فصل: تفسير الآيات (57- 58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (57- 58):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}
{والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} عُقِّب بيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ ببيان حُسنِ حالِ المؤمنين تكميلاً لِمَساءة الأولين ومسرَّةِ الآخَرين، أي الذين آمنوا بآياتنا وعمِلوا بمقتضياتها، وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى: {سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} وقرئ {سيُدخِلُهم} بالياء رداً على الاسم الجليلِ، وفي السين تأكيدٌ للوعد {خالدين فِيهَا أَبَداً} حالٌ مقدّرةٌ من الضمير المنصوبِ في سندخلهم وقوله عز وعلا: {لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذَرةِ البدنية والأدناسِ الطبيعية، في محل النصبِ على أنه حالٌ من جناتٍ أو حالٌ ثانيةٌ من الضمير المنصوبِ أو على أنه صفةٌ لجناتٍ بعد صفةٍ، أو في محل الرفعِ على أنه خبرٌ للموصول بعد خبرٍ {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} أي فيْناناً لا جَوْبَ فيه دائماً لا تنسَخُه شمسٌ اللهم ارزُقنا ذلك بفضلك وكرمِك يا أرحمَ الراحمين، والظليلُ صفةٌ مشتقةٌ من لفظ الظلِّ للتأكيد كما في ليلٌ ألْيلُ ويومٌ أيومٌ وقرئ {يُدخلهم} بالياء وهو عطفٌ على سيُدخِلهم لا على أنه غيرُ الإدخالِ الأولِ بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا} في تصدير الكلامِ بكلمة التحقيقِ وإظهارِ الاسمِ الجليلِ وإيرادِ الأمرِ على صورة الإخبارِ من الفخامة وتأكيدِ وجوبِ الامتثال به والدِلالةِ على الاعتناء بشأنه ما لا مزيدَ عليه، وهو خطابٌ يعُمّ حكمُه المكلّفين قاطبة كما أن الأماناتِ تعمُّ جميعَ الحقوقِ المتعلقةِ بذمهم من حقوق الله تعالى وحقوقِ العبادِ سواءٌ كانت فعليةً أو قوليةً إو اعتقاديةً وإن ورد في شأن عثمانَ بنِ طلحةَ بنِ عبدِ الدارِ سادنِ الكعبةِ المعظمةِ وذلك أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكةَ يوم الفتح أغلق عثمانُ رضي الله عنه بابَ الكعبةِ وصعِدَ السطحَ وأبى أن يدفعَ المِفتاحَ إليه وقال: لو علمت أنه رسولُ الله لم أمنعْه فلوى علي بنُ أبي طالبٍ يدَه وأخذه منه وفتح ودخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباسُ أن يُعطِيَه المفتاحَ ويجمعَ له السِقاية والسِدانة فنزلت فأمر علياً أن يُردَّه إلى عثمانَ ويعتذرَ إليه فقال عثمان لعليّ: أكرهتَ وآذيتَ ثم جئت ترفو فقال: لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآناً فقرأ عليه الآية فقال عثمانُ: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فهبَط جبريلُ عليه الصلاة والسلام وأخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن السِّدانةَ في أولاد عثمانَ أبداً.
وقرئ {الأمانةَ} على التوحيد والمرادُ الجنسُ لا المعهودُ، وقيل: هو أمرٌ للولاة بأداء الحقوقِ المتعلقةِ بذمهم من المناصب وغيرِها إلى مستحقيها كما أن قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} أمرٌ لهم بإيصال الحقوقِ المتعلقةِ بذمم الغيرِ إلى أصحابها، وحيث كان المأمورُ به هاهنا مختصاً بوقت المرافعةِ قُيِّد به بخلاف المأمورِ به أو لا فإنه لما لم يتعلَّقْ بوقت دون وقت أُطلق إطلاقاً فقوله تعالى: {أَن تَحْكُمُواْ} عطفٌ على أن تؤدوا قد فُصِل بين العاطفِ والمعطوفِ بالظرف المعمولِ له عند الكوفيين، والمقدرُ يدل هو عليه عند البصريين لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها عندهم أي وإن تحكموا إذا حكمتم الخ، وقولُه تعالى: {بالعدل} متعلقٌ بتحكموا أو بمقدر وقع حالاً من فاعله أي ملتبسين بالعدل والإنصاف {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه} {مَا} إما منصوبةٌ موصوفةٌ بيعظكم به أو مرفوعةٌ موصولةٌ به كأنه قيل: نعم شيئاً يعظكم به أو نعم الشيءُ الذي يعظكم به والمخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي نِعِمّاً يعظكم به ذلك وهو المأمورُ به من أداء الأماناتِ والعدلِ في الحكومات، وقرئ {نَعِمّاً} بفتح النون، والجملةُ مستأنفةٌ مقرِّرةٌ لما قبلها متضمنةٌ لمزيد لُطفٍ بالمخاطبين وحسنِ استدعاءٍ لهم إلى الامتثال بالأمر، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابةِ في القلوب {إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً} لأقوالكم {بَصِيراً} بأفعالكم فهو وعدٌ ووعيدٌ.
وإظهارُ الجلالةِ لما ذُكر آنفاً فإن فيه تأكيداً لكلَ من الوعد والوعيد.

.تفسير الآية رقم (59):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)}
{يأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بعد ما أمر الولاةَ بطريق العمومِ أو بطريق الخصوصِ بأداء الأماناتِ والعدلِ في الحكومات أمرَ سائرَ الناسِ بطاعتهم لكن لا مطلقاً بل في ضمن طاعةِ الله تعالى وطاعةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم حيث قيل: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الامر مِنْكُمْ} وهم أمراءُ الحقِّ وولاةُ العدلِ كالخلفاء الراشدين ومَنْ يقتدي بهم من المهتدين، وأما أمراءُ الجَوْرِ فبمعزل من استحقاق العطفِ على الله تعالى والرسولِ عليه الصلاة والسلام في وجوب الطاعةِ لهم وقيل: هم علماءُ الشرعِ لقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الامر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ويأباه قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شيء فَرُدُّوهُ إِلَى الله} إذ ليس للمقلد أن ينازعَ المجتهدَ في حكمه، إلا أن يُجعلَ الخطابُ لأولي الأمر بطريق الالتفاتِ وفيه بُعدٌ، وتصديرُ (إن) الشرطية بالفاء لترتبها على ما قبلها فإن بيانَ حكمِ طاعةِ أولي الأمرِ عند موافقتِها لطاعة الله تعالى وطاعةِ الرسولِ عليه السلام يستدعي بيانَ حكمِها عند المخالفةِ أي إن اختلفتم أنتم وأولوا الأمرِ منكم في أمر من أمور الدِّين فراجعوا فيه إلى كتاب الله {والرسول} أي إلى سننه وقد استدل به مُنكِروا القياسِ وهو في الحقيقة دليلٌ على حجيته كيف لا وردُّ المختلَفِ فيه إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناءِ عليه وهو المَعنيُّ بالقياس، ويؤيده الأمرُ به بعد الأمرِ بطاعة الله تعالى وبطاعة رسولِه عليه الصلاة والسلام فإنه يدل على أن الأحكامَ ثلاثةٌ: ثابتٌ بالكتاب وثابتٌ بالسنة وثابتٌ بالرد إليهما بالقياس {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر} متعلقٌ بالأمر الأخيرِ الواردِ في محل النزاعِ إذ هو المحتاجُ إلى التحذير من المخالفة، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ عند جمهورِ البصريين ثقةً بدِلالة المذكورِ عليه أي إن كنتم تؤمنون بالله واليومِ الآخرِ فردوه الخ، فإن الإيمانَ بهما يوجب ذلك أما الإيمانُ بالله تعالى فظاهرٌ، وأما الإيمانُ باليوم الآخرِ فلما فيه من العقاب على المخالفة {ذلك} أي الرد المأمورُ به {خَيْرٌ} لكم وأصلح {وَأَحْسَنُ} في نفسه {تَأْوِيلاً} أي عاقبةً ومآلاً، وتقديمُ خيْريّتِه لهم على أحسنيته في نفسه لما مر من تعلق أنظارِهم بما ينفعهم، والمرادُ بيانُ اتصافِه في نفسه بالخيرية الكاملةِ والحُسْنِ الكاملِ في حد ذاتِه من غير اعتبار فضلِه على شيء يشاركه في أصل الخيريةِ والحسنِ كما ينبىء عنه التحذيرُ السابق.

.تفسير الآية رقم (60):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجيباً له من حال الذين يخالفون ما مرَّ من الأمر المحتومِ ولا يطيعون الله ولا رسولَه، ووصفُهم بادعاء الإيمانِ بالقرآن وبما أنزل من قبله أعني التوراةَ لتأكيد التعجيبِ وتشديدِ التوبيخِ والاستقباحِ بإظهار كمالِ المبايَنةِ بين دعواهم وبين ما صدر عنهم، وقرئ الفعلانِ على البناء للفاعل، وقولُه عز وجل: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت} استئنافٌ سيق لبيان محلِّ التعجيبِ مبنيٌّ على سؤال نشأ من صدر الكلامِ، كأنه قيل: ماذا يفعلون؟ فقيل: يريدون الخ.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن منافقاً خاصَم يهودياً فدعاه اليهوديُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافِقُ إلى كعب بنِ الأشرف، ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرضَ بقضائه فقال عمرُ للمنافق: أهكذا؟ قال: نعم، فقال عمرُ: مكانَكما حتى أخرُجَ إليكما فدخل فاشتمل على سيفه ثم خرج فضربَ به عُنقَ المنافق حتى بَرَد، ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء الله وقضاء رسولِه فنزلت فهبَط جبريلُ عليه الصلاة والسلام وقال: إن عمرَ فرَّق بين الحقِّ والباطلِ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أنت الفاروقُ»، فالطاغوتُ كعبُ بنُ الأشرفِ سُمِّيَ به لإفراطه في الطغيان وعداوةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو على التشبيه بالشيطان والتسميةِ باسمه، أو جُعل اختيارُ التحاكمِ إلى غير النبيِّ صلى الله عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكماً إلى الشيطان. وقال الضحاك: المرادُ بالطاغوت كَهَنةُ اليهودِ وسَحَرتُهم. وعن الشعبي: أن المنافقَ دعا خصمَه إلى كاهن من جُهَينةَ فتحاكما إليه. وعن السدي: أن الحادثةَ وقعت في قتيلٍ بين بني قُريظةَ والنَّضِير، فتحاكم المسلمون من الفريقين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبى المنافقون منهما إلا التحاكمَ إلى أبي بُرْدةَ الكاهنِ الأسلميِّ، فتحاكموا إليه، فيكون الاقتصارُ حينئذ في معرِض التعجيبِ والاستقباحِ على ذِكر إرادةِ التحاكمِ دون نفسِه مع وقوعِه أيضاً للتنبيه على أن إرادتَه مما يقضي منه العجَبَ، ولا ينبغي أن يدخُلَ تحت الوقوعِ فما ظنُّك بنفسه وهذا أنسبُ بوضف المنافقين بادّعاء الإيمانِ بالتوراة فإنه كما يقتضي كونَهم من منافقي اليهودِ يقتضي كونَ ما صدَرَ عنهم من التحاكم ظاهِرَ المنافاةِ لادعاء الإيمانِ بالتوراة، وليس التحاكمُ إلى كعب بن الأشرف بهذه المثابةِ من الظهور، وأيضاً فالمتبادِرُ من قوله تعالى: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} كونُهم مأمورين بكفره في الكتابين وما ذاك إلا الشيطانُ وأولياؤُه المشهورون بولايته كالكَهنة ونظائرِهم لا مَنْ عداهم ممن لم يشتهِرْ بذلك، وقرئ {أَن يَكْفُرُواْ بِهَا} على أن الطاغوتَ جمعٌ كما في قوله تعالى: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم} والجملةُ حال من ضمير يريدون مفيدةٌ لتأكيد التعجيبِ وتشديد الاستقباحِ كالوصف السابقِ، وقولُه عز وعلا: {وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضلالا بَعِيداً} عطفٌ على يريدون داخلٌ في حكم التعجيبِ فإن اتّباعَهم لمن يريد إضلالَهم وإعراضَهم عمن يريد هدايتَهم أعجبُ من كل عجيب. وضلالاً إما مصدرٌ مؤكّدٌ للفعل المذكورِ بحذف الزوائدِ كما في قوله تعالى: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} أي إضلالاً بعيداً وإما مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعله المدلولِ عليه بالفعل المذكورِ أي فيَضِلّوا ضلالاً، وأياً ما كان فوصفُه بالبُعد الذي نُعِت موصوفُه للمبالغة.

.تفسير الآيات (61- 62):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)}
وقولُه تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول} تكملةٌ لمادة التعجيبِ ببيان إعراضِهم صريحاً عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسولِه إثرَ بيانِ إعراضِهم عن ذلك في ضمن التحاكُمِ إلى الطاغوت، وقرئ {تعالوا} بضم اللام على أنه حذفُ لامِ الفعلِ تخفيفاً كما في قولهم: ما باليت بالةً أصلُها بالِية كعافية وكما قالوا في آية أن أصلُها آيِيَة فحُذفت اللام ووقعت واوُ الجمعِ بعد اللامِ في تعالَ فضُمت فصار تعالُوا ومنه قول أهلِ مكةَ للمرأة: تعالِي بكسر اللام وعليه قولُ أبي فراس الحمداني:
أيا جارتى ما أنصف الدهرُ بيننا ** تعالَيْ أُقاسمْك الهمومَ تعالِي

{رَأَيْتَ المنافقين} إظهارُ المنافقين في مقام الإضمارِ للتسجيل عليهم بالنفاق وذمّهم به والإشعارِ بعلة الحُكمِ، والرؤيةُ بصَريةٌ وقوله تعالى: {يَصُدُّونَ عَنكَ} حالٌ من المنافقين، وقيل: الرؤيةُ قلبيةٌ والجملةُ مفعولٌ ثانٍ لها والأولُ هو الأنسبُ بظهور حالِهم، وقولُه تعالى: {صُدُوداً} مصدرٌ مؤكدٌ لفعله أي يُعرِضون عنك إعراضاً وأيَّ إعراضٍ، وقيل: هو اسمٌ للمصدر الذي هو الصدُّ والأظهرُ أنه مصدرٌ لصدَّ اللازمِ، والصدُّ مصدرٌ للمتعدي يقال: صَدَّ عنه صُدوداً أي أعرض عنه وصدَّه عنه صداً أي منعه منه، وقوله تعالى: {فَكَيْفَ} شروعٌ في بيان غائلةِ جناياتِهم المَحْكيةِ ووخامةِ عاقبتِها أي كيف يكون حالُهم {إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ} أي وقتَ إصابةِ المصيبةِ إياهم بافتضاحهم بظهور نفاقِهم {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسبب ما عمِلوا من الجنايات التي من جُملتها التحاكمُ إلى الطاغوت والإعراضُ عن حكمك {ثُمَّ جَاءوكَ} للاعتذار عما صنعوا من القبائح، وهو عطفٌ على أصابتهم، والمرادُ تفظيعُ حالِهم وتهويلُ ما دَهَمهم من الخطب واعتراهم من شدة الأمرِ عند إصابةِ المصيبةِ وعند المجيء للاعتذار {يَحْلِفُونَ بالله} حالٌ من فاعل جاؤوك {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الفصلَ بالوجه الحسَنِ والتوفيقِ بين الخصمين ولم نُرِدْ مخالفةً لك ولا لحكمك فلا تؤاخِذْنا بما فعلنا، وهذا وعيدٌ لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعُهم الندمُ ولا يغني عنهم الاعتذارُ. وقيل: جاء أولياءُ المنافقِ يطلُبون بدمه وقد أهدره الله تعالى فقالوا: ما أردنا أي ما أراد صاحبُنا المقتولُ بالتحاكم إلى عمرَ رضي الله تعالى عنه إلا أن يُحسِن إليه ويوفِّقَ بينه وبين خصمِه.

.تفسير الآيات (63- 64):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)}
{أولئك} إشارةٌ إلى المنافقين، وما فيه من معنى البُعد للتنبيه على بُعد منزلتِهم في الكفر والنفاقِ، وهو مبتدأٌ خبرُه {الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي من فنون الشرورِ والفسادِ المنافيةِ لما أظهروا لك من الأكاذيب.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} جوابُ شرطٍ محذوفٍ أي إذا كان حالُهم كذلك فأعرِضْ عن قَبول معذرتِهم وقيل: عن عقابهم لمضلحة في استبقائهم، ولا تُظهِرْ لهم علمَك بما في بواطنهم ولا تهتِكْ سترَهم حتى يبقَوْا على وجَلٍ وحذر {وَعِظْهُمْ} أي ازجُرْهم عن النفاق والكيد {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ} في حق أنفسِهم الخبيثةِ وقلوبِهم المُنْطويةِ على الشرور التي يعلمها الله تعالى، أو في أنفسهم خالياً بهم ليس معهم غيرُهم مُسارّاً بالنصيحة لأنها في السرّ أنجَعُ {قَوْلاً بَلِيغاً} مؤثراً واصِلاً إلى كُنه المرادِ مطابقاً لما سيق له من المقصود، فالظرفُ على التقديرين متعلقٌ بالأمر، وقيل: متعلقٌ ببليغاً على رأي من يُجيز تقديمَ معمولِ الصفةِ على الموصوف أي قل لهم قولاً بليغاً في أنفسهم مؤثراً في قلوبهم يغتمّون به اغتماماً ويستشعرون منه الخوفَ استشعاراً وهو التوعُّدُ بالقتل والاستئصالِ، والإيذانُ بأن ما في قلوبهم من مكنونات الشرِّ والنفاقِ غيرُ خافٍ على الله تعالى وأن ذلك مستوجِبٌ لأشد العقوباتِ، وإنما هذه المكافأةُ والتأخيرُ لإظهارهم الإيمانَ والطاعةَ وإضمارِهم الكفرَ، ولئن أظهروا الشقاقَ وبرَزوا بأشخاصهم من نفق النفاقِ لَيَمسَّنهم العذابُ إن الله شديدُ العقاب.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} كلامٌ مبتدأٌ جيء به تمهيداً لبيان خطئِهم في الاشتغال بسَتر جنايتِهم بالاعتذار بالأباطيل وعدمِ تلافيها بالتوبة، أي وما أرسلنا رسولاً من الرسل لشيء من الأشياء إلا ليُطاعَ بسبب إذنِه تعالى في طاعته، وأمرِه المرسلَ إليهم بأن يُطيعوه ويتبعوه لأنه مؤدَ عنه تعالى فطاعتُه طاعةُ الله تعالى ومعصيتُه معصيتُه تعالى {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} أو بتيسير الله تعالى وتوفيقِه في طاعته.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} وعرَّضوها لعذاب زائد على عذاب النفاقِ بترك طاعتِك والتحاكمِ إلى غيرك {جَاءوكَ} من غير تأخيرٍ كما يُفصح عنه تقديمُ الظرفِ متوسِّلين بك في التنصُّل عن جناياتهم القديمةِ والحادثةِ ولم يزدادوا جنايةً على جناية بالقصد إلى سترها بالاعتذار الباطلِ والأَيْمانِ الفاجرة {فاستغفروا الله} بالتوبة والإخلاصِ وبالغوا في التضرُّع إليك حتى انتصبْتَ شفيعاً إلى الله تعالى واستغفرْتَ لهم وإنما قيل: {واستغفر لَهُمُ الرسول} على طريقة الالتفاتِ تفخيماً لشأن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لاستغفاره وتنبيهاً على أن شفاعتَه في حيِّز القَبول {لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} لعَلِموه مبالغاً في قَبول توبتهم والتفضّل عليهم بالرحمة، وإن فُسّر الوُجدانُ بالمصادفة كان قوله تعالى: {تَواباً} حالاً و{رَّحِيماً} بدلاً منه، أو حالاً من الضمير فيه، وأياً ما كان ففيه فضلُ ترغيبٍ للسامعين في المسارعة إلى التوبة والاستغفارِ ومزيدُ تنديمٍ لأولئك المنافقين على ما صنعوا لما أن ظهورَ تباشيرِ قَبولِ التوبةِ وحصولَ الرحمةِ لهم ومشاهدتَهم لآثارهما نعمةٌ زائدةٌ عليهما موجبةٌ لكمال الرغبةِ في تحصيلها وتمامِ الحسرةِ على فواتها.