فصل: تفسير الآية رقم (102):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (102):

{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)}
وقولُه تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} بيانٌ لما قبله من النص المُجملِ الواردِ في مشروعية القصرِ بطريق التفريعِ، وتصويرٌ لكيفيته عند الضرورةِ التامةِ. وتخصيصُ البيانِ بهذه الصورة مع الاكتفاء فيما عداها بالبيان بطريق السنةِ لمزيد حاجتِها إليه لما فيها من كثرة التغييرِ عن الهيئة الأصليةِ، ومن هنا ظهر لك أن مورِدَ النصِّ الشريفِ على المقصورة، وحكمُ ما عداها مستفادٌ من حكمها، والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التجريدِ، وبظاهره يَتعلّق من لا يرى صلاةَ الخوفِ بعده عليه السلام، ولا يخفى أن الأئمةَ بعده نُوّابُه عليه السلام قُوّامٌ بما كان يقوم به فيتناولهم حكمُ الخطابِ الواردِ له عليه السلام كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً} وقد روي أن سعيدَ بنَ العاصِ لما أراد أن يصليَ بطَبْرستانَ صلاةَ الخوفِ قال: من شهِد منكم صلاةَ الخوفِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقام حُذيفةُ بنُ اليمانِ رضي الله عنه فوصف له ذلك فصلى بهم كما وصَف، وكان ذلك بحضرة الصحابةِ رضي الله عنهم فلم يُنْكِرْه أحدٌ فحل محلَّ الإجماعِ. وروي في السنن أنهم غزَوْا معَ عبد الرحمن بنِ سَمُرةَ كابُل فصلى بهم صلاةَ الخوفِ {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} أي أردت أن تقيم بهم الصلاة.
{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ} بعد أن جعلتَهم طائفتين ولتقِف الطائفةُ الأخرى بإزاء العدوِّ ليحرسوكم منهم، وإنما لم يصرَّحْ به لظهوره {وَلْيَأْخُذُواْ} أي الطائفةُ القائمة معك {أَسْلِحَتَهُمْ} أي لا يضعوها ولا يُلْقوها إنما عبّر عن ذلك بالأخذ للإيذان بالاعتناء باستصحابها كأنهم يأخُذونها ابتداءً {فَإِذَا سَجَدُواْ} أي القائمون معك وأتمّوا الركعة {فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ} أي فلينصرِفوا إلى مقابلة العدوِّ للحراسة {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ} بعدُ، وهي الطائفةُ الواقفة تجاه العدوِّ للحراسة وإنما لم تُعرَفْ لما أنها لم تُذكرْ فيما قبل {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} الركعةَ الباقيةَ، ولم يبيِّنْ في الآية الكريمة حالَ الركعةِ الباقيةِ لكل من الطائفتين، وقد بُيِّن ذلك بالسنة حيث روي عن ابن عمر وابنِ مسعود رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى صلاةَ الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعةً وبالطائفة الأخرى ركعةً كما في الآية الكريمة، ثم جاءت الطائفةُ الأولى وذهبت هذه إلى مقابلة العدوِّ حتى قضت الأولى الركعة الأخيرةَ بلا قراءة وسلّموا، ثم جاءت الطائفةُ الأخرى وقضَوا الركعةَ الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان {وَلْيَأْخُذُواْ} أي هذه الطائفة {حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} لعل زيادة الأمرِ بالحذرِ في هذه المرة لكونها مظِنّةً لوقوف الكَفَرة على كون الطائفةِ القائمةِ مع النبي صلى الله عليه وسلم في شغل شاغلً وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحرب، وتكليفُ كلَ من الطائفتين بما ذكر لما أن الاشتغالَ بالصلاة مظنةٌ لإلقاء السلاحِ والإعراض عن غيرها، ومظِنةٌ لهجوم العدوِّ كما ينطِقُ به قوله تعالى: {وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة} فإنه استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل الأمرِ المذكورِ والخطابُ للفريقين بطريق الالتفاتِ أي تمنَّوا أن ينالوا منكم غِرّةً وينتهزوا فرصةً فيشدّوا عليكم شدةً واحدةً، والمرادُ بالأمتعة ما يُتمتع به في الحرب لا مطلقاً، وهذا الأمرُ للوجوب لقوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ} حيث رُخّص لهم في وضعها إذا ثقُل عليهم استصحابُها بسبب مطرٍ أو مرضٍ، وأُمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياطِ فقيل: {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} لئلا يهجُمَ العدوُّ عليكم غِيلةً.
روى الكلبي عن أبي صالح أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غزا محارباً وبني أنمار فنزلوا ولا يرَوْن من العدو أحداً فوضع الناسُ أسلحتَهم وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لحاجة له وقد وضَع سلاحَه حتى قطع الواديَ والسماءُ ترُشّ فحال الوادي بينه عليه السلام وبين أصحابِه فجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فبصُرَ به غَوْرَثُ بنُ الحارثِ المحاربي فقال: قتلني الله إن لم أقتلْك، ثم انحدر من الجبل ومعه السيفُ فلم يشعُرْ به رسولُ اللها صلى الله عليه وسلم إلا هو قائمٌ على رأسه وقد سل سيفَه من غِمْدِهِ فقال: يا محمد من يعصِمك مني الآن؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الله عز وجل» ثم قال: «اللهم اكفِني غَوْرَثَ بنَ الحارث بما شئت» ثم أهوى بالسيفِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ليضرِبه فأكبَّ لوجهه من زلخة زلخها بين كتفيه فبدر سيفه فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ثم قال: «يا غَوْرَثُ من يمنعك مني الآن؟» قال: لا أحد، قال عليه الصلاة والسلام: «تشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدُه ورسولُه وأعطيك سيفَك؟»، قال: لا، ولكن أشهد أن لا أقاتِلَك أبداً ولا أُعينَ عليك عدواً، فأعطاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيفَه فقال غورثُ: والله لأنت خيرٌ مني، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {أنا أحقُّ بذلك منك} فرجَع غَوْرَثُ إلى أصحابه فقصَّ عليهم قِصتَه فآمن بعضُهم، قال: وسكن الوادي فقطع عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأخبرهم بالخبر. وقوله تعالى: {إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً} تعليلٌ للأمر بأخذ الحذرِ أي أعد لهم عذاباً مهيناً بأن يخذُلهم وينصُرَكم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تُهمِلوا في مباشرة الأسباب ليحِلَّ بهم عذابُه بأيديكم، وقيل: لما كان الأمرُ بالحذر من العدو مُوهماً لتوقّع غلبتِه واعتزازِه نُفي ذلك الإيهامُ بأن الله تعالى ينصُرهم ويُهين عدوَّهم لتقوى قلوبُهم.

.تفسير الآيات (103- 104):

{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة} أي صلاةَ الخوفِ أي أديتموها على الوجه المبيّنِ وفرَغتم منها {فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ} أي فداوموا على ذكر الله تعالى وحافِظوا على مراقبته ومناجاتِه ودعائِه في جميع الأحوالِ حتى في حال المسايفة والقتالِ، كما في قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} {فَإِذَا اطمأننتم} سكنَت قلوبُكم من الخوف وأمِنتم بعدما وضعت الحربُ أوزارَها {فأقِيمُوا الصَّلاةَ} أي الصلاةَ التي دخل وقتُها حينئذ أي أدُّوها بتعديل أركانِها ومراعاةِ شرائطِها، وقيل: المرادُ بالذكر في الأحوال الثلاثةِ الصلاةُ فيها أي فإذا أردتم أداءَ الصلاةِ فصلّوا قِياماً عند المسايفةِ وقعوداً جاثين على الرّكَب عند المراماةِ وعلى جنوبكم مُثخَنين بالجِراح، فإذا اطمأننتم في الجملة فاقضُوا ما صليتم في تلك الأحوالِ التي هي (من) أحوال القلقِ والانزعاجِ، وهو رأيُ الشافعيِّ رحمه الله وفيه من البعد ما لا يخفى.
{إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} أي فرضاً موقتاً، قال مجاهدٌ: وقّته الله عليهم فلابد من إقامتها في حالة الخوفِ أيضاً على الوجه المشروحِ، وقيل: مفروضاً مقدّراً في الحضَر أربَعَ ركعاتٍ وفي السفر ركعتين فلابد أن تؤدى في كل وقتٍ حسبما قُدِّر فيه.
{وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغاء القوم} أي لا تضعُفوا ولا تتوانَوا في طلب الكفارِ بالقتال والتعرّضِ لهم بالحِراب، وقوله تعالى: {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} تعليلٌ للنهي وتشجيعٌ لهم، أي ليس ما تقاسونه من الآلام مختصاً بكم بل هو مشترَكٌ بينكم وبينهم، ثم إنهم يصبِرون على ذلك فما لكم لا تصبِرون؟ مع أنكم أولى به منهم حيث ترجُون من الله من إظهار دينِكم على سائر الأديانِ ومن الثواب في الآخرة ما لا يخطُر ببالهم. وقرئ {أن تكونوا} بفتح الهمزة أي لا تهِنوا لأن تكونوا تألمون، وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ} تعليلٌ للنهي عن الوهن لأجلهه، والآيةُ نزلت في بدرٍ الصُّغرى {وَكَانَ الله عَلِيماً} مبالِغاً في العلم فيعلم أعمالَكم وضمائرَكم {حَكِيماً} فيما يأمُر وينهى فجِدُّوا في الامتثال بذلك فإن فيه عواقبَ حميدةً.

.تفسير الآيات (105- 108):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)}
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} رُوي «أن رجلاً من الأنصار يقال له طُعمةُ بنُ أُبيرِقَ من بني ظفَرٍ سرَق دِرعاً من جاره قتادةَ بنِ النعمانِ في جرابِ دقيقٍ فجعل الدقيقُ ينْتثِرُ من خَرْقٍ فيه فخبأها عند زيد بنِ السمين اليهودي فالتمست بنو ظفر الدرعَ عند طعمةَ فلم توجد، وحلف ما أخذها وما لَه بها علمٌ فتركوه واتبعوا أثرَ الدقيقِ حتى انتهى إلى منزل اليهوديِّ فأخذوها فقال: دفعها إليّ طعمةُ وشهِد له ناسٌ من اليهود، فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وشهِدوا ببراءته وسرقةِ اليهوديِّ فهمّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل فنزلت». وروي أن طعمةَ هرب إلى مكةَ وارتدّ ونقَبَ حائطاً بمكةَ ليسرِقَ أهلَه فسقَط الحائطُ عليه فقتله. وقيل: نزل على رجل من بني سليم من أهل مكة يقال له الحجّاجُ بنُ علاط فنقَبَ بيتَه فسقط عليه حجرٌ فلم يستطِع الدخولَ ولا الخروجَ فأخذ ليقتل فقيل: دعه فإنه قد لجأ إليك فتركه وأخرجوه من مكةَ فالتحق بتجارٍ من قضاعةَ نحوَ الشام فنزلوا منزلاً فسرق بعضَ متاعِهم وهرب فأخذوه ورجموه بالحجارة حتى قتلوه. وقيل إنه ركب سفينةً إلى جُدّة فسرَق فيها كيساً فيه دنانيرُ فأُخذ وألقيَ في البحر.
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله} أي بما عرّفك وأوحى به إليك {وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ} أي لأجلهم والذبِّ عنهم وهم طُعمةُ ومن يُعينُه من قومه، أو هو ومن يسير بسيرته {خَصِيماً} مخاصماً للبراءة أي لا تخاصِم اليهودَ لأجلهم، والنهيُ معطوفٌ على أمر ينسحب عليه النظمُ الكريمُ كأنه قيل: فاحكم به ولا تكن إلخ {واستغفر الله} مما هممتَ به تعويلاً على شهادتهم {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} مبالغاً في المغفرة والرحمةِ لمن يستغفره.
{وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} أي يخونونها بالمعصية كقوله تعالى: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} جُعلت معصيةُ العُصاةِ خيانةً منهم لأنفسهم كما جُعلت ظلماً لها لرجوع ضررِها إليهم، والمرادُ بالموصول إما طعمةٌ وأمثالُه وأما هو ومن عاونه وشهد ببراءته من قومه فإنهم شركاءُ في الإثم والخيانةِ {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً} مُفرِطاً في الخيانة مُصِراً عليها {أَثِيماً} منهمكاً فيه، وتعليقُ عدمِ المحبةِ الذي هو كنايةٌ عن البغضِ والسُّخطِ بالمبالِغ في الخيانة والإثمِ ليس لتخصيصه به، بل لبيان إفراطِ طُعمةَ وقومِه فيهما.
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} يستترون منهم حياءً وخوفاً من ضررهم {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله} أي لا يستحيون منه سبحانه وتعالى وهو أحقُّ بأن يُستحيا منه ويُخافَ من عقابه {وَهُوَ مَعَهُمْ} عالمٌ بهم وبأحوالهم فلا طريقَ إلى الاستخفاء منه سوى تركِ ما يستقبِحُه ويؤاخِذُ به {إِذْ يُبَيّتُونَ} يدبرون ويزورون {مَا لاَ يَرْضَى مِنَ القول} مِنْ رَمْي البريءِ والحلِفِ الكاذب وشهادةِ الزور {وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ} من الأعمال الظاهرةِ والخافية {مُحِيطاً} لا يعزُب عنه شيءٌ منها ولا يفوت.

.تفسير الآيات (109- 112):

{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)}
{هأَنتُمْ هؤلاء} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إليهم بطريق الالتفاتِ إيذاناً بأن تعديد جناياتِهم يوجب مشافهتَهم بالتوبيخ والتقريعِ والجملةُ مبتدأٌ وخبرٌ وقوله تعالى: {جادلتم عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا} جملةٌ مبيِّنةٌ لوقوع أولاءِ خبراً ويجوز أن يكون أولاءِ اسماً موصولاً بمعنى الذين وجادلتم إلخ صلة له، والمجادَلةُ أشدُّ المخاصَمَة، والمعنى هَبُوا أنكم خاصمتم عن طُعمةَ وأمثالِه في الدنيا {فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة} فمن يخاصم عنهم يومئذ عند تعذيبهم وعقابِهم {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} حافظاً ومحامياً من بأس الله تعالى وانتقامه.
{وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً} قبيحاً ليَسوءَ به غيره كما فعلَ طُعمة بقتادةَ واليهوديِّ {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بما يختص به كالحلِف الكاذبِ، وقيل: السوءُ ما دون الشركِ، وقيل: هما الصغيرةُ والكبيرة {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} بالتوبة الصادقة {يَجِدِ الله غَفُوراً} لذنوبه كائنةً ما كانت {رَّحِيماً} متفضّلاً عليه. وفيه مزيدُ ترغيبٍ لطعمةَ وقومِه في التوبة والاستغفارِ لما أن مشاهَدةَ التائبِ لآثار المغفرةِ والرحمةِ نعمةٌ زائدةٌ كما مر.
{وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً} من الآثام {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} حيث لا يتعدّى ضررُه ووبالُه إلى غيره فليحترز عن تعريضها للعقاب والعذابِ عاجلاً وآجلاً {وَكَانَ الله عَلِيماً} مبالغاً في العلم {حَكِيماً} مراعياً للحكمة في كل ما قَدَّر وقضى، ولذلك لا تَحمِلُ وازِرَةٌ وزرَ أخرى {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً} صغيرة أو ما لا عمْدَ فيه من الذنوب وقرئ {ومن يَكِسِّبْ} بكسر الكاف وتشديد السين وأصله يكتسب {أَوْ إِثْماً} كبيرةً أو ما كان عن عمد {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} أي يقذِفْ به ويُسنده (إليه)، وتوحيدُ الضميرِ مع تعدد المرجِعِ لمكان {أَوْ} وتذكيره لتغليب الإثم على الخطيئة كأنه قيل: ثو يرم بأحدهما، وقرئ {يرمِ بهما}، وقيل: الضمير للكسبِ المدلولِ عليه بقوله تعالى: {يَكْسِبْ}، وثم للتراخي في الرتبة {بَرِيئاً} أي مما رماه به ليُحمِّلَه عقوبتَه العاجلةَ كما فعله طعمةُ بزيدٍ {فَقَدِ احتمل} أي بما فعل من تحميل جريرتِه على البريء {بهتانا} وهو الكذِبُ على الغير بما يُبَهتُ منه ويُتَحيَّر عند سَماعِه لفظاعته وهولِه، وقيل: هو الكذبُ الذي يُتحيَّر في عِظَمه {وَإِثْماً مُّبِيناً} أي بيناً فاحشاً وهو صفة لإثماً وقد اكتُفي في بيان عِظَمِ البهتانِ بالتنكير التفخيميّ كأنه قيل: بهتاناً لا يقادَرُ قدرُه وإثماً مبيناً على أن وصفَ الإثمِ بما ذُكر بمنزلة وصفِ البهتانِ به لأنهما عبارةٌ عن أمر واحد هو رميُ البريءِ بجناية نفسِه، قد عبّر عنه بهما تهويلاً لأمره وتفظيعاً لحاله، فمدارُ العِظَم والفخامةِ كونُ المرميِّ به للرامي فإن رميَ البريءِ بجناية ما خطيئةً كانت أو إثماً بهتانٌ وإثمٌ في نفسه، أما كونُه بهتاناً فظاهرٌ وأما كونُه إثماً فلأن كونَ الذنبِ بالنسبة إلى مَنْ فعله خطيئةً لا يلزم منه كونُه بالنسبة إلى مَنْ نسبه إلى البريءِ منه أيضاً كذلك بل لا يجوزُ ذلك قطعاً، كيف لا وهو كذِبٌ محرَّمٌ في جميع الأديانِ فهو في نفسه بهتانٌ وإثمٌ لا محالةَ وبكون تلك الجنايةِ للرامي يتضاعفُ ذلك شدةً ويزداد قُبحاً لكنْ لا لانضمام جنايتِه المكسوبةِ إلى رمي البريءِ وإلا لكان الرميُ بغير جنايةٍ مع تبرئةِ نفسِه كذلك في العِظَم، بل لاشتماله على قصد تحميلِ جنايتِه على البريء وإجراءِ عقوبتِها عليه كما يُنبىءُ عنه إيثارُ الاحتمالِ على الاكتساب ونحوِه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديرِه مع ما فيه من الإشعار بثِقَل الوِزرِ وصعوبةِ الأمرِ.
نعم بما ذُكر من انضمام كسبِه وتبرئةِ نفسِه إلى رمي البريءِ تزداد الجنايةُ قبحاً لكنّ تلك الزيادةَ وصفٌ للمجموع لا للإثم.