فصل: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ***


بسم الله الرحمن الرحيم

وهو حسبي وكفى

مقدمة

الله سبحانه المسئول المرجو الإجابة أن يمتعكم بالإسلام والسنة والعافية فإن سعادة الدنيا والآخرة ونعيمهما وفوزهما مبني على هذه الأركان الثلاثة وما اجتمعن في عبد بوصف الكمال إلا وقد كملت نعمة الله عليه وإلا فنصيبه من نعمة الله بحسب نصيبه منها‏.‏

أقسام النعمة

والنعمة نعمتان‏:‏ نعمة مطلقة ونعمة مقيدة‏.‏

النعمة المطلقة

هي المتصلة بسعادة الأبد وهي نعمة الإسلام والسنة وهي النعمة التي أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط أهلها ومن خصهم بها وجعلهم أهل الرفيق الأعلى حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا‏}‏‏.‏

فهؤلاء الأصناف الأربعة، هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها أيضًا هم المعنيون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، فأضاف الدين إليهم؛ إذ هم المختصون بهذا الدين القيم دون سائر الأمم، والدين تارة يضاف إلى العبد، وتارة يضاف إلى الرب، فيقال الإسلام دين الله ‏(‏الذي‏)‏ لا يقبل من أحد دينا سواه ولهذا يقال في الدعاء‏:‏ «اللهم انصر دينك الذي أنزلته من السماء» ونسب الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة مع إضافتها إليه؛ لأنه هو وليها ومسديها إليهم، وهم محل محض لنعمه قابلين لها، ولهذا <يقال> في الدعاء المأثور للمسلمين «واجعلهم مثنين بها عليك قابليها وأتممها عليهم»‏.‏

وأما الدين فلما كانوا هم القائمين به الفاعلين له بتوفيق ربهم نسبه إليهم، فقال‏:‏ ‏{‏أكملت لكم دينكم‏}‏، وكان الكمال في جانب الدين والتمام في جانب النعمة واللفظتان وإن تقاربتا وتوازنتا فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني ويطلق على الأعيان والذوات وذلك باعتبار صفاتها وخواصها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد»‏.‏ وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ ‏[‏إن للإيمان حدودا وفرائض وسننا وشرائع فمن استكملها فقد استكمل الإيمان‏]‏، وأما التمام فيكون في الأعيان والمعاني، ونعمة الله أعيان وأوصاف ومعان‏.‏

وأما دينه فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه فكانت نسبة الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة أحسن كما كانت إضافة الدين إليهم والنعمة إليه أحسن والمقصود أن هذه <النعمة> هي النعمة المطلقة، وهي التي اختصت بالمؤمنين، وإذا قيل‏:‏ ليس لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو صحيح‏.‏

النعمة المقيدة

والنعمة الثانية‏:‏ النعمة المقيدة كنعمة الصحة، والغنى، وعافية الجسد، وبسط الجاه، وكثرة الولد، والزوجة الحسنة، وأمثال هذه، فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر والمؤمن والكافر، وإذا قيل‏:‏ لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو حق، فلا يصح إطلاقا السلب والإيجاب إلا على وجه واحد؛ وهو أن النعم المقيدة، لما كانت استدراجا للكافر ومآلها إلى العذاب والشقاء فكأنها لم تكن نعمة وإنما كانت بلية كما سماها الله تعالى في كتابه كذلك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا …‏}‏ أي‏:‏ ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعمته فيها فقد أنعمت عليه وإنما كان ذلك ابتلاء مني له، واختبارا، ولا كل من قدرت عليه رزقه فجعلته بقدر حاجته من غير فضل أكون قد أهنته، بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب‏.‏

<فإن قيل>- فكيف يلتئم هذا المعنى ويتفق مع قوله‏:‏ ‏{‏فأكرمه ونعمه‏}‏‏.‏ فأثبت الإكرام ثم أنكر عليه قوله‏:‏ ‏{‏ربي أكرمن‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏‏.‏ أي‏:‏ ليس ذلك إكراما مني وإنما هو ابتلاء فكأنه أثبت له الإكرام ونفاه‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ الإكرام المثبت غير الإكرام المنفي، وهما من <جنس> النعمة المطلقة والمقيدة، فليس هذا الإكرام المقيد بموجب لصاحبه أن يكون من أهل الإكرام المطلق‏.‏

وكذلك أيضًا إذا قيل إن الله أنعم على الكافر نعمة مطلقة ولكنه رد نعمة الله وبدلها فهو بمنزلة من أعطي مالا يعيش به فرماه في البحر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى‏}‏، فهدايته إياهم نعمة منه عليهم فبدلوا نعمته وآثروا عليها الضلال‏.‏ فهذا فصل النزاع في مسألة‏:‏ هل لله على الكافر نعمة أم لا‏؟‏ وأكثر اختلاف الناس من جهتين، إحداهما‏:‏ اشتراك الألفاظ وإجمالها، والثانية‏:‏ من جهة الإطلاق والتفصيل‏.‏

فصل‏:‏ في أن النعمة المطلقة هي التي يفرح بها في الحقيقة

مع بيان منزلة السنة وصاحبها وهذه النعمة المطلقة هي التي يفرح بها في الحقيقة والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه، وهو لا يحب الفرحين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون‏}‏‏.‏

وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته هي الإسلام والسنة وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما، وكلما كان أرسخ فيهما كان قبله أشد فرحا حتى إن القلب ليرقص فرحا إذا باشر روح السنة، أحزن ما يكون الناس، وهو ممتلئ أمنا أخوف ما يكون الناس‏.‏

بيان منزلة السنة

فإن السنة حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين‏.‏ وبابه الأعظم الذي من دخله كان إليه من الواصلين تقوم بأهلها وإن قعدت بهم أعمالهم ويسعى نورها بين أيديهم إذا طفئت لأهل ‏"‏البدع والنفاق أنوارهم‏"‏، وأهل السنة‏:‏ هم المبيضة وجوههم إذا اسودت وجوه أهل البدعة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبيض وجوه وتسود وجوه‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف وتسود وجوه أهل البدعة والتفرق‏.‏

وهي الحياة والنور ‏"‏اللذان‏"‏ بهما سعادة العبد وهداه وفوزه قال جل وعلا‏:‏ ‏{‏أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

بيان منزلة صاحب السنة وصاحب البدعة

فصاحب السنة‏:‏ حي القلب، مستنير القلب، وصاحب البدعة‏:‏ ميت القلب مظلمه‏.‏

وقد ذكر الله سبحانه هذين الأصلين في كتابه في غير موضع وجعلهما صفة أهل الإيمان وجعل ضدهما صفة من خرج عن الإيمان، فإن القلب الحي المستنير هو الذي عقل عن الله، وأذعن وفهم عنه، وانقاد لتوحيده، ومتابعة ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ «والقلب الميت المظلم الذي لم يعقل عن الله ولا انقاد لما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم»، ولهذا يصف سبحانه هذا الضرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء، وبأنهم في الظلمات لا يخرجون منها، ولهذا كانت الظلمة مستولية عليهم في جميع جهاتهم فقلوبهم مظلمة ترى الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأعمالهم مظلمة، وأقوالهم مظلمة، وأحوالهم كلها مظلمة، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة‏.‏

وإذا قسمت الأنوار دون الجسر للعبور عليه بقوا في الظلمات، ومدخلهم في النار مظلم، وهذه الظلمة هي التي خلق فيها الخلق أولا، فمن أراد الله سبحانه وتعالى به السعادة أخرجه منها إلى النور، ومن أراد به الشقاوة تركه فيها، كما روى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ‏"‏عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله»، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى أن يجعل له نورا في قلبه وسمعه وبصره وشعره وبشره ولحمه وعظمه ودمه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وخلفه وأمامه وأن يجعل ذاته نورا، فطلب صلى الله عليه وسلم النور لذاته ولأبعاضه ولحواسه الظاهرة والباطنة ولجهاته الست‏.‏

وقال أبي بن كعب ‏"‏رضي الله عنه‏"‏‏:‏ «المؤمن مدخله من نور، ومخرجه من نور، وقوله نور، وعمله نور‏.‏‏.‏» وهذا النور بحسب قوته وضعفه يظهر لصاحبه يوم القيامة فيسعى بين يديه ويمينه‏.‏ فمن الناس من يكون نوره كالشمس، وآخر كالنجم، وآخر كالنخلة السحوق، وآخر دون ذلك حتى ‏"‏إن‏"‏ منهم من يعطى نورا على رأس إبهام قدمه يضيء مرة ويطفئ أخرى، كما كان نور إيمانه ومتابعته في الدنيا كذلك، فهو هذا بعينه يظهر هناك للحس والعيان‏.‏

وقال وتعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا‏.‏‏.‏‏}‏ فسمى وحيه وأمره روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح‏.‏ وسماه نورا؛ لما يحصل به من الهدى واستنارة القلوب والفرقان بين الحق والباطل‏.‏

وقد اختلف في الضمير في قوله ‏"‏عز وجل‏"‏‏:‏ ‏{‏ولكن جعلناه نورا‏}‏ فقيل‏:‏ يعود على الكتاب، وقيل‏:‏ على الإيمان، والصحيح أنه يعود على الروح، في قوله‏:‏ ‏{‏روحا من أمرنا‏}‏ فأخبر تعالى أنه جعل أمره روحا ونورا وهدى، ولهذا ترى صاحب إتباع الأمر والسنة قد كسي من الروح والنور وما يتبعهما من الحلاوة والمهابة والجلالة والقبول ما قد حرمه غيره، كما قال الحسن‏:‏ ‏(‏إن المؤمن من رزق حلاوة ومهابة‏)‏، وقال جل وعلا‏:‏ ‏{‏الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات‏.‏‏.‏‏}‏، فأولياؤهم يعيدونهم إلى ما خلقوا فيه، من ظلمة طبائعهم وجهلهم وأهوائهم، وكلما أشرق لهم نور النبوة والوحي وكادوا أن يدخلوا فيه منعهم أولياؤهم منه وصدوهم، فذلك إخراجهم إياهم من النور إلى الظلمات‏.‏

وقال جل وعلا‏:‏ ‏{‏أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها‏.‏‏.‏‏}‏ فأحياه سبحانه وتعالى بروحه الذي هو وحيه وهو روح الإيمان والعلم، وجعل له نورا يمشي به بين أهل الظلمة كما يمشي الرجل بالسراج المضيء في الظلمة، فهو يرى أهل الظلمة في ظلماتهم وهم لا يرونه كالبصير الذي يمشي بين العميان‏.‏

فصل‏:‏ في أن الخارجين عن طاعة الرسل يتقلبون في الظلمات

وأن أتباعهم يتقلبون في عشرة أنوار والخارجون عن طاعة الرسل ‏"‏صلوات الله وسلامه عليهم‏"‏ ومتابعتهم يتقلبون في عشر ظلمات‏.‏ ظلمة الطبع، وظلمة الجهل، وظلمة الهوى، وظلمة القول، وظلمة العمل، وظلمة المدخل، وظلمة المخرج، وظلمة القبر، وظلمة القيامة، وظلمة دار القرار‏.‏ فالظلمة لازمة لهم في دورهم الثلاث‏.‏

وأتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يتقلبون في عشرة أنوار، ولهذه الأمة ونبيها من النور ما ليس لأمة غيرها،ولا لنبي غيره، فإن لكل ‏"‏نبي‏"‏ منهم نورين، ولنبيها صلى الله عليه وسلم تحت كل شعرة من رأسه وجسده نور تام، كذلك صفته وصفة أمته في الكتب المتقدمة‏.‏

وقال جل وعلا‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏تمشون به‏}‏ إعلام بأن تصرفهم وتقلبهم الذي ينفعهم إنما هو النور، وأن مشيهم بغير النور غير مجد عليهم، ولا نافع لهم بل ضرره أكثر من نفعه‏.‏

وفيه‏:‏ أن أهل النور هم أهل المشي في الناس، ومن سواهم أهل الزمانة والانقطاع فلا مشي لقلوبهم ولا لأحوالهم، ولا لأقوالهم، ولا لأقدامهم إلى الطاعات‏.‏ وكذلك لا تمشي على الصراط إذا مشت بأهل الأنوار أقدامهم‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تمشون به‏}‏ نكتة بديعة وهي‏:‏ أنهم يمشون على الصراط بأنوارهم كما يمشون بها بين الناس في الدنيا، ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قدما عن قدم على الصراط، فلا يستطيع المشي أحوج ما يكون إليه‏.‏

فصل‏:‏ في ذكر الأنوار وفيه فوائد جليلة

والله سبحانه وتعالى سمى نفسه نورا، وجعل كتابه نورا، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا، ودينه نورا، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورا تتلألأ، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم‏}‏ وقد فسر‏:‏ ‏{‏الله نور السموات والأرض‏.‏‏.‏‏}‏ بكونه‏:‏ منور السموات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض، وهذا إنما هو فعله، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه، قائم به، ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى‏.‏

والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين‏:‏ إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله‏.‏ فالأول‏:‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأشرقت الأرض بنور ربها‏.‏‏.‏‏}‏ فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء‏.‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور‏:‏

«أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت»‏.‏ وفي الأثر الآخر‏:‏ «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات» فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الظلمات أشرقت لنور وجهه، كما أخبر تعالى‏:‏ أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره‏.‏

وفي معجم الطبراني والسنة له، وكتاب عثمان الدارمي، وغيرها، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ «ليس عند ربكم ليل ولا نهار نور السموات والأرض من نور وجهه»، وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي أهل السموات والأرض، ‏"‏وأما من فسرها بأنه منور السموات والأرض‏"‏ فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس ‏"‏كلمات‏"‏ فقال‏:‏ «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل ‏"‏عمل‏"‏ النهار، وعمل النهار قبل ‏"‏عمل‏"‏ الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلفه»‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه، قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك‏؟‏ قال‏:‏ «نور أنى أراه» فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول‏:‏ معناه كان ثم نور، أو حال دون رؤيته نور فأنى أراه‏.‏ قال‏:‏ ويدل عليه أن في بعض ألفاظ الصحيح‏:‏ «هل رأيت ربك‏؟‏ فقال‏:‏ رأيت نورا»، وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال‏:‏ نورانيٌّ أراه، على أنها ياء النسب، والكلمة كلمة واحدة وهذا خطأ لفظا ومعنى، وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه وكان قوله‏:‏ أنى أراه، كالإنكار للرؤية حاروا في الحديث ورده بعضهم باضطراب لفظه وكل هذا عدول عن موجب الدليل‏.‏

وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي، في كتاب الرد له، إجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج، وبعضهم استثنى ابن عباس من ذلك، وشيخنا يقول‏:‏ ليس ذلك بخلاف في الحقيقة‏.‏ فإن ابن عباس لم يقل‏:‏ رآه بعيني رأسه، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال‏:‏ ‏"‏أنه رآه عز وجل ولم يقل بعيني رأسه ولفظ أحمد كلفظ ابن عباس رضي الله عنهما ويدل على صحة ما قاله شيخنا في ‏"‏معنى» حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر‏:‏ «حجابه النور»‏.‏ فهذا النور هو- والله أعلم- النور المذكور في حديث أبي ذر ‏"‏رضي الله عنه‏"‏‏:‏ «رأيت نورا»‏.‏

فصل‏:‏ في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل نوره‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ الآية

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل نوره كمشكاة فيها مصباح‏.‏‏.‏‏}‏ هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن، كما قال أبي بن كعب وغيره، وقد اختلف في تفسير الضمير في نوره، فقيل‏:‏ هو النبي صلى الله عليه وسلم أي مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ تفسيره المؤمن، أي مثل نور المؤمن، والصحيح أنه يعود على الله عز وجل والمعنى‏:‏ مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده وأعظم عباده نصيبا من هذا النور رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا مع ما تضمنه عود الضمير إلى المذكور، وهو وجه الكلام يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتم معنى ولفظا‏.‏

وهذا النور يضاف إلى الله تعالى إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه، ويضاف إلى العبد إذ هو محله وقابله، فيضاف إلى الفاعل والقابل، ولهذا النور فاعل وقابل، ومحل وحامل، ومادة، وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل‏.‏

فالفاعل‏:‏ هو الله تعالى مفيض الأنوار الهادي لنوره من يشاء، والقابل‏:‏ العبد المؤمن، والمحل قلبه، والحامل‏:‏ همته وعزيمته وإرادته، والمادة‏:‏ قوله وعمله، وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم‏.‏

وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان‏:‏ أحدهما‏:‏ طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف، وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ومقابلته بجزء من المشبه به وعلى هذا عامة أمثال القرآن الكريم‏.‏

فتأمل صفة مشكاة، وهي كوة لا تنفذ لتكون أجمع للضوء قد وضع فيها مصباح وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها، ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقودا من زيت شجرة في وسط القراح، لا شرقية ولا غربية، بحيث تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار بل هي في وسط القراح محمية بأطرافه، تصيبها الشمس أعدل إصابة والآفات إلى الأطراف دونها، فمن شدة إضاءة زيتها وصفائه وحسنه يكاد يضيء من غير أن تمسه نار، فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به‏.‏

والطريقة الثانية‏:‏ طريقة التشبيه المفصل، فقيل‏:‏ المشكاة صدر المؤمن والزجاجة قلبه، وشبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها، وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة فهو يرحم ويحسن ويتحنن ويشفق على الخلق برقته‏.‏

وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء، وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى، ويتصلب في ذات الله تعالى ويغلظ على أعداء الله تعالى ويقوم بالحق لله تعالى، وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف‏:‏ القلوب آنية الله في أرضه وأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها‏.‏

والمصباح هو نور الإيمان في قلبه والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى، ودين الحق وهي مادة المصباح التي يتقد منها، والنور على النور‏:‏ نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب، فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور، ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ‏"‏ما‏"‏ فيه بالأثر ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه ‏"‏أن‏"‏ الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة بل يتصادقان ويتوافقان فهذا علامة النور على النور، عكس من تلاطمت في قلبه ‏"‏ أمواج‏"‏ الشبه الباطلة، والخيالات الفاسدة من الظنون الجهليات التي يسميها أهلها القواطع العقليات، فهي في صدره كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ‏}‏ فانظر كيف تضمنت هذه الآيات طرائف بني آدم كلهم أتم انتظام، واشتملت عليه أكمل اشتمال‏.‏

‏[‏أقسام الناس‏]‏‏:‏ بالنسبة لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم

القسم الأول‏:‏ ‏[‏أهل الهدى والبصائر‏]‏

فإن الناس قسمان‏:‏ أهل الهدى والبصائر، الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من العقل والسمع أمرها فيظنها شيئا له حاصل ينتفع به وهي‏:‏ ‏{‏كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ‏}‏‏.‏

وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق أصحاب العلم النافع والعمل الصالح الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره ولم يعارضوها بالشبهات، وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات، فلا هم في علمهم من أهل الخوض الخراصين الذين هم في غمرة ساهون، ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون‏.‏

أضاء لهم نور الوحي المبين فرأوا في نوره أهل الظلمات في ظلمات آرائهم يعمهون، وفي ضلالتهم يتهوكون، وفي ريبهم يترددون، مغترين بظاهر السراب، ممحلين مجدبين مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب، إن عندهم إلا نخالة الأفكار وزبالة الأذهان التي قد رضوا بها واطمأنوا إليها وقدموها على السنة والقرآن، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه أوجبه لهم اتباع الهوى ونخوة الشيطان وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أهل الجهل والظلم الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به

والظلم باتباع أهوائهم، الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى‏}‏‏.‏

وهؤلاء قسمان‏:‏

‏[‏القسم الأول‏]‏‏:‏ الذين يحسبون أنهم على علم وهدى وهم أهل جهل وضلال

فهؤلاء أهل الجهل المركب الذين يجهلون الحق ويعادونه ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالونه ويوالون أهله وهم يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون، فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، فهكذا هؤلاء أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه، ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان كما هو حال من أم السراب فلم يجده ماء بل انضاف إلى ذلك أنه وجد عنده أحكم الحاكمين وأعدل العادلين سبحانه وتعالى فحسب له ما عنده من العلم والعمل، ووفاه إياه بمثاقيل الذر، وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه فجعله هباء منثورا‏:‏ إذ لم يكن خالصا لوجهه، ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوما نافعة كذلك هباء منثورا، فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه‏.‏

والسراب ما يرى في الفلوات المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري‏.‏ والقيعة والقاع هو‏:‏ المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا واد فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله، بسراب يراه المسافر في شدة الحر فيؤمه فيخيب ظنه ويجده نارا تلظى، فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس واشتد بهم العطش بدت لهم كالسراب فيحسبونه ماء فإذا أتوه وجدوا الله عنده فأخذتهم زبانية العذاب فعتلوهم إلى نار الجحيم فسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم، وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع‏.‏ والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعالى حميما سقاهم إياه كما أن طعامهم من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة التي كانت في الدنيا، كذلك لا يسمن ولا يغني من جوع، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏}‏ وهم الذين عنى بقوله‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا‏}‏ وهم الذين عنى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ‏}‏‏.‏

القسم الثاني من هذا الصنف‏:‏ أصحاب الظلمات

وهم المنغمسون في الجهل بحيث قد أحاط بهم من كل وجه فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضل سبيلا، فهؤلاء أعمالهم- التي عملوها على غير بصيرة بل بمجرد التقليد واتباع الآباء من غير نور ‏"‏من‏"‏ الله تعالى- كظلمات جمع ظلمة وهي ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة الظلم واتباع الهوى، وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم، والنور الذي أنزله معهم ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، فإن المعرض عما بعث الله تعالى به محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق يتقلب في خمس ظلمات، قوله ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمة، وقلبه مظلم، ووجهه مظلم، وكلامه مظلم، وحاله مظلمة، وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من النور جد في الهرب منه وكاد نوره يخطف بصره فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي به أنسب وأولى كما قيل‏.‏

خفافيش أعشاها النهار بضوئه ووافقها قطع من الليل مظلم، فإذا جاء إلى زبالة الأفكار ونحاتة الأذهان، جال وصال، وأبدى وأعاد، وقعقع وفرقع‏.‏ فإذا طلع نور الوحي وشمس الرسالة، إنحجر في أحجرة الحشرات‏.‏

فصل‏:‏ في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في بحر لجي يغشاه موج…‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في بحر لجي‏}‏، اللجى‏:‏ العميق منسوب إلى لجة البحر وهي معظمه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب‏}‏ تصوير لحال هذا المعرض عن وحيه فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره بتلاطم أمواج ذلك البحر وأنها أمواج بعضها فوق بعض، والضمير الأول في قوله‏:‏ ‏{‏يغشاه‏}‏ راجع إلى البحر، والضمير الثاني‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من فوقه‏}‏ عائد إلى الموج، ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب، فهاهنا ظلمات‏:‏ ظلمة البحر اللجي، وظلمة الموج الذي فوقه، وظلمة السحاب‏:‏ الذي فوق ذلك كله إذا أخرج - من في هذا البحر- يده لم يكد يراها‏.‏

مطلب في بحث كاد

واختلف في معنى ذلك فقال كثير من النحاة‏:‏ هو نفي لمقاربة رؤيتها وهو أبلغ من نفي الرؤية فإنه قد ينفى وقوع الشيء ولا تنفى مقاربته، فكأنه قال‏:‏ لم يقارب رؤيتها بوجه‏.‏

قال هؤلاء‏:‏ وكاد من أفعال المقاربة لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات، فإذا قيل‏:‏ كاد يفعل، فهو إثبات مقاربة الفعل، فإذا قيل‏:‏ لم يكد يفعل فهو نفي لمقاربة الفعل‏.‏

وقالت طائفة أخرى، بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر؛ لأجل تلك الظلمات، قالوا‏:‏ لأن كاد لها شأن ليس لغيرها من الأفعال فإنها إذا أثبتت نفت وإذا نفت أثبتت‏.‏ فإذا قلت‏:‏ ما كدت أصل إليك فمعناه‏:‏ وصلت اليك بعد الجهد والشدة فهذا إثبات للوصول، وإذا قلت‏:‏ كاد زيد يقوم فهي نفي لقيامه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا‏}‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم‏.‏‏.‏‏}‏ وأنشد بعضهم في ذلك ملغزا‏:‏

انحوى هذا العصر ما هي لفظة *** جرت في لساني جرهم وثمود

إذا استعملت في صورة النفي أثبتت *** وإن اثبتت قامت مقام جحود

وقالت فرقة ثالثة‏:‏ منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره‏:‏ أن استعمالها مثبتة يقتضي نفي خبرها كقولك‏:‏ كاد زيد يقوم، واستعمالها منفية يقتضي نفيه بطريق الأولى فهي عنده تنفي الخبر سواء كانت منفية أو مثبتة ‏(‏فلم يكد زيد يقوم‏)‏ أبلغ عنده في النفي من ‏(‏لم يقم‏)‏، واحتج بأنها إذا نفيت وهي من أفعال المقاربة فقد نفت مقاربة الفعل وهو أبلغ من نفيه، وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها وذلك يدل على عدم وقوعه واعتذر عن مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذبحوها وما كادوا يفعلون‏.‏‏.‏‏}‏ وعن مثل قوله‏:‏ وصلت إليك وما كدت أصل‏.‏ وسلمت وما كدت أسلم‏.‏ بأن هذا وارد على كلامين متباينين أي‏:‏ فعلت كذا بعد أن لم أكن مقاربا له فالأول‏:‏ يقتضي وجود الفعل، والثاني يقتضي أنه لم يكن مقاربا له بل كان آيسا منه فهما كلامان مقصود بهما أمران متغايران، وذهبت فرقة رابعة‏:‏ إلى الفرق بين ماضيها ومستقبلها، فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل سواء كانت بصيغة الماضي أو المستقبل وإن كانت في طرف النفي، فإن كانت بصيغة المستقبل كانت لنفي الفعل ومقاربته نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم يكد يراها‏}‏، وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذبحوها وما كادوا يفعلون‏}‏‏.‏

فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة، والصحيح أنها فعل يقتضي المقاربة ولها حكم سائر الأفعال، ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها فإنها لم توضع لنفيه، وإنما استفيد من لوازم معناها، فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل لم يكن واقعا فيكون منفيا باللزوم، وأما إذا استعملت منفية فإن كانت في كلام واحد فهي لنفي المقاربة كما إذا قلت‏:‏ لا يكاد البطال يفلح ولا يكاد البخيل يسود ولا يكاد الجبان يفرح ونحو ذلك، وإن كانت في كلامين اقتضت وقوع الفعل بعد أن لم يكن مقاربا كما قال ابن مالك، فهذا التحقيق في أمرها والمقصود أن قوله‏:‏ ‏{‏لم يكد يراها‏}‏ إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة وهو الأظهر، فإذا كان لا يقارب رؤيتها فكيف يراها‏.‏

قال ذو الرمة‏:‏

إذا غير النائي المحبين لم يكد *** رسيس الهوى من حب مية يبرح

أي لم يقارب البراح وهو الزوال فكيف يزول، فشبه سبحانه أعمالهم أولا في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد فإذا جاءه وجد عنده عكس ما أمله ورجاه، وشبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج الذي قد غشيه السحاب من فوقه فياله تشبيها ما أبدعه وأشده مطابقة بحال أهل البدع والضلال وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه‏.‏

وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم وكل واحد من السراب والظلمات مثل لمجموع علومهم وأعمالهم فهي سراب لا حاصل لها وظلمات لا نور فيها‏.‏

وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه التي تلقاها من مشكاة النبوة فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة‏.‏

فصل‏:‏ في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد نارا‏}‏

ولهذا يذكر سبحانه وتعالى هذين المثلين في القرآن في غير موضع لأوليائه وأعدائه كما ذكرهما في سورة البقرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت من حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون‏}‏‏.‏

شبه سبحانه وتعالى أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم وينتفعوا بها، فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين فهم كقوم سفر ضلوا عن الطريق فأوقدوا النار لتضيء لهم الطريق؛ فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت تلك النار وبقوا في الظلمات لا يبصرون قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث، فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب، مما يسمعه بأذنه ويراه بعينه ويعقله بقلبه، وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى فلا تسمع قلوبهم شيئا ولا تبصره ولا تعقل ما ينفعها‏.‏

وقيل‏:‏ لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل، والقولان متلازمان، وقال في صفتهم‏:‏ ‏{‏فهم لا يرجعون‏}‏؛ لأنهم قد رأوا في ضوء النار وأبصروا الهدى فلما طفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏، ولم يقل‏:‏ ذهب نورهم، وفيه سر بديع وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى، فإن الله تعالى مع المؤمنين، وإن الله مع الصابرين، و ‏{‏إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏}‏، فذهاب الله بذلك النور انقطاع لمعيته الخاصة التي هي للمؤمنين خص بها أولياءه فقطعها بينه وبين المنافقين فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم فليس لهم نصيب من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحزن إن الله معنا‏}‏ ولا من‏:‏ ‏{‏كلا إن معي ربي سيهدين‏}‏‏.‏

وتأمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أضاءت ما حوله‏}‏ كيف جعل ضوءها خارجا عنه منفصلا ولو اتصل ضوءها به ولابسه لم يذهب، ولكنه كان ضوء مجاورة لا ملابسة ومخالطة وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به حجة من الله قائمة وحكمة بالغة تعرف بها إلى أولي الألباب من عباده وتأمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ ولم يقل‏:‏ بنارهم لتطابق أول الآية؛ فإن النار فيها إشراق وإحراق، فذهب بما فيها من الإشراق وهو النور وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق وهو النارية‏.‏

وتأمل كيف قال‏:‏ ‏(‏بنورهم‏)‏ ولم يقل‏:‏ بضوئهم مع قوله‏:‏ ‏{‏فلما أضاءت ما حوله‏}‏؛ لأن الضوء هو زيادة في النور، ولو قيل‏:‏ ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل، فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته، وأيضًا فإنه أبلغ في النفي عنهم وأنهم من أهل الظلمات الذين لا نور لهم، وأيضًا فإن الله سبحانه وتعالى سمى كتابه نورا، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا، ودينه نورا، وهداه نورا، ومن أسمائه النور، والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم ذهاب بهذا كله‏.‏

وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين‏}‏، كيف طابق هذه التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها وبذل الهدى في مقابلتها وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها، بدلا عن النور الذي هو الهدى والنور فبذلوا الهدى والنور وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة فيا لها ‏"‏من‏"‏ تجارة ما أخسرها وصفقة ما أشد غبنها‏.‏ وتأمل كيف قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ فوحده، ثم قال‏:‏ ‏{‏وتركهم في ظلمات‏}‏ فجمعها، فإن الحق واحد وهو صراط الله المستقيم الذي لا صراط يوصل إليه سواه وهو عبادته وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا بالأهواء والبدع وطرق الخارجين عما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق بخلاف طرق الباطل، فإنها متعددة متشعبة ولهذا يفرد سبحانه وتعالى الحق، ويجمع الباطل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏ فجمع سبل الباطل ووحد سبيله الحق ولا يناقض هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام‏}‏ فإن تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد وصراطه المستقيم، فإن طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد وسبيل واحد، وهو سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه‏:‏ «خط خطا مستقيما، وقال‏:‏ هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال‏:‏ هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصكم به لعلكم تتقون‏}‏»‏.‏

وقد قيل‏:‏ أن هذا مثل للمنافقين وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام ويكون بمنزلة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله‏}‏ ويكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ مطابقا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أطفأها الله‏}‏ ويكون تخييبهم وإبطال ما راموه هو تركهم في ظلمات الحيرة لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه ولا يبصرون سبيلا بل هم صم بكم عمي‏.‏

وهذا التقدير وإن كان حقا ففي كونه مرادا بالآية نظر، فإن السياق إنما قصد لغيره، ويأباه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أضاءت ما حوله‏}‏ وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدا، ويأباه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ وموقد نار الحرب لا نور له، ويأباه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتركهم في ظلمات لا يبصرون‏}‏ وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة إلى ظلمة الشك والكفر، قال الحسن رحمه الله‏:‏ هو المنافق أبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فهم لا يرجعون‏}‏‏.‏ ‏"‏أي‏:‏ لا يرجعون‏"‏ إلى النور الذي فارقوه‏.‏

وقال تعالى في حق الكفار‏:‏ ‏{‏صم بكم عمي فهم لا يرجعون‏}‏ فسلب العقل عن الكفار إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان وسلب الرجوع عن المنافقين لأنهم آمنوا ثم كفروا فلم يرجعوا إلى الإيمان‏.‏

فصل‏:‏ في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كصيب من السماء‏}‏

ثم ضرب الله سبحانه وتعالى لهم مثلا آخر مائيا فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين‏}‏ فشبه نصيبهم مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من النور والحياة بنصيب المستوقد للنار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها وذهب نوره وبقي في الظلمات حائرا تائها لا يهتدي سبيلا ولا يعرف طريقا، وبنصيب أصحاب الصيب وهو المطر الذي يصوب أي ينزل من علو إلى سفل فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، ونصيب المنافقين من هذا الهدى بنصيب من لم يحصل له من الصيب إلا ظلمات ورعد وبرق ولا نصيب له فيما وراء ذلك مما هو المقصود بالصيب من حياة البلاد والعباد والشجر والدواب، وأن تلك الظلمات التي فيه، وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب، فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الإحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك من برد شديد وتعطل مسافر عن سفره وصانع عن صنعته، ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يئول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام، وهكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب‏.‏ وهذه حال أكثر الخلق إلا من صحت بصيرته، فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من ‏"‏التعب‏"‏ والمشاق والتعرض لتلاف المهجة والجراحات الشديدة وملامة اللوام ومعاداة من يخاف معاداته لم يقدم عليه لأنه لم يشهد ما يئول إليه من العواقب الحميدة والغايات التي إليها تسابق المتسابقون وفيها تنافس المتنافسون، وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام فلم ‏"‏يعلم‏"‏ من سفره ذلك إلا مشقة السفر ومفارقة الأهل والوطن ومقاساة الشدائد وفراق المألوفات ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر ذلك السفر ومآله وعاقبته، فإنه لا يخرج إليه ولا يعزم عليه وحال هؤلاء حال ضعيف البصيرة والإيمان الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد والزواجر والنواهي والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات والفطام على الصبي أصعب شيء وأشقه والناس كلهم صبيان العقول إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء وأدرك الحق علما وعملا ومعرفة فهذا الذي ينظر إلى ما وراء الصيب وما فيه من الرعد والبرق والصواعق ويعلم أنه حياة الوجود، وقال الزمخشري‏:‏ ‏"‏ لقائل أن يقول‏:‏ شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وما يصيب الكفرة من الأقراع من البلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق، والمعنى‏:‏ أو كمثل ذوي صيب والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا‏.‏ قال‏:‏ والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه أن التمثيلين جميعا من جهة التمثلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به وهذا القول الفحل، والمذهب الجزل بيانه أن العرب تأخذ شيئا فرادى معزولا بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فشبهها بنظائرها‏.‏‏.‏ كما جاء في القرآن حيث شبه كيفية حاصله من مجموع أشياء قد تضامنت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا‏}‏ الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، وتساوي الحالين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار ولا يشعر ذلك إلا بما يمر بدفيه من الكد والتعب، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كما أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح‏}‏، المراد‏:‏ قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء هذا الخضر، فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضهم ببعض، ومصيره شيئا واحدا فلا‏.‏ فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبهت حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق، قال‏:‏ فإن قلت‏:‏ أي التمثيلين أبلغ‏؟‏ قلت‏:‏ الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته، ولذلك أخر وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ‏.‏

أقسام الناس في الهدى الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم

قلت‏:‏ ‏"‏قال شيخنا‏"‏‏:‏ الناس في الهدى الذي بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم أربعة أقسام قد اشتملت عليهم هذه الآيات من أول السورة إلى هنا‏.‏

القسم الأول‏:‏ قبلوه ظاهرًا وباطنًا

وهم نوعان‏:‏

‏[‏النوع الأول‏]‏‏:‏ أهل الفقه فيه والفهم والتعليم

وهم الأئمة الذين عقلوا عن الله تعالى كتابه وفهموا مراده وبلغوه إلى الأمة واستنبطوا أسراره وكنوزه، فهؤلاء كمثل الأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير فرعى الناس فيه ورعت أنعامهم وأخذوا من ذلك الكلأ الغذاء والقوت والدواء وسائر ما يصلح لهم‏.‏

النوع الثاني‏:‏ من حفظوه وضبطوه وبلغوا ألفاظه إلى الأمة

فحفظوا عليهم النصوص وليسوا من أهل الاستنباط والفقة في مراد الشارع، فهم أهل حفظ وضبط وأداء لما سمعوه والأولون أهل فهم وفقه واستنباط وإثارة لدفائنه وكنوزه وهذا النوع الثاني بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فوردوه وشربوا منه وسقوا منه أنعامهم وزرعوا به‏.‏

القسم الثاني‏:‏ من رده ظاهرًا وباطنًا وكفر به ولم يرفع به رأسًا

وهؤلاء أيضًا نوعان‏:‏

‏[‏النوع الأول‏]‏‏:‏ ‏[‏من‏]‏ عرفه وتيقن صحته وأنه حق ولكن حمله الحسد والكبر

وحب الرياسة والملك والتقدم بين قومه على جحده ودفعه بعد البصيرة واليقين‏.‏

النوع الثاني‏:‏ أتباع هؤلاء الذين يقولون هؤلاء ساداتنا وكبراؤنا

وهم أعلم منا بما يقبلونه وما يردونه ولنا أسوة بهم ولا نرغب بأنفسنا عن أنفسهم، ولو كان حقا لكانوا هم أهله وأولى بقبوله، وهؤلاء بمنزلة الدواب والأنعام يساقون حيث يسوقهم راعيهم، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم‏:‏ ‏{‏إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار‏}‏‏.‏ وقال تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا‏}‏‏.‏

وقال تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد‏}‏‏.‏ وقال فيهم‏:‏ ‏{‏هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار‏}‏ أي سننتموه لنا وشرعتموه‏:‏ ‏{‏قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار‏}‏ فقولهم‏:‏ ‏{‏لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار‏}‏ أي‏:‏ دخلوها كما دخلناها ومقاسون عذابها كما نقاسيه فأجابهم الأتباع وقالوا‏:‏ ‏{‏قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا‏}‏ وفي الضمير قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه ضمير الكفر والتكذيب ورد قول الرسل صلى الله عليه وسلم واستبدال غيره به، والمعنى‏:‏ أنتم زينتم لنا الكفر ودعوتمونا إليه وحسنتموه لنا، وقيل على هذا القول‏:‏ أنه قول الأمم المتأخرين للمتقدمين، والمعنى على هذا‏:‏ أنتم شرعتم لنا تكذيب الرسل ورد ما جاءوا به والشرك بالله سبحانه وتعالى، وبدأتم به وتقدمتمونا إليه فدخلتم النار قبلنا فبئس القرار، أي‏:‏ بئس المستقر والمنزل‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن الضمير في قوله‏:‏ أنتم قدمتموه لنا‏.‏ ضمير العذاب وصلي النار، والقولان متلازمان، وهما حق‏.‏

وأما القائلون‏:‏ ‏{‏ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار‏}‏ فيجوز أن يكون الأتباع دعوا على سادتهم وكبرائهم وأئمتهم به لأنهم هم الذين حملوهم عليه ودعوهم إليه ويجوز أن يكون جميع أهل النار سألوا ربهم أن يزيد من سن لهم الشرك وتكذيب الرسل صلى الله عليهم وسلم ضعفا، وهم الشياطين‏.‏

القسم الثالث من أقسام الناس في الهدى الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم

لذين قبلوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ظاهرا وجحدوه وكفروا به باطنا وهم المنافقون الذين ضرب لهم هذان المثلان بمستوقد النار وبالصيب وهم أيضًا نوعان‏:‏

‏[‏النوع الأول‏]‏‏:‏ من أبصر ثم عمى وعلم ثم جهل

وأقر ثم أنكر، وآمن ثم كفر، فهؤلاء رءوس أهل النفاق وساداتهم وأئمتهم، ومثلهم مثل من استوقد نارا ثم حصل بعدها على الظلمة‏.‏

النوع الثاني‏:‏ ضعفاء البصائر الذين أعشى بصائرهم ضوء البرق

فكاد أن يخطفها لضعفها وقوته، وأصم أذنهم صوت الرعد فهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق ولا يقربون من سماع القرآن والإيمان؛ بل يهربون منه ويكون حالهم حال من يسمع الرعد الشديد، فمن شدة خوفه منه يجعل أصابعه في أذنه، وهذه حال كثير من خفافيش البصائر في كثير من نصوص الوحي إذا وردت عليه مخالفة لما تلقاه عن أسلافه وذوي مذهبه، ومن يحسن به الظن ورآها مخالفة لما عنده عنهم هرب من النصوص وكره من يسمعه إياها، ولو أمكنه لسد أذنيه عند سماعها ويقول‏:‏ دعنا من هذه ولو قدر لعاقب من يتلوها ويحفظها وينشرها ويعلمها، فإذا ظهر له منها ما يوافق ما عنده مشى فيها وانطلق فإذا جاءت بخلاف ما عنده أظلمت عليه فقام حائرا لا يدري أين يذهب، ثم يعزم له التقليد وحسن الظن برؤسائه وسادته على اتباع ما قالوه دونها، ويقول مسكين الحال‏:‏ هم أخبر بها مني وأعرف، فيا لله العجب‏!‏ أو ليس أهلها والذابون عنها والمنتصرون لها والمعظمون لها والمخالفون لأجلها آراء الرجال، المقدمون لها على ما خالفها، أعرف بها أيضًا منك وممن اتبعته فلما كان من خالفها وعزلها عن اليقين وزعم أن الهدى والعلم لا يستفاد منها وأنها أدلة لفظية لا تفيد شيئا من اليقين ولا يجوز أن يحتج بها على مسألة واحدة من مسائل التوحيد والصفات ويسميها الظواهر النقلية، ويسمي ما خالفها القواطع العقلية، فلما كان هؤلاء أحق بها وأهلها وكان أنصارها والذابون عنها والحافظون لها هم أعداؤها ومحاربوها‏؟‏‏!‏‏.‏

ولكن هذه سنة الله في أهل الباطل أنهم يعادون الحق وأهله وينسبونهم إلى معاداته ومحاربته، كالرافضة الذين عادوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بل وأهل بيته ونسبوا أتباعه وأهل سنته إلى معاداة أهل بيته‏:‏ ‏{‏وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏، والمقصود أن هؤلاء المنافقين صنفان‏:‏ أئمة وسادة يدعون إلى النار وقد مردوا على النفاق‏.‏ وأتباع لهم بمنزلة الأنعام والبهائم، فأولئك زنادقة مستبصرون، وهؤلاء زنادقة مقلدون‏.‏ فهؤلاء أصناف بني آدم في العلم والإيمان ولا يجاوز هذه السنة اللهم إلا من أظهر الكفر وأبطن الإيمان كحال المستضعف بين الكفارالذي تبين له الإسلام ولم يمكنه المهاجرة بخلاف قومه ولم يزل هذا الضرب في الناس على عهد رسول الله وبعده، وهؤلاء عكس المنافقين من كل وجه‏.‏

موجز لأقسام الناس في الهدي الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم

وعلى هذا فالناس إما مؤمن ظاهرا وباطنا وإما كافرا ظاهرا وباطنا أو مؤمن ظاهرا كافر باطنا أو كافر ظاهرا مؤمن باطنا‏.‏ والأقسام الأربعة قد اشتمل عليها الوجود، وقد بين القرآن أحكامها، فالأقسام الثلاثة‏:‏ الأول ظاهرة، وقد اشتمل عليها أول سورة البقرة‏.‏

القسم الرابع من أقسام الناس في الهدي الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم

وأما القسم الرابع‏:‏ ففي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لهم تعلموهم أن تطؤهم‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فهؤلاء كانوا يكتمون إيمانهم في قومهم ولا يتمكنون من إظهاره، ومن هؤلاء مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، ومن هؤلاء النجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان ملك نصارى الحبشة وكان في الباطن مؤمنا وقد قيل‏:‏ أنه وأمثاله الذين عناهم الله عز وجل بقوله‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون‏.‏ يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين‏}‏ فإن هؤلاء ليس المراد بهم المتمسك باليهودية والنصرانية بعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم قطعا، فإن هؤلاء قد شهد لهم بالكفر وأوجب لهم النار فلا يثنى عليهم بهذا الثناء، وليس المراد به من آمن من أهل الكتاب ودخل في جملة المؤمنين وباين قومه؛ فإن هؤلاء لا يطلق عليهم إنهم من أهل الكتاب إلا باعتبار ما كانوا عليه وذلك الإعتبار قد زال بالإسلام واستحدثوا اسم المسلمين والمؤمنين، وإنما يطلق الله سبحانه هذا الاسم على من هو باق على دين أهل الكتاب هذا ‏"‏هو‏"‏ المعروف في القرآن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم‏.‏‏.‏‏}‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ ‏{‏وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ولهذا قال جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، والحسن، وقتادة، أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم‏.‏‏.‏‏}‏، أنها نزلت في النجاشي زاد الحسن وقتادة وأصحابه، وذكر ابن جرير في تفسيره من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة عن ابن المسيب عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «اخرجوا فصلوا على أخ لكم فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات فقال‏:‏ هذا النجاشي أصحمة، فقال المنافقون‏:‏ انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله …‏}‏»‏.‏ والمقصود أن الأقسام الأربعة قد ذكرها الله تعالى في كتابه، وبين أحكامها في الدنيا وأحكامها في الآخرة، وقد تبين أن أحد الأقسام من آمن ظاهرا وكفر باطنا، وأنهم نوعان‏:‏ رؤساؤهم وساداتهم، وأتباعهم ومقلدوهم، وعلى هذا فأصحاب المثل الأول الناري شر من أصحاب المثل الثاني المائي كما يدل السياق عليه، وقد يقال‏:‏- وهو أولى- إن المثلين لسائر النوع‏.‏ وأنهم قد جمعوا بين مقتضى المثل الأول من الإنكار بعد الإقرار‏.‏ والحصول في الظلمات بعد النور، وبين مقتضى المثل الثاني من ضعف البصيرة في القرآن وسد الآذان عند سماعه والإعراض عنه، فإن المنافقين فيهم هذا وهذا، وقد يكون الغالب على فريق منهم المثل الأول، وعلى فريق ‏"‏منهم‏"‏ المثل الثاني‏.‏

فصل‏:‏ في بيان الحكم التي اشتمل عليه المثلان المتقدمان

وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة‏:‏

منها‏:‏ أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره لا من قبل نفسه، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة‏.‏ وهكذا المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه وتصديق جازم كان ما معه من النور كالمستعار‏.‏

ومنها‏:‏ أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله وتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم بدوامها فإذا انقطعت مادة الإيمان طفيء كما تطفأ النار بفراغ مادتها‏.‏

ومنها‏:‏ أن الظلمة نوعان‏:‏ ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور، وظلمة حادثة بعد النور وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه، وظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة فمثلت حاله بحال المستوقد للنار الذي حصل في الظلمة بعد الضوء، وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط‏.‏

ومنها‏:‏ أن في هذا المثل إيذانا وتنبيها على حالهم في الآخرة وأنهم يعطون نورا ظاهرا كما كان نورهم في الدنيا ظاهرا ثم يطفأ ذلك النور أحوج ما يكونون إليه إذ لم تكن له مادة باقية تحمله ويبقون على الجسر في الظلمة لا يستطيعون العبور؛ فإنه لا يمكن أحدا عبوره إلا بنور ثابت يصحبه حتى يقطع الجسر، فإن لم يكن لذلك النور مادة من العلم النافع والعمل الصالح وإلا ذهب الله تعالى به أحوج ما كان إليه صاحبه، فطابق مثلهم في الدنيا بحالتهم التي هم عليها في هذه الدار وبحالهم يوم القيامة عندما تقسم الأنوار دون الجسر ويثبت نور المؤمنين ويطفأ نور المنافقين‏.‏

ومن هاهنا تعلم السر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ ولم يقل‏:‏ أذهب الله نورهم، فإن أردت زيادة بيان وأيضًاح فتأمل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما‏.‏

وقد سئل عن الورود فقال‏:‏ «نجيء نحن يوم القيامة ‏"‏على تل‏"‏ فوق الناس قال‏:‏ فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا تبارك وتعالى بعد ذلك فيقول‏:‏ من تنتظرون‏؟‏ فيقولون ننتظر ربنا‏.‏ فيقول‏:‏ أنا ربكم، فيقولون‏:‏ حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك، قال‏:‏ فينطلق بهم ويتبعونه ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورا ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله تعالى ثم يطفأ نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون فينجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضواء نجم في السماء، ثم كذلك ثم تحل الشفاعة ويشفعون حتى يخرج من النار من قال‏:‏ لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة فيجعلون بفناء الجنة ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء»‏.‏ وذكر باقي الحديث‏.‏

فتأمل قوله‏:‏ فينطلق فيتبعونه ويعطى كل إنسان منهم نورا المنافق والمؤمن، ثم تأمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون‏}‏‏.‏ وتأمل حالهم إذا أطفئت أنوارهم فبقوا في الظلمة وقد ذهب المؤمنون في نور إيمانهم يتبعون ربهم عز وجل، وتأمل قوله في حديث الشفاعة‏:‏ «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد» ‏"‏فيتبع كل‏"‏ مشرك إلهه الذي كان يعبده‏.‏ والموحد حقيق بأن يتبع الإله الحق الذي كان كل معبود سواه باطل، وتأمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون‏}‏ وذكر هذه الآية في حديث الشفاعة في هذا الموضع، وقوله في الحديث‏:‏ «فيكشف عن ساقه»، وهذه الإضافة تبين المراد بالساق المذكور في الآية، وتأمل ذكر الانطلاق واتباعه سبحانه، بعد هذا وذلك يفتح لك بابا من أسرار التوحيد وفهم القرآن ومعاملة الله سبحانه وتعالى لأهل توحيده الذين عبدوه وحده ولم يشركوا به شيئا، هذه المعاملة التي عامل بمقابلها أهل الشرك حيث ذهبت كل أمة مع معبودها فانطلق بها واتبعته إلى النار، وانطلق المعبود الحق واتبعه أولياؤه وعابدوه فسبحان الله رب العالمين الذي قرت عيون أهل التوحيد به في الدنيا والآخرة وفارقوا الناس فيه أحوج ما كانوا إليهم‏.‏

ومنها‏:‏ أن المثل الأول متضمن لحصول الظلمة التي هي الضلال والحيرة التي ضدها الهدى، والمثل الثاني‏:‏ متضمن لحصول الخوف الذي ضده الأمن، فلا هدى ولا أمن‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون‏}‏ قال ابن عباس وغيره من السلف‏:‏ مثل هؤلاء في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة خائفا متحيرا كذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم وناكحوا المؤمنين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم، فذلك نورهم فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ‏(‏إضاءة النار لهم إقبالهم إلى المسلمين والهدى، وذهاب نورهم إقبالهم إلى المشركين والضلالة‏)‏ وقد فسرت تلك الإضاءة وذهاب النور بأنها في الدنيا وفسرت بالبرزخ، وفسرت بيوم القيامة، والصواب أن ذلك شأنهم في الدور الثلاثة فإنهم لما كانوا كذلك في الدنيا جوزوا في البرزخ وفي القيامة بمثل حالهم ‏{‏جزاء وفاقا‏}‏، ‏{‏وما ربك بظلام للعبيد‏}‏ فإن المعاد يعود على العبد فيه ما كان حاصلا له في الدنيا ولهذا يسمى يوم الجزاء‏:‏ ‏{‏ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا‏}‏، ‏{‏ويزيد الله الذين اهتدوا هدى‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ومن كان مستوحشا مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ يوم المعاد أعظم وأشد، ومن قرت عينه به في ‏"‏هذه الحياة‏"‏ الدنيا قرت عينه به يوم القيامة وعند الموت ويوم البعث فيموت العبد على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويعود عليه عمله بعينه فينعم به ظاهرا وباطنا‏.‏ فيورثه من الفرح والسرور واللذة والبهجة ‏"‏وقرة العين‏"‏ والنعيم وقوة القلب واستبشاره وحياته وانشراحه واغتباطه ما هو من أفضل النعيم وأجله وأطيبه وألذه، وهل النعيم إلا طيب النفس وفرح القلب وسروره وانشراحه واستبشاره، هذا وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه وتلذه عينه من سائر المشتهيات التي تشتهيها الأنفس وتلذها الأعين ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن والموافقة بحسب كمال عمله ومتابعته فيه وإخلاصه وبلوغه مرتبة الإحسان فيه، وبحسب تنوعه، فمن تنوعت أعماله المرضية لله المحبوبة له في هذه الدار تنوعت الأقسام التي يتلذذ بها في تلك الدار وتكثرت له بحسب تكثر أعماله هنا وكان مزيده من تنوعها والابتهاج بها والالتذاذ بنيلها هناك على حسب مزيده من الأعمال وتنوعه فيها في هذه الدار وقد جعل الله سبحانه لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثرا وجزاء ولذة وألما يخصه لا يشبه أثر الآخر وجزاءه‏.‏ ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة وآلام أهل النار، وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات فليست لذة من ضرب في كل مرضاة الله بسهم وأخذ منها بنصيب كلذة من أنمى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها ولا ألم من ضرب في كل مسخوط لله بنصيب وعقوبته كألم من ضرب بسهم واحد من مساخطه‏.‏

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كمال ما يستمتع به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا فرأى ‏[‏…‏.‏قنوا من حشف معلقا في المسجد للصدقة فقال إن صاحب هذا يأكل الحشف يوم القيامة‏]‏ فأخبر أن جزاءه يكون من جنس عمله فيجزى على تلك الصدقة بحشف من جنسها‏.‏

وهذا الباب يفتح لك أبوابا عظيمة من فهم المعاد وتفاوت الناس في أحواله وما يجري فيه من الأمور المتنوعة، فمنها‏:‏ خفة حمل العبد على ظهره وثقله إذا قام من قبره فإنه بحسب خفة وزره وثقله، إن خف خف وإن ثقل ثقل‏.‏

ومنها‏:‏ استظلاله بظل العرش أو ضحاؤه للحر والشمس إن كان له من الأعمال الصالحة الخالصة والإيمان مما يظله في هذه الدار من حر الشرك والمعاصي والظلم استظل هناك في ظل أعماله تحت عرش الرحمن‏.‏ وإن كان ضاحيا هنا للمناهي والمخالفات والبدع والفجور ضحى هناك للحر الشديد‏.‏

ومنها‏:‏ طول وقوفه في الموقف ومشقته عليه وتهوينه ‏"‏عليه‏"‏ إن طال وقوفه في الصلاة ليلا ونهارا لله، وتحمل لأجله المشاق في مرضاته وطاعته خف عليه ‏"‏الوقوف في ذلك اليوم وسهل عليه وإن آثر الراحة‏"‏ هنا والدعة والبطالة والنعمة طال عليه الوقوف هناك واشتدت مشقته عليه‏.‏

وقد أشار تعالى إلى ذلك فير قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا‏.‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا‏.‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا‏.‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا‏}‏ فمن سبح الله ليلا طويلا لم يكن ذلك اليوم ثقيلا عليه بل كان أخف شيء عليه‏.‏

ومنها‏:‏ أن ثقل ميزانه هناك بحسب تحمله ثقل الحق في هذه الدار لا بحسب مجرد كثرة الأعمال، وإنما يثقل الميزان باتباع الحق والصبر عليه وبذله إذا سئل، وأخذه إذا بذل كما قال الصديق في وصيته لعمر‏:‏ ‏(‏واعلم أن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وله حق بالنهار لا يقبله بالليل، واعلم أنه إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وثقل ذلك عليهم في دار الدنيا وحق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في دار الدنيا خفته عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ أن ورود الناس الحوض وشربهم منه يوم العطش الأكبر بحسب ورودهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشربهم منها، فمن وردها في هذه الدار وشرب منها وتضلع ورد هناك حوضه وشرب منه وتضلع، فله صلى الله عليه وسلم حوضان عظيمان‏:‏ حوض في الدنيا وهو سنته وما جاء به،وحوض في الآخرة، فالشاربون من هذا الحوض في الدنيا هم الشاربون من حوضه يوم القيامة فشارب ومحروم ومستقل ومستكثر والذين يذودهم هو والملائكة عن حوضه يوم القيامة هم الذين كانوا يذودون أنفسهم وأتباعهم عن سنته ويؤثرون عليها غيرها فمن ظمأ من سنته في هذه الدنيا ولم يكن له منها شرب فهو فهو الآخرة أشد ظمأ وأحر كبداً وإن الرجل ليلقى الرجل فيقول‏:‏ يا فلان أشربت فيقول‏:‏ نعم والله فيقول‏:‏ لكني والله ما شربت، واعطشاه‏.‏

فرد أيها الظمان والورد ممكن *** فإن لم ترد فاعلم بأنك هالك

وإن لم يكن رضوان يسقيك شربه *** سيسقيكها إذ أنت ظمأن مالك

وإن لم ترد في هذه الدار حوضه *** ستصرف عنه يوم يلقاك آنك

ومنها‏:‏ قسمه الأنوار في الظلمة دون الجسر، فإن العبد يعطى من النور هناك بسحب قوة نور إيمانه ويقينه وإخلاصه ومتابعته للرسول في دار الدنيا فمنهم‏:‏ من يكون نوره كالشمس ودون ذلك كالقمر ودونه كأشد كوكب في السماء إضاءة‏.‏

ومنهم‏:‏ من يكون نوره كالسراج في قوته وضعفه وما بين ذلك‏.‏

ومنهم‏:‏ من يعطى نور على إبهام قدمه يضئ مرة ويطفي أخرى بحسب ما كان معه من نور الإيمان في دار الدنيا فهو هذا النور بعينه أبرزه الله لعبده في الآخرة ظاهراً يرى عياناً بالأبصار، ولا يستضيء به غيره ولا يمشي أحدا إلا في نور نفسه إن كان ‏"‏له‏"‏ نور مشى في نوره وإن لم يكن له نور أصلا لم ينفعه نور غيره‏.‏

ولما كان المنافق في الدنيا قد حصل له نور ظاهر غير مستمر ولا متصل بباطنه ولا له مادة من الإيمان أعطي في الآخرة نورا ظاهرا لا مادة له ثم يطفأ عنه أحوج ما كان إليه‏.‏

ومنها‏:‏ أن مشيهم على الصراط في السرعة والبطء بحسب ‏"‏سرعة‏"‏ سيرهم وبطئه على صراط الله المستقيم في الدنيا فأسرعهم سيرا هنا أسرعهم هناك وأبطأهم هنا أبطأهم هناك‏.‏

وأشدهم ثباتا على الصراط المستقيم ‏"‏هنا‏"‏ أثبتهم هناك ومن خطفته كلاليب الشهوات والشبهات والبدع المضلة هنا خطفته الكلاليب التي كأنها شوك السعدان هناك ويكون تأثير الكلاليب فيه هناك فيه على حسب الشهوات ‏"‏والشبهات‏"‏ والبدع فيه هاهنا فناج مسلم،ومخدوش مسلم، ومخزول أي مقطع بالكلاليب مكردس في النار كما أثرت فيهم تلك الكلاليب في الدنيا ‏{‏جزاء وفاقا‏}‏ ‏{‏وما ربك بظلام للعبيد‏}‏‏.‏

والمقصود أن الله تبارك وتعالى ضرب لعباده المثلين المائي والناري في سورة البقرة وفي سورة الرعد، وفي سورة النور لما تضمن المثلان من الحياة والإضاءة‏.‏ فالمؤمن حي القلب مستنيره، والكافر والمنافق ميت القلب مظلمه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير‏.‏ ولا الظلمات ولا النور‏.‏ ولا الظل ولا الحرور‏.‏ وما يستوي الأحياء ولا الأموات‏}‏ فجعل من اهتدى بهداه واستنار بنوره بصيرا حيا في ظل يقيه من حر الشبهات والضلال والبدع والشرك مستنيرا بنوره والآخر أعمى ميتا في حر الكفر والشرك والضلال منغمسا في الظلمات وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا‏}‏‏.‏ وقد اختلف في مفسر الضمير من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن جعلناه نورا‏}‏ فقيل‏:‏ هو الإيمان ‏"‏لكونه أقرب المذكورين‏.‏ وقيل‏:‏ هو الكتاب‏"‏ فإنه النور الذي هدى به عباده‏.‏ قال شيخنا‏:‏ والصواب أنه عائد على الروح المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا‏}‏، أي جعلنا ذلك الروح نورا نهدي به من نشاء من عبادنا، فسمى وحيه روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح التي هي الحياة في الحقيقة ومن عدمها فهو ميت لا حي والحياة الأبدية السرمدية في دار النعيم هي ثمرة حياة القلب بهذا الروح الذي أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فمن لم يحيا به في الدنيا فهو ممن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا وأعظم الناس حياة في الدور الثلاث، دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الجزاء، أعظمهم نصيبا من هذه الحياة بهذه الروح‏.‏

وسماه روحا في غير موضع من القرآن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ‏}‏‏.‏

وسماه نورا لما يحصل به من استنارة القلوب وإضاءتها وكمال الروح بهاتين الصفتين‏:‏ بالحياة والنور‏.‏ ولا سبيل إليهما إلا على أيدي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم والإهتداء بما بعثوا به وتلقي العلم النافع والعمل الصالح من مشكاتهم وإلا فالروح ميتة مظلمة، فإن كان العبد مشارا إليه بالزهد والفقه والفضيلة والكلام والبحوث فإن الحياة والاستنارة بالروح الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وجعله نورا يهدي به من يشاء من عباده وراء ذلك كله، فليس العلم كثرة النقل والبحث والكلام، ولكن نور يميز به صحيح الأقوال من سقيمها، وحقها من باطلها، وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال ويميز النقد الذي عليه سكة المدينة النبوية الذي لا يقبل الله عز وجل ثمنا لجنته سواه من النقد الذي عليه ‏"‏سكة‏"‏ جنكيز خان ونوابه من الفلاسفة والجهمية، والمعتزلة‏.‏ وكل من اتخذ لنفسه سكة وضربا ونقدا يروجه بين العالم فهذه الأثمان كلها زيوف لا يقبل الله سبحانه وتعالى في ثمن جنته شيئا منها بل ترد على عاملها أحوج ما يكون إليها وتكون من الأعمال التي قدم الله تعالى عليها فجعلها هباء منثورا ولصاحبها نصيب وافر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا‏.‏ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا‏}‏ وهذا حال أرباب الأعمال التي كانت لغير الله عز وجل أو على غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال أرباب العلوم والأنظار التي لم يتلقوها عن مشكاة النبوة، ولكن تلقوها عن زبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم فأتبعوا قواهم وأفكارهم وأذهانهم في تقرير آراء الرجال أوالانتصار لهم، وفهم ما قالوه وبثه في المجالس والمحاضر، وأعرضوا عما جاء به الرسول صفحا، ومن به رمق منهم يعيره أدنى التفات طلبا للفضيلة‏.‏

وأما تجريد اتباعه وتحكيمه واستفراغ قوى النفس في طلبه وفهمه وعرض آراء الرجال عليه ‏"‏ورد ما يخالفه منها وقبول ما وافقه ولا يلتفت إلى شيء من آرائهم وأقوالهم‏"‏ إلا إذا أشرقت عليها شمس الوحي وشهد لها بالصحة فهذا أمر لا تكاد ترى أحدا منهم يحدث به نفسه فضلا عن أن يكون أخيته ومطلوبه وهذا الذي لا ينجي سواه فوارحمتا لعبد شقي في طلب العلم واستفرغ فيه قواه واستنفذ فيه أوقاته وآثره على ما الناس فيه، والطريق بينه وبين رسول الله مسدود، وقلبه عن المرسل سبحانه وتعالى وتوحيده والانابة إليه والتوكل عليه والتنعم بحبه والسرور بقربه مطرود ومصدود، ‏"‏و‏"‏ قد طاف عمره كله على أبواب المذاهب فلم يفز إلا بأخس المطالب ‏"‏سبحان الله‏"‏ إن هي والله إلا فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها، وحيرت العقول عن طرق قصدها، تربى فيه الصغير، وهرم عليه الكبير، فظنت خفافيش الأبصار أنها الغاية التي تسابق إليها المتسابقون، والنهاية التي تتنافس فيها المتنافسون، وهيهات أين الظلام من الضياء، وأين الثرى من كوكب الجوزاء، وأين الحرور من الظلال، وأين طريقة أصحاب اليمين من طريقة أصحاب الشمال، وأين القول الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم من النقل المصدق عن القائل المعصوم، وأين العلم الذي سنده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عن جبرائيل صلى الله عليه وسلم عن رب العالمين سبحانه وتعالى إلى ‏"‏الخوض‏"‏ الخرص الذي سنده شيوخ ‏[‏أهل‏]‏ الضلال من الجهمية والمعتزلة وفلاسفة المشائين، بل أين الآراء التي أعلى درجاتها أن تكون عند الضرورة سائغة الإتباع إلى النصوص النبوية الواجب على كل مسلم تحكيمها والتحاكم إليها في موارد النزاع، وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحذر إلى النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر‏.‏

وأين الأقوال والآراء التي إذا مات أنصارها والقائمون بها فهي من جملة الأموات إلى النصوص التي لا تزول إلا إذا زالت الأرض والسموات‏.‏

لقد استبان – والله- الصبح لمن له عينان ناظرتان وتبين الرشد من الغي لمن له أذنان واعيتان، لكن عصفت على القلوب أهوية البدع والشبهات والآراء المختلفات فأطفأت مصابيحها وتحكمت فيها أيدي الشهوات فأغلقت أبواب رشدها، وأضاعت مفاتيحها وران عليها كسبها وتقليدها لآراء الرجال فلم تجد حقائق القرآن والسنة فيها منقذا وتمكنت فيها اسقام الجهل والتخليط فلم تنتفع معها بصالح الغذاء واعجبا جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولم تقبل الاغتذاء بكلام الله تعالى ونص نبيه المرفوع واعجبا لها كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ فيها والصواب وعجزت عن الاهتداء بمطالع الأنوار ومشارقها من السنة والكتاب فأقرت بالعجز عن تلقي الهدى والعلم من مشكاة السنة والقرآن، ثم تلقته من رأي فلان ورأي فلان‏.‏ فسبحان الله ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي واقتباس الهدى من مشكاتها من الكنوز والذخائر وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء ‏"‏فكرا‏"‏ وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا، درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، ووقعت أعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها، وأفلت كواكبه من آفاقهم فليسوا يبصرونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يثبتونها، خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التحريف بالتأويلات الباطلات فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم المخذولة كمين بعد كمين، نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام، وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز، وقالوا‏:‏ مالك عندنا من عبور وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز أنزلوا النصوص منزلة الخليفة العاجز في هذه الأزمان له السكة والخطبة، وما له حكم نافذ ولا سلطان، حرموا والله الوصول بخروجهم عن منهج الوحي وتضييع الأصول ‏"‏ و‏"‏ تمسكوا بأعجاز لا صدور لها فخانتهم أحرص ما كانوا عليها وتقطعت بهم أسبابهم أحوج ما كانوا إليها حتى إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه وقدموا على ما قدموه ‏{‏وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏}‏ وسقط في أيديهم عند ‏"‏الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه فيا شدة الحسرة عندما يعاين‏"‏ المبطل سعيه وكده هباء منثورا، ويا عظم المصيبة عندما تتبين بوارق آماله وأمانيه خلبا غرورا‏.‏

فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏، وما عذر من نبذ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره في يوم لا ينفع ‏"‏ فيه‏"‏ الظالمين المعاذر، أفيظن المعرض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينجو غدا بآراء الرجال ‏"‏ أو‏"‏ يتخلص من مطالبة الله تعالى له بكثرة البحوث والجدال، أو ضروب الأقيسة وتنوع الأشكال أو بالشطحات والإشارات وأنواع الخيال، هيهات والله لقد ظن أكذب الظن ومنته نفسه أبين المحال وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله تعالى على غيره وتزود التقوى وأتم بالدليل وسلك الصراط المستقيم واستمسك من التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم‏.‏