فصل: تفسير الآية رقم (96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (96):

{دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)}
وقولُه تعالى: {درجات} بدلٌ من أجراً بدلَ الكلِّ مبينٌ لكمية التفضيلِ، وقوله تعالى: {مِنْهُ} متعلق بمحذوف وقعَ صفةً لدرجاتٍ دالةً على فخامتها وجلالةِ قدْرِها أي درجاتٍ كائنةً منه تعالى. قال ابن محيريز: هي سبعون درجةً ما بين كلِّ درجتين عدْوُ الفرسِ الجوادِ المُضْمرِ سبعين خريفاً. وقال السدي: هي سبعُمائةِ درجةٍ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ في الجنةِ مائةَ درجةٍ أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماءِ والأرضِ» ويجوز أن يكونَ انتصابُ درجاتٍ على المصدرية كما في قولك: ضربه أسواطاً أي ضرباتٍ كأنه قيل: فضّلهم تفضيلاً، وقوله تعالى: {وَمَغْفِرَةٌ} بدلٌ من أجراً بدلَ البعضِ لأن بعضَ الأجرِ ليس من باب المغفرة، أي مغفرةً لما فَرَط منهم من الذنوب التي لا يكفرها سائرُ الحسناتِ التي يأتي بها القاعدون أيضاً حتى تُعدَّ من خصائصهم وقولُه تعالى: {وَرَحْمَةً} بدل الكلِّ من أجراً ومثلُه درجاتٍ ويجوز أن يكون انتصابُهما بإضمار فعلِهما أي غَفَر لهم مغفرةً ورحِمَهم رحمة.
هذا ولعل تكريرَ التفضيلِ بطريق العطفِ المنبىءِ عن المغايرة، وتقييدَه تارةً بدرجة وأخرى بدرجاتٍ مع اتحاد المفضّلِ والمفضلِ عليه حسبما يقتضيه الكلامُ ويستدعيه حسنُ النظامِ إما التنزيل الاختلاف العنوانيِّ بين التفضيلين وبين الدرجةِ والدرجاتِ منزلةَ الاختلافِ الذاتي تمهيداً لسلوك طريقِ الإبهامِ ثم التفسيرِ رَوْماً لمزيد التحقيقِ والتقريرِ كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} كأنه قيل: فضّل الله المجاهدين على القاعدين درجةً لا يقادَر قدرُها ولا يُبلَغُ كُنهُها وحيث كان تحقّقُ هذا البونِ البعيدِ بينهما مُوهِماً لحِرمان القاعدين قيل: وكلا وعد الله الحسنى ثم أريد تفسيرُ ما أفاده التنكيرُ بطريق الإبهامِ بحيث يقطَعُ احتمالَ كونِه للوِحْدة فقيل ما قيل، ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجةِ والدرجاتِ على أن المرادَ بالتفضيل الأولِ ما خوّلهم الله تعالى عاجلاً في الدنيا من الغنيمة والظَّفَر والذِكْرِ الجميلِ الحقيقِ بكونه درجةً واحدةً وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العاليةِ الفائتةِ للحصر، كما ينبىء عنه تقديمُ الأولِ وتأخيرُ الثاني وتوسيطُ الوعدِ بالجنة بينهما كأنه قيل: وفضّلهم عليهم في الدنيا درجةً واحدةً، وفي الآخرة درجاتٍ لا تحصى، وقد وُسِّط بينهما في الذكر ما هو متوسِّط بينهما في الوجود أعني الوعدَ بالجنة توضيحاً لحالهما ومسارعةً إلى تسلية المفضولِ والله سبحانه أعلم. هذا ما بين المجاهدين وبين القاعدين غيرِ أولي الضررِ، وأما أولو الضررِ فهم مساوون للمجاهدين عند القائلين بمفهوم الصفةِ وبأن الاستثناءَ من النفي إثباتٌ، وأما عند من لا يقول بذلك فلا دِلالة لعبارة النصِّ عليه وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد خلّفتم في المدينة أقواماً ما سِرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم» وهم الذين صحّت نياتُهم ونصَحَتْ جيوبُهم وكانت أفئدتُهم تهوى إلى الجهاد، وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرر أو غيره. وبعبارة أخرى «إن في المدينة لأقواماً ما سِرتم من مسير ولا قطعتم من وادٍ إلا كانوا معكم فيه» قالوا: يا رسولَ الله وهم بالمدينة؟ قال: «نعم وهم بالمدينة حبَسهم العُذرُ» قالوا: هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى سوى الضرر قد ذكرت في قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى} إلى قوله: {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وقيل: القاعدون الأُوَلُ هم الأضراءُ والثاني غيرُهم وفيه من تفكيك النظمِ الكريمِ ما لا يخفى، ولا ريب في أن الأضّراءَ أفضلُ من غيرهم درجةً كما لا ريب في أنهم دون المجاهدين بحسب الدرجةِ الدنيوية {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} تذييلٌ مقرِّرٌ لما وَعَد من المغفرة والرحمة.

.تفسير الآية رقم (97):

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)}
{إِنَّ الذين توفاهم الملئكة} بيانٌ لحال القاعدين عن الهجرة بعد بيانِ حالِ القاعدين عن الجهاد، وتوفاهم يحتمل أن يكون ماضياً ويؤيده قراءةُ من قرأ توفتْهم وأن يكون مضارعاً قد حُذف منه إحدى التاءينِ وأصلُه تتوفاهم على حكاية الحالِ الماضيةِ والقصدِ إلى استحضار صورتِها، ويعضُده قراءةُ من قرأ تُوَفاهم على مضارع وُفِّيَتْ بمعنى أن الله تعالى يُوفيّ الملائكةَ أنفسِهم فيتوفّونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} حالٌ من ضمير تَوَفاهم فإنه وإن كان مضافاً إلى المعرفة إلا أنه نكرةٌ في الحقيقة لأن المعنى على الانفصال وإن كان موصولاً في اللفظ كما في قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلّى الصيد} و{هَدْياً بالغ الكعبة} و{ثَانِىَ عِطْفِهِ} أي مُحلّين الصّيدَ وبالغاً الكعبةَ وثانياً عِطْفَه كأنه قيل: ظالمين أنفسَهم وذلك بترك الهجرةِ واختيارِ مجاورةِ الكفارِ الموجبةِ للإخلال بأمور الدينِ فإنها نزلت في ناس من أهل مكةَ قد أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرةُ فريضة {قَالُواْ} أي الملائكةُ للمُتوفَّيْن تقريراً لهم بتقصيرهم في إظهار إسلامِهم وإقامةِ أحكامِه من الصلاة ونحوها وتوبيخاً لهم بذلك {فِيمَ كُنتُمْ} أي في أي شيءٍ كنتم من أمور دينِكم {قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية سؤالِ الملائكةِ، كأنه قيل: فماذا قالوا في الجواب؟ فقيل: قالوا: متجانِفين عن الإقرار الصريحِ بما هم فيه من التقصير متعلِّلين بما يوجبه على زعمهم {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الارض} أي في أرض مكةَ عاجزين عن القيام بمواجب الدينِ فيما بين أهلِها {قَالُواْ} إبطالاً لتعللهم وتبكيتاً لهم {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} إلى قطر منها تقدِرون فيه على إقامة أمورِ الدينِ كما فعله من هاجر إلى المدينة وإلى الحبشة، وأما حملُ تعلُّلِهم على إظهار العجزِ عن الهجرة وجعلُ جوابِ الملائكةِ تكذيباً لهم في ذلك فيرده أن سببَ العجز عنها لا ينحصر في فُقدان دار الهجرةِ بل قد يكون لعدم الاستطاعةِ للخروج بسبب الفقرِ أو لعدم تمكينِ الكفَرة منه فلا يكون بيانُ سعةِ الأرضِ تكذيباً لهم ورداً عليهم بل لابد من بيان استطاعتِهم أيضاً حتى يتم التبكيتُ، وقيل: كانت الطائفةُ المذكورةُ قد خرجت مع المشركين إلى بدرٍ منهم قيسُ بنُ الفاكِهِ بنِ المغيرةِ وقيسُ بنُ الوليدِ بنِ المغيرة وأشباهُهما فقُتلوا فيها فضَرَبت الملائكةُ وجوهَهم وأدبارَهم، وقالوا لهم ما قالوا فيكون ذلك منهم تقريعاً وتوبيخاً لهم بما كانوا فيه من مساعدة الكَفَرةِ وانتظامِهم في عسكرهم، ويكون جوابُهم بالاستضعاف تعلّلاً بأنهم مقهورين تحت أيديهم وأنهم أَخرجوهم كارهين فرُدَّ عليهم بأنهم كانوا بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكّنين من المهاجرة {فَأُوْلَئِكَ} الذين حُكِيت أحوالُهم الفظيعةُ {مَأْوَاهُمْ} أي في الآخرة {جَهَنَّمُ} كما أن مأواهم في الدنيا دارُ الكفرِ لتركهم الفريضةَ المحتومةَ فمأواهم مبتدأٌ وجهنمُ خبرُه، والجملةُ خبرٌ لأولئك، وهذه الجملةُ خبرُ إن والفاءُ فيه لتضمُّن اسمِها معنى الشرطِ، وقولُه تعالى: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} حالٌ من الملائكة بإضمار قد عند من يشترطه، أو هو الخبرُ والعائدُ منه محذوفٌ أي قالوا لهم، والجملةُ المصدرةُ بالفاء معطوفةٌ عليه مستنتَجَةٌ منه ومما في حيّزه {وَسَاءتْ مَصِيراً} أي مصيراً لهم أي جهنم، وفي الآية الكريمةِ إرشادٌ إلى وجوب المهاجرةِ من موضع لا يتمكن الرجلُ من إقامة أمورِ دينِه بأي سبب كان، وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:

.تفسير الآيات (98- 99):

{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)}
{إِلاَّ المستضعفين} استثناءٌ منقطعٌ لعدم دخولِهم في الموصول وضميرِه والإشارةِ إليه. ومِنْ في قوله تعالى: {مِنَ الرجال والنساء والولدان} متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من المستضعفين أي كائنين منهم، وذِكرُ الوِلدان إن أريد بهم المماليكُ أو المراهقون ظاهرٌ، وأما إن أريد بهم الأطفالُ فللمبالغة في أمر الهجرةِ والإيذانِ بأنها بحيث لو استطاعها غيرُ المكلّفين لوجبت علهم، والإشعارِ بأنهم لا محيصَ لهم عنها البتةَ تجب عليهم (إذا) بلغوا حتى كأنها واجبةٌ عليهم قبل البلوغِ لو استطاعوا أن يهاجروا بهم متى أمكنت، وقوله تعالى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} صفةٌ للمستضعفين فإن ما فيه من اللام ليس للتعريف، أو حالٌ منه أو من الضمير المستكنِّ فيه، وقيل: تفسيرٌ لنفس المستضعفين لكثرة وجوهِ الاستضعافِ، واستطاعةُ الحيلةِ وُجدانُ أسبابِ الهجرةِ ومباديها، واهتداءُ السبيلِ معرفةُ طريقِ الموضعِ المهاجَرِ إليه بنفسه أو بدليل {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى المستضعفين الموصوفين بما ذُكر من صفات العجزِ {عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} جيء بكلمة الإطماعِ ولفظِ العفوِ إيذاناً بأن الهجرةَ من تأكُّدِ الوجوبِ بحيث ينبغي أن يُعدَّ تركُها ممن تحقق عدمُ وجوبِها عليه ذنباً يجب طلبُ العفوِ عنه رجاءً وطمعاً لا جزماً وقطعاً {وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} تذييلٌ مقررٌ لما قبله.

.تفسير الآيات (100- 101):

{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)}
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الارض مُرَاغَماً كَثِيراً} ترغيبٌ في المهاجَرَة وتأنيسٌ لها أي يجدْ فيها متحوَّلاً ومهاجَراً وإنما عبّر عنه بذلك تأكيداً للترغيب لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتحوَّلِ بحيث يصل فيه المهاجرُ من الخير والنعمةِ إلى ما يكون سبباً لرغم أنفِ قومِه الذين هاجرهم، والرُّغمُ الذلُّ والهوانُ وأصلُه لصوقُ الأنفِ بالرَّغام وهو التراب، وقيل: يجد فيها طريقاً يراغِمُ بسلوكه قومَه أي يفارقهم على رَغم أنوفِهم {واسعة} أي من الرزق {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت} أي قبل أن يصل إلى المقصِد وإن كان ذلك خراجَ بابِه كما ينبىء عنه إيثارُ الخروجِ من بيته على المهاجَرة، وهو عطفٌ على فعل الشرطِ وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ، وقيل: هو حركةُ الهاءِ نُقلت إلى الكاف على نية الوقفِ، كما في قوله:
من عنزي سبني إذ لم أضرِبُه ** عجبتُ والدهرُ كثيرٌ عجبُهْ

وقرئ بالنصب على إضمار أنْ كما في قوله:
وألحقُ بالحجاز فأستريحا

{فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} أي ثبت ذلك عنده تعالى ثبوتَ الأمرِ الواجبِ. روي «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما بَعَث بالآيات المتقدمةِ إلى مسلمي مكةَ قال جُندُبُ بنُ ضَمْرةَ لبنيه وكان شيخاً كبيراً: احمِلوني فإني لستُ من المستضعفين وإني لأهتدي الطريقَ والله لا أبيتُ الليلةَ بمكةَ فحمَلوه على سرير متوجِّهاً إلى المدينة فلما بلغ التنعيمَ أشرفَ على الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايُعك على ما بايعك رسولُك فمات حميداً فبلغ خبرُه أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو تُوفيَ بالمدينة لكان أتمَّ أجراً فنزلت». قالوا: كلُّ هجرةٍ في غرض دينيَ من طلبِ علمٍ أو حجَ أو جهادٍ أو نحو ذلك فهي هجرةٌ إلى الله عز وجل وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام.
{وَكَانَ الله غَفُوراً} مبالِغاً في المغفرة فيغفرُ له ما فَرَط منه من الذنوب التي من جملتها القعودُ عن الهجرة إلى وقت الخروجِ {رَّحِيماً} مبالِغاً في الرحمة فيرحَمُه بإتمام ثوابِ هجرتِه.
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الارض} شروعٌ في بيان كيفيةِ الصلاةِ عند الضروراتِ من السفر ولقاءِ العدوِّ والمرضِ والمطرِ، وفيه تأكيدٌ لعزيمة المهاجِرِ على المهاجَرة وترغيبٌ له فيها لما فيه من تخفيف المؤنةِ، أي إذا سافرتم أيَّ مسافرةٍ كانت ولذلك لم يُقيَّد بما قُيِّد به المهاجَرة {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي لا حرجَ (ولا) مأثمَ {أَن تَقْصُرُواْ} أي في أن تقصُروا، والقصرُ خلافُ المدِّ يقال: قصَرْت الشيءَ أي جعلته قصيراً بحذف بعضِ أجزائِه أو أوصافِه، فمُتعلَّقُ القصرِ حقيقةً إنما هو ذلك الشيءُ لا بعضُه فإنه متعلَّقُ الحذفِ دون القصرِ وعلى هذا فقوله تعالى: {مِنَ الصلاة} ينبغي أن يكون مفعولاً لتقصُروا على زيادة مِنْ حسبما رآه الأخفش، وأما على تقدير أن تكون تبعيضيةً ويكونَ المفعولُ محذوفاً كما هو رأيُ سيبويهِ أي شيئاً من الصلاة فينبغي أن يُصارَ إلى وصف الجزءِ بصفة الكلِّ أو يرادَ بالقصر معنى الحبْس، يقال: قصَرتُ الشيءَ إذا حبستْه أو يرادَ بالصلاة الجنسُ ليكون المقصورُ بعضاً منها وهي الرُّباعياتُ، أي فليس عليكم جُناحٌ في أن تقصروا بعضَ الصلاةِ بتنصيفها، وقرئ {تُقْصِروا} من الإقصار وتُقَصِّروا من التقصير، والكل بمعنى.
وأدنى مدةِ السفرِ الذي يتعلق به القصرُ عند أبي حنيفةَ مسيرةَ ثلاثةِ أيام ولياليها بسير الإبلِ، ومشيِ الأقدام بالاقتصاد، وعند الشافعيِّ مسيرةَ يومين، وظاهرُ الآية الكريمة التخييرُ وأفضليةُ الإتمام وبه قال الشافعيّ وبما رُوي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أتم في السفر. وعن عائشة رضي الله عنها أنها أتمت تارةً وقصرت أخرى. وعن عثمانَ رضي الله عنه أنه كان يُتمّ ويَقصُر، وعندنا يجب القصرُ لا محالة خلا أن بعضَ مشايخنا سماه عزيمةً وبعضُهم رُخصةَ إسقاطٍ بحيث لا مَساغَ للإتمام لا رخصةَ ترفيهٍ، إذ لا معنى للتخيير بين الأخفِّ والأثقلِ وهو قولُ عمرَ وعليَ وابن عباس وابنِ عمرَ وجابر رضوانُ الله عليهم وبه قال الحسنُ وعمرُ بنُ عبد العزيز وقتادةُ وهو قول مالك.
وقد رُوي عن عمرَ رضي الله عنه صلاةُ السفر ركعتانِ تمامٌ غيرُ قصرٍ على لسان نبيِّكم عليه السلام وعن أنس رضي الله عنه «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكةَ فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة» وعن عمرانَ بنِ حُصين رضي الله عنه ما رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر إلا ركعتين وصلى بمكةَ ركعتين ثم قال: «أتمُّوا فإنَّا قومٌ سَفْرٌ» وحين سمع ابنُ مسعودٍ أن عثمانَ رضي الله عنه صلى بمِنىً أربعَ ركعاتٍ استرجع ثم قال: صليت مع رسول الله عليه الصلاة والسلام بمنى ركعتين وصليتُ مع أبي بكر رضي الله عنه بمِنىً ركعتين وصليت مع عمرَ رضي الله عنه بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعاتٍ ركعتان مُتقبَّلتان. وقد اعتذر عثمانُ رضي الله عنه عن إتمامه بأنه تأهّل بمكة، وعن الزهريّ أنه إنما أتمّ لأنه أزمع الإقامةَ بمكة، وعن عائشة رضي الله عنها أولُ ما فُرضت الصلاةُ فُرضتْ ركعتين ركعتين فأُقِرَّت في السفر وزيدت في الحضر. وفي صحيح البخاري أنها قالت: فرضَ الله الصلاةَ حين فرضها ركعتين في الحضَر والسفر، وزيد في صلاة الحضر، وأما ما روي عنها من الإتمام فقد اعتذر عنه وقالت: أنا أمُّ المؤمنين فحيث حللتُ فهي داري، وإنما ورد ذلك بنفي الجُناحِ لما أنهم ألِفوا الإتمامَ فكانوا مظِنةَ أن يخطُر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فصرح بنفي الجناحِ عنهم لتطيب به نفوسُهم ويطمئنوا إليه كما في قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} مع أن ذلك الطوافَ واجبٌ عندنا ركنٌ عند الشافعيِّ. وقوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} جوابُه محذوفٌ لدِلالة ما قبله عليه أي إن خفتم أن يتعرّضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيرِه فليس عليكم جُناح الخ، وهو شرطٌ معتبرٌ في شرعية ما يُذكر بعده من صلاة الخوفِ المؤداةِ بالجماعة، وأما في حق مُطلقِ القصرِ فلا اعتبار له اتفاقاً لتظاهُر السننِ على مشروعيته حسبما وقفتَ على تفاصيلها. وقد ذكر الطحاويُّ في شرح الآثارِ مسنداً إلى يعلى بن أميةَ أنه قال: قلت لعمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه إنما قال الله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} وقد أمِن الناسُ، فقال عمر رضي الله عنه: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقةٌ تصدّقَ الله بها عليكم فاقبَلوا صدقتَه» وفيه دليلٌ على عدم جوازِ الإكمالِ لأن التصدقَ بما لا يحتمل التمليكَ إسقاطٌ محضٌ لا يحتمل الردَّ كما حُقّق في موضعه، ولا يُتَوهّمنّ أنه مخالفٌ للكتاب لأن التقييدَ بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحُكمِ عند وجودِ الشرطِ وأما عدمُه عند عدمِه فمسكوتٌ عنه فإن وجدَ له دليلٌ ثبت عنده أيضاً وإلا بقي على حاله لعدم تحققِ دليلِه لا لتحقق دليلِ عدمِه، وناهيك بما سمعتَ من الأدلة الواضحةِ، وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما يدل على نفي الحُكمِ عند عدم الشرط إذا لم يكن له فائدةٌ أخرى وقد خرج الشرطُ هاهنا مخرجَ الأغلبِ كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} بل نقول: إن الآيةَ الكريمةَ مجملةٌ في حق مقدارِ القصرِ وكيفيتِه وفي حق ما يتعلق به من الصلوات وفي مقدار مدةِ الضربِ الذي نيط به القصرُ فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من القصر في حال الأمن وتخصيصِه بالرُباعيات على وجه التنصيف وبالضرب في المدة المعينة بيانٌ لإجمال الكتابِ، وقد قيل: إن قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} الخ، متعلقٌ بما بعده من صلاة الخوفِ منفصلٌ عما قبله فإنه روي عن أبي أيوبَ الأنصاريِّ رضي الله عنه أنه قال: نزل قولُه تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الارض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حولٍ فنزل: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} الخ، وقد قرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم على أنه مفعول له لما دل عليه الكلام، كأنه قيل: شرُع لكم ذلك كراهةَ أن يفتنكم الخ، فإن استمرارَ الاشتغالِ بالصلاة مَظِنةٌ لاقتدارهم على إيقاع الفتنةِ، وقوله تعالى: {إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} تعليلٌ لذلك باعتبار تعلُّلِه بما ذُكر أو لما يُفهم من الكلام من كون فتنتِهم متوقَّعةً فإن كمالَ عداوتِهم للمؤمنين من موجبات التعرُّض لهم بسوء.