فصل: قول الإمام أبي بكر محمد بن موهب المالكي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ***


فصل فيما اجتمعت عليه الأمور من أمور الديانة

و‏"‏من السنن التي خلافها بدعة وضلالة‏:‏ أن الله سبحانه وتعالى اسمه له الأسماء الحسنى والصفات العلى لم يزل بجميع صفاته قائم وهو سبحانه موصوف بأن له علما وقدرة وإرادة ومشيئة أحاط علما بجميع ما بدأ قبل كونه فطر الأشياء بإرادته وقوله‏:‏ ‏{‏إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون‏}‏ وأن كلامه صفة من صفاته ليس بمخلوق فيبيد، ولا صفة لمخلوق فينفد، وأن الله عز وجل كلم موسى عليه الصلاة والسلام بذاته وأسمعه كلامه لا كلاما قام في غيره، وأنه يسمع ويرى ويقبض ويبسط وأن يديه مبسوطتان ‏{‏والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه‏}‏ وأن يديه غير نعمته في ذلك وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي‏}‏ وأنه يجيء يوم القيامة بعد أن لم يكن جائيا‏:‏ والملك صفا صفا لعرض الأمم وحسابها وعقابها وثوابها فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وأنه يرضى عن الطائعين ويحب التوابين ويسخط على من كفر به ويغضب فلا يقوم شيء لغضبه وأنه فوق سمواته على عرشه دون أرضه وأنه في كل مكان بعلمه وأن الله سبحانه كرسيا كما قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وسع كرسيه السموات والأرض‏}‏ وكما جاءت به الأحاديث أن الله سبحانه يضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء، وقال مجاهد‏:‏ كانوا يقولون ما السموات والأرض في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض‏.‏ وأن الله سبحانه يراه أولياؤه في المعاد بأبصارهم لا يضامون في رؤيته كما قال عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏}‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏ هو النظر إلى وجهه الكريم وأنه يكلم عبادة يوم القيامة ليس بينه وبينهم واسطة ولا ترجمان وأن الجنة والنار داران قد خلقتا وأعدت الجنة المتقين للمؤمنين والنار للكافرين الجاحدين‏.‏ لا تفنيان ولا تبيدان والإيمان بالقدر خيره وشره، وكل ذلك قد قدره ربنا سبحانه وتعالى وأحصاه علمه، وأن مقادير الأمور بيده ومصدرها عن قضائه تفضل على من أطاعه فوفقه وحبب الإيمان إليه وزينه في قلبه فيسره له وشرح له صدره ونور به قلبه فهداه و‏{‏من يهد الله فهو المهتد‏}‏‏.‏ وخذل من عصاه وكفر به فأسلمه ويسره لذلك فحجبه وأضله‏:‏ ‏{‏ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا‏}‏ وكل ينتهي إلى سابق عمله لا محيص لأحد عنه وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد ‏"‏ذلك‏"‏ بالطاعة وينقص بالمعصية نقصا عن حقائق الكمال لا محبط للإيمان ولا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة، وأنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب وإن كان كبيرا ولا يحبط الإيمان غير الشرك بالله تعالى كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ وأن على العباد حفظة يكتبون أعمالهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏}‏ وأن ملك الموت يقبض الأرواح كلها بإذن الله تعالى متى شاء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم‏}‏ وأن الخلق ميتون بآجالهم فأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون وأرواح أهل الشقاء في سجين معذبة إلى يوم الدين وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأن عذاب القبر حق، وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويضغطون ويسألون ويثبت الله منطق من أحب تثبيته وأنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون كما بدأهم يعودون حفاة عراة غرلا وأن الأجساد التي أطاعت أو عصت هي التي تبعث يوم القيامة لتجازى، والجلود التي كانت في الدنيا والألسنة والأيدي والأرجل التي تشهد عليهم يوم القيامة على من تشهد عليه منهم وتنصب الموازين لوزن أعمال العباد فأفلح من ثقلت موازينه، وخاب ‏"‏وخسر‏"‏ من خفت موازينه‏.‏ ويؤتون صحائفهم فمن أوتي كتابه بيمينه حوسب حسابا يسيرا ومن أوتي كتابه بشماله فأولئك يصلون سعيرا، وأن الصراط جسر مورود يجوزه العباد بقدر أعمالهم فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم، وقوم أوبقتهم أعمالهم فيها يتساقطون، وأنه يخرج من النار من في قلبه شيء من الإيمان، وأن الشفاعة لأهل الكبائر من المؤمنين ويخرج من النار بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من أمته بعد أن صاروا ‏"‏فيها‏"‏ حمما فيطرحون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل‏.‏ والإيمان بحوض رسول الله ترده أمته لا يظمأ من شرب منه، ويذاد عنه من غير وبدل‏.‏ والإيمان بما جاء من خبر الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السموات على ما صحت به الروايات وأنه صلى الله عليه وسلم رأى من آيات ربه الكبرى، وبما ثبت من خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام حكما عدلا، وقتله للدجال، وبالآيات التي بين يدي الساعة من طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وغير ذلك مما صحت به الروايات، ونصدق بما جاءنا عن الله تعالى في كتابه و‏"‏ما‏"‏ ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخباره يوجب العمل بمحكمه ‏"‏ونؤمن‏"‏ ونقر بنص مشكله ومتشابهه ونكل ما غاب عنا من حقيقة تفسيره إلى الله تعالى، والله يعلم تأويل المتشابه من كتابه، والراسخون في العلم يقولون‏:‏ آمنا به ‏{‏كل من عند ربنا‏}‏ وقال بعض الناس‏:‏ الراسخون في العلم يعلمون مشكله ولكن الأول قول أهل المدينة وعليه يدل الكتاب، وأن أفضل القرون قرن الصحابة رضي الله عنهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وقيل ثم عثمان وعلي، ونكف عن التفضيل بينهما، روي ذلك عن مالك، وقال‏:‏ ما أدركت أحدا أقتدى به يفضل أحدهما على صاحبه فرأى الكف عنهما وروي عنه القول الأول وعن سفيان وغيره وهو قول أهل الحديث، ثم بقية العشرة ثم أهل بدر من المهاجرين ثم من الأنصار ومن جميع الصحابة على قدر الهجرة والسابقة والفضيلة وكل من صحبه ولو ساعة أو ‏"‏رآه‏"‏ ولو مرة فهو بذلك أفضل من التابعين والكف عن ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بخير ما يذكرون به، وأنهم أحق أن ننشر محاسنهم ويلتمس لهم أفضل المخارج ونظن بهم أحسن المذاهب، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تؤذوني في أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه»‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا»‏.‏ قال أهل العلم لا يذكرون إلا بأحسن ذكر، والسمع والطاعة لأئمة المسلمين وكل من ولي أمر المسلمين عن رضى أو عن غلبة واشتدت وطأته من بر أو فاجر فلا يخرج عليه جار أو عدل، ونغزو معه العدو ونحج معه البيت، ودفع الصدقات إليهم مجزية إذا طلبوها ونصلي خلفهم الجمعة والعيدين قاله غير واحد من العلماء، وقال مالك‏:‏ لا نصلي خلف المبتدع منهم إلا أن نخافه فنصلي‏.‏ واختلف في الإعادة، ولا بأس بقتال من دافعك من الخوارج واللصوص من المسلمين وأهل الذمة عن نفسك ومالك والتسليم للسنن لا تعارض برأي ولا تدافع بقياس، وما تأوله منها السلف الصالح تأولناه، وما عملوا به عملناه، وما تركوه تركناه، ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا ونتبعهم فيما بينوا ونقتدي بهم فيما استنبطوه ورأوه في الحوادث ولا نخرج من جماعتهم فيما اختلفوا فيه أو في تأويله، وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث على ما بيناه، وكله قول مالك فمنه منصوص من قوله ومنه معلوم من مذهبه، قال مالك‏:‏ قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعته وقوة على دين الله تعالى ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيما خالفها، من اهتدى بها هدى ومن استنصر بها نصر، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا، قال مالك‏:‏ أعجبني عزم عمر رضي الله عنه في ذلك‏.‏ وقال في مختصر المدونة‏:‏ وأنه تعالى فوق عرشه بذاته فوق سبع سمواته دون أرضه رضي الله عنه ما كان أصلبه في السنة وأقومه بها‏.‏

قول الإمام أبي بكر محمد بن موهب المالكي

شارح رسالة ابن أبي زيد من المشهورين في الفقه والسنة رحمه الله تعالى قال في شرحه للرسالة ومعنى فوق وعلا واحد بين جميع العرب وفي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تصديق ذلك وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم استوى على العرش الرحمن‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ وقال تعالى في وصف خوف الملائكة‏:‏ ‏{‏يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه‏}‏ ونحو ذلك كثير، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأعجمية‏:‏ أين الله‏؟‏ فأشارت إلى السماء، ووصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه عرج به من الأرض إلى السماء‏:‏ «ثم من سماء إلى سماء» إلى سدرة المنتهى ثم إلى ما فوقها حتى قال‏:‏ لقد سمعت صريف الأقلام ولما فرضت الصلاة جعل كلما هبط من مكانه تلقاه موسى عليه السلام في بعض السموات وأمره بسؤال التخفيف عن أمته فرجع صاعدا مرتفعا إلى الله سبحانه وتعالى فسأله حتى انتهت إلى خمس صلوات وسنذكر تمام كلامه قريبا إن شاء الله تعالى عن قرب‏.‏

قول الإمام أبي القاسم خلف بن عبد الله المقري الأندلسي رحمه الله

قال في الجزء الأول من كتاب الإهتداء لأهل الحق والإقتداء من تصنيفه من شرح المخلص للشيخ أبي الحسن القابسي رحمه الله تعالى عن مالك ‏"‏عن‏"‏ ابن شهاب عن أبي عبد الله الأغر وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر فيقول‏:‏ من يدعوني فأستجيب له‏؟‏ ومن يسألني فأعطيه‏؟‏ ومن يستغفرني فأغفر له‏؟‏ في هذا الحديث دليل على أنه تعالى في السماء على العرش فوق سبع سموات من غير مماسة ولا تكييف كما قال أهل العلم، ودليل قولهم أيضًا من القرآن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يدبر الأمر من السماء إلى الأرض‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تعرج الملائكة والروح إليه‏}‏ وقوله تعالى لعيسى عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏إني متوفيك ورافعك إلي‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه‏}‏ والعروج هو الصعود، ‏(‏و‏)‏ قال مالك بن أنس‏:‏ إن الله عز وجل في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان يريد - والله أعلم- بقوله في السماء‏:‏ على السماء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولأصلبنكم في جذوع النخل‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أأمنتم من في السماء‏}‏ أي من على السماء يعني على العرش وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فسيحوا في الأرض‏}‏ أي على الأرض، وقيل لمالك‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏‏.‏ كيف استوى، قال مالك رحمه الله تعالى لقائله‏:‏ استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة وأراك رجل سوء قال أبو عبيدة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ أي‏:‏ علا، قال‏:‏ وتقول العرب‏:‏ استويت فوق الدابة وفوق البيت، وكل ما قدمت دليل واضح في إبطال قول من قال بالمجاز في الاستواء، وأن استوى بمعنى استولى لأن الإستيلاء في اللغة المغالبة وأنه لا يغالبه أحد ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا سبحانه وتعالى الإ على ذلك وإنما يوجه كلام الله تعالى إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات وجل الله تعالى عن أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين‏.‏ والاستواء معلوم في اللغة وهو العلو والارتفاع والتمكن في الشيء‏.‏

ومن الحجة أيضًا في أن الله سبحانه وتعالى على العرش فوق السموات السبع أن الموحدين أجمعين إذا كربهم أمر رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون الله ربهم وقوله صلى الله عليه وآله وسلم للأمة التي أراد مولاها عتقها‏:‏ أين الله‏؟‏ فأشارت إلى السماء ثم قال لها‏:‏ من أنا‏؟‏ قالت‏:‏ ‏"‏أنت‏"‏ رسول الله قال‏:‏ اعتقها فإنها مؤمنة‏.‏ فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها برفع رأسها إلى السماء‏.‏ فدل على ما قدمناه أنه على العرش، والعرش فوق السموات السبع ودليل قولنا أيضًا قول أمية بن أبي الصلت في وصف الملائكة‏:‏

وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه *** يعظم ربا فوقه ويمجد فسبحان من لا يقدر الخلق قدره *** ومن هو فوق العرش فرد موحد

مليك على عرش السماء مهيمن *** لعزته تعنو الوجوه وتسجد

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى‏}‏ فدل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول‏:‏ إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذبا، فإن احتج ‏"‏أحد‏"‏ علينا فيما قدمناه وقال‏:‏ لو كان كذلك لأشبه المخلوقات لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته فهو مخلوق، فشيء لا يلزم ولا معنى له لأنه تعالى ليس كمثله شيء من خلقه ولا يقاس بشيء من بريته ‏"‏و‏"‏ لا يدرك بقياس ولا يقاس بالناس كان قبل الأمكنة ويكون بعدها لا إله إلا هو خالق كل شيء لا شريك له، وقد اتفق المسلمون وكل ذي لب أنه لا يعقل كائن إلا في مكان ما وما ليس في مكان فهو عدم وقد صح في العقول وثبت بالدلائل أنه كان في الأزل لا في مكان وليس بمعدوم فكيف يقاس على شيء من خلقه‏؟‏ أو يجري بينه وبينهم تمثيل أو تشبيه‏؟‏ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا‏.‏ ‏(‏فإن قال قائل‏)‏‏:‏ إذا وصفنا ربنا تعالى أنه كان في الأزل لا في مكان ثم خلق الأماكن فصار في مكان وفي ذلك إقرار منا بالتغيير والانتقال إذ زال عن صفته في الأزل وصار في مكان دون مكان‏.‏

قيل له‏:‏ وكذلك ‏"‏زعمت‏"‏ أنت أنه كان لا في مكان ثم صار في كل مكان فنقل صفته من الكون لا في مكان إلى صفة هي الكون في كل مكان فقد تغير عندك معبود وانتقل من لا مكان إلى كل مكان فإن قال‏:‏ إنه كان في الأزل في كل مكان كما هو الآن فقد أوجب الأماكن والأشياء موجودة معه في أزليته وهذا فاسد‏.‏ ‏(‏فإن قال‏)‏‏:‏ فهل يجوز عندك أن ينتقل من لا مكان في الأزل إلى مكان‏.‏ قيل له‏:‏ أما الانتقال وتغير الحال فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه لأن كونه في الأزل لا يوجب مكانا وكذلك نقلته لا توجب مكانا وليس في ذلك كالخلق لأن كون ما كونه يوجب ‏"‏مكانا‏"‏ من الخلق ونقلته توجب مكانا ويصير منتقلا من مكان إلى مكان والله تعالى ليس كذلك‏.‏‏.‏‏.‏ ولكنا نقول‏:‏ استوى من لا مكان إلى مكان ولا نقول‏:‏ انتقل وإن كان المعنى في ذلك واحدا‏.‏ كما نقول‏:‏ له عرش ولا نقول‏:‏ له سرير، ونقول‏:‏ هو الحكيم ولا نقول‏:‏ هو العاقل، ونقول‏:‏ خليل إبراهيم ولا نقول‏:‏ صديق إبراهيم، وإن كان المعنى في ذلك واحدا لأنا لا نسميه ولا نصفه ولا نطلق عليه إلا ما سمى به نفسه على ما تقدم، ولا ندفع ما وصف به نفسه لأنه دفع للقرآن وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء ربك والملك صفا صفا‏}‏ وليس مجيئه حركة ولا زوالا ولا انتقالا لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسما أو جوهرا فلما ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض لم يجب أن يكون مجيئه حركة ولا نقلة، ولو اعتبرت ذلك بقولهم جاءت فلانا قيامته، وجاءه الموت، وجاءه المرض، وشبه ذلك ‏(‏مما هو موجود نازل به ولا مجيء، لبان لك وبالله العصمة والتوفيق‏.‏ فإن قال إنه لا يكون مستويا على مكان إلا مقرونا بالكيف قيل له‏:‏ قد يكون الاستواء واجبا والتكييف مرتفع وليس رفع التكييف يوجب رفع الاستواء ولو الزم هذا لزم التكييف في الأزل ‏"‏لأنه‏"‏ لا يكون كائنا في مكان ولا مقرونا بالتكييف‏.‏ فإن قال إنه كان ولا مكان وهو غير مقرون بالتكييف وقد عقلنا وأدركنا بحواسنا أن لنا أرواحا في أبداننا ولا نعلم كيفية ذلك وليس جهلنا بكيفية الأرواح يوجب أن ليس لنا أرواح وكذلك ليس جهلنا بكيفيته على عرشه يوجب أنه ليس على عرشه، وقد روي عن أبي رزين العقيلي قال‏:‏ قلت يا رسول الله أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلق السموات والأرض‏؟‏ قال كان في عماء ما فوقه هواء‏.‏ قال أبو القاسم العماء‏:‏ ممدود وهو السحاب، والعمى مقصور‏:‏ الظلمة، وقد روى الحديث بالمد والقصر فمن رواه بالمد فمعناه عنده كان في عماء سحاب ما تحته وما فوقه هواء والهاء راجعة على العماء ومن رواه بالقصر فمعناه عنده كان في عمى عن خلقه لأنه من عمي عن شيء فقد أظلم عنه‏.‏ قال سنيد بسنده عن مجاهد قال‏:‏ إن بين العرش وبين الملائكة لسبعين حجابا من نور وحجابا من ظلمة، وروى أيضًا سنيد بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، «وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام»، والعرش على الماء والله سبحانه وتعالى على العرش ويعلم أعمالكم‏.‏ وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضًا‏:‏ إنه فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم‏.‏ قال أبو القاسم‏:‏ يريد فوق العرش، لأن العرش آخر المخلوقات ليس فوقه مخلوق والله تعالى على المخلوقات دون تكييف ولا مماسة ولا أعلم في هذا الباب حديثا مرفوعا إلا حديث عبد الله بن عميرة عن الأحنف عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه‏:‏ «أن رسول الله نظر إلى سحابة فقال ما تسمون هذه‏؟‏ قالوا‏:‏ السحاب، قال‏:‏ والمزن‏.‏ قالوا‏:‏ والمزن‏.‏ قال‏:‏ والعنان‏.‏ قالوا‏:‏ والعنان قال‏:‏ كم ترون بينكم وبين السماء‏؟‏ قالوا لا ندري، قال بينكم وبينه إما واحد أو اثنان أو ثلاث وسبعون سنة والسماء فوقها كذلك بينهما مثل ذلك حتى عد سبع سموات ثم فوق السماء السابعة بحر أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم الله تعالى فوق ذلك»، هذا حديث حسن صحيح أخرجه أبو داود‏.‏