لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} وقيل: صِغرُ الذنوب وكِبَرُها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها وبحسب فاعلِها فقط بل بحسب الأوقاتِ والأماكنِ أيضاً، فأكبرُ الكبائرِ الشركُ وأصغرُ الصغائرِ حديثُ النفسِ، وما بينهما وسائطُ يصدُق عليه الأمران فمن له أمرانِ منهما ودعت نفسُه إليهما بحيث لا يتمالك فكفّها عن أكبرهما كُفّر عنه ما ارتكبه لِما استحق على اجتناب الأكبرِ من الثواب {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً} بضم الميم اسمُ مكانٍ هو الجنة {كَرِيماً} أي حسَناً مَرْضياً أو مصدرٌ ميميٌّ أي إدخالاً مع كرامةً، وقرئ بفتح الميم وهو أيضاً يحتمل المكانَ والمصدر، ونصبُه على الثاني بفعل مقدرٍ مطاوِعٍ للمذكور أي ندخلكم فتدخلون مدخلاً أو دخولاً كريماً كما في قوله:
وعضّةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تَدَع ** من المال إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ

أي لم تدع فلم يبْقَ إلا مسحتٌ إلخ.
{وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} أي عليكم، ولعل إيثارَ الإبهامِ عليه للتفادي عن المواجهة بما يشُقُّ عليهم. قال القفال: لما نهاهم الله تعالى عن أكل أموالِ الناسِ بالباطل وقتلِ الأنفسِ عقّبه بالنهي عما يؤدّي إليه من الطمع في أموالهم وتمنّيها، وقيل: نهاهم أولاً عن التعرض لأموالهم بالجوارح ثم عن التعرّض لها بالقلب على سبيل الحسدِ لتطهير أعمالِهم الظاهرةِ والباطنةِ فالمعنى لا تتمنَّوْا ما أعطاه الله تعالى بعضَكم من الأمور الدنيويةِ كالجاه والمالِ وغيرِ ذلك مما يجري فيه التنافسُ دونكم فإن ذلك قسمةٌ من الله تعالى صادرةٌ عن تدبير لائقٍ بأحوال العبادِ مترتبٍ على الإحاطة بجلائلِ شؤونِهم ودقائقِها فعلى كلّ أحدٍ من المفضّل عليهم أن يرضى بما قسم الله له ولا يتمنى حظَّ المفضَّلِ ولا يحسُده عليه لما أنه معارَضةٌ لحكمِ القدرِ المؤسسِ على الحِكَم البالغةِ لا لأن عدمَه خيرٌ له ولا لأنه لو كان خلافَه لكان مفسدةً له كما قيل إذ لا يساعدُه ما سيأتي من الأمر بالسؤال من فضله تعالى فإنه ناطِقٌ بأن المنهيَّ عنه تمنِّي نصيبِ الغيرِ لا تمنِّي ما زاد على نصيبه مطلقاً.
هذا وقد قيل: لما جعل الله تعالى في الميراث للذكر مثلَ حظِّ الأنثيين قالت النساءُ: نحن أحوجُ أن يكون لنا سهمانِ وللرجال سهمٌ واحد لأنا ضعفاءُ وهم أقوياءُ وأقدرُ على طلب المعاشِ منا فنزلت وهذا هو الأنسبُ بتعليل النهي بقوله عز وجل: {لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبن} فإنه صريحٌ في جريان التمني بين فريقي الرجالِ والنساءِ، ولعل صيغةَ المذكرِ في النهي بالبعض والمعنى لكلَ من الفريقين في الميراث نصيبٌ معينُ المقدارِ مما أصابه بحسَب استعدادِه، وقد عُبّر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارةِ التبعيةِ المبنيةِ على تشبيه اقتضاءِ حالِه لنصيبه باكتسابه إياه تأكيداً لاستحقاق كلَ منهما لنصيبه وتقويةً لاختصاصه به بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجبه الانتهاءُ عن التمني المذكور.
وقوله تعالى: {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} عطفٌ على النهي، وتوسيطُ التعليلِ بينهما لتقرير الانتهاءِ مع ما فيه من الترغيب في الامتثالِ بالأمر كأنه قيل: لا تتمنَّوا ما يختصُّ بغيركم من نصيبه المكتَسبِ له واسألوا الله تعالى من خزائن نِعمِه التي لا تنفَذُ، وحُذف المفعولُ الثاني للتعميم، أي واسألوه ما تريدون فإنه تعالى يعطيكُموه، أو لكونه معلوماً من السياق أي واسألوه مثلَه، وقيل: مِنْ زائدةٌ والتقديرُ واسألوه فضلَه وقد جاء في الحديث: «لا يتمنّينّ أحدُكم مالَ أخيه ولكن ليقل: اللهم ارزُقني اللهم أعطِني مثلَه»، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «سَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ فإنَّهُ يُحِبُّ أن يُسألَ، وأفضلُ العبادةِ انتظارُ الفرجِ». وحملُ النصيبِ على الأجر الأُخرويِّ وإبقاءُ الاكتسابِ على حقيقته بجعل سببِ النزولِ ما رُوي أن أمَّ سلَمةَ رضي الله عنها قالت: ليت الله كتب علينا الجهادَ كما كتبه على الرجال فيكونَ لنا من الأجر مثلُ ما لَهم على أن المعنى لكلَ من الفريقين نصيبٌ خاصٌّ به من الأجر مترتبٌ على عمله، فللرجال أجرٌ بمقابلة ما يليق بهم من الأعمال كالجهاد ونحوِه فلا تَتَمنَّ النساءُ خصوصيةَ أجرِ الرجالِ ولْيَسألْنَ من خزائن رحمتِه تعالى ما يليق بحالهن من الأجر لا يساعده سياقُ النظمِ الكريمِ المتعلق بالمواريث وفضائلِ الرجالِ {إِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شيء عَلِيماً} ولذلك جعل الناسَ على طبقات ورفَع بعضَهم على بعض درجاتٍ حسب مراتبِ استعداداتِهم الفائضةِ عليهم بموجب المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم الأبية.

.تفسير الآية رقم (33):

{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)}
{وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون} جملةٌ مبتدأةٌ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها، ولكلَ مفعولٌ ثانٍ لجعلنا قُدّم عليه لتأكيد الشمولِ ودفعِ توهُّمِ تعلقِ الجعلِ بالبعض دون البعض كما في قوله تعالى: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} أي ولكل تركةٍ جعلنا ورثة متفاوتةً في الدرجة يلونها ويُحرِزون منها أنصباءَهم بحسب استحقاقِهم المنوطِ بما بينهم وبين المورِّثِ من العلاقة، ومما ترك بيانٌ لكلَ قد فُصل بينهما بما عَمِل فيه كما فُصِل في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السموات والارض} بين لفظِ الجلالةِ وبين صفتِه بالعامل فيما أضيف إليه أعني غيرَ، أو لكل قومٍ جعلناهم مواليَ أي وارثٍ نصيبٌ معينٌ مغايرٌ لنصيب قومٍ آخرين مما ترك الوالدان والأقربون، على أن جعلنا مواليَ صفةٌ لكلَ، والضميرُ الراجعُ إليه محذوفٌ والكلامُ مبتدأٌ وخبرٌ على طريقة قولك: لكلِّ مَنْ خلقه الله إنساناً من رزق الله أي حظٌّ منه.
وأما ما قيل من أن المعنى لكل أحدٍ جعلنا موالي مما ترك أي وُرّاثاً منه على أن مِنْ صلةُ موالي لأنه في معنى الوارثِ وفي ترَك ضميرٌ مستكنٌّ عائدٌ إلى كل، وقولُه تعالى: {الوالدان والاقربون} استئنافٌ مفسرٌ للموالي كأنه قيل: مَنْ هم؟ فقيل: الوالدانِ ففيه تفكيكٌ للنظم الكريمِ لأن ببيان الموالي بما ذُكر يفوتُ الإبهامُ المصحِّحُ لاعتبار التفاوتِ بينهم وبه يتحقق الانتظامُ كما أشير إليه في تقرير الوجهين الأولَيْن مع ما فيه من خروج الأولادِ من الموالي، إذ لا يتناولهم الأقربون كما لا يتناول الوالدين. {والذين عَقَدَتْ أيمانكم} هم موالي الموالاةِ، كان الحليفُ يرِثُ السدسَ من مال حليفِه فنُسخ بقوله تعالى: {وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} وعند أبي حنيفة رحمه الله إذا أسلم رجلٌ على يد رجلٍ وتعاقدا على أن يرثَه ويعقِلَ عنه صح وعليه عقْلُه وله إرثُه إن لم يكن له وارثٌ أصلاً، وإسنادُ العقدِ إلى الأَيْمان لأن المعتادَ هو المماسحةُ بها عند العقدِ، والمعنى عقَدَتْ أَيمانُكم عهودَهم فحُذف العهودُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ثم حُذف، وقرئ {عقّدتْ} بالتشديد وعاقدَتْ بمعنى عاقدتْهم أيمانُكم وماسحتُموهم وهو مبتدأٌ متضمِّنٌ لمعنى الشرطِ، ولذلك صُدِّر الخبرُ أعني قولَه تعالى: {وَلِكُلٍ جَعَلْنَا} بالفاء، أو منصوبٌ بمضمر يفسّره ما بعده كقولك: زيداً فاضرِبْه، أو مرفوعٌ معطوفٌ على الوالدان والأقربون، وقوله تعالى: {فَئَاتُوهُمْ} الخ، جملةٌ مبيِّنةٌ للجملة قبلها ومؤكِّدةٌ لها والضميرُ للموالي {إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء} من الأشياء التي من جملتها الإيْتاءُ والمنعُ {شَهِيداً} ففيه وعدٌ ووعيد.

.تفسير الآية رقم (34):

{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)}
{الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النساء} كلامٌ مُستأنفٌ مَسوقٌ لبيان سببِ استحقاقِ الرجالِ الزيادةَ في الميراث تفصيلاً إثرَ بيانِ تفاوتِ استحقاقِهم إجمالاً، وإيرادُ الجملةِ اسميةً والخبرِ على صيغة المبالغةِ للإيذان بعراقتهم في الاتصاف بما أُسند إليهم ورسوخِهم فيه، أي شأنُهم القيامُ عليهن بالأمر والنهْي قيامَ الولاةِ على الرعية، وعلل ذلك بأمرين: وهبيٌّ وكسبيٌّ فقيل: {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} الباءُ سببيةٌ متعلقةٌ بقوامون أو بمحذوف وقع حالاً من ضميره وما مصدريةٌ والضميرُ البارزُ لكِلا الفريقين تغليباً أي قوامون عليهن بسبب تفضيلِ الله تعالى إياهم عليهن أو ملتبسين بتفضيله تعالى الخ، ووضعُ البعضِ موضِعَ الضميرين للإشعار بغاية ظهورِ الأمرِ وعدمِ الحاجةِ إلى التصريح بالمفضّل والمفضّل عليه أصلاً ولذلك لم يصرَّحْ بما به التفضيلُ من صفات كمالِه التي هي كمالُ العقلِ وحسنُ التدبيرِ ورزانةُ الرأي ومزيدُ القوة في الأعمال والطاعاتِ ولذلك خُصّوا بالنبوة والإمامةِ والولايةِ وإقامةِ الشعائرِ والشهادةِ في جميع القضايا ووجوبِ الجهادِ والجمعةِ وغير ذلك {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم} الباءُ متعلقةٌ بما تعلقت به الأولى وما مصدريةٌ وموصولةٌ حُذف عائدُها من الصلة، ومِنْ تبعيضيةٌ أو ابتدائيةٌ متعلقةٌ بأنفقوا أو بمحذوف وقع حالاً من العائد المحذوفِ أي وبسبب إنفاقِهم من أموالِهم أو بسبب ما أنفقوه من أموالهم أو كائناً من أموالهم وهو ما أنفقوه من المَهر والنفقة. روي أن سعدَ بنَ الربيعِ أحدَ نقباءِ الأنصارِ رضي الله عنهم نشَزَت عليه امرأتُه حبيبةُ بنتُ زيدِ بنِ أبي زُهير فلَطَمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا فقال عليه السلام: «لتقتصَّ منه» فنزلت فقال عليه السلام: «أردْنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراده الله خيرٌ».
{فالصالحات} شروعٌ في تفصيل أحوالِهن وبيانِ كيفية القيامِ عليهن بحسب اختلافِ أحوالِهن أي فالصالحاتُ منهن {قانتات} أي مطيعاتٌ لله تعالى قائماتٌ بحقوق الأزواج {حفظات لّلْغَيْبِ} أي لِمَواجب الغيبِ أي لما يجب عليهن حفظُه في حال غيبةِ الأزواجِ من الفروج والأموال. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «خيرُ النساءِ امرأةٌ إن نظَرتَ إليها سرّتْك وإن أمرتها أطاعتْك وإذا غِبت عنها حفِظَتْك في مالها ونفسها» وتلا الآية، وقيل: لأسرارهم وإضافةُ المالِ إليها للإيذان بأن مالَه في حق التصرفِ في حكم مالِها كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم} الآية {بِمَا حَفِظَ الله} ما مصدرية أي بحفظه تعالى إياهن بالأمر بحفظ الغيبِ والحثِّ عليه بالوعد والوعيد والتوعيدِ والتوفيقِ له، أو موصولةٌ أي بالذي حفِظَ الله لهن عليهم من المَهر والنفقةِ والقيامِ بحفظهن والذبِّ عنهن وقرئ {بما حفِظ الله} بالنصب على حذف المضافِ أي بالأمر الذي حفِظ حقَّ الله تعالى وطاعتَه وهو التعففُ والشفقة على الرجال.
{واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} خطابٌ للأزواج وإرشادٌ لهم إلى طريق القيامِ عليهم. والخوفُ حالةٌ تحصُل في القلب عند حدوثِ أمرٍ مكروهٍ أو عند الظنِّ أو العلمِ بحدوثه وقد يُراد به أحدُهما أي تظنون عِصيانَهن وترفُّعَهن عن مطاوعتكم من النشَز وهو المرتفع من الأرض {فَعِظُوهُنَّ} فانصحوهن بالترغيب والترهيب {واهجروهن} بعد ذلك إن لم ينفَع الوعظُ والنصيحةُ {فِى المضاجع} أي في المراقد فلا تُدْخِلوهن تحت اللحف ولا تباشِروهن فيكون كنايةً عن الجماع، وقيل: المضاجعُ المبايتُ أي لا تبايتوهن، وقرئ {في المضْجَع} و{في المُضْطجع} {واضربوهن} إن لم ينجَعْ ما فعلتم من العظة والهُجران ضرباً غيرَ مبرِّحٍ ولا شائنٍ {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} بذلك كما هو الظاهرُ لأنه منتهى ما يعد زاجراً {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} بالتوبيخ والأذيةِ أي فأزيلوا عنهن التعرّضَ واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن فإن التائبَ من الذنب كمن لا ذنب له.
{إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} فاحذَروه فإنه تعالى أقدرُ عليكم منكم على مَنْ تحت أيديكم أو أنه تعالى على علو شأنِه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوبُ عليكم عند توبتِكم فأنتم أحقُّ بالعفو عن أزواجكم عند إطاعتِهن لكم أو أنه يتعالى ويكبُر أن يظلمَ أحداً أو ينقُصَ حقَّه، وعدمُ التعرضِ لعدم إطاعتِهن لهم للإيذان بأن ذلك ليس مما ينبغي أن يتحققَ أو يُفرضَ تحققُه وأن الذي يُتوقع منهن ويليق بشأنهن لاسيما بعدما كان ما كان من الزواجر هو الإطاعةُ ولذلك صُدِّرت الشرطيةُ بالفاء المُنْبئةِ عن سببية ما قبلها لما بعدها.

.تفسير الآية رقم (35):

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الحكام واردٌ على بناء الأمرِ على التقدير المسكوتِ عنه أعني عدمَ الإطاعةِ المؤدِّي إلى المخاصمة والمرافعةِ إليهم. والشقاقُ المخالفةُ إما لأن كلاً منهما يريد أن يشُق على الآخر وإما لأن كلاً منهما في شِق أي جانبٍ غيرِ شقِ الآخَر، والخوفُ هاهنا بمعنى العلم قاله ابن عباس، والجزمُ بوجود الشقاقِ لا ينافي بعثَ الحَكَمين لأنه لرجاء إزالتِه لا لتعرُّفِ وجودِه بالفعل وقيل: بمعنى الظنِّ وضميرُ التثنيةِ للزوجين وإن لم يجْرِ ذكرُهما لجري ما يدل عليهما، وإضافةُ الشقاقِ إلى الظرف إما على إجرائه مُجرى المفعولِ به كما في قوله: يا سارقَ الليلةِ أو مُجرى الفاعل كما في قولك: نهارُه صائمٌ أي إن علمتم أو ظننتم تأكّدَ المخالفةِ بحيث لا يقدِر الزوجُ على إزالتها {فابعثوا} أي إلى الزوجين لإصلاح ذاتِ البَينِ {حُكْمًا} رجلاً وسطاً صالحاً للحكومة والإصلاحِ {مّنْ أَهْلِهِ} من أهل الزوج {وَحَكَماً} آخرَ على صفة الأولِ {مّنْ أَهْلِهَا} فإن الأقاربَ أعرفُ ببواطن الأحوالِ وأطلبُ للصلاح وهذا على وجه الاستحبابِ فلو نُصِبا من الأجانب جاز واختلف في أنهما هل يليان الجمعَ والتفريقَ إن رأيا ذلك فقيل: لهما ذلك وهو المروى عن علي رضي الله عنه وبه قال الشعبيُّ، وعن الحسن: يَجمعان ولا يفرِّقان وقال مالكٌ: لهما أن يتخالعا إن كان الصلاحُ فيه {إِن يُرِيدَا} أي الحَكَمان {إصلاحا} أي إن قصدا إصلاحَ ذاتِ البينِ وكانت نيتُهما صحيحةً وقلوبُهما ناصحةً لوجه الله تعالى {يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا} يوقِع بين الزوجين الموافقةَ والأُلفةَ وألقى في نفوسهما المودةَ والرأفةَ، وعدمُ التعرضِ لذكر عدمِ إرادتِهما الإصلاحَ لما ذُكر من الإيذان بأن ذلك ليس مما ينبغي أن يُفرَضُ صدورُه عنهما وأن الذي يليق بشأنهما ويُتوَقّعُ صدورُه عنهما هو إرادةُ الإصلاحِ، وفيه مزيدُ ترغيبٍ للحَكَمين في الإصلاح وتحذيرٌ عن المساهلة لكيلا يُنسَبَ اختلالُ الأمرِ إلى عدم إرادتِهما فإن الشرطيةَ الناطقةَ بدَوَران وجودِ التوفيقِ على وجود الإرادةِ منبئةٌ عن دوران عدمِه على عدمها، وقيل: كلا الضميرين للحكَمين أي إن قصدا الإصلاحِ يوفقِ الله بينهما فتتّفقَ كلمتُهما ويحصُلَ مقصودُهما، وقيل: كلاهما للزوجين أي إن أرادا إصلاحَ ما بينَهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الأُلفةَ والوِفاقَ وفيه تنبيهٌ على أن من أصلح نيتَه فيما يتوخاه وفقه الله تعالى لمبتغاه {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} بالظواهر والبواطنِ فيعلم كيف يرفعُ الشقاقَ ويوقعُ الوفاقَ.