فصل: تفسير الآية رقم (113):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (113):

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} بإعلامك ما هم عليه بالوحي وتنبيهِك على الحق، وقيل: بالنبوة والعِصمة {لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} أي من بني ظفَر وهم الذابّون عن طُعمةَ، وقد جُوِّز أن يكون المرادُ بالطائفة كلَّهم، ويكونُ الضميرُ راجعاً إلى الناس وقيل: هم وفدُ بني ثقيفٍ قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: جئناك لنبايعَك على أن لا تكسِرَ أصنامَنا ولا تعشِّرَنا فردّهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم {أَن يُضِلُّوكَ} أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق مع علمهم بكُنه الأمرِ، والجملةُ جوابُ لولا وإنما نفى همَّهم مع أن المنفيَّ إنما هو تأثيرُه فقط إيذاناً بانتفاء تأثيرِه بالكلية، وقيل: المرادُ هم الهمُّ المؤثّر، ولا ريب في انتفائه حقيقةً، وقيل: الجوابُ محذوفٌ أي لأضلوك، وقوله تعالى: {لَهَمَّتْ} جملةٌ مستأنفةٌ أي لقد همت طائفة إلخ {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} لاقتصار وبالِ مكرِهم عليهم من غير أن يُصيبَك منه شيءٌ والجملةُ اعتراضٌ، وقوله تعالى: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء} عطفٌ عليه ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على المصدرية أي وما يضرونك شيئاً من الضرر لما أنه تعالى عاصمُك، وأما ما خطرَ ببالك فكان عملاً منك بظاهر الحالِ ثقةً بأقوال القائلين من غير أن يخطُر ببالك أن الحقيقةَ على خلاف ذلك {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} أي القرآنَ الجامعَ بين العنوانين، وقيل: المرادُ بالحكمة السنة {وَعَلَّمَكَ} بالوحي من خفيّات الأمورِ التي من جملتها وجوهُ إبطالِ كيدِ المنافقين، أو من أمور الدين وأحكامِ الشرع {مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} ذلك إلى وقت التعليم {وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} إذ لا فضلَ أعظمُ من النبوة العامةِ والرياسة التامّة.

.تفسير الآيات (114- 115):

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ} أي في كثير من تناجي الناسِ {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} أي إلا في نجوى مَنْ أمرَ {بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} وقيل: المرادُ بالنجوى المتناجون بطريق المجازِ، وقيل: النجوى جمع نُجا نقله الكرماني وأياً ما كان فالاستثناءُ متصلٌ ويجوز الانقطاعُ أيضاً على معنى لكنْ مَنْ أمر بصدقة الخ، ففي نجواه الخير. والمعروفُ كلُّ ما يستحسنه الشرعُ ولا يُنكره العقلُ فينتظم أصنافَ الجميلِ وفنونَ أعمالِ البِرِّ، وقد فُسِّر هاهنا بالقَرْض وإغاثةِ الملهوف وصدقةِ التطوعِ على أن المرادَ بالصدقة الصدقةُ الواجبة {أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس} عند وقوعِ المُشاقّةِ والعِداءِ بينهم من غير أن يجاوزَ في ذلك حدودَ الشرعِ الشريفِ، وبين إما متعلقٌ بنفس إصلاحٍ، يقال: أصلحتُ بين القوم أو بمحذوف هو صفةٌ له أي كائنٍ بين الناسِ. عن أبي أيوبَ الأنصاري رضي الله تعالى عنه «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له: ألا أدلك على صدقةٍ خيرٍ لك من حُمْرِ النَّعَم، قال: بلى يا رسول الله، قال: تُصلح بين الناسِ إذا تفاسدوا وتُقرِّب بينهم إذا تباعدوا»، قالوا: ولعل السرَّ في إفراد هذه الأقسامِ الثلاثةِ بالذكر أن عملَ الخيرِ المتعدِّي إلى الناس إما لإيصال المنفعةِ أو لدفع المضرَّةِ، والمنفعةُ إما جُسمانية كإعطاء المالِ وإليه الإشارةُ بقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} وإما روحانيةٌ وإليه الإشارةُ بالأمر بالمعروف، وأما دفعُ الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى: {أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس}.
{وَمَن يَفْعَلْ ذلك} إشارةٌ إلى الأمور المذكورةِ أعني الصدقةَ والمعروفَ والإصلاحَ فإنه يشار به إلى متعدد، وما فيه من معنى البُعدِ مع قُرب العهدِ بها للإيذان ببُعد منزلتِها ورفعةِ شأنِها، وترتيبُ الوعدِ على فعلها إثرَ بيانِ خيريةِ الأمرِ بها لما أن المقصودَ الأصليَّ هو الترغيبُ في الفعل وبيانُ خيريةِ الأمرِ به للدِلالة على خيريته بالطريق الأولى لما أن مدارَ حُسنِ الأمرِ وقُبحِه حسنُ المأمورِ به وقبحُه فحيث ثبت خيريةُ الأمرِ بالأمور المذكورةِ فخيريةُ فعلِها أثبتُ، وفيه تحريضٌ للأمر بها على فعلها أو إشارةٌ إلى الأمر بها كأنه قيل: ومن يأمْر بها، والكلامُ في ترتيب الوعدِ على فعلها كالذي مر في الخيرية فإن استتباعَ الأمرِ بها الأجر العظيمِ إنما هو لكونه ذريعةً وسبباً إلى فعلها فاستتباعُه له أولى وأحقُّ. {ابتغاء مَرْضَاتَ الله} علةٌ للفعل، والتقييدُ به لأن الأعمالَ بالنيات وأن من فعل خيراً لغير ذلك لم يستحِقَّ به غيرَ الحِرْمان {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} بنون العظمةِ على الالتفاتِ وقرئ بالياء {أَجْراً عَظِيماً} يقصُر عنه الوصفُ {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} التعرُّض لعنوان الرسالةِ لإظهار كمالِ شناعةِ ما اجترأوا عليه من المُشاقة والمخالفةِ، وتعليلِ الحُكمِ الآتي بذلك {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى} ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات الدالة على ثبوته {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} أي غيرَ ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل وهو الدين القيم {نُوَلّهِ مَا تولى} أي نجعله والياً لِمَا تولى من الضلال ونخذُله بأن نُخلِّيَ بينه وبين ما اختاره {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} أي نُدخله إياها، وقرئ بفتح النون من صَلاه {وَسَاءتْ مَصِيراً} أي جهنم، وفيها دِلالةٌ على حجية الإجماعِ وحُرمةِ مخالفتِه.

.تفسير الآيات (116- 118):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)}
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} قد مر تفسيرُه فيما سبق، وهو تكريرٌ للتأكيد والتشديد، أو لقصة طُعمةَ وقد مرّ موتُه كافراً. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن شيخاً من العرب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني شيخٌ منهمِكٌ في الذنوب إلا أني لم أشرِكْ بالله شيئاً منذ عرفتُه وآمنتُ به ولم أتخذ من دونه ولياً ولم أواقع المعاصيَ جراءةً على الله تعالى وما توهّمتُ طرفةَ عينٍ أني أُعجِزُ الله هرباً وإني لنادم تائبٌ مستغفرٌ فما ترى حالي عند الله تعالى فنزلت» {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً} عن الحق فإن الشركَ أعظمُ أنواعِ الضلالةِ وأبعدُها عن الصواب والاستقامةِ كما أنه افتراءٌ وإثمٌ عظيمٌ، ولذلك جُعل الجزاءُ في هذه الشرطيةِ فقد ضل الخ، فيما سبق فقد افترى إثماً عظيماً حسبما يقتضيهِ سباقُ النظمِ الكريم وسياقُه.
{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أي ما يعبدون من دونه عز وجل {إِلاَّ إناثا} يعني اللاتَ والعُزَّى ومناةَ ونحوَها. عن الحسن أنه لم يكن من أحياء العربِ حيٌّ إلا كان لهم صنمٌ يعبُدونه يسمُّونه أنثى بني فلان، قيل: لأنهم كانوا يقولون في أصنامهم هن بناتُ الله، وقيل: لأنهم كانوا يُلْبِسونها أنواعَ الحَلْي ويُزيِّنونها على هيئات النِّسوانِ، وقيل: المرادُ الملائكةُ، لقولهم: الملائكةُ بناتُ الله، وقيل: تسميتُها إناثاً لتأنيث أسمائِها أو لأنها في الأصل جمادٌ والجماداتُ تؤنَّثُ من حيث أنها ضاهت الإناثَ لانفعالها، وإيرادُها بهذا الاسم للتنبيه على فرط حماقةِ عَبَدتِها وتناهي جهلِهم، والإناثُ جمع أنثى كرِباب وربى وقرئ على التوحيد، و{أُنُثاً} أيضاً على أنه جمع أنيث كقليب وقلُب، أو جمع أَنَثٍ كثمار وثمر وقرئ {وثنا} و{اثنا} بالتخفيف والتثقيل جمع وثن كقولك: أسد وأسد وآسد على الأصل وقلبِ الواو ألفاً نحو أُجوه في وجوه {وَإِن يَدْعُونَ} وما يعبدون بعبادتها {إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً} إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها فكانت طاعتُهم له عبادةً والمَريد والمارد هو الذي لا يتعلق بخير، وأصلُ التركيبِ للملاسة ومنه صرحٌ مُمرّد وشجرةٌ مرداءُ للتي تناثر ورقُها {لَّعَنَهُ الله} صفةٌ ثانيةٌ لشيطاناً {وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} عطفٌ على الجملة المتقدمةِ أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنةِ الله وهذا القولِ الشنيعِ الصادرِ عنه عند اللعنِ ولقد برهن على أن عبادةَ الأصنام غايةُ الضلال بطريق التعليلِ بأن ما يعبدونها ينفعل ولا يفعل فعلاً اختيارياً وذلك ينافي الألوهيةَ غايةَ المنافاةِ ثم استُدل عليه بأن ذلك عبادةٌ للشيطان وهو أفظعُ الضلالِ من وجوه ثلاثةٍ: الأولُ منهمكٌ في الغي لا يكاد يعلَق بشيء من الخير والهدى فتكون طاعتُه ضلالاً بعيداً عن الحق، والثاني أنه ملعونٌ لضلاله فلا تستتبعُ مطاوعتُه سوى اللعنِ والضلالِ، والثالثُ أنه في غاية السعي في إهلاكهم وإضلالِهم، فموالاةُ مَنْ هذا شأنُه غايةُ الضلالِ فضلاً عن عبادته، والمفروضُ: المقطوعُ أي نصيباً قُدّر لي وفُرض، من قولهم: فرَضَ له في العطاء.

.تفسير الآيات (119- 121):

{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)}
{وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ} الأمانيَّ الباطلةَ كطول الحياةِ وألاّ بعْثَ ولا عقابَ ونحوَ ذلك {وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الانعام} أي فلَيقْطَعُنَّها بموجب أمري ويشُقُّنّها من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير وذلك ما كانت العربُ تفعله بالبحائر والسوائب {وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ} ممتثلين به {خَلَقَ الله} عن نهجه صورةً أو صفةً وينتظم فيه ما قيل من فقءِ عين الحامي وخِصاءِ العبيدِ والوشمِ والوشْرِ ونحوِ ذلك، وعمومُ اللفظِ يمنع الخِصاءَ مطلقاً لكن الفقهاء رخّصوا في البهائم لمكان الحاجةِ وهذه الجملُ المحكيةُ عن اللعين مما نطق به لسانُه مقالاً أو حالاً وما فيها من اللامات كلَّها للقَسَم، والمأمورُ به في الموضعين محذوفٌ ثقةً بدلالة النظمِ عليه {وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله} بإيثار ما يدعو إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزتِه عن طاعة الله تعالى إلى طاعته {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} لأن ضيَّع رأسَ مالِه بالكلية واستبدل بمكانه من الجنة مكانَه من النار {يَعِدُهُمْ} أي ما لا يكاد يُنجِزُه {وَيُمَنّيهِمْ} أي الأمانيَّ الفارغةَ أو يفعل لهم الوعدَ والتمنيةَ على طريقة فلان يُعطي ويمنَعُ والضميران لمن والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في يتخذ وخسر باعتبار لفظها.
{وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} وهو إظهارُ النفعِ فيما فيه الضررُ، وهذا الوعدُ إما بإلقاء الخواطرِ الفاسدةِ أو بألسنة أوليائِه، وغروراً إما مفعولٌ ثانٍ للوعد أو مفعولٌ لأجله أو نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي وعداً ذا غرورٍ أو مصدرٌ على غير لفظ المصدرِ لأنّ {يَعِدُهُمْ} في قوة يغرّهم بوعده، والجملةُ اعتراضٌ وعدمُ التعرّضِ للتمنية لأنها بابٌ من الوعد {أولئك} إشارةٌ إلى أولياء الشيطان، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعد منزلتِهم في الخُسران، وهو مبتدأٌ وقوله تعالى: {مَأْوَاهُمْ} مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالى: {جَهَنَّمُ} خبرٌ للثاني والجملةُ من الثاني وخبره خبرٌ للأول {وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} أي معدِلاً ومهرَباً من حاص الحمارُ إذا عدَل، وقيل: خلَص ونجا، وقيل: الحَيْصُ هو الرَّوَغانُ بنفور، و{عَنْهَا} متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من محيصاً أي كائناً عنها، ولا مَساغَ لتعلُّقه بمحيصاً، أما إذا كان اسمَ مكانٍ فظاهرٌ، وأما إذا كان مصدراً فلأنه لا يعمل فيما قبله.

.تفسير الآيات (122- 123):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)}
{والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: {سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا أَبَداً} قرَن وعيدَ الكفرةِ بوعد المؤمنين زيادةً لمَسرَّة هؤلاءِ ومَساءةِ أولئك {وَعْدَ الله حَقّا} أي وعَده وعداً وحقَّ ذلك حقاً، فالأولُ مؤكدٌ لنفسه لأن مضمونَ الجملةِ الاسميةِ وعدٌ، والثاني مؤكدٌ لغيره ويجوز أن ينتصِبَ الموصولُ بمضمر يفسِّره ما بعده وينتصب {وَعَدَ الله} بقوله تعالى: {سَنُدْخِلُهُمْ} لأنه في معنى نعِدُهم إدخالَ جناتٍ الخ، وحقاً على أنه حال من المصدر {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} جملةٌ مؤكدةٌ بليغةٌ، والمقصودُ من الآية معارضَةُ مواعيدِ الشيطانِ الكاذبةِ لقرنائه بوعد الله الصادقِ لأوليائه والمبالغةُ في تأكيده ترغيباً للعباد في تحصيله، والقيلُ مصدرٌ كالقول والقال، وقال ابنُ السِّكِّيتِ: القيلُ والقالُ اسمانِ لا مصدرانِ ونصبُه على التمييز وقرئ بإشمام الصادِ، وكذا كلُّ صادٍ ساكنةٍ بعدها دالٌ.
{لَّيْسَ بأمانيكم وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الكتاب} أي ليس ما وعد الله تعالى من الثواب يحصُل بأمانيكم إيها المسلمون ولا بأمانيِّ أهلِ الكتابِ وإنما يحصُل بالإيمان والعملِ الصالحِ، ولعل نظمَ أمانيِّ أهلِ الكتابِ في سلك أمانيِّ المسلمين مع ظهور حالِها للإيذان بعدم إجداءِ أمانيِّ المسلمين أصلاً كما في قوله تعالى: {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} كما سلف، وعن الحسن ليس الإيمانُ بالتمنِّي ولكنْ ما وقر في القلب وصدّقه العملُ، إن قوماً ألهتْهم أمانيُّ المغفرةِ حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنةَ لهم وقالوا: نُحسِنُ الظنَّ بالله وكذَبوا لو أحسنوا الظنَّ به لأحسنوا العملَ. وقيل: إن المسلمين وأهلَ الكتاب افتخروا فقال أهلُ الكتاب: نبيُّنا قبل نبيِّكم وكتابُنا قبل كتابِكم فنحن أولى بالله تعالى منكم، فقال المسلمون: نحنُ أولى منكم نبيُّنا خاتمُ النبيين وكتابُنا يقضي على الكتب المتقدمةِ فنزلت. وقيل: الخطابُ للمشركين ويؤيده تقدّمُ ذكرِهم أي ليس الأمرُ بأمانيِّ المشركين وهو قولُهم: لا جَنةَ ولا نارَ، وقولُهم: إن كان الأمرُ كما يزعُم هؤلاء لنكونَنّ خيراً منهم وأحسنَ حالاً، وقولُهم: لأوتين مالاً وولداً، ولا أمانيِّ أهلِ الكتاب، وهو قولُهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} وقولُهم {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} ثم قرر ذلك بقوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} عاجلاً أو آجلاً لما روي «أَنَّهُ لما نزلت قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فمن ينجو مع هذا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تحزنُ أو تمرَضُ أو يصيبُك البلاء؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: هو ذاك {وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله}» أي مجاوزاً لموالاة الله ونُصرتِه {وَلِيّاً} يواليه {وَلاَ نَصِيراً} ينصُره في دفع العذاب عنه.

.تفسير الآيات (124- 125):

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)}
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} أي بعضَها أو شيئاً منها فإن كلَّ أحدٍ لا يتمكن من كلها وليس مكلَّفاً بها {مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} في موضع الحالِ من المستكنّ في {يَعْمَلُ} ومن للبيان أو من الصالحات فمن للابتداء أي كائنةً من ذكر الخ، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} حالٌ، شرَط اقترانَ العملِ بها في استدعاء الثوابِ المذكورِ تنبيهاً على أنه لا اعتدادَ به دونه {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى {مِنْ} بعنوان اتصافِه بالإيمان والعملِ الصالحِ، والجمعُ باعتبار معناها كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظِها وما فيه من معنى البُعد لما مر غيرَ مرةٍ من الإشعار بعلوّ رُتبةِ المُشار إليه وبُعد منزلتِه في الشرف {يَدْخُلُونَ الجنة} وقرئ {يُدخَلون} مبنياً للمفعول من الإدخال {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} أي لا يُنقصون شيئاً حقيراً من ثواب أعمالِهم فإن النقيرَ عَلَم في القلة والحَقارةِ وإذا لم يُنقص ثوابُ المطيعِ فلأَنْ لا يزادَ عقابُ العاصي أولى وأحرى، كيف لا والمجازي {هو} أرحمُ الراحمين، وهو السرُّ في الاقتصار على ذكره عَقيبَ الثواب.
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} أي أخلص نفسَه له تعالى لا يعرِف له رباً سواه، وقيل: بذل وجهَه له في السجود، وقيل: أخلصَ عملَه له عز وجل، وقيل: فوّض أمرَه إليه تعالى، وهذا إنكارٌ واستبعادٌ لأن يكون أحدٌ أحسنَ ديناً ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن سبكُ التركيبِ متعرِّضاً لإنكار المساواةِ، ونفيُها يُرشِدُك إليه العُرفُ المطّردُ والاستعمالُ الفاشي، فإنه إذا قيل: مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضلَ من فلان، فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضلُ من كل فاضلٍ، وعليه مساقُ قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى} ونظائرِه، وديناً نُصب على التمييز من أحسنُ منقولٌ من المبتدأ، والتقديرُ ومن دينُه أحسنُ من دين مَنْ أسلم الخ، فالتفضيلُ في الحقيقة جارٍ بين الدينين لا بين صاحبيهما ففيه تنبيه على أن ذلك أقصى ما تنتهي إليه القوةُ البشرية {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي آتٍ بالحسنات تاركٌ للسيئات، أو آتٍ بالأعمال الصالحة على الوجه اللائقِ الذي هو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي، وقد فسره عليه الصلاة والسلام بقوله: «أن تعبُدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك» والجملةُ حال من فاعل أسلم {واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم} الموافقةُ لدين الإسلامِ المتّفق على صحتها وقبولِها {حَنِيفاً} مائلاً عن الأديان الزائغةِ وهو حال من فاعل اتبع أو حال من إبراهيم.
{واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً} اصطفاه وخصَّه بكرامات تُشبه كراماتِ الخليلِ عند خليلِه، وإظهارُه عليه الصلاة والسلام في موقع الإضمار لتفخيم شأنِه والتنصيصِ على أنه الممدوحُ، وتأكيدِ استقلالِ الجملةِ الاعتراضية، والخُلّةُ من الخِلال فإنه ودٌّ تخلَّل النفسَ وخالطَها.
وقيل: من الخَلَل فإن كل واحد من الخليلين يسد خلَلَ الآخَر، أو من الخل وهو الطريقُ في الرمل فإنهما يتوافقان في الطريقة أو من الخَلّة بمعنى الخَصْلة فإنهما يتوافقان في الخِصال، وفائدةُ الاعتراضِ جَمّةٌ من جملتها الترغيبُ في اتباع ملتِه عليه السلام فإن من بلغ من الزُّلفى عند الله تعالى مَبْلغاً مصحِّحاً لتسميته خليلاً حقيقٌ بأن يكون اتباعُ طريقتِه أهمَّ ما يمتد إليه أعناقُ الهِمم وأشرفَ ما يَرمُق نحوه أحداقُ الأُمم، قيل: إنه عليه الصلاة والسلام بَعث إلى خليل له بمصرَ في أزمة أصابت الناسَ يمتارُ منه، فقال خليلُه: لو كان إبراهيمُ يطلب المِيرةَ لنفسه لفعلت، ولكنه يُريدها للأضياف، وقد أصابنا ما أصاب الناسَ من الشدة، فرجَع غِلمانُه عليه الصلاة والسلام فاجتازوا ببطحاءَ لينة فملأوا منها الغرائرَ حياءً من الناس وجاءوا بها إلى منزل إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام وألقَوْها فيه وتفرّقوا وجاء أحدُهم فأخبر إبراهيمَ بالقصة فاغتم لذلك غماً شديداً لاسيما لاجتماع الناسِ ببابه رجاءَ الطعام فغلبته عيناه وعمَدت سارةُ إلى الغرائر فإذا فيها أجودُ ما يكون من الحُوَّارَى فاختبزت، وفي رواية فأطعمت الناسَ وانتبه إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام فاشتم رائحةَ الخبزِ فقال: من أين لكم، قالت سارة: من خليلك المِصريِّ، فقال: بل من عند خليلي الله عز وجل فسماه الله تعالى خليلاً.