فصل: تفسير الآيات (81- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (81- 82):

{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}
{وَيَقُولُونَ} شروعٌ في بيان معاملتِهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بيانِ وجوبِ طاعتِه، أي يقولون إذا أمرتَهم بشيء {طَاعَةٌ} أي أمرُنا وشأنُنا طاعةٌ أو منا طاعةٌ، والأصلُ النصبُ على المصدر، والرفعُ للدِلالة على الثبات كسلام {فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ} أي خرجوا من مجلسك {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ} أي من القائلين المذكورين وهم رؤساؤُهم {غَيْرَ الذي تَقُولُ} أي زوَّرتْ طائفةٌ منهم وسوَّتْ خلافَ ما قالت لك من القَبول وضمانِ الطاعةِ، لأنهم مُصِرُّون على الرد والعصيانِ، وإنما يُظهرون ما يُظهرون على وجه النفاقِ، أو خلافَ ما قلتَ لها، والتبييتُ إما من البيتوته لأنه قضاءُ الأمرِ وتدبيرُه بالليل، يقال: هذا أمرٌ بُيِّت بليل، وإما من بيت الشِّعر لأن الشاعر يُدبِّره ويسوِّيه، وتذكيرُ الفعلِ لأن تأنيثَ الطائفةِ غيرُ حقيقيَ، وقرئ بإدغام التاء في الطاء لقُرب المخرَجِ، وإسنادُه إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدّون له بالذات والباقون أتباعٌ لهم في ذلك لا لأن الباقين ثابتون على الطاعة.
{والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ} أي يكتُبه في جملة ما يوحى إليك فيُطلعُك على أسرارهم فلا يحسَبوا أن مكرَهم يخفى عليكم فيجدون بذلك إلى الإضرار بكم سبيلاً، أو يُثبتُه في صحائفهم فيجازيهم عليه، وأياً ما كان فالجملةُ اعتراضيةٌ {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي لا تُبالِ بهم وبما صنعوا، أو تَجافَ عنهم ولا تتصدَّ للانتقام منهم، والفاءُ لسببية ما قبلها لما بعدها.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في كل ما تأتي وما تذر لاسيما في شأنهم، وإظهارُ الجلالةِ في مقام الإضمارِ للإشعار بعلة الحُكمِ {وكفى بالله وَكِيلاً} فيكفيك مَرَّتَهم وينتقم لك منهم، والإظهارُ هاهنا أيضاً لما مر وللتنبيه على استقلال الجملةِ واستغنائِها عما عداها من كل وجه.
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان} إنكارٌ واستقباحٌ لعدم تدبُّرِهم القرآنَ وإعراضِهم عن التأمل فيما فيه من موجبات الإيمانِ، وتدبُّر الشيءِ تأمّلُه والنظرُ في أدباره ما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استعمل في كل تفكرٍ ونظرٍ، والفاءُ للعطف على مقدر أي أيُعرِضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونَه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحيُ الصادقُ والنصُّ الناطقُ بنفاقهم المحكيِّ على ما هو عليه.
{وَلَوْ كَانَ} أي القرآنُ {مِنْ عِندِ غَيْرِ الله} كما يزعُمون {لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} بأن يكون بعضُ أخبارِه غيرَ مطابقٍ للواقع، إذ لا علمَ بالأمور الغيبيةِ ماضيةً كانت أو مستقبلةً لغيره سبحانه، وحيث كانت كلُّها مطابقةً للواقع تعيَّن كونُه من عنده تعالى. قال الزجاج: ولولا أنه من عند الله تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب مما يُسِرُّه المنافقون وما يُبيِّتونه مختلفاً، بعضُه حقٌّ وبعضُه باطلٌ، لأن الغيبَ لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقال أبو بكرٍ الأصمُّ: إن هؤلاءِ المنافقين كانوا يتواطؤون في السر على أنواع كثيرةٍ من الكيد والمكرِ وكان الله تعالى يُطلِعُ الرسولَ عليه الصلاة والسلام على ذلك ويُخبره بها مفصَّلةً فقيل لهم: إن ذلك لو لم يحصُلْ بإخبار الله تعالى لما اطَّردَ الصِّدقُ فيه ولوقع فيه الاختلافُ فلما لم يقَعْ ذلك قطُّ عُلم أنه بإعلامه تعالى، هذا هو الذي يستدعيه جزالةُ النظمِ الكريمِ، وأما حملُ الاختلافِ على التناقض وتفاوُتِ النظمِ في البلاغة بأن كان بعضُه دالاً على معنى صحيحٍ عند علماءِ المعاني وبعضُه على معنى فاسدٍ غيرِ ملتئمٍ وبعضُه بالغاً حدَّ الإعجازِ وبعضُه قاصراً عنه يُمكن معارضتُه كما جنح إليه الجمهورُ فما لا يساعده السباقُ ولا السياقُ، ومن رام التقريبَ وقال: لعل ذكرَه هاهنا للتنبيه على أن اختلافَ ما سبق من الأحكام ليس لِتناقضٍ في الحِكَم والمصالحِ المقتضيةِ لذلك فقد بعُد عن الحق بمراحلِ.

.تفسير الآية رقم (83):

{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)}
{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الامن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ} يقال: أذاعَ السِّرَّ وأذاع به أي أشاعه وأفشاه، وقيل: معنى أذاعوا به فعلوا به الإذاعةَ وهو أبلغُ من أذاعوه، وهو كلامٌ مسوقٌ لدفع ما عسى يُتوهَّم في بعض الموادِّ من شائبة الاختلافِ بناءً على عدم فهمِ المرادِ ببيان أن ذلك لعدم وقوفِهم على معنى الكلامِ لا لتخلف مدلولِه عنه وذلك أن ناساً من ضَعَفة المسلمين الذين لا خِبرةَ لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم الرسولُ عليه الصلاة والسلام بما أوحِيَ إليه من وعدٍ بالظفر أو تخويفٍ من الكَفَرة يُذيعونه من غير فهمٍ لمعناه ولا ضبطٍ لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحمِلونه عليه من المحامل، وعلى تقدير الفهمِ قد يكون ذلك مشروطاً بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثرُه المتوقَّعُ فيكون ذلك منشأً لتوهم الاختلافِ فنُعيَ عليهم ذلك وقيل: {وَلَوْ رَدُّوهُ} أي ذلك الأمرَ الذي جاءهم {إِلَى الرسول} أي عرَضوه على رأيه عليه الصلاة والسلام مستكشفين لمعناه وما ينبغي له من التدبير والالتفاتِ لما أن عنوانَ الرسالةِ من موجبات الردِّ والمراجعةِ إلى رأيه عليه الصلاة والسلام {وإلى أُوْلِى الامر مِنْهُمْ} وهم كبراءُ الصحابةِ البصراءِ في الأمور رضي الله تعالى عنهم {لَعَلِمَهُ} أي لعلم الرادُّون معناه وتدبيرَه، وإنما وُضع موضِعَ ضميرِهم الموصولُ فقيل: {الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} للإيذان بأنه ينبغي أن يكونَ قصدُهم يردُّه إليهم استكشافُ معناه واستيضاحُ فحواه، أي لعَلِمه أولئك الرادّون الذين يستنبطونه أي يتلَّقوْنه ويستخرجون عليمه وتدبيرَه منهم أي من جهة الرسولِ عليه الصلاة والسلام وأولي الأمرِ من صحابته رِضوانُ الله عليهم أجمعين، ولمّا فعلوا في حقه ما فعلوا فلم يقَعْ من الاشتباه وتوهّمِ الاختلافِ، وقيل: لعَلمه الذين يستخرجون تدبيرَه بفِطَنهم وتجاربِهم ومعرفتِهم بأمور الحربِ ومكايدِها، فكلمةُ مِنْ في {مِنْهُمْ} بيانية، وقيل: إنهم كانوا إذا بلغهم خبرٌ عن سرايا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أمن وسلامةٍ أو خوفٍ وخللٍ أذاعوا به وكانت إذاعتُهم مفسدةً، ولو ردوا ذلك الخبرَ إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وإلى أولي الأمرِ لعلم تدبيرَ ما أُخبروا به الذين يستنبطونه أي يستخرجون تدبيرَه بفِطَنهم وتجارِبِهم ومعرفتِهم بأمور الحربِ ومكايدِها، وقيل: كانوا يقِفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمرِ على أمن ووثوقٍ بالظهور على بعض الأعداءِ، أو على خوف فيُذيعونه فينتشرُ فيبلُغُ الأعداءَ فتعود إذاعتُهم مفسدةً، ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمرِ وفوّضوه إليهم وكانوا كأنْ لم يسمعوا لعَلِم الذين يستنبطون تدبيرَه كيف يُدبِّرونه يأتون وما يذرون فيه، وقيل: كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الأخبار عن السرايا مظنوناً غيرَ معلومِ الصِحّةِ فيُذيعونه فيعود ذلك وبالاً على المؤمنين، ولو ردّوه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى أولي الأمرِ وقالوا: نسكُتُ حتى نسمَعَه منهم ونعلمَ هل هو مما يُذاع أو لا يذاع لعَلِم صِحَّتَه وهل هو مما يُذاع أو لا يذاع هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمرِ أي يتلقَّوْنه منهم ويستخرجون عِلمَه من جهتهم فمَساقُ النظمِ الكريمِ حينئذ لبيان جنايةِ تلك الطائفةِ وسوءِ تدبيرِهم إثرَ بيانِ جنايةِ المنافقين ومكرِهم.
والخطاب في قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} للطائفة المذكورةِ على طريقة الالتفاتِ أي لولا فضلُه تعالى عليكم ورحمتُه بإرشادكم إلى طريق الحقِّ الذي هو المراجعةُ في مظانِّ الاشتباهِ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأولي الأمرِ {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان} وعمِلتم بآراء المنافقين فيما تأتون وما تذرون ولم تهتدوا إلى سُنن الصوابِ {إِلاَّ قَلِيلاً} وهم أولوا الأمرِ الواقفون على أسرار الكتابِ الراسخون في معرفة أحكامِه، فالاستثناءُ منقطعٌ، وقيل: ولولا فضلُه تعالى عليكم ورحمتُه بإرسال الرسولِ وإنزالِ الكتابِ لاتَّبعتم الشيطانَ وبقِيتم على الكفر والضلالةِ إلا قليلاً منكم قد تفضَّلَ عليه بعقل راجح اهتدى به إلى طريق الحقِّ والصوابِ وعصَمَه من متابعة الشيطانِ كقُسِّ بنِ ساعِدةَ الإياديِّ، وزيدِ بنِ عمْرو بنِ نُفيل، ووَرَقةَ بنِ نوفلٍ وأضرابِهم، فالخطابُ للكل، والاستثناءُ متصلٌ، وقيل: المرادُ بالفضل والرحمة النُصرةُ والظفَرُ بالأعداء، أي لولا حصولُ النصرِ والظفرِ على التواتر والتتابعِ لا تبعتم الشيطانَ وتركتم الدينَ إلا قليلاً منكم وهو أولوا البصائرِ النافذةِ والنياتِ القويةِ والعزائمِ الماضيةِ من أفاضل المؤمنين الواقفين على حقبة الدينِ البالغين إلى درجة حقِّ اليقينِ المستغنين عن مشاهدة آثارِ حقِّيتِه من الفتْح والظفَرِ وقيل: إلا اتباعاً قليلاً.

.تفسير الآية رقم (84):

{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)}
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الالتفاتِ، وهو جوابُ شرطٍ محذوفٍ ينساق إليه النظمُ الكريمُ أي إذا كان الأمرُ كما حُكي من عدم طاعةِ المنافقين وكيدِهم وتقصيرِ الآخَرين في مراعاة أحكامِ الإسلامِ فقاتِلْ أنت وحدَك غيرَ مكترثٍ بما فعلوا، وقولُه تعالى: {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} أي إلا فِعْلَ نفسِكْ، استئنافٌ مقرِّرٌ لما قبله فإن اختصاصَ تكليفِه عليه الصلاة والسلام بفعل نفسِه من موجبات مباشرتِه للقتال وحدَه، وفيه دَلالةٌ على أن ما فعلوا من التثبّط لا يضُرُّه عليه الصلاة والسلام ولا يؤاخَذ به، وقيل: هو حالٌ من فاعل قاتِلْ أي فقاتِلْ غيرَ مُكلَّفٍ إلا نفسَك وقرئ {لا تُكَلّفُ} بالجزم على النهي، وقيل: على جواب الأمرِ، وقرئ بنون العَظَمةِ أي لا نُكلِّفُك إلا فعلَ نفسِك لا على معنى لا تُكلّفُ أحداً إلا نفسَك {وَحَرّضِ المؤمنين} عطفٌ على الأمر السابقِ داخلٌ في حكمه، فإن كونَ حالِ الطائفتين كما حُكي سببٌ للأمر بالقتال وحدَه وبتحريض خُلَّصِ المؤمنين، والتحريضُ على الشيء الحثُّ عليه والترغيبُ فيه. قال الراغبُ: كأنه في الأصل إزالةُ الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يُعتدُّ به أي رغِّبْهم في القتال ولا تُعنِّفْ بهم وإنما لم يُذكر المُحرَّضُ عليه لغاية ظهورِه.
وقولُه تعالى: {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} عِدَةٌ منه سبحانه وتعالى محقَّقةُ الإنجازِ بكف شدةِ الكفَرَة ومكروهِهِم، فإن ما صدر بلعل وعسى مقرَّرُ الوقوعِ من جهته عز وجل وقد كان كذلك، حيث روي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيانَ بعد حربِ أُحدٍ موسِمَ بدرٍ الصغرى في ذي القَعدةِ فلما بلغ الميعادَ دعا الناسَ إلى الخروج فكرِهه بعضُهم فنزلت فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكباً ووافَوا الموعِدَ وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعبَ فرجعوا من مرِّ الظّهرانِ، وروي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وافى بجيشه بدراً وأقام بها ثمانيَ ليالٍ وكانت معهم تجاراتٌ فباعوها وأصابوا خيراً كثيراً وقد مر في سورة آل عمران {والله أَشَدُّ بَأْساً} أي من قريش {وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} أي تعذيباً وعقوبةً تُنكّل مَنْ يشاهدُها عن مباشرة ما يؤدي إليها، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبلها، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابةِ وتعليلِ الحُكمِ وتقويةِ استقلالِ الجُملة، وتكريرُ الخبرِ لتأكيد التشديدِ.

.تفسير الآيات (85- 86):

{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)}
وقوله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا} أي من ثوابها، جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان أن له عليه الصلاة والسلام فيما أُمر به من تحريض المؤمنين حظاً موفوراً، فإن الشفاعةَ هي التوسُّطُ بالقول في وصول شخصٍ إلى منفعة من المنافع الدنيويةِ أو الأخروية، أو خلاصِه من مضَرّة ما كذلك، من الشفْع كأن المشفوعَ له كان فرداً فجعله الشفيعُ شَفْعاً، والحسنةُ منها ما كانت في أمر مشروعٍ رُوعي بها حقُّ مسلمٍ ابتغاءً لوجه الله تعالى من غير أن يتضمَّن غرضاً من الأغراض الدنيويةِ، وأيُّ منفعة أجلُّ مما قد حصل للمؤمنين بتحريضه عليه الصلاة والسلام على الجهاد من المنافع الدنيويةِ والأخرويةِ؟ وأيُّ مضرةٍ أعظمُ مما تخلّصوا منه بذلك من التثبّط عنه؟ ويندرج فيها الدعاءُ للمسلم فإنه شفاعةٌ إلى الله سبحانه وعليه مَساقُ آيةِ التحيةِ الآتية، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا لأخيه المسلمِ بظهر الغيبِ استُجيب له وقال له المَلَكُ: ولك مثلُ ذلك» وهذا بيانٌ لمقدار النصيبِ الموعود {وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً} وهي ما كانت بخلاف الحسنةِ {يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا} أي نصيب من وِزْرها مساوٍ لها في المقدار من غير أن يَنْقُصَ منه شيءٌ {وَكَانَ الله على كُلّ شيء مُّقِيتاً} أي مقتدراً، من أقات على الشيء إذا اقتدر عليه أو شهيداً حفيظاً، واشتقاقُه من القُوت، فإنه يقوِّي البدَنَ ويحفَظُه، والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لما قبلها على كلا المعنيين.
{وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ} ترغيبٌ في فرد شائعٍ من أفراد الشفاعةِ الحسنةِ إثرَ ما رُغِّبَ فيها على الإطلاق وحُذِّر عما يقابلها من الشفاعة السيئةِ، وإرشادٌ إلى توفية حقِّ الشفيعِ، وكيفيةِ أدائِه، فإن تحيةَ الإسلامِ من المسلم شفاعةٌ منه لأخيه إلى الله تعالى، والتحيةُ مصدر حيَّا أصلُها تحْيِيَةٌ، كتسمية من سمَّى وأصلُ الأصلِ تَحْيِيٌّ بثلاث ياءاتٍ فحُذفت الأخيرةُ وعُوِّضَ عنها تاءُ التأنيثِ وأُدغمت الأولى في الثانية بعد نقلِ حركتِها إلى الحاء. قال الراغبُ: أصلُ التحية الدعاءُ بالحياة وطولِها ثم استعملت في كل دعاءٍ، وكانت العربُ إذا لقِيَ بعضُهم بعضاً يقول: حياك الله، ثم استعملها الشرعُ في السلام وهي تحيةُ الإسلامِ، وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} وقال: {فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله} قالوا: في السلام مزيةٌ على التحية لما أنه دعاءٌ بالسلامة من الآفات الدينيةِ والدنيويةِ، وهي مستلزِمةٌ لطول الحياةِ وليس في الدعاء بطول الحياةِ ذلك، ولأن السلامَ من أسمائه تعالى فالبَداءةُ بذكره مما لا ريبَ في فضله ومزّيتِه، أي إذا سُلِّم عليكم من جهة المؤمنين {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا} أي بتحيةٍ أحسنَ منها بأن تقولوا: وعليكم السلامُ ورحمةُ الله إن اقتصر المُسلمُ على الأول وبأن تَزيدوا وبركاتُه إن جمعهما المسلمُ وهي النهايةُ لانتظامها لجميع فنونِ المطالبِ التي هي السلامةُ عن المضارِّ ونيلُ المنافعِ ودوامُها ونماؤُها.
{أَوْ رُدُّوهَا} أي أجيبوها بمثلها. رُوي «أن رجالاً قال أحدُهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السلامُ عليك، فقال: وعليك السلام ورحمةُ الله وقال الآخرُ: السلامُ عليك ورحمةُ الله، فقال: وعليك السلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه، وقال الآخرُ: السلامُ عليك ورحمةُ الله وبركاتُه، فقال: وعليك فقال الرجل: نقصتَني فأين ما قال الله تعالى؟ وتلا الآية، فقال عليه الصلاة والسلام: إنك لم تترُكْ ليَ فضلاً فردَدْتُ عليك مثلَه»، وجوابُ التسليم واجبٌ وإنما التخييرُ بين الزيادةِ وتركِها، وعن النخعيّ: أن السلامَ سنةٌ والردَّ فريضةٌ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «الردُّ واجبٌ وما من رجل يمُرُّ على قوم مسلمين فيسلّم عليهم ولا يردّون عليه إلا نزَع الله منهم روُحَ القُدسِ وردَّت عليه الملائكة» ولا يردّ في الخُطبة وتلاوةِ القرآنِ جهراً، وروايةِ الحديثِ وعند دراسةِ العلمِ والآذانِ والإقامةِ، ولا يسلّم على لاعب النرْدِ والشطرنج والمغنّي والقاعدِ لحاجته ومُطيِّرِ الحَمام والعاري في الحمّام وغيرِه، قالوا: ويسلم الرجلُ على امرأته لا على الأجنبية، والسُّنةُ أن يسلِّم الماشي على القاعد والراكبُ على الماشي وراكبُ الفرسِ على راكب الحمارِ، والصغيرُ على الكبير والقليلُ على الكثير، وإذا التَقَيا ابتدرا. وعن أبي حنيفةَ رضي الله عنه لا يجهر بالرد يعني الجهرَ الكثيرَ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا سلَّم عليكُم أهلُ الكتابِ فقولوا: وعليكُم» أي وعليكم ما قلتم حيث كان يقول بعضُهم: السامُ عليكم. وروي «لا تبدأ اليهوديَّ بالسلام وإذا بدأك فقل: وعليك»، وعن الحسن: أنه يجوز أن يقول للكافر وعليك السلامُ دون الزيادة، وقيل: التحيةُ بالأحسن عند كونِ المسلِّمِ مسلماً وردُّ مثلِها عند كونِه كافراً.
{إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شيء حَسِيباً} فيحاسبكم على كل شيءٍ من أعمالكم التي من جملتها ما أُمرتم به من التحية فحافِظوا على مراعاتها حسبما أُمرتم به.