فصل: تفسير الآيات (48- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (48- 49):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)}
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من الوعيد وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمر بالإيمان ببيان استحالةِ المغفرةِ بدونه فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمَعون في المغفرة كما في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى} أي على التحريف {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} والمرادُ بالشرك مُطلقُ الكفرِ المنتظمِ لكفر اليهودِ انتظاماً أولياً فإن الشرْعَ قد نص على إشراك أهلِ الكتابِ قاطبةً وقضى بخلود أصنافِ الكفرةِ في النار، ونزولُه في حق اليهود كما قال مقاتل وهو الأنسبُ بسباق النظمِ الكريم وسياقِه لا يقتضي اختصاصَه بكفرهم بل يكفي اندراجُه فيه قطعاً، بل لا وجهَ له أصلاً لاقتضائه جوازَ مغفرةِ ما دون كفرِهم في الشدة من أنواع الكفرِ أي لا يغفِرُ الكفرَ لمن اتصف به بلا توبةٍ وإيمانٍ لأن الحكمةَ التشريعيةَ مقتضيةٌ لسدّ بابِ الكفرِ، وجوازُ مغفرتِه بلا إيمان مما يؤدّي إلى فتحه ولأن ظلماتِ الكفرِ والمعاصي إنما يسترها نورُ الإيمانِ فمن لم يكن له إيمانٌ لم يغفَرْ له شيءٌ من الكفر والمعاصي {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} عطفٌ على خبر إن، وذلك إشارةٌ إلى الشرك، وما فيه من معنى البُعدِ مع قُربه في الذكر للإيذان ببُعدِ درجتِه وكونِه في أقصى مراتبِ القُبحِ، أي ويغفر ما دونه في القبح من المعاصي صغيرةً كانت أو كبيرةً تفضلاً من لدنه وإحساناً من غير توبةٍ عنها لكن لا لكل أحدٍ بل {لِمَن يَشَاء} أي لمن يشاء أن يغفرَ له ممن اتصف به فقط لا بما فوقه، فإن مغفرتَهما لمن اتصف بهما سواءٌ في استحالة الدخولِ تحت المشيئةِ المبْنيةِ على الحكمةِ التشريعيةِ، فإن اختصاصَ مغفرةِ المعاصي من غير توبةٍ بأهل الإيمانِ من متمِّمات الترغيبِ فيه والزجْرِ عن الكفر، ومن علق المشيئةَ بكلا الفعلين وجعل الموصولَ الأولَ عبارةً عمن لم يتُبْ والثاني عمن تاب فقد ضل سواءَ السبيلِ، كيف لا وإن مساقَ النظمِ الكريمِ لإظهار كمالِ عِظَمِ جريمةِ الكفرِ وامتيازِه عن سائر المعاصي ببيان استحالةِ مغفرتِه وجوازِ مغفرتِها، فلو كان الجوازُ على تقدير التوبةِ لم يظهَرْ بينهما فرقٌ، للإجماع على مغفرتها بالتوبة، ولم يحصُلْ ما هو المقصودُ من الزجر البليغِ عن الكفر والطغيانِ والحملِ على التوبة والإيمان.
{وَمَن يُشْرِكْ بالله} إظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ لزيادة تقبيحِ الإشراكِ وتفظيعِ حالِ من يتصف به ولإظهار المهابةِ من الكفر {فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} أي افترى واختلق، مرتكباً إثماً لا يقادَر قدْرُه ويُستحقر دونه جميعُ الآثامِ فلا تتعلق به المغفرةُ قطعاً.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} تعجيبٌ من حالهم المنافيةِ لما هم عليه من الكفر والطغيانِ، والمرادُ بهم اليهودُ الذين يقولون: نحن أبناءُ الله وأحبّاؤُه، وقيل: «ناسٌ من اليهود جاءوا بأطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل على هؤلاء ذنبٌ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا قالوا: ما نحن إلا كهيئتهم ما عمِلنا بالنهار كُفّر عنا بالليل وما عمِلنا بالليل كُفّر عنا بالنهار» أي انظُر إليهم فتعجَّبْ من ادعائهم أنهم أزكياءُ عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثمِ العظيمِ أو من ادعائهم التكفيرَ مع استحالة أن يُغفرَ للكافر شيءٌ من كفره أو معاصيه، وفيه تحذيرٌ من إعجاب المرءِ بنفسه وبعمله {بَلِ الله يُزَكّى مَن يَشَاء} عطفٌ على مقدَّر ينساقُ إليه الكلامُ كأنه قيل: هم لا يزكونها في الحقيقة لكَذِبهم وبُطلان اعتقادِهم، بل الله يزكي من يشاء تزكيتَه ممن يستأهِلُها من المرتَضَيْن من عباده المؤمنين، إذ هو العليمُ الخبيرُ بما ينطوي عليه البشرُ من المحاسن والمساوي وقد وصفهم الله بما هو متصفون به من القباح.
وأصلُ التزكيةِ نفيُ ما يُستقبح بالفعل أو بالقول {وَلاَ يُظْلَمُونَ} عطفٌ على جملةٍ قد حُذفت تعويلاً على دِلالة الحالِ عليها وإيذاناً بأنها غنيةٌ عن الذكر أي يعاقَبون بتلك الفَعلةِ القبيحةِ ولا يظلمون في ذلك العقاب {فَتِيلاً} أي أدنى ظُلمٍ وأصغرَه، وهو الخيطُ الذي في شِقّ النواةِ يُضرب به المثلُ في القِلة والحَقارةِ، وقيل: التقديرُ يثاب المزكّون ولا يُنقص من ثوابهم شيءٌ أصلاً، ولا يساعده مقامُ الوعيد.

.تفسير الآيات (50- 51):

{انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51)}
{انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} {كَيْفَ} نُصب إما تشبيهاً بالظرف أو بالحال على الخلاف المشهورِ بين سيبويه والأخفشِ، والعاملُ يفترون وبه تتعلق {على} أي في أي حالٍ، أو على أي حالٍ يفترون عليه تعالى الكَذِب، والمرادُ بيان شناعةِ تلك الحالِ وكمالُ فظاعتِها، والجملةُ في محل النصبِ بعد نزعِ الخافض والنظرُ متعلقٌ بهما، وهو تعجيبٌ وتنبيهٌ على أن ما ارتكبوه متضمِّنٌ لأمرين عظيمين موجبين للتعجب: إدعاؤُهم الاتصافَ بما هم متّصفون بنقيضه، وافتراؤُهم على الله سبحانه. فإن ادعاءهم الزكاةَ عنده تعالى متضمِّنٌ لادعائهم قبولَ الله وارتضاءَه إياهم، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ولكون هذا أشنعَ من الأول جُرماً وأعظمَ قبحاً لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قَبول الكفرِ وارتضائِه لعباده ومغفرةِ كفرِ الكافرِ وسائرِ معاصيه، وُجِّه النظرُ إلى كيفيته تشديداً للتشنيع وتأكيداً للتعجيب. والتصريحُ بالكذب مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذباً للمبالغة في تقبيح حالِهم.
{وكفى بِهِ} أي بافترائهم هذا من حيث هو افتراءٌ عليه تعالى مع قطع النظرِ عن مقارنته لتزكية أنفسِهم وسائرِ آثامِهم العظامِ {إِثْماً مُّبِيناً} ظاهراً بيّناً كونُه أشدَّ إثماً، والمعنى كفى ذلك وحدَه في كونهم أشدَّ إثماً من كل كَفارٍ أثيم، أو في استحقاقهم لأشدِّ العقوباتِ لما مر سرُّه، وجعلُ الضميرِ لزعمهم مما لا مساغَ له لإخلاله بتهويل أمرِ الافتراءِ فتدبرْ.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} تعجبٌ من حال أخرى لهم، ووصفُهم بما ذكر من إيتاء النصيبِ لما مر من منافاته لما صدَر عنهم من القبائح، وقولُه عز وجل: {يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت} استئنافٌ مُبينٌ لمادة التعجب مبنيٌّ على سؤال ينساق إليه الكلامُ كأنه قيل: ماذا يفعلون حين يُنظَر إليهم؟ فقيل: يؤمنون الخ، والجبتُ الأصنامُ وكلُّ ما عُبد من دون الله تعالى فقيل: أصلُه الجِبسُ وهو الذي لا خير عنده فأُبدل السنُ تاءً، وقيل: الجبتُ الساحرُ بلغة الحبشة، والطاغوتُ الشيطانُ، قيل: هو في الأصل كل ما يُطغي الإنسان. روي «أن حُيَيَّ بنَ أخطبَ وكعبَ بنَ الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكةَ في سبعين راكباً من اليهود ليحالفوا قريشاً على محاربة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وينقُضوا العهدَ الذي كان بينهم وبينه عليه السلام فقالوا: أنتم أهلُ كتابٍ وأنتم أقربُ إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكرَكم فاسجُدوا لآلهتنا حتى نطمئنَّ إليكم ففعلوا» فهذا إيمانُهم بالجبت والطاغوتِ لأنهم سجَدوا للأصنام وأطاعوا إبليسَ فيما فعلوا، وقال أبو سفيانَ لكعبٍ: إنك امرُؤٌ تقرأ الكتابَ وتعلم، ونحن أُميون لا نعلم فأيُنا أهدى طريقاً نحن أم محمدٌ؟ فقال: ماذا يقول محمد؟ قال: يأمر بعبادة الله وحدَه وينهي عن الشرك، قال: وما دينُكم؟ قالوا: نحن ولاةُ البيتِ نسقي الحاجَّ ونَقْري الضيفَ ونفُكّ العانيَ، وذكروا أفعالَهم فقال: أنتم أهدى سبيلاً.
وذلك قولُه تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي لأجلهم وفي حقّهم {هَؤُلاء} يعنُونهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ} أي أقومُ ديناً وأرشدُ طريقةً، وإيرادُهم بعنوان الإيمانِ ليس من قِبلَ القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفاً لهم بالوصف الجميلِ وتخطئةً لمن رجّح عليهم المتصفين بأقبحِ القبائحِ.

.تفسير الآيات (52- 53):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)}
{أولئك} إشارةٌ إلى القائلين، وما فيه من معنى البُعْد مع قربهم في الذكر للإشعار ببُعد منزلتِهم في الضلال، وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى: {الذين لَعَنَهُمُ الله} أي أبعدهم عن رحمته وطردهم، والجملةُ مستأنفةٌ لبيان حالِهم وإظهارِ مصيرِهم ومآلِهم {وَمَن يَلْعَنِ الله} أي يُبعده عن رحمته {فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} يدفع عنه العذابَ دنيوياً كان أو أخروياً لا بشفاعة ولا بغيرها، وفيه تنصيصٌ على حِرمانهم مما طلبوا من قريش، وفي كلمة لن وتوجيهِ الخطابِ إلى كل أحد ممن يتسنى له الخطابُ وتوحيدِ النصيرِ مُنكّراً والتعبيرِ عن عدمه بعدم الوُجدانِ المُنْبىءِ عن سبق الطلبِ مُسنداً إلى المخاطبَ العامِّ من الدِلالة على حِرمانهم الأبديِّ بالكلية ما لا يخفى.
{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك} شروعٌ في تفصيل بعضٍ آخرَ من قبائحهم، وأمْ منقطعةٌ وما فيها من بل للإضراب والانتقالِ من ذمهم بتزكيتهم أنفسَهم وغيرِها مما حُكي عنهم إلى ذمهم بادّعائهم نصيباً من الملك وبُخلِهم المفرِطِ وشحِّهم البالغِ، والهمزةُ لإنكار أن يكون لهم ما يدّعونه وإبطالِ ما زعموا أن المُلك سيصير إليهم، وقولُه تعالى: {فَإذاَ لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً} بيانٌ لعدم استحقاقِهم له بل لاستحقاقهم الحِرمانَ منه بسبب أنهم من البخل والدناءةِ بحيث لو أوتوا شيئاً من ذلك لما أعطَوا الناسَ منه أقلَّ قليلٍ، ومن حق مَنْ أوتي المُلكَ أن يُؤثِرَ الغيرَ بشيء منه، فالفاءُ للسببية الجزائيةِ لشرط محذوفٍ، أي إن جُعل لهم نصيبٌ منه فإذن لا يؤتون الناسَ مقدارَ نقيرٍ وهو ما في ظهر النواة من النُقرة، يُضرب به المثلُ في القِلة والحقارةِ، وهذا هو البيانُ الكاشفُ عن كُنه حالِهم، وإذا كان شأنُهم كذلك وهم مُلوكٌ فما ظنُّك بهم وهم أذلاءُ متفاقرون.
ويجوز أن لا تكون الهمزةُ لإنكار الوقوعِ بل لإنكار الواقعِ والتوبيخِ عليه، أي لعدِّه مُنكراً غيرَ لائقٍ بالوقوع، على أن الفاءَ للعطف، والإنكارُ متوجهٌ إلى مجموع المعطوفَين على معنى ألهمْ نصيبٌ وافرٌ من الملك حيث كانوا أصحابَ أموالٍ وبساتينَ وقصورٍ مَشيدةٍ كالملوك فلا يؤتون الناسَ مع ذلك نقيراً كما تقول لغنيَ لا يراعي أباه: ألك هذا القدرُ من المال فلا تُنفقُ على أبيك شيئاً؟ وفائدةُ إذن تأكيدُ الإنكارِ والتوبيخِ حيث يجعلون ثبوتَ النصيبِ سبباً للمنع مع كونِه سبباً للإعطاء، وهي مُلغاةٌ عن العمل كأنه قيل: فلا يؤتون الناسَ إذن، وقرئ {فإذن لا يُؤتوا} بالنصب على إعمالها.

.تفسير الآيات (54- 55):

{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)}
{أمْ يَحْسُدُونَ الناس} منقطعةٌ أيضاً مفيدةٌ للانتقال من توبيخهم بما سبق إلى توبيخهم بالحسد الذي هو شرُّ الرذائلِ وأقبحُها لاسيما على ما هم بمعزل من استحقاقه، واللام في الناس للعهد والإشارةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وحملُه على الجنس إيذاناً بحيازتهم للكمالات البشريةِ قاطبةً فكأنهم هم الناسُ لا غيرُ لا يلائمه ذكرُ حديثِ آلِ إبراهيمَ فإن ذلك لتذكير ما بين الفريقين من العلاقة الموجبةِ لاشتراكهما في استحقاق الفضلِ، والهمزةُ لإنكار الواقعِ واستقباحِه فإنهم كانوا يطمعون أن يكون النبيُّ الموعودُ منهم فلما خصَّ الله تعالى بتلك الكرامةِ غيرَهم حسدوهم أي بل أيحسُدونهم {على مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} يعني النبوةَ والكتابَ وازديادَ العزِّ والنصرِ يوماً فيوماً، وقولُه تعالى: {فَقَدْ ءاتَيْنَا} تعليلٌ للإنكار والاستقباحِ وإلزامٌ لهم بما هو مُسلَّمٌ عندهم وحسمٌ لمادة حسَدِهم واستبعادِهم المبنيَّيْن على توهّم عدمِ استحقاقِ المحسودِ لِما أوتيَ من الفضل ببيان استحقاقِه له بطريق الوراثةِ كابراً عن كابر، وإجراءُ الكلامِ على سَنن الكبرياءِ بطريق الالتفاتِ لإظهار كمالِ العنايةِ بالأمر، والمعنى أن حسدَهم المذكورَ في غاية القبحِ والبُطلانِ فإنا قد آتينا من قبلِ هذا {إبراهيم الكتاب} الذين هم أسلافُ محمدٍ عليه الصلاة والسلام أو أبناءُ أعمامِه {الكتاب والحكمة} أي النبوة {وءاتيناهم} مع ذلك {مُّلْكاً عَظِيماً} لا يقادَر قدرُه فكيف يستبعدون نبوتَه عليه الصلاة والسلام ويحسُدونه على إيتائها، وتكريرُ الإيتاءِ لما يقتضيه مقامُ التفضيلِ مع الإشعار بما بين النبوةِ والمُلكِ من المغايرة، فإن أريد به الإيتاءُ بالذات فالمرادُ بآل إبراهيمَ أنبياؤهم خاصة، والضميرُ المنصوبُ في الفعل الثاني لبعضهم إما بحذف المضافِ أو بطريق الاستخدامِ لما أن المُلكَ لم يُؤتَ كلَّهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الملكُ في آل إبراهيمَ مُلكُ يوسفَ وداودَ وسليمانَ عليهم السلام إن أريد به ما يعُمّه وغيرَه من الإيتاء بالواسطةِ وهو اللائقُ بالمقام والأوفقُ لما قبله من نسبة إيتاءِ الفضلِ إلى الناس، فالمرادُ بآل إبراهيمَ كلُّهم فإن تشريفَ البعضِ بما ذُكر من إيتاء النبوةِ والمُلكِ تشريفٌ للكل لاعتنائهم بآثاره واقتباسِهم من أنواره، وفي تفصيل ما أُوتوه وتكريرِ الفعلِ ووصفِ المُلكِ بالعِظَم وتنكيرِه التفخيميِّ مع تأكيد الإلزامِ وتشديدِ الإنكارِ ما لا يخفى.
هذا هو المتبادرُ من النظم الكريمِ وإليه جنحَ جمهورُ أئمةِ التفسيرِ لكن الظاهرَ حينئذ أن يكون قولُه تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} حكايةً لما صدر عن أسلافهم عَقيبَ وقوعِ المحكيِّ من غير أن يكون له دخْلٌ في الإلزام الذي سيق له الكلامُ أي فمن جنس هؤلاءِ الحاسدين وآبائِهم مَن آمن بما أوتي آلُ إبراهيمَ ومنهم من أعرضَ عنه، وأما جعلُ الضميرين لما ذُكر من حديث آلِ إبراهيمَ فيستدعي تراخيَ الآيةِ الكريمةِ عما قبلها نزولاً، كيف لا وحكايةُ إيمانِهم لاحديث المذكورِ وإعراضِهم عنه بصيغة الماضي إنما يُتصوّر بعد وقوع الإيمانِ والإعراضِ المتأخِّرَين عن سماع الحديثِ المتأخرِ عن نزوله، وكذا جعلُهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذِ الظاهرُ بيانُ حالِهم بعد هذا الإلزامِ.
وحملُه على حكاية حالِهم السابقةِ لا تساعده الفاءُ المرتبةُ لما بعدها على ما قبلها، ولا يبعُد كلَّ البعدِ أن تكون الهمزةُ لتقرير حسدِهم وتوبيخِهم بذلك ويكونَ قولُه تعالى: {فَقَدْ ءاتَيْنَا} الآية، تعليلاً له بدِلالته على إعراضهم عما أوتي آلُ إبراهيم وإن لم يُذكرْ كونُه بطريق الحسدِ كأنه قيل: بل أيحسُدون الناسَ على ما آتاهم الله من فضله ولا يؤمنون به؟ وذلك دِيدنُهم المستمرُّ فإنا قد آتينا آلَ إبراهيمَ ما آتينا، فمنهم أي من جنسهم مَنْ آمن بما آتيناهم ومنهم من أعرض عنه ولم يؤمن به والله سبحانه أعلمُ، وفيه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} ناراً مسعرةً يعذّبون بها، والجملةُ تذييلٌ لما قبلها.

.تفسير الآية رقم (56):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بئاياتنا} إن أريد بهم الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فالمرادُ بالآيات إما القرآنُ أو ما يعُمّ كلَّه وبعضَه أو ما يعم سائرَ معجزاتِه إيضاً وإن أريد بهم الجنسُ المتناولُ لهم تناولاً أولياً فالمرادُ بالآيات ما يعم المذكوراتِ وسائرَ الشواهدِ التي أوتيَها الأنبياءُ عليهم السلام {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} قال سيبويهِ: سوف كلمةٌ تُذكر للتهديد والوعيدِ وينوبُ عنها السينُ، وقد يُذكران في الوعد فيفيدانِ التأكيدِ أي نُدخلهم ناراً عظيمةً هائلة {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أي احترقت، وكلما ظرفُ زمانٍ والعامل فيه {بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا} من قَبيل بدّله بخوفه أمناً، لا من قبيل يبدل الله سيئاتِهم حسناتٍ أي أعطيناهم مكانَ كلِّ جلدٍ محترقٍ عند احتراقِه جلداً جديداً مغايراً للمحترق صورةً وإن كان عينَه مادةً بأن يُزالَ عنه الاحتراقُ ليعودَ إحساسُه للعذاب، والجملةُ في محل النصبِ على أنها حالٌ من ضمير نُصليهم، وقد جُوِّز كونُها صفةً لناراً على حذف العائدِ أي كلما نضِجت فيها جلودُهم، فمعنى قولِه تعالى: {لِيَذُوقُواْ العذاب} ليدومَ ذَوْقُهم ولا ينقطِعَ، كقولك للعزيز: أعزَّك الله، وقيل: يخلُق مكانَه جلداً آخرَ، والعذابُ للنفس العاصيةِ لا لآلة إدراكِها. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يُبدَّلون جلوداً بيضاءَ كأمثال القراطيسِ، وروي أن هذه الآيةَ قُرئت عند عمرَ رضي الله تعالى عنه فقال للقارىء: أعِدْها فأعادها وكان عنده معاذُ بنُ جبلٍ، فقال معاذٌ: عندي تفسيرُها: يُبَدّل في ساعةٍ مائةَ مرةٍ، فقال عمر رضي الله عنه: هكذا سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول. وقال الحسنُ: تأكلُهم النارُ كلَّ يومٍ سبعين ألفِ مرةٍ كلما أكلتْهم قيل لهم: عودوا فيعودون كما كانوا. وروى أبو هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بين منكِبَي الكافرِ مسيرةَ ثلاثةِ أيامٍ للراكبِ المسرعِ، وعن أبي هريرة أنه قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ضِرْسُ الكافرِ أو نابُ الكافرِ مثلُ أحُدٍ، وغِلَظُ جلدِه مسيرةُ ثلاثةِ أيامٍ». والتعبيرُ عن إدراك العذابِ بالذوق ليس لبيان قلّتِه بل لبيان أن إحساسَهم بالعذاب في كل مرةٍ كإحساس الذائقِ بالمذوق من حيث إنه لا يدخُله نقصانٌ بدوام الملابَسةِ إو للإشعار بمرارة العذابِ مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيرِه من حيث إن القوةَ الذائقةَ أشدُّ الحواسِّ تأثراً أو على سِرايته للباطن، ولعل السرَّ في تبديل الجلودِ مع قدرتِه تعالى على إبقاء إدراكِ العذابِ وذوقِه بحاله مع الاحتراق أو مع إبقاء أبدانِهم على حالها مَصونةً عن الاحتراق أن النفسَ ربما تتوهّم زوالَ الإدراكِ بالاحتراق ولا تستبعد كلَّ الاستبعادِ أن تكون مصونةً عن التألم والعذابِ صيانةَ بدنِها عن الاحتراق.
{إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً} لا يمتنع عليه ما يريده ولا يمانعه أحدٌ {حَكِيماً} يعاقِب مَنْ يعاقبه على وَفق حكمتِه، والجملةُ تعليلٌ لما قبلها من الإصلاء والتبديلِ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتهويل الأمرِ وتربية المهابةِ وتعليلِ الحكم، فإن عنوانَ الألوهيةِ مناطٌ لجميع صفاتِ كمالِه تعالى.