فصل: فَصْلٌ (بِنَاءُ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ الظَّوَاهِرَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى تَأْوِيلَاتٍ لَا تُعْقَلُ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاعتصام ***


فَصْلٌ ‏[‏بِنَاءُ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ الظَّوَاهِرَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى تَأْوِيلَاتٍ لَا تُعْقَلُ‏]‏

وَمِنْهَا بِنَاءُ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ الظَّوَاهِرَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى تَأْوِيلَاتٍ لَا تُعْقَلُ يَدَّعُونَ فِيهَا أَنَّهَا ‏(‏هِيَ‏)‏ الْمَقْصُودُ وَالْمُرَادُ، لَا مَا يَفْهَمُ الْعَرَبِيُّ مِنْهَا- مُسْنَدَةً عِنْدَهُمْ إِلَى أَصْلٍ لَا يُعْقَلُ‏:‏

وَذَلِكَ أَنَّهُمْ- فِيمَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ- قَوْمٌ أَرَادُوا إِبْطَالَ الشَّرِيعَةِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَإِلْقَاءَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ؛ لِيَنْحَلَّ الدِّينُ فِي أَيْدِيهِمْ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ إِلْقَاءُ ذَلِكَ صَرَاحًا؛ فَيُرَدُّ ذَلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ وَتَمْتَدُّ إِلَيْهِمْ أَيْدِي الْحُكَّامِ، فَصَرَفُوا أَعْنَاقَهُمْ إِلَى التَّحَيُّلِ عَلَى مَا قَصَدُوا بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ، مِنْ جُمْلَتِهَا صَرْفُ الْهَمِّ مِنَ الظَّوَاهِرِ؛ إِحَالَةً عَلَى أَنَّ لَهَا بَوَاطِنَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَأَنَّ الظَّوَاهِرَ غَيْرُ مُرَادَةٍ‏.‏

فَقَالُوا‏:‏ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِنَ الظَّوَاهِرِ فِي التَّكَالِيفِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ؛ فَهِيَ أَمْثِلَةٌ وَرُمُوزٌ إِلَى بَوَاطِنَ‏.‏

فَمِمَّا زَعَمُوا فِي الشَّرْعِيَّاتِ‏:‏ أَنَّ الْجَنَابَةَ مُبَادَرَةُ الدَّاعِي لِلْمُسْتَجِيبِ بِإِفْشَاءِ سِرٍّ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَنَالَ رُتْبَةَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَمَعْنَى الْغُسْلِ تَجْدِيدُ الْعَهْدِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَمَعْنَى مُجَامَعَةِ الْبَهِيمَةِ مُقَابَحَةُ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ النَّجْوَى- وَهُوَ مِئَةٌ وَتِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا عِنْدَهُمْ-؛ قَالُوا‏:‏ فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ الشَّرْعُ الْقَتْلَ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهَا، وَإِلَّا؛ فَالْبَهِيمَةُ مَتَى يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَيْهَا‏؟‏‏!‏ وَالِاحْتِلَامُ أَنْ يَسْبِقَ لِسَانُهُ إِلَى إِفْشَاءِ السِّرِّ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ؛ أَيْ‏:‏ تَجْدِيدُ الْمُعَاهَدَةِ، وَالطُّهْرُ هُوَ التَّبَرُّؤُ مِنَ اعْتِقَادِ كُلِّ مَذْهَبٍ سِوَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، وَالتَّيَمُّمُ الْأَخْذُ مِنَ الْمَأْذُونِ إِلَى أَنْ يَسْعَدَ بِمُشَاهَدَةِ الدَّاعِي وَالْإِمَامِ، وَالصِّيَامُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ كَشْفِ السِّرِّ‏.‏

وَلَهُمْ مِنْ هَذَا الْإِفْكِ كَثِيرٌ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَأُمُورِ التَّكْلِيفِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَكُلُّهُ حَوْمٌ عَلَى إِبْطَالِ الشَّرِيعَةِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، إِذْ هُمْ ثِنْوِيَّةٌ وَدَهْرِيَّةٌ وَإِبَاحِيَّةٌ، مُنْكِرُونَ لِلنُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْمَلَائِكَةِ، بَلْ هُمْ مُنْكِرُونَ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَهُمُ الْمُسَمَّوْنَ بِالْبَاطِنِيَّةِ‏.‏

وَرُبَّمَا تَمَسَّكُوا بِالْحُرُوفِ وَالْأَعْدَادِ‏:‏ بِأَنَّ الثُّقُبَ فِي رَأْسِ الْآدَمِيِّ سَبْعٌ، وَالْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ سَبْعٌ، وَأَيَّامَ الْأُسْبُوعِ سَبْعٌ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دُورَ الْأَئِمَّةِ سَبْعَةٌ، وَبِهِ يُتَمُّ‏.‏ وَأَنَّ الطَّبَائِعَ أَرْبَعٌ، وَفُصُولُ السَّنَةِ أَرْبَعٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أُصُولَ الْأَرْبَعَةِ هِيَ السَّابِقُ وَالتَّالِي الْإِلَهَانِ- عِنْدَهُمْ- وَالنَّاطِقُ وَالْأَسَاسُ- وَهُمَا الْإِمَامَانِ- وَالْبُرُوجُ اثْنَا عَشَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُجَجَ اثْنَا عَشَرَ، وَهُمُ الدُّعَاةُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى أَنْوَاعٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ‏.‏

وَجَمِيعُهَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُقَابَلُ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُبْتَدَعَةِ- سِوَى هَؤُلَاءِ- رُبَّمَا يَتَمَسَّكُونَ بِشُبْهَةٍ تَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا مَعَهُمْ، أَمَّا هَؤُلَاءِ؛ فَقَدْ خَلَعُوا فِي الْهَذَيَانِ الرِّبْقَةَ، وَصَارُوا عُرْضَةً لِلَّمْزِ، وَضُحْكَةً لِلْعَالِمِينَ، وَإِنَّمَا يَنْسِبُونَ هَذِهِ الْأَبَاطِيلَ إِلَى الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الَّذِي زَعَمُوهُ، وَإِبْطَالُ الْإِمَامَةِ مَعْلُومٌ فِي كُتُبِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ مُخْتَصَرَةٍ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ‏.‏

فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ‏:‏

إِمَّا مِنْ جِهَةِ دَعْوَى الضَّرُورَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الضَّرُورِيَّ ‏(‏هُوَ‏)‏ مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ عِلْمًا وَإِدْرَاكًا، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ‏.‏

وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ؛ فَسَمَاعُهُمْ مِنْهُ لِتِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ‏.‏

‏(‏فَنَقُولُ‏)‏ لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ‏:‏ مَا الَّذِي دَعَاكَ إِلَى تَصْدِيقِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ دُونَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْمُعْجِزَةِ وَلَيْسَ لِإِمَامِكَ مُعْجِزَةٌ‏؟‏‏!‏ فَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ظَاهِرُهُ، لَا مَا زَعَمْتَ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ رُمُوزٌ إِلَى بَوَاطِنَ فَهِمَهَا الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ وَلَمْ يَفْهَمْهَا فَتَعَلَّمْنَاهَا مِنْهُ‏.‏ قِيلَ لَهُمْ‏:‏ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ تَعَلَّمْتُمُوهَا مِنْهُ‏؟‏ أَبِمُشَاهَدَةِ قَلْبِهِ بِالْعَيْنِ‏؟‏ أَوْ بِسَمَاعٍ مِنْهُ‏؟‏ وَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِنَادِ إِلَى السَّمَاعِ بِالْأُذُنِ، فَيُقَالُ‏:‏ فَلَعَلَّ لَفْظَهُ ظَاهِرٌ لَهُ بَاطِنٌ لَمْ تَفْهَمْهُ وَلَمْ يُطْلِعْكَ عَلَيْهِ، فَلَا يُوثَقُ بِمَا فَهِمْتَ مِنْ ظَاهِرِ لَفْظِهِ‏!‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ صَرَّحَ بِالْمَعْنَى، وَقَالَ‏:‏ مَا ذَكَرْتُهُ ظَاهِرٌ لَا رَمْزَ فِيهِ، أَوْ وَالْمُرَادُ ظَاهِرُهُ‏.‏ قِيلَ لَهُ‏:‏ وَبِمَاذَا عَرَفْتَ قَوْلَهُ لَكَ‏:‏ أَنَّهُ ظَاهِرٌ؛ ‏[‏أَنَّهُ‏]‏ لَا رَمْزَ فِيهِ، بَلْ أَنَّهُ كَمَا قَالَ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَاطِنٌ لَمْ تَفْهَمْهُ أَيْضًا، فَلَا يَزَالُ الْإِمَامُ يُصَرِّحُ بِاللَّفْظِ وَالْمَذْهَبُ يَدْعُو إِلَى أَنَّ لَهُ فِيهِ رَمْزًا‏.‏

وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْإِمَامَ أَنْكَرَ الْبَاطِنَ؛ فَلَعَلَّ تَحْتَ إِنْكَارِهِ رَمْزًا لَمْ تَفْهَمْهُ أَيْضًا، حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الظَّاهِرَ؛ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي طَلَاقِهِ رَمْزٌ وَهُوَ بَاطِنُهُ وَلَيْسَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى حَسْمِ بَابِ التَّفْهِيمِ، قِيلَ لَهُ‏:‏ فَأَنْتُمْ حَسَمْتُمُوهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ دَائِرٌ عَلَى تَقْرِيرِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَالْحَشْرِ، وَالنَّشْرِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْوَحْيِ، وَالْمَلَائِكَةِ؛ مُؤَكَّدًا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْقَسَمِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ‏:‏ إِنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِنَّ تَحْتَهُ رَمْزًا‏!‏ فَإِنَّ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَصْلَحَةٍ وَسِرٍّ لَهُ فِي الرَّمْزِ؛ جَازَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَعْصُومِكُمْ أَنْ يَظْهَرَ لَكُمْ خِلَافُ مَا يُضْمِرُهُ لِمَصْلَحَةٍ وَسِرٍّ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهُ‏.‏

قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏ يَنْبَغِي أَنَّ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَنَّ رُتْبَةَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ هِيَ أَخَسُّ مِنْ رُتْبَةِ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْ فِرَقِ الضَّلَالِ؛ إِذْ لَا تَجِدُ فِرْقَةً تَنْقُضُ مَذْهَبَهَا بِنَفْسِ الْمَذْهَبِ سِوَى هَذِهِ الَّتِي هِيَ الْبَاطِنِيَّةُ، إِذْ مَذْهَبُهَا إِبْطَالُ النَّظَرِ وَتَغْيِيرُ الْأَلْفَاظِ عَنْ مَوْضُوعِهَا بِدَعْوَى الرَّمْزِ، وَكُلُّ مَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَنْطِقَ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ، فَإِمَّا نَظَرٌ أَوْ نَقْلٌ، أَمَّا النَّظَرُ؛ فَقَدْ جَوَّزُوا أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ غَيْرُ مَوْضُوعِهِ، فَلَا يَبْقَى لَهُمْ مُعْتَصِمٌ، وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ‏.‏

وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي ‏"‏ الْعَوَاصِمِ ‏"‏ مَأْخَذًا آخَرَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَسْهَلَ مِنْ هَذَا- وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ ‏"‏-، وَهُوَ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يَدْعُونَهُ السُّؤَالَ بِـ ‏"‏ لِمَ ‏"‏‏؟‏ خَاصَّةً، فَكُلُّ مَنْ وَجَّهْتَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ؛ سَقَطَ فِي يَدِهِ، وَحَكَى فِي ذَلِكَ حِكَايَةً ظَرِيفَةً يَحْسُنُ مَوْقِعُهَا هَاهُنَا‏.‏

وَتَصَوُّرُ الْمَذْهَبِ كَافٍ فِي ظُهُورِ بُطْلَانِهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الشَّرْعِ قَدِ اعْتَمَدَهُ طَوَائِفُ وَبَنَوْا عَلَيْهِ بِدَعًا فَاحِشَةً؛ ‏(‏مِنْهَا‏)‏ مَذْهَبُ الْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ؛ فَإِنَّهُ عَدَّ نَفْسَهُ الْإِمَامَ الْمُنْتَظَرَ، وَأَنَّهُ مَعْصُومٌ، حَتَّى أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي عِصْمَتِهِ، أَوْ فِي أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ؛ كَافِرٌ‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ ذَوُوهُ أَنَّهُ أَلَّفَ فِي الْإِمَامَةِ كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَفَ آدَمَ وَنُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَأَنْ مُدَّةَ الْخِلَافَةِ ثَلَاثُونَ سُنَّةً، وَبَعْدَ ذَلِكَ فِرَقٌ وَأَهْوَاءٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوَى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْبَاطِلُ ظَاهِرٌ، وَالْحَقُّ كَامِنٌ، وَالْعِلْمُ مَرْفُوعٌ- كَمَا أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، الْجَهْلُ ظَاهِرٌ، وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا اسْمُهُ، وَلَا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِمَامِ، فَأَعَادَ بِهِ الدِّينَ؛ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ إِنَّ طَائِفَتَهُ هُمُ الْغُرَبَاءُ؛ زَعْمًا مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ زَائِدٍ عَلَى الدَّعْوَى‏.‏

وَقَالَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ‏:‏ جَاءَ اللَّهُ بِالْمَهْدِيِّ، وَطَاعَتُهُ صَافِيَةٌ نَقِيَّةٌ، لَمْ يُرَ مِثْلُهَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، وَأَنَّ بِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ بِهِ تَقُومُ، وَلَا ضِدَّ لَهُ وَلَا مِثْلَ وَلَا نِدَّ وَلَا كَذِبَ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ وَهَذَا-، كَمَا نَزَّلَ أَحَادِيثَ التِّرْمِذِيِّ وَ أَبِي دَاوُدَ فِي الْفَاطِمِيِّ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ بِلَا شَكٍّ‏.‏

وَأَوَّلُ إِظْهَارِهِ لِذَلِكَ أَنَّهُ قَامَ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا، فَقَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، الْقَاضِي لِمَا يَشَاءُ، لَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ الْمُبَشِّرِ بِالْمَهْدِيِّ يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ إِذَا نُسِخَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَأُزِيلَ الْعَدْلُ بِالْجَوْرِ، مَكَانُهُ بِالْمَغْرِبِ الْأَقْصَى، وَزَمَانُهُ آخِرُ الْأَزْمَانِ، وَاسْمُهُ اسْمُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَسَبَهُ نَسَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ظَهَرَ جَوْرُ الْأُمَرَاءِ، وَامْتَلَأَتِ الْأَرْضُ بِالْفَسَادِ، وَهَذَا آخِرُ الزَّمَانِ، وَالِاسْمُ الِاسْمُ، وَالنَّسَبُ النَّسَبُ وَالْفِعْلُ الْفِعْلُ‏.‏ يُشِيرُ إِلَى مَا جَاءَ فِي أَحَادِيثِ الْفَاطِمِيِّ‏.‏

فَلَمَّا فَرَغَ؛ بَادَرَ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ عَشَرَةٌ، فَقَالُوا‏:‏ هَذِهِ الصِّفَةُ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيكَ، فَأَنْتَ الْمَهْدِيُّ، فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

وَأَحْدَثَ فِي دِينِ اللَّهِ أَحْدَاثًا كَثِيرَةً؛ زِيَادَةً إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الْمَعْلُومُ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْعِصْمَةِ، ثُمَّ وَضَعَ ذَلِكَ فِي الْخُطَبِ، وَضَرَبَ فِي السِّكَكِ، بَلْ كَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ عِنْدَهُمْ ثَالِثَةَ الشَّهَادَةِ، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا؛ فَهُوَ كَافِرٌ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ، وَشَرَعَ الْقَتْلَ فِي مَوَاضِعَ لَمْ يَضَعْهُ الشَّرْعُ فِيهَا، وَهِيَ نَحْوٌ مَنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا؛ كَتَرْكِ امْتِثَالِ أَمْرِ مَنْ يَسْتَمِعُ أَمْرَهُ، وَتَرْكِ حُضُورِ مَوَاعِظِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْمُدَاهَنَةُ إِذَا ظَهَرَتْ فِي أَحَدٍ قُتِلَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ‏.‏

وَكَانَ مَذْهَبُهُ ‏(‏الْبِدْعَةَ‏)‏ الظَّاهِرِيَّةَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَابْتَدَعَ أَشْيَاءَ؛ كَوُجُوهٍ مِنَ التَّثْوِيبِ، إِذْ كَانُوا يُنَادُونَ عِنْدَ الصَّلَاةِ ‏"‏ بتاصاليت الْإِسْلَام ‏"‏ وَ ‏"‏ بِقِيَامِ تاصاليت ‏"‏، ‏"‏ سودرين ‏"‏، وَ ‏"‏ بَارِدِي ‏"‏ وَ ‏"‏ وَأَصْبَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَغَيْرِهِ، فَجَرَى الْعَمَلُ بِجَمِيعِهَا فِي زَمَانِ الْمُوَحِّدِينَ، وَبَقِيَ أَكْثَرُهَا بَعْدَمَا انْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ حَتَّى إِنِّي أَدْرَكْتُ بِنَفْسِي فِي جَامِعِ غَرْنَاطَةَ الْأَعْظَمِ الرِّضَى عَنِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْمَهْدِيِّ الْمَعْلُومِ، إِلَى أَنْ أُزِيلَتْ وَبَقِيَتْ أَشْيَاءُ مُثِيرَةٌ غُفِلَ عَنْهَا أَوْ أُغْفِلَتْ‏.‏

وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ أَبُو الْعَلَاءِ إِدْرِيسُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْهُمْ ظَهَرَ لَهُ قُبْحُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْابْتِدَاعَاتِ، فَأَمَرَ- حِينَ اسْتَقَرَّ بِمَرَاكِشَ- خَلِيفَتَهُ بِإِزَالَةِ جَمِيعِ مَا ابْتُدِعَ مِنْ قِبَلِهِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ رِسَالَةً إِلَى الْأَقْطَارِ يَأْمُرُ فِيهَا بِتَغْيِيرِ تِلْكَ السُّنَّةِ، وَيُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَدْ نَبَذَ الْبَاطِلَ وَأَظْهَرَ الْحَقَّ، وَأَنْ لَا مَهْدِيَ إِلَّا عِيسَى، وَأَنَّ مَا ادَّعَوْهُ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ بِدْعَةٌ أَزَالَهَا وَأَسْقَطَ اسْمَ مَنْ لَا تُثْبِتُ عِصْمَتُهُ‏.‏

وَذَكَرَ أَنْ أَبَاهُ الْمَنْصُورَ هَمَّ بِأَنْ يَصْدَعَ بِمَا بِهِ صَدْعَ، وَأَنْ يُرَقِّعَ الْحَرْفَ الَّذِي رَقَعَ، فَلَمْ يُسَاعِدْهُ الْأَجَلُ لِذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ وَاسْتُخْلِفَ ابْنُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَقَّبُ بِالرَّشِيدِ؛ وَفَدَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الْمُتَّسِمِينَ بِالْمُوَحِّدِينَ، فَقَبِلُوا مِنْهُ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ، وَضَمِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الدُّخُولَ تَحْتَ طَاعَتِهِ، وَالْوُقُوفَ عَلَى قَدَمِ الْخِدْمَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْمُدَافَعَةَ عَنْهُ بِمَا اسْتَطَاعُوا، لَكِنْ عَلَى شَرْطِ ذِكْرِ الْمَهْدِيِّ وَتَخْصِيصِهِ بِالْعِصْمَةِ فِي الْخُطْبَةِ وَالْمُخَاطَبَاتِ، وَنَقْشِ اسْمِهِ الْخَاصِّ فِي السِّكَكِ، وَإِعَادَةِ الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَالنِّدَاءِ عَلَيْهَا ‏"‏ بتاصاليت الْإِسْلَام ‏"‏ عِنْدَ كَمَالِ الْأَذَانِ، وَ بتقام تاصاليت ‏"‏، وَهِيَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ ‏"‏ سودرين ‏"‏، وَ ‏"‏ باوري ‏"‏ وَ ‏"‏ أَصْبَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

وَقَدْ كَانَ الرَّشِيدُ اسْتَمِرَّ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا رَسَمَ أَبُوهُ مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَمَّا انْتَدَبَ ‏"‏ الْمُوَحِّدُونَ ‏"‏ إِلَى الطَّاعَةِ؛ اشْتَرَطُوا إِعَادَتَهُ مَا تَرَكَ، فَأَسْعَفُوا فِيهِ، فَلَمَّا احْتَلُّوا مَنَازِلَهُمْ أَيَّامًا، وَلَمْ يَعُدْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ؛ سَاءَتْ ظُنُونُهُمْ، وَتَوَقَّعُوا انْقِطَاعَ مَا هُوَ عُمْدَتُهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّشِيدَ، فَجَدَّدَ تَأْنِيسَهُمْ بِإِعَادَتِهَا‏.‏

قَالَ الْمُؤَرِّخُ‏:‏ فَيَا لَلَّهِ‏!‏ مَاذَا بَلَغَ مِنْ سُرُورِهِمْ وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الِارْتِيَاحِ لِسَمَاعِ تِلْكَ الْأُمُورِ، وَانْطَلَقَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالدُّعَاءِ لِخَلِيفَتِهِمْ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَشَمَلَتِ الْأَفْرَاحُ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ، وَهَذَا شَأْنُ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ أَبَدًا، فَلَنْ يُسَرَّ بِأَعْظَمَ مِنَ انْتِشَارِ بِدَعَتِهِ وَإِظْهَارِهَا، ‏{‏وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا،‏}‏، وَهَذَا كُلُّهُ دَائِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِالْإِمَامَةِ وَالْعِصْمَةِ الَّذِي هُوَ رَأْيُ الشِّيعَةِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْمُغَالَاةُ فِي تَعْظِيمِ الشُّيُوخِ‏]‏

وَمِنْهَا‏:‏ رَأْيُ قَوْمٍ تَغَالَوْا فِي تَعْظِيمِ شُيُوخِهِمْ، حَتَّى أَلْحَقُوهُمْ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ‏:‏

فَالْمُقْتَصِدُ فِيهِمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لِلَّهِ أَعْظَمَ مِنْ فُلَانٍ، وَرُبَّمَا أَغْلَقُوا بَابَ الْوِلَايَةِ دُونَ سَائِرِ الْأُمَّةِ إِلَّا هَذَا الْمَذْكُورَ‏.‏

وَهُوَ بَاطِلٌ مَحْضٌ، وَبِدْعَةٌ فَاحِشَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَبَدًا مَبَالِغَ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَخَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَهَكَذَا يَكُونُ الْأَمْرُ أَبَدًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَأَقْوَى مَا كَانَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي دِينِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَيَقِينِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَا زَالَ يَنْقُصُ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى آخَرِ الدُّنْيَا‏.‏

لَكِنْ لَا يَذْهَبُ الْحَقُّ جُمْلَةً، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ طَائِفَةٍ تَقُومُ بِهِ وَتَعْتَقِدُهُ، وَتَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ عَلَى حَسْبِهِمْ فِي إِيمَانِهِمْ، لَا مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِأَنَّهُ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَزْنَ أُحُدٍ ذَهَبًا؛ مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَصِيفَهُ؛ حَسْبَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَالِ؛ فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ شُعَبِ الْإِيمَانِ؛ بِشَهَادَةِ التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ‏.‏

وَلِمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ الدِّينُ فِي نَقْصٍ؛ فَهُوَ- أَصْلًا- لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَكَيْفَ يَعْتَقِدُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّهُ وَلِيُّ أَهْلِ الْأَرْضِ‏؟‏‏!‏ وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ وَلِيٌّ غَيْرُهُ‏!‏‏!‏ لَكِنَّ الْجَهْلَ الْغَالِبَ، وَالْغُلُوَّ فِي التَّعْظِيمِ، وَالتَّعَصُّبِ لِلنِّحَلِ، يُؤَدِّي إِلَى مِثْلِهِ أَوْ أَعْظَمَ مِنْهُ‏.‏

وَالْمُتَوَسِّطُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُسَاوٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَأْتِيهِ الْوَحْيُ‏.‏

بَلَغَنِي هَذَا عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْغَالِينَ فِي شَيْخِهِمْ، الْحَامِلِينَ لِطَرِيقَتِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ؛ نَظِيرَ مَا ادَّعَاهُ بَعْضُ تَلَامِذَةِ الْحَلَّاجِ فِي شَيْخِهِمْ عَلَى الِاقْتِصَادِ مِنْهُمْ فِيهِ‏.‏

وَالْغَالِي يَزْعُمُ فِيهِ أَشْنَعَ مِنْ هَذَا، كَمَا ادَّعَى أَصْحَابُ الْحَلَّاجِ فِي الْحَلَّاجِ‏.‏

وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الشُّيُوخِ أَهْلُ الْعَدَالَةِ وَالصِّدْقِ فِي النَّقْلِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَقَمْتُ زَمَانًا فِي بَعْضِ الْقُرَى الْبَادِيَةِ، وَفِيهَا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا كَثِيرٌ ‏"‏‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَخَرَجْتُ يَوْمًا مِنْ مَنْزِلِي لِبَعْضِ شَأْنِي، فَرَأَيْتُ رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ قَاعِدَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ، فَاتَّهَمْتُ أَنَّهُمَا يَتَحَدَّثَانِ فِي بَعْضِ فُرُوعِ طَرِيقَتِهِمْ، فَقَرُبْتُ مِنْهُمَا عَلَى اسْتِخْفَاءٍ لِأَسْمَعَ مِنْ كَلَامِهِمْ- إِذْ مِنَ شَأْنِهِمْ الِاسْتِخْفَاءُ بِأَسْرَارِهِمْ-، فَتَحَدَّثَا فِي شَيْخِهِمْ وَعِظَمِ مَنْزِلَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ فِي الدُّنْيَا مِثْلَهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ‏:‏ أَتُحِبُّ الْحَقَّ‏؟‏ هُوَ النَّبِيُّ، قَالَ‏:‏ نَعَمْ، وَطَرِبَا لِهَذِهِ الْمُقَابَلَةِ طَرَبًا عَظِيمًا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ‏:‏ أَتُحِبُّ الْحَقَّ‏؟‏ هُوَ كَذَا، قَالَ‏:‏ نَعَمْ، هَذَا هُوَ الْحَقُّ ‏"‏‏.‏ قَالَ الْمُخْبِرُ لِي‏:‏ ‏"‏ فَقُمْتُ مِنْ ذَلِكَ ‏(‏الْمَكَانَ‏)‏ فَارًّا أَنْ يُصِيبَنِي مَعَهُمْ قَارِعَةٌ‏.‏

وَهَذَا نَمَطُ الشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ، وَلَوْلَا الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ، وَالتَّكَالُبُ عَلَى نَصْرِ الْمَذْهَبِ، وَالتَّهَالُكِ فِي مَحَبَّةِ الْمُبْتَدَعِ؛ لَمَا وَسِعَ ذَلِكَ عَقْلُ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ الْحَدِيثَ‏.‏

فَهَؤُلَاءِ غَلَوْا كَمَا غَلَتِ النَّصَارَى فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيْثُ قَالُوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ‏}‏، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ‏}‏، وَفِي الْحَدِيثِ‏:‏ وَلَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَلَكِنْ قُولُوا‏:‏ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ‏.‏

وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ؛ وَجَدَ لَهَا مِنَ الْبِدَعِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ كَثِيرًا؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ إِذَا دَخَلَتْ فِي الْأَصْلِ؛ سَهُلَتْ مُدَاخَلَتُهَا الْفُرُوعَ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏أَخْذُ الْأَعْمَالِ إِلَى الْمَنَامَاتِ‏]‏

وَأَضْعَفُ هَؤُلَاءِ احْتِجَاجًا قَوْمٌ اسْتَنَدُوا فِي أَخْذِ الْأَعْمَالِ إِلَى الْمَنَامَاتِ، وَأَقْبَلُوا وَأَعْرَضُوا بِسَبَبِهَا‏:‏

فَيَقُولُونَ‏:‏ رَأَيْنَا فُلَانًا الرَّجُلَ الصَّالِحَ، فَقَالَ لَنَا‏:‏ اتْرُكُوا كَذَا، وَاعْمَلُوا كَذَا‏.‏

وَيَتَّفِقُ هَذَا كَثِيرًا ‏[‏لِـ‏]‏ الْمُتَرَسِّمِينَ بِرَسْمِ التَّصَوُّفِ، وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ لِي كَذَا، وَأَمَرَنِي بِكَذَا، فَيَعْمَلُ بِهَا وَيَتْرُكُ بِهَا؛ مُعْرِضًا عَنِ الْحُدُودِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ‏.‏

وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُحْكَمُ بِهَا شَرْعًا عَلَى حَالٍ؛ إِلَّا أَنْ تُعْرَضَ عَلَى مَا فِي أَيْدِينَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ سَوَّغَتْهَا عُمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَإِلَّا؛ وَجَبَ تَرْكُهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا الْبِشَارَةُ أَوِ النِّذَارَةُ خَاصَّةً، وَأَمَّا اسْتِفَادَةُ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا‏.‏

كَمَا يُحْكَى عَنِ الْكَتَّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ قَالَ‏:‏ ‏"‏ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ‏:‏ ادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا يُمِيتَ قَلْبِي، فَقَالَ‏:‏ قُلْ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعِينَ مَرَّةً‏:‏ يَا حَيُّ‏!‏ يَا قَيُّومُ‏!‏ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ‏"‏‏.‏

فَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَكَوْنُ الذِّكْرِ يُحْيِي الْقَلْبَ صَحِيحٌ شَرْعًا، وَفَائِدَةُ الرُّؤْيَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْخَيْرِ، وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبِشَارَةِ، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْكَلَامُ فِي التَّحْدِيدِ بِالْأَرْبَعِينَ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدُ عَلَى اللُّزُومِ اسْتَقَامَ‏.‏

وَعَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ؛قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ رَبِّي فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ‏:‏ كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَيْكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ اتْرُكْ نَفْسَكَ وَتَعَالَى ‏"‏‏.‏

وَشَأْنُ هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الشَّرْعِ مَوْجُودٌ، فَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ كَالتَّنْبِيهِ لِمَوْضِعِ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ النَّفْسِ مَعْنَاهُ تَرْكُ هَوَاهَا بِإِطْلَاقِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى قَدَمِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى‏}‏،‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

فَلَوْ رَأَى فِي النَّوْمِ قَائِلًا يَقُولُ‏:‏ إِنَّ فُلَانًا سَرَقَ فَاقْطَعْهُ، أَوْ عَالِمٌ فَاسْأَلْهُ، أَوِ اعْمَلْ بِمَا يَقُولُ لَكَ، أَوْ فُلَانٌ زَنَى فَحُدَّهُ‏.‏‏.‏‏.‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْعَمَلُ، حَتَّى يَقُومَ لَهُ الشَّاهِدُ فِي الْيَقَظَةِ، وَإِلَّا؛ كَانَ عَامِلًا بِغَيْرِ شَرِيعَةٍ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْيٌ‏.‏

وَلَا يُقَالُ‏:‏ إِنِ الرُّؤْيَا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُهْمَلَ، وَأَيْضًا؛ إِنَّ الْمُخْبِرَ فِي الْمَنَامِ قَدْ يَكُونُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَدْ قَالَ‏:‏ مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ؛ فَقَدْ رَآنِي حَقًا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي، وَإِذَا كَانَ‏.‏‏.‏‏.‏ فَإِخْبَارُهُ فِي النَّوْمِ كَإِخْبَارِهِ فِي الْيَقَظَةِ‏.‏

لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ إِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ؛ فَلَيْسَتْ إِلَيْنَا مِنْ كَمَالِ الْوَحْيِ، بَلْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَالْجُزْءُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ، بَلْ إِنَّمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ صُرِفَتْ إِلَى جِهَةِ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَفِيهَا كَافٌ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ جُزْءٌ مِنْ ‏(‏أَجْزَاءِ‏)‏ النُّبُوَّةِ؛ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَحُصُولُ الشُّرُوطِ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَقَدْ تَتَوَفَّرُ وَقَدْ لَا تَتَوَفَّرُ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى الْحُلْمِ- وَهُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ-، وَإِلَى حَدِيثِ النَّفْسِ، وَقَدْ تَكُونُ سَبَبَ هَيَجَانِ بَعْضِ أَخْلَاطٍ، فَمَتَى تَتَعَيَّنُ الصَّالِحَةُ حَتَّى يَحْكُمَ بِهَا وَنَتْرُكُ غَيْرَ الصَّالِحَةِ‏؟‏‏!‏‏.‏

وَيَلْزَمُ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَجْدِيدَ وَحْيٍ بِحُكْمٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ‏.‏

‏"‏ يُحْكَى أَنَّ شَرِيكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي دَخَلَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَلَمَّا رَآهُ؛ قَالَ‏:‏ عَلَيَّ بِالسَّيْفِ وَالنَّطْعِ، قَالَ‏:‏ وَلِمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنَّكَ تَطَأُ بِسَاطِي وَأَنْتَ مُعْرِضٌ عَنِّي، فَقَصَصْتُ رُؤْيَايَ عَلَى مَنْ عَبَرَهَا، فَقَالَ لِي‏:‏ يُظْهِرُ لَكَ طَاعَةً وَيُضْمِرُ مَعْصِيَةً‏.‏ فَقَالَ لَهُ شَرِيكٌ‏:‏ وَاللَّهِ مَا رُؤْيَاكَ بِرُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا أَنَّ مُعَبِّرَكَ بِيُوسُفَ الصِّدِّيقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَبِالْأَحْلَامِ الْكَاذِبَةِ تَضْرِبُ أَعْنَاقَ الْمُؤْمِنِينَ‏؟‏ فَاسْتَحْيَا الْمَهْدِيُّ، وَقَالَ‏:‏ اخْرُجْ عَنِّي، ثُمَّ صَرَفَهُ وَأَبْعَدَهُ‏.‏

وَحَكَى الْغَزَالِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ‏:‏ ‏"‏ أَنَّهُ أَفْتَى بِوُجُوبِ قَتْلِ رَجُلٍ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَرُوجِعَ فِيهِ فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ رَجُلًا رَأَى فِي مَنَامِهِ إِبْلِيسَ قَدِ اجْتَازَ بِبَابِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَدْخُلْهَا‏؟‏ فَقِيلَ‏:‏ هَلْ دَخَلْتَهَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَغْنَانِي عَنْ دُخُولِهَا رَجُلٌ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ‏:‏ لَوْ أَفْتَى إِبْلِيسُ بِوُجُوبِ قَتْلِي فِي الْيَقَظَةِ؛ هَلْ تُقَلِّدُونَهُ فِي فَتْوَاهُ‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ لَا‏!‏ فَقَالَ‏:‏ قَوْلُهُ فِي الْمَنَامِ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْيَقَظَةِ ‏"‏‏.‏

وَأَمَّا الرُّؤْيَا الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّائِي بِالْحُكْمِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ بِحُكْمٍ مُوَافِقٍ لِشَرِيعَتِهِ؛ فَالْحُكْمُ بِمَا اسْتَقَرَّ، وَإِنْ أَخْبَرَ بِمُخَالِفٍ؛ فَمُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَنْسَخُ بَعْدَ مَوْتِهِ شَرِيعَتَهُ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَتَوَقَّفُ اسْتِقْرَارُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى حُصُولِ الْمَرَائِي النَّوْمِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ‏:‏ إِنَّ رُؤْيَاهُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، إِذْ لَوْ رَآهُ حَقًّا؛ لَمْ يُخْبِرْهُ بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ‏.‏

لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ فَقَدَ رَآنِي وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ، إِذْ سُئِلَ عَنْ حَاكِمٍ شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ مَشْهُورَانِ بِالْعَدَالَةِ فِي قَضِيَّةٍ، فَلَمَّا نَامَ الْحَاكِمُ؛ ذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ تَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ‏؟‏‏!‏ فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ‏؟‏‏.‏

فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِالرُّؤْيَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتَقَدَ، إِذْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ مِنْ نَاحِيَتِهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ رُؤْيَاهُمْ وَحْيٌ، وَمَنْ سِوَاهُمْ؛ إِنَّمَا رُؤْيَاهُمْ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي حَقًّا، أَنَّ كُلَّ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ رَآهُ فَقَدْ رَآهُ حَقِيقَةً، بِدَلِيلٍ أَنَّ الرَّائِيَ قَدْ يَرَاهُ مَرَّاتٍ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَيَرَاهُ الرَّائِي عَلَى صِفَةٍ، وَغَيْرِهِ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى‏.‏ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ صُوَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا صِفَاتُهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ‏:‏ مَنْ رَآنِي عَلَى صُورَتَيِ الَّتِي خُلِقْتُ عَلَيْهَا‏.‏ فَقَدْ رَآنِي، إِذْ لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي، إِذْ لَمْ يَقُلْ‏:‏ مَنْ رَأَى أَنَّهُ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي؛ وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي، وَأَنَّى لِهَذَا الرَّائِي الَّذِي رَأَى أَنَّهُ رَآهُ عَلَى صُورَةٍ أَنَّهُ رَآهُ عَلَيْهَا‏؟‏، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ رَآهُ، مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ صُورَتُهُ بِعَيْنِهَا‏؟‏‏!‏، وَهَذَا مَا لَا طَرِيقَ لِأَحَدٍ إِلَى مَعْرِفَتِهِ‏.‏

فَهَذَا مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْمَرْئِيَّ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنِ اعْتَقَدَ الرَّائِي أَنَّهُ هُوَ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ يَقُولُهُ عُلَمَاءُ التَّعْبِيرِ‏:‏ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَأْتِي النَّائِمَ فِي صُورَةٍ مَا مِنْ مَعَارِفِ الرَّائِي وَغَيْرِهِمْ، فَيُشِيرُ لَهُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ‏:‏ هَذَا فُلَانٌ النَّبِيُّ، وَهَذَا الْمِلْكُ الْفُلَانِيُّ، أَوْ مَنْ أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِهِ، فَيُوقِفُ اللَّبْسَ عَلَى الرَّائِي بِذَلِكَ، وَلَهُ عَلَامَةٌ عِنْدَهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ أَمْكَنَ أَنْ يُكَلِّمَهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ غَيْرِ الْمُوَافِقَيْنِ لِلشَّرْعِ، فَيَظُنُّ الرَّائِي أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَلَا يُوثِقُ بِمَا يَقُولُ لَهُ أَوْ يَأْمُرُ أَوْ يَنْهَى‏.‏

وَمَا أَحْرَى هَذَا الضَّرْبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ أَوِ النَّهْيُ فِيهِ مُخَالِفًا لِكَمَالِ الْأَوَّلِ، ‏[‏وَهُوَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏]‏ حَقِيقًا بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ مُوَافِقًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ‏.‏

نَعَمْ؛ لَا يَحْكُمُ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَا حَتَّى يَعْرِضَهَا عَلَى الْعِلْمِ؛ لِإِمْكَانِ اخْتِلَاطِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ بِالْآخَرِ وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَلَا يَسْتَدِلُّ ‏(‏بِالرُّؤْيَا‏)‏ فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا ضَعِيفُ الْمِنَّةِ‏.‏

نَعَمْ؛ يَأْتِي الْمَرْئِيَّ تَأْنِيسًا وَبِشَارَةً وَنِذَارَةً خَاصَّةً، بِحَيْثُ لَا يَقْطَعُونَ بِمُقْتَضَاهَا حُكْمًا، وَلَا يَبْنُونَ عَلَيْهَا أَصْلًا، وَهُوَ الِاعْتِدَالُ فِي أَخْذِهَا، حَسْبَمَا فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ فِيهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الِاجْتِمَاعُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي وَالْأَخْذُ بِالذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ‏]‏

وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي الْبَابِ بِفَصْلٍ جَمَعَ جُمْلَةً مِنْ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَغَيْرِهَا فِي مَعْنَاهَا، وَفِيهِ مِنْ نُكَتِ هَذَا الْكِتَابِ جُمْلَةٌ أُخْرَى، فَهُوَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِحَسْبَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ طُولٌ، وَلَكِنَّهُ يَخْدِمُ مَا نَحْنُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ قَوْمٍ يَتَسَمَّوْنَ بِالْفُقَرَاءِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ سَلَكُوا طَرِيقَ الصُّوفِيَّةِ، فَيَجْتَمِعُونَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، وَيَأْخُذُونَ فِي الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ فِي الْغَنَاءِ وَالرَّقْصِ إِلَى آخَرَ اللَّيْلِ، وَيَحْضُرُ مَعَهُمْ بَعْضُ الْمُتَسَمِّينَ بِالْفُقَهَاءِ، يَتَرَسَّمُونَ بِرَسْمِ الشُّيُوخِ الْهُدَاةِ إِلَى سُلُوكِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ؛ هَلْ هَذَا الْعَمَلُ صَحِيحٌ فِي الشَّرْعِ أَمْ لَا‏؟‏

فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، الْمُخَالَفَةِ طَرِيقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقَةَ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَنَفَعَ بِذَلِكَ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ الْجَوَابَ وَصَلَ إِلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ، فَقَامَتْ عَلَى الْعَامِلِينَ بِتِلْكَ الْبِدَعِ، وَخَافُوا انْدِرَاسَ طَرِيقَتِهِمْ وَانْقِطَاعَ أَكْلِهِمْ بِهَا، فَأَرَادُوا الِانْتِصَارَ لِأَنْفُسِهِمْ، بَعْدَ أَنْ رَامُوا ذَلِكَ بِالِانْتِسَابِ بِالسُّنَّةِ إِلَى شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ فَضِيلَتُهُمْ وَاشْتُهِرَتْ فِي الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ وَالْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ طَرِيقَتُهُمْ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُمْ الِاسْتِدْلَالُ؛ لِكَوْنِهِمْ عَلَى ضِدِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا بَنَوْا نِحْلَتَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ‏:‏ الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ، وَأَكْلِ الْحَلَالِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ خَالَفُوهُمْ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ، فَلَا يُمْكِنُهُمُ الدُّخُولُ تَحْتَ تَرْجَمَتِهِمْ‏.‏

وَكَانَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ سَأَلَ بَعْضَ شُيُوخِ الْوَقْتِ فِي مَسْأَلَةٍ تُشْبِهُ هَذِهِ، لَكِنْ حَسَّنَ ظَاهِرَهَا بِحَيْثُ يَكَادُ بَاطِنُهَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ الْمُتَأَمِّلِ، فَأَجَابَ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِهَا؛ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ‏.‏

وَلَمَّا سَمِعَ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ؛ أَرْسَلَ بِهِ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى، فَأَتَى بِهِ، فَرَحَلَ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ، وَشَهَرَ فِي شِيعَتِهِ أَنَّ بِيَدِهِ حُجَّةً لِطَرِيقَتِهِمْ تَقْهَرُ كُلَّ حُجَّةٍ، وَأَنَّهُ طَالِبٌ لِلْمُنَاظَرَةِ فِيهَا، فَدُعِيَ لِذَلِكَ، فَلَمْ يَقُمْ فِيهِ وَلَا قَعَدَ؛ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ‏)‏ هَذِهِ حُجَّتِي، وَأَلْقَى بِالْبِطَاقَةِ الَّتِي بِخَطِّ الْمُجِيبِ، وَكَانَ هُوَ وَمُحِبُّهُ وَأَشْيَاعُهُ يَطِيرُونَ بِهَا فَرَحًا‏.‏

فَوَصَلَتِ الْمَسْأَلَةُ إِلَى غَرْنَاطَةَ، وَطُلِبَ مِنَ الْجَمِيعِ النَّظَرُ فِيهَا، فَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا لَهُ قُوَّةٌ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا؛ إِلَّا أَنْ يُظْهِرَ وَجْهَ الصَّوَابِ فِيهَا الَّذِي يُدَانُ اللَّهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ النَّصِيحَةِ الَّتِي هِيَ الدِّينُ الْقَوِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ‏.‏

وَنَصُّ خُلَاصَةِ السُّؤَالِ‏:‏ مَا يَقُولُ الشَّيْخُ فُلَانٌ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ يَجْتَمِعُونَ فِي رِبَاطٍ عَلَى ضَفَّةِ الْبَحْرِ فِي اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ، يَقْرَؤُنَ جُزْءًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَسْتَمِعُونَ مِنْ كُتُبِ الْوَعْظِ وَالرَّقَائِقِ مَا أَمْكَنَ فِي الْوَقْتِ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ بِأَنْوَاعِ التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ بَيْنِهِمْ قَوَّالٌ يَذْكُرُ شَيْئًا فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُلْقِي مِنَ السَّمَاعِ مَا تَتُوقُ النَّفْسُ إِلَيْهِ وَتَشْتَاقُ سَمَاعَهُ مِنْ صِفَاتِ الصَّالِحِينَ، وَذِكْرِ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، وَيُشَوِّقُهُمْ بِذِكْرِ الْمَنَازِلِ الْحِجَازِيَّةِ وَالْمَعَاهِدِ النَّبَوِيَّةِ، فَيَتَوَاجَدُونَ اشْتِيَاقًا لِذَلِكَ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ مَا حَضَرَ مِنَ الطَّعَامِ، وَيَحْمَدُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَيُرَدِّدُونَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَبْتَهِلُونَ بِالْأَدْعِيَةِ إِلَى اللَّهِ فِي صَلَاحِ أُمُورِهِمْ، وَيَدْعُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِإِمَامِهِمْ، وَيَفْتَرِقُونَ؛ فَهَلْ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَ‏؟‏ أَمْ يَمْنَعُونَ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِمْ‏؟‏ وَمَنْ دَعَاهُمْ مِنَ الْمُحِبِّينَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِقَصْدِ التَّبَرُّكِ؛ هَلْ يُجِيبُونَ دَعْوَتَهُ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ أَمْ لَا‏؟‏

فَأَجَابَ بِمَا مَحْصُولُهُ‏:‏

مَجَالِسُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ هِيَ رِيَاضُ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَتَى بِالشَّوَاهِدِ عَلَى طَلَبِ ذِكْرِ اللَّهِ‏.‏

وَأَمَّا الْإِنْشَادَاتُ الشِّعْرِيَّةُ؛ فَإِنَّمَا الشِّعْرُ كَلَامٌ؛ حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، وَفِي الْقُرْآنِ فِي شُعَرَاءِ الْإِسْلَامِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا‏}‏، وَذَلِكَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَكَعْبًا لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ‏}‏؛ بَكَوْا عِنْدَ سَمَاعِهَا، فَنَزَلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَقَدْ أُنْشِدَ الشِّعْرُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَقَّتْ نَفْسُهُ الْكَرِيمَةُ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ لِأَبْيَاتِ أُخْتِ النَّضْرِ؛ لِمَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ‏.‏

وَأَمَّا التَّوَاجُدُ عِنْدَ السَّمَاعِ؛ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ رَقْدُ النَّفْسِ، وَاضْطِرَابُ الْقَلْبِ فَيَتَأَثَّرُ الظَّاهِرُ بِتَأَثُّرِ الْبَاطِنِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏؛ أَيِ‏:‏ اضْطَرَبَتْ رَغَبًا أَوْ رَهَبًا، وَعَنِ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ يَحْصُلُ اضْطِرَابُ الْجِسْمِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَوِ اطَّلَعَتْ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا‏}‏ الْآيَةَ، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ‏}‏‏.‏

فَإِنَّمَا التَّوَاجُدُ رِقَّةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَهَزَّةٌ قَلْبِيَّةٌ، وَنَهْضَةٌ رُوحَانِيَّةٌ، وَهَذَا هُوَ التَّوَاجُدُ عَنْ وَجْدٍ، وَلَا يُسْمَعُ فِيهِ نَكِيرٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَذَكَرَ السُّلَمِيُّ أَنَّهُ كَانَ يُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حَرَكَةِ الْوَجْدِ فِي وَقْتِ السَّمَاعِ، ‏(‏وَهِيَ‏)‏‏:‏ ‏{‏وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا‏}‏ الْآيَةَ، وَكَانَ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ الْقُلُوبَ مَرْبُوطَةٌ بِالْمَلَكُوتِ، حَرَّكَتْهَا أَنْوَارُ الْأَذْكَارِ، وَمَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنْ فُنُونِ السَّمَاعِ‏.‏

وَوَرَاءَ هَذَا تَوَاجُدٌ لَا عَنْ وَجْدٍ، فَهُوَ مَنَاطُ الذَّمِّ؛ لِمُخَالَفَةِ مَا ظَهَرَ لِمَا بَطَنَ، وَقَدْ يَعْزُبُ فِيهِ الْأَمْرُ عِنْدَ الْقَصْدِ إِلَى اسْتِنْهَاضِ الْعَزَائِمِ وَإِعْمَالِ الْحَرَكَةِ فِي يَقَظَةِ الْقَلْبِ النَّائِمِ‏:‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ‏!‏ ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا؛ فَتَبَاكُوا‏.‏

وَلَكِنْ شَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا‏.‏

وَأَمَّا مَنْ دَعَا طَائِفَةً إِلَى مَنْزِلِهِ؛ فَتُجَابُ دَعْوَتُهُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ قَصْدُهُ وَنِيَّتُهُ‏.‏

فَهَذَا مَا ظَهَرَ تَقْيِيدُهُ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، انْتَهَى مَا قَيَّدَهُ‏.‏

فَكَانَ مِمَّا ظَهَرَ لِي فِي هَذَا الْجَوَابِ‏:‏

أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ الصَّحِيحِ إِذَا كَانَ عَلَى حَسَبِ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِتُدَارِسِ الْقُرْآنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، حَتَّى يَتَعَلَّمَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَأْخُذَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الَّتِي جَاءَ فِي مِثْلِهَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ كَلَامِ اللَّهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الذِّكْرِ؛ فَإِنَّهُ اجْتِمَاعٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ؛ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، لَا الِاجْتِمَاعُ لِلذِّكْرِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ‏.‏

وَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى التَّذَكُّرِ لِنِعَمِ اللَّهِ، أَوِ التَّذَاكُرِ فِي الْعِلْمِ- إِنْ كَانُوا عُلَمَاءَ-، أَوْ كَانَ فِيهِمْ عَالِمٌ فَجَلَسَ إِلَيْهِ مُتَعَلِّمُونَ، أَوِ اجْتَمَعُوا يُذَكِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالْبُعْدِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَعْمَلُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ، وَعَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ؛ فَهَذِهِ الْمَجَالِسُ كُلُّهَا مَجَالِسُ ذِكْرٍ، وَهِيَ الَّتِي جَاءَ فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ مَا جَاءَ‏.‏

كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقَصَصِ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُونَ وَيُحَدِّثُ هَذَا بِمَا سَمِعَ وَهَذَا بِمَا سَمِعَ، فَأَمَّا أَنْ يُجْلِسُوا خَطِيبًا؛ فَلَا ‏"‏‏.‏

وَكَالَّذِي نَرَاهُ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ مِنَ اجْتِمَاعِ الطَّلَبَةِ عَلَى مُعَلِّمٍ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ، أَوْ عِلْمًا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ تَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الْعَامَّةُ، فَيُعَلِّمُهُمْ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِاللَّهِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ لِيَعْمَلُوا بِهَا، وَيُبَيِّنُ لَهُمُ الْمُحْدَثَاتِ الَّتِي هِيَ ضَلَالَةٌ لِيَحَذَرُوا مِنْهَا، وَيَتَجَنَّبُوا مَوَاطِنَهَا وَالْعَمَلَ بِهَا‏.‏

فَهَذِهِ مَجَالِسُ الذِّكْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ الَّتِي حَرَمَهَا اللَّهُ أَهْلَ الْبِدَعِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ سَلَكُوا طَرِيقَ التَّصَوُّفِ‏.‏

فَقَلَّمَا تَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يُحْسِنُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا عَلَى اللَّحْنِ؛ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، وَلَا يَعْرِفُ كَيْفَ يَتَعَبَّدُ، وَلَا كَيْفَ يَسْتَنْجِي، أَوْ يَتَوَضَّأُ، أَوْ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَكَيْفَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَهُمْ قَدْ حُرِمُوا مَجَالِسَ الذِّكْرِ الَّتِي تَغْشَاهَا الرَّحْمَةُ، وَتَنْزِلُ فِيهَا السَّكِينَةُ، وَتَحُفُّ بِهَا الْمَلَائِكَةُ‏؟‏‏!‏‏.‏

فَبِانْطِمَاسِ هَذَا النُّورِ عَنْهُمْ ضَلُّوا، فَاقْتَدَوْا بِجُهَّالٍ أَمْثَالِهِمْ، وَأَخَذُوا يَقْرَؤُنَ الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ فَيُنْزِلُونَهَا عَلَى آرَائِهِمْ لَا عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهَا، فَخَرَجُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيَقْرَأَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ يَكُونُ حَسَنَ الصَّوْتِ طَيِّبَ النَّغْمَةِ جَيِّدَ التَّلْحِينِ تُشْبِهُ قِرَاءَتُهُ الْغَنَاءَ الْمَذْمُومَ، ثُمَّ يَقُولُونَ‏:‏ تَعَالَوْا نَذْكُرُ اللَّهَ، فَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ؛ يُمْشُونَ ذَلِكَ الذِّكْرَ مُدَاوَلَةً، طَائِفَةٌ فِي جِهَةٍ، وَطَائِفَةٌ فِي جِهَةٍ أُخْرَى، عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ يُشْبِهُ الْغِنَاءَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا‏.‏

وَكَذَبُوا؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا؛ لَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَوْلَى بِإِدْرَاكِهِ وَفَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَإِلَّا؛ فَأَيْنَ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ الِاجْتِمَاعُ لِلذِّكْرِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ عَالِيًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏‏؟‏‏!‏‏.‏

وَالْمُعْتَدُونَ- فِي التَّفْسِيرِ- هُمُ الرَّافِعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ‏.‏

وَعَنْ أَبِي مُوسَى؛ قَالَ‏:‏ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا؛ إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ تَمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُكَبِّرُونَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ؛ لِيَكُونُوا مُمْتَثِلِينَ لِلْآيَةِ‏.‏

وَقَدْ جَاءَ عَنِ السَّلَفِ أَيْضًا النَّهْيُ عَنِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعُونَ، وَجَاءَ عَنْهُمُ النَّهْيُ عَنِ الْمَسَاجِدِ الْمُتَّخَذَةِ لِذَلِكَ، وَهِيَ الرُّبْطُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا بِالصُّفَّةِ‏.‏ ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ وَضَّاحٍ وَغَيْرُهُمَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ‏.‏

فَالْحَاصِلُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ حَسَّنُوا الظَّنَّ بِأَنَّهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ ‏(‏مُصِيبُونَ‏)‏، وَأَسَاءُوا الظَّنَّ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ أَهْلِ الْعَمَلِ الرَّاجِحِ الصَّرِيحِ وَأَهْلِ الدِّينِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ لَمَّا طَالَبَهُمْ لِسَانُ الْحَالِ بِالْحُجَّةِ؛ أَخَذُوا كَلَامَ الْمُجِيبِ وَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ، وَقَوَّلُوهُ مَا لَا يَرْضَى بِهِ الْعُلَمَاءُ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ آخَرَ؛ إِذْ سُئِلَ عَنْ ذِكْرِ فُقَرَاءِ زَمَانِنَا‏؟‏ فَأَجَابَ بِأَنَّ مَجَالِسَ الذِّكْرِ الْمَذْكُورَةَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ؛ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا الْقُرْآنُ، وَالَّتِي يُتَعَلَّمُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالدِّينُ، وَالَّتِي تَعْمُرُ بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ بِالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ كَمَجَالِسِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَأَضْرَابِهِمْ‏.‏

أَمَّا مَجَالِسُ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ فَقَدْ صَرَّحَ بِهَا فِي حَدِيثِ الْمَلَائِكَةِ السَّيَّاحِينَ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ جَهْرًا بِالْكَلِمَاتِ، وَلَا رَفْعَ أَصْوَاتٍ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ، لَكِنَّ الْأَصْلَ الْمَشْرُوعَ إِعْلَانُ الْفَرَائِضِ وَإِخْفَاءُ النَّوَافِلِ، وَأَتَى بِالْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا‏}‏ وَبِحَدِيثِ‏:‏ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَفُقَرَاءُ الْوَقْتِ قَدْ تَخَيَّرُوا أَوْقَاتًا وَتَمَيَّزُوا بِأَصْوَاتٍ هِيَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى الِاقْتِدَاءِ، وَطَرِيقَتُهُمْ إِلَى اتِّخَاذِهَا مَأْكَلَةً وَصِنَاعَةً أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى اعْتِدَادِهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً‏.‏

انْتَهَى مَعْنَاهُ عَلَى اخْتِصَارِ أَكْثَرِ الشَّوَاهِدِ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَتْوَاهُ الْمُحْتَجَّ بِهَا لَيْسَ مَعْنَاهَا مَا رَامَ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدَعَةُ؛ فَإِنَّهُ سُئِلَ فِي هَذِهِ عَنْ فُقَرَاءِ الْوَقْتِ، فَأَجَابَ بِذَمِّهِمْ، وَأَنَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَنَاوَلُ عَمَلَهُمْ، وَفِي الْأُولَى إِنَّمَا سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَهَذَا السُّؤَالُ يَصْدُقُ عَلَى قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ مَثَلًا فِي الْمَسْجِدِ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ، أَوْ يَتْلُو الْقُرْآنَ لِنَفْسَهُ؛ كَمَا يَصْدُقُ عَلَى مَجَالِسِ الْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَسَعُهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ مَحَاسِنَ ذَلِكَ وَالثَّوَابَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ؛ بَيَّنَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ الْمُوَفَّقُ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ ‏(‏الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ‏)‏‏.‏

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِنْشَادَاتِ الشِّعْرِيَّةِ؛ فَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُنْشِدَ الشِّعْرَ الَّذِي لَا رَفَثَ فِيهِ وَلَا يُذَكِّرُ بِمَعْصِيَةٍ، وَأَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِهِ إِذَا أُنْشِدَ، عَلَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ يُنْشَدُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَنْشُدُ وَيُسْمَعُ لِفَوَائِدَ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ الْمُنَافَحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ نُصِبَ لَهُ مِنْبَرٌ فِي الْمَسْجِدِ يُنْشِدُ عَلَيْهِ إِذَا وَفَدَتِ الْوُفُودُ، حَتَّى يَقُولُوا‏:‏ خَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، وَيَقُولُ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ اهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ فَضْلِهِ فِي غِنَائِهِمْ بِالشِّعْرِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ لِحَاجَاتِهِمْ وَيَسْتَشْفِعُونَ بِتَقْدِيمِ الْأَبْيَاتِ بَيْنَ يَدَيْ طَلَبَاتِهِمْ؛ كَمَا فَعَلَ ابْنُ زُهَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأُخْتُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ؛ وَمِثْلُ مَا يَفْعَلُ الشُّعَرَاءُ مَعَ الْكُبَرَاءِ؛ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الشِّعْرِ ذِكْرُ مَا لَا يَجُوزُ، وَنَظِيرُهُ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ تَقْدِيمُ الشُّعَرَاءِ لِلْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ قِطَعًا مِنْ أَشْعَارِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ حَاجَاتِهِمْ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ فَقُرَاءُ الْوَقْتِ الْمُجَرَّدُونَ لِلسِّعَايَةِ عَلَى النَّاسِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ، وَفِي الْحَدِيثِ‏:‏ لَا تَصِحُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ، فَإِنَّهُمْ يُنْشِدُونَ الْأَشْعَارَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ وَذِكْرُ رَسُولِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ فِيهَا مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، وَيَتَمَنْدَلُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ آلَةَ الْأَخْذِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، لَكِنْ بِأَصْوَاتٍ مُطْرِبَةٍ؛ يُخَافُ بِسَبَبِهَا عَلَى النِّسَاءِ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّهُمْ رُبَّمَا أَنْشَدُوا الشِّعْرَ فِي الْأَسْفَارِ الْجِهَادِيَّةِ؛ تَنْشِيطًا لَكِلَالِ النُّفُوسِ، وَتَنْبِيهًا لِلرَّوَاحِلِ أَنْ تَنْهَضَ فِي أَثْقَالِهَا، وَهَذَا حَسَنٌ‏.‏

لَكِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ تَحْسِينِ النَّغَمَاتِ مَا يَجْرِي مَجْرَى مَا النَّاسُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، بَلْ كَانُوا يُنْشِدُونَ الشِّعْرَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَتَعَلَّمُوا هَذِهِ التَّرْجِيعَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ بِعَدَهُمْ، بَلْ كَانُوا يُرَقِّقُونَ الصَّوْتَ وَيَمُطِّطُونَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلِيقُ بِأُمِّيَّةِ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا صَنَائِعَ الْمُوسِيقَى، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلْذَاذٌ وَلَا إِطْرَابٌ يُلْهِي، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ النَّشَاطِ؛ كَمَا كَانَ الْحَبَشَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَحْدُوَانِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَمَا كَانَ الْأَنْصَارُ يَقُولُونَ عِنْدَ حَفْرِ الْخَنْدَقِ‏:‏

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا *** عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا

فَيُجِيبُهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏(‏بِقَوْلِهِ‏)‏‏:‏

اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ *** فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ

وَمِنْهَا‏:‏ أَنْ يَتَمَثَّلَ الرَّجُلُ بِالْبَيْتِ أَوِ الْأَبْيَاتِ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي نَفْسِهِ؛ لِيَعِظَ نَفْسَهُ أَوْ يُنَشِّطَهَا أَوْ يُحَرِّكَهَا لِمُقْتَضَى مَعْنَى الشِّعْرِ، أَوْ يَذَكِّرَهَا ذِكْرًا مُطْلَقًا‏:‏

كَمَا حَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَافِيُّ الصُّوفِيُّ عَنِ الْحَسَنِ‏:‏ ‏"‏ أَنَّ قَوْمًا أَتَوْا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالُوا‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ‏!‏ إِنَّ لَنَا إِمَامًا إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ تَغَنَّى، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ مَنْ هُوَ‏؟‏ فَذُكِرَ لَهُ الرَّجُلُ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ قُومُوا بِنَا إِلَيْهِ؛ فَإِنَّا إِنْ وَجَّهْنَا إِلَيْهِ يَظُنُّ أَنَّا تَجَسَّسْنَا عَلَيْهِ أَمْرَهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَقَامَ عُمَرُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَوُا الرَّجُلَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَنْ نَظَرَ إِلَى عُمَرَ قَامَ فَاسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا حَاجَتُكَ‏؟‏ وَمَا جَاءَ بِكَ‏؟‏ إِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ لَنَا؛ كُنَّا أَحَقَّ بِذَلِكَ مِنْكَ أَنْ نَأْتِيَكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ لَكَ؛ فَأَحَقُّ مَنْ عَظَّمْنَاهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ عُمَرُ‏:‏ وَيَحَكَ‏!‏ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ سَاءَنِي، قَالَ‏:‏ وَمَا هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَتَتَمَجَّنُ فِي عِبَادَتِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَكِنَّهَا عِظَةٌ أَعِظُ بِهَا نَفْسِي‏.‏ قَالَ عُمَرُ‏:‏ قُلْهَا، فَإِنْ كَانَ كَلَامًا حَسَنًا قُلْتُهُ مَعَكَ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا نَهَيْتُكَ عَنْهُ‏.‏ فَقَالَ‏:‏

وَفُؤَادٍ كُلَّمَا عَاتَبْتُهُ *** فِي مَدَى الْهِجْرَانِ يَبْغِي تَعَبِي

لَا أَرَاهُ الدَّهْرَ إِلَّا لَاهِيًا *** فِي تَمَادِيهِ فَقَدْ بَرَّحَ بِي

يَا قَرِينَ السُّوءِ مَا هَذَا الصِّبَا *** فَنِيَ الْعُمْرُ كَذَا فِي اللَّعِبِ

وَشَبَابٌ بَانَ عَنِّي فَمَضَى *** قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ مِنْهُ أَرَبِي

مَا أُرَجِّي بَعْدَهُ إِلَّا الْفَنَا *** ضَيَّقَ الشَّيْبُ عَلَيَّ مَطْلَبِي

وَيْحَ نَفْسِي لَا أَرَاهَا أَبَدًا *** فِي جَمِيلٍ لَا وَلَا فِي أَدَبِ

نَفْسُ لَا كُنْتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى *** رَاقِبِي الْمَوْلَى وَخَافِي وَارْهَبِي

قَالَ‏:‏ فَقَالَ عُمَرُ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏

نَفْسُ لَا كُنْتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى *** رَاقِبِي الْمَوْلَى وَخَافِي وَارْهَبِي

ثُمَّ قَالَ عُمَرُ‏:‏ ‏"‏ عَلَى هَذَا فَلْيُغَنِّ مَنْ غَنَّى ‏"‏‏.‏

فَتَأَمَّلُوا قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ بَلَغَنِي أَمْرٌ سَاءَنِي ‏"‏، مَعَ قَوْلِهِ‏:‏ أَتَتَمَجَّنُ فِي عِبَادَتِكَ؛ فَهُوَ مِنْ أَشَدِّ مَا يَكُونُ فِي الْإِنْكَارِ، حَتَّى أَعْلَمَهُ أَنَّهُ يُرَدِّدُ لِسَانُهُ أَبْيَاتَ حِكْمَةٍ فِيهَا عِظَةٌ، فَحِينَئِذٍ أَقَرَّهُ وَسَلَّمَ لَهُ‏.‏

هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ كَانَ فِعْلَ الْقَوْمِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَقْتَصِرُوا فِي التَّنْشِيطِ لِلنُّفُوسِ وَلَا الْوَعْظِ عَلَى مُجَرَّدِ الشِّعْرِ، بَلْ وَعَظُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُلِّ مَوْعِظَةٍ، وَلَا كَانُوا يَسْتَحْضِرُونَ لِذِكْرِ الْأَشْعَارِ الْمُغَنِّينَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ طَلَبَاتِهِمْ، وَلَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْغِنَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي أَزَمَانِنَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَهُمْ حِينَ خَالَطَ الْعَجَمُ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَافِيُّ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ الْمَاضِينَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا يُلَحِّنُونَ الْأَشْعَارَ وَلَا يُنَغِّمُونَهَا بِأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّغَمِ؛ إِلَّا مِنْ وَجْهِ إِرْسَالِ الشِّعْرِ وَاتِّصَالِ الْقَوَافِي، فَإِنْ كَانَ صَوْتُ أَحَدِهِمْ أَشْجَنَ مِنْ صَاحِبِهِ؛ كَانَ ذَلِكَ مَرْدُودًا إِلَى أَصْلِ الْخِلْقَةِ، لَا يَتَصَنَّعُونَ وَلَا يَتَكَلَّفُونَ ‏"‏‏.‏

هَذَا مَا قَالَ، فَلِذَلِكَ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ، وَحَتَّى سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْغِنَاءِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّمَا يَفْعَلُهُ الْفُسَّاقُ ‏"‏‏.‏

وَلَا كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ أَيْضًا يَعُدُّونَ الْغِنَاءَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ طَرِيقَةِ التَّعَبُّدِ وَطَلَبِ رِقَّةِ النُّفُوسِ وَخُشُوعِ الْقُلُوبِ، حَتَّى يَقْصِدُونَهُ قَصْدًا، وَيَتَعَمَّدُوا اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ فَيَجْتَمِعُوا لِأَجَلِ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ وَالشَّطْحِ وَالرَّقْصِ وَالتَّغَاشِي وَالصِّيَاحِ وَضَرْبِ الْأَقْدَامِ عَلَى وَزْنِ إِيقَاعِ الْكَفِّ أَوِ الْآلَاتِ وَمُوَافَقَةِ النَّغَمَاتِ‏.‏

هَلْ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَنْهُ وَعَمَلِهِ الْمَنْقُولِ فِي الصِّحَاحِ أَوْ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَوْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ ‏[‏فِي‏]‏ ذَلِكَ أَثَرٌ‏؟‏ أَوْ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ مَا يُصَرِّحُ بِجَوَازِ مِثْلِ هَذَا‏؟‏‏!‏

بَلْ سُئِلَ عَنْ إِنْشَادِ الْأَشْعَارِ بِالصَّوَامِعِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُؤَذِّنُونَ الْيَوْمَ فِي الدُّعَاءِ بِالْأَسْحَارِ‏؟‏ فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مُضَافَةٌ إِلَى بِدْعَةٍ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِالصَّوَامِعِ بِدْعَةٌ، وَإِنْشَادَ ‏(‏الشِّعْرِ‏)‏ وَالْقَصَائِدِ بِدْعَةٌ أُخْرَى، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَمَنِ السَّلَفِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ‏.‏

كَمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ أَمَامَ الْجِنَازَةِ‏؟‏ فَأَجَابَ بِأَنَّ السُّنَّةَ فِي اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ الصَّمْتُ وَالتَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ، وَأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ السَّلَفِ، وَاتِّبَاعُهُمْ سُنَّةٌ، وَمُخَالَفَتُهُمْ بِدْعَةٌ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ‏:‏ لَنْ يَأْتِيَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا‏.‏

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ فِي التَّوَاجُدِ عِنْدَ السَّمَاعِ؛ مِنْ أَنَّهُ أَثَرُ رِقَّةِ النَّفْسِ وَاضْطِرَابِ الْقَلْبِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ الْأَثَرَ مَا هُوَ؛ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ مَعْنَى الرِّقَّةِ، وَلَا عَرَجَ عَلَيْهَا بِتَفْسِيرٍ يُرْشِدُ إِلَى فَهْمِ التَّوَاجُدِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ، وَإِنَّمَا فِي كَلَامِهِ أَنَّ ثَمَّ أَثَرًا ظَاهِرًا يَظْهَرُ عَلَى جِسْمِ الْمُتَوَاجِدِ، وَذَلِكَ الْأَثَرُ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، ثُمَّ التَّوَاجُدُ ‏(‏يَحْتَاجُ‏)‏ إِلَى شَرْحٍ بِحَسَبَ مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ فِيهِ‏.‏

وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي التَّوَاجُدِ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ مَا كَانَ يَبْدُو عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْبُكَاءُ وَاقْشِعْرَارُ الْجِلْدِ التَّابِعِ لِلْخَوْفِ الْآخِذِ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ، وَبِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ، حَيْثُ قَالَ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ‏}‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏‏.‏

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخَيْرِ ‏(‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏)‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ ‏(‏يَعْنِي‏:‏ مِنَ الْبُكَاءِ‏)‏ وَالْأَزِيزُ صَوْتٌ يُشْبِهُ ‏(‏صَوْتَ‏)‏ غَلَيَانِ الْقِدْرِ‏.‏

وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لِوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ‏}‏، فَرَبَى لَهَا رَبْوَةٌ عِيدَ مِنْهَا عِشْرِينَ يَوْمًا‏.‏

وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ؛ قَالَ‏:‏ ‏"‏ صَلَّى بِنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ‏(‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏)‏ صَلَاةَ الْفَجْرَ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ يُوسُفَ، فَقَرَأَهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ‏:‏ ‏{‏وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏؛ بَكَى حَتَّى انْقَطَعَ ‏"‏‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ ‏"‏ لِمَا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ‏}‏؛ بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ‏.‏

وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ؛ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَمَّا قَدِمَ أَهْلُ الْيَمَنِ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ سَمِعُوا الْقُرْآنَ، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ هَكَذَا كُنَّا حَتَّى قَسَتْ قُلُوبُنَا ‏"‏‏.‏

وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى‏:‏ ‏"‏ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ مَرْيَمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ‏:‏ ‏{‏خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏}‏، فَسَجَدَ بِهَا، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ؛ قَالَ‏:‏ هَذِهِ السَّجْدَةُ قَدْ سَجَدْنَاهَا، فَأَيْنَ الْبُكَاءُ‏؟‏‏.‏

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ أَثَرَ الْمَوْعِظَةِ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ تَصَنُّعٍ إِنَّمَا هُوَ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَا أَشْبَهَهَا‏.‏

وَمِثْلُهُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏؛ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ‏:‏

وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ حَضَرُوا عِنْدَ مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسَ الْكَافِرِ، فَتَحَرَّكَتْ فَأْرَةٌ أَوْ هِرَّةٌ خَافَ لِأَجْلِهَا الْمَلِكُ، فَنَظَرَ الْفِتْيَةُ إِلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ قَامُوا مُصَرِّحِينَ بِالتَّوْحِيدِ، مُعْلِنِينَ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، مُنْكِرِينَ عَلَى الْمَلِكِ نِحْلَةَ الْكُفْرِ، بَاذِلِينَ أَنْفُسَهُمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ، فَأَوْعَدَهُمْ ثُمَّ أَخْلَفَهُمْ، فَتَوَاعَدُوا الْخُرُوجَ إِلَى الْغَارِ‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى أَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ‏.‏

فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ صَعْقٌ وَلَا صِيَاحٌ وَلَا شَطْحٌ وَلَا تَغَاشٌ مُسْتَعْمَلٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ شَأْنُ فُقَرَائِنَا الْيَوْمَ‏.‏

وَخَرَّجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي ‏"‏ تَفْسِيرِهِ ‏"‏ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ؛قَالَ‏:‏ ‏"‏ قُلْتُ لِجَدَّتِي أَسْمَاءَ‏:‏ كَيْفَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَؤُوا الْقُرْآنَ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ كَانُوا كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ‏:‏ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ، وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ‏.‏ قُلْتُ‏:‏ إِنَّ نَاسًا هَاهُنَا إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ تَأْخُذُهُمْ عَلَيْهِ غَشْيَةٌ‏.‏ فَقَالَتْ‏:‏ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ أَحَادِيثِ أَبِي حَازِمٍ؛قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَاقِطٌ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَقَالَ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَوْ سَمِعَ اللَّهَ يُذْكَرُ؛ خَرَّ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ‏.‏ قَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ وَاللَّهِ إِنَّا لَنَخْشَى اللَّهَ وَلَا نَسْقُطُ‏!‏ وَهَذَا إِنْكَارٌ‏.‏

وَقِيلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا‏:‏ إِنَّ قَوْمًا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ يُغْشَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَتْ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ الْقُرْآنَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ تَنْزِفَ عَنْهُ عُقُولُ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ‏(‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏)‏‏:‏ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقَوْمِ يُقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فَيَصْعَقُونَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ ذَلِكَ فِعْلُ الْخَوَارِجِ ‏"‏‏!‏‏.‏

وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ‏(‏أَنَّ‏)‏ ابْنَ الزُّبَيْرِ ‏(‏رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ‏)‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ جِئْتُ أَبِي، فَقَالَ‏:‏ أَيْنَ كُنْتَ‏؟‏، فَقُلْتُ‏:‏ وَجَدْتُ أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فَيَرْعَدُ أَحَدُهُمْ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَقَعَدْتُ مَعَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ لَا تَقْعُدْ بَعْدَهَا‏.‏ فَرَآنِي كَأَنِّي لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ فِيَّ، فَقَالَ‏:‏ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَتْلُوَانِ الْقُرْآنَ، فَلَا يُصِيبُهُمْ هَذَا، أَفَتَرَاهُمْ أَخْشَعَ لِلَّهِ مَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ‏؟‏‏!‏ فَرَأَيْتُ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَرَكْتُهُمْ ‏"‏‏.‏

وَهَذَا يَشْعُرُ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَعَمُّلٌ وَتَكَلُّفٌ لَا يَرْضَى بِهِ أَهْلُ الدِّينِ‏.‏

وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنِ الرَّجُلِ يُقَرَأُ عِنْدَهُ فَيَصْعَقُ‏؟‏، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ مِيعَادُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى حَائِطٍ، ثُمَّ يُقْرَأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنْ وَقَعَ؛ فَهُوَ كَمَا قَالَ ‏"‏‏.‏

وَهَذَا الْكَلَامُ حَسَنٌ فِي الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَ الْخَوَارِجِ نَوْعًا مِنَ الْقِحَّةِ فِي النُّفُوسِ الْمَائِلَةِ عَنِ الصَّوَابِ، وَقَدْ تُغَالِطُ النَّفْسُ فِيهِ فَتَظُنُّهُ انْفِعَالًا صَحِيحًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا هُوَ وَلَا مَا يُشْبِهُهُ، فَإِنَّ مَبْنَاهُمْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ، فَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَعْمِلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ هَذِهِ اللُّعَبَ الْقَبِيحَةَ الْمُسْقِطَةَ لِلْأَدَبِ وَالْمُرُوءَةِ‏.‏

نَعَمْ؛ قَدْ ‏(‏لَا‏)‏ يُنْكِرُ اتِّفَاقُ الْغَشْيِ وَنَحْوِهِ أَوِ الْمَوْتِ لِمَنْ سَمِعَ الْمَوْعِظَةَ بِحَقٍّ، فَضَعُفَ عَنْ مُصَابَرَةِ الرِّقَّةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِهَا، فَجَعَلَ ابْنُ سِيرِينَ ذَلِكَ الضَّابِطَ مِيزَانًا لِلْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْقِحَّةَ لَا تَبْقَى مَعَ خَوْفِ السُّقُوطِ ‏(‏مِنَ الْحَائِطِ‏)‏، فَقَدِ اتَّفَقَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ النَّوَادِرِ، وَظَهَرَ فِيهَا عُذْرُ التَّوَاجُدِ‏.‏

فَحُكِيَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ؛ قَالَ‏:‏ ‏"‏ خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَعَنَا الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، فَمَرَرْنَا عَلَى حَدَّادٍ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَنْظُرُ إِلَى حَدِيدَةٍ فِي النَّارِ، فَنَظَرَ الرَّبِيعُ إِلَيْهَا، فَتَمَايَلَ لِيَسْقُطَ، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَضَى كَمَا هُوَ حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ عَلَى أَتُونٍ، فَلَمَّا رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالنَّارُ تَلْتَهِبُ فِي جَوْفِهِ، قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا‏}‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا‏}‏، فَصَعِقَ الرَّبِيعُ؛يَعْنِي‏:‏ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَاحْتَمَلْنَاهُ، فَأَتَيْنَا بِهِ أَهْلَهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَرَابَطَهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الظُّهْرِ فَلَمْ يَفِقْ، فَرَابَطَهُ إِلَى الْمَغْرِبِ فَأَفَاقَ، وَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى أَهْلِهِ ‏"‏‏.‏

فَهَذِهِ حَالَاتٌ طَرَأَتْ لِوَاحِدٍ مَنْ أَفَاضِلِ التَّابِعِينَ بِمَحْضَرِ صَحَابِيٍّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ طَاقَتِهِ، فَصَارَ بِتِلْكَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَا حَرَجَ إِذًا‏.‏

وَحُكِيَ أَنْ شَابًّا كَانَ يَصْحَبُ الْجُنَيْدَ ‏(‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏)‏ إِمَامَ الصُّوفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ، فَكَانَ الشَّابُّ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الذِّكْرِ يَزْعَقُ، فَقَالَ لَهُ الْجُنَيْدُ يَوْمًا‏:‏ ‏"‏ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى لَمْ تَصْحَبْنِي ‏"‏، فَكَانَ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا يَتَغَيَّرُ وَيَضْبِطُ نَفْسَهُ حَتَّى كَانَ يَقْطُرُ ‏(‏الْعَرَقُ مِنْهُ‏)‏ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ بَدَنِهِ قَطْرَةً، فَيَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ صَاحَ صَيْحَةً تَلِفَتْ نَفْسُهُ‏.‏

فَهَذَا الشَّابُّ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ مِصْدَاقُ مَا قَالَهُ السَّلَفُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ صَيْحَتُهُ الْأَوْلَى غَلَبَتْهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ بِشِدَّةٍ، كَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، وَعَلَيْهِ أَدَّبَهُ الشَّيْخُ حِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَوَعَدَهُ بِالْفُرْقَةِ، إِذْ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّ تِلْكَ الزَّعْقَةَ مِنْ بَقَايَا رُعُونَةِ النَّفْسِ، فَلَمَّا خَرَجَ الْأَمْرُ عَنْ كَسْبِهِ- بِدَلِيلِ مَوْتِهِ-؛ كَانَتْ صَيْحَتُهُ عَفْوًا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَشُمُّوا مِنْ أَوْصَافِ الْفُضَلَاءِ رَائِحَةً، فَأَخَذُوا بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ، فَأَبْرَزَ لَهُمْ هَوَاهُمُ التَّشَبُّهَ بِالْخَوَارِجِ، وَيَا لَيْتَهُمْ وَقَفُوا عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ الْمَذْمُومِ، وَلَكِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الرَّقْصَ وَالزَّمْرَ وَالدَّوَرَانَ وَالضَّرْبَ عَلَى الصُّدُورِ، وَبَعْضُهُمْ يَضْرِبُ عَلَى رَأْسِهِ‏.‏‏.‏‏.‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ الْمُضْحِكِ لِلْحَمْقَى؛ لِكَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، الْمُبْكِي لِلْعُقَلَاءِ رَحْمَةً لَهُمْ، وَلَمْ يُتَّخَذْ مِثْلُ هَذَا طَرِيقًا إِلَى اللَّهِ وَتَشَبُّهًا بِالصَّالِحِينَ‏.‏

وَقَدْ صَحَّ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ‏:‏ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً؛ ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ‏.‏‏.‏‏.‏، الْحَدِيثَ‏.‏

فَقَالَ الْإِمَامُ الْآجُرِّيُّ الْعَالِمُ السُّنِّيُّ أَبُو بَكْرٍ ‏(‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏)‏‏:‏ ‏"‏ مَيِّزُوا هَذَا الْكَلَامَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ‏:‏ صَرَخْنَا مِنْ مَوْعِظَةٍ، وَلَا زَعَقْنَا، وَلَا طَرَقْنَا عَلَى رَؤُوسِنَا، وَلَا ضَرَبْنَا عَلَى صُدُورِنَا، وَلَا زَفَنَّا، وَلَا رَقَصْنَا ‏"‏؛ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ؛ يَصْرُخُونَ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ وَيَزْعَقُونَ وَيَتَغَاشَوْنَ‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ يَلْعَبُ بِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَيُقَالُ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا‏:‏ اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْدَقُ النَّاسِ مَوْعِظَةً، وَأَنْصَحُ النَّاسَ لِأُمَّتِهِ، وَأَرِقُّ النَّاسِ قَلْبًا، وَخَيْرَ النَّاسِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ- لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ عَاقِلٌ-؛ مَا صَرَخُوا عِنْدَ مَوْعِظَتِهِ وَلَا زَعَقُوا وَلَا رَقَصُوا وَلَا زَفَنُوا، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا؛ لَكَانُوا أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا أَنْ يَفْعَلُوهُ بَيْنَ يَدَيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ بِدْعَةٌ وَبَاطِلٌ وَمُنْكَرٌ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ ‏"‏‏.‏ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ‏.‏

وَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي الْأَمْرِ ‏(‏كُلِّهِ‏)‏ الْمُوجِبِ لِلتَّأَثُّرِ الظَّاهِرِ فِي السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُدَّعِينَ، فَوَجَدْنَا الْأَوَّلِينَ يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْأَثَرُ بِسَبَبِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَ بِسَبَبِ سَمَاعِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَبِسَبَبِ رُؤْيَةٍ اعْتِبَارِيَّةٍ؛ كَمَا فِي قِصَّةِ الرَّبِيعِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ لِلْحَدَّادِ وَالْأَتُونِ وَهُوَ مَوْقَدُ النَّارِ، وَلِسَبَبِ قِرَاءَةٍ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ- فِيمَا نَقَلَ الْعُلَمَاءُ- يَسْتَعْمِلُونَ التَّرَنُّمَ بِالْأَشْعَارِ لِتَرِقَّ نُفُوسُهُمْ فَتَتَأَثَّرُ ظَوَاهِرُهُمْ، وَطَائِفَةُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الضِّدِّ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْوَعْظَ وَالتَّذْكِيرَ، فَلَا تَتَأَثَّرُ ظَوَاهِرُهُمْ، فَإِذَا قَامَ الْمُزَمِّرُ؛ تَسَابَقُوا إِلَى حَرَكَاتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ لَهُمْ، فَبِالْحَرِيِّ أَلَّا يَتَأَثَّرُوا عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمَكْرُوهَةِ الْمُبْتَدَعَةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يُنْتِجُ إِلَّا حَقًّا؛ كَمَا أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُنْتِجُ إِلَّا بَاطِلًا‏.‏

وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَنْبَنِي النَّظَرُ فِي حَقِيقَةُ الرِّقَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ الْمُحَرِّكَةُ لِلظَّاهِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّقَّةَ ضِدُّ الْغِلَظِ، فَنَقُولُ‏:‏ هَذَا رَقِيقٌ لَيْسَ بِغَلِيظٍ، وَمَكَانٌ رَقِيقٌ إِذَا كَانَ لَيِّنَ التُّرَابِ، وَضِدُّهُ الْغَلِيظُ، فَإِذَا وُصِفَ بِذَلِكَ الْقَلْبُ؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى لِينِهِ وَتَأَثُّرِهِ، ضِدُّ الْقَسْوَةِ‏.‏

وَيَشْعُرُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ الرَّقِيقَ؛ إِذَا أُورِدَتْ عَلَيْهِ الْمَوْعِظَةُ؛ خَضَعَ لَهَا وَلَانَ وَانْقَادَ‏.‏

وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏‏.‏

فَإِنَّ الْوَجَلَ تَأَثُّرٌ وَلِينٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ الْمَوْعِظَةِ، فَتَرَى الْجِلْدَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَقْشَعِرُّ، وَالْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَاللِّينُ إِذَا حَلَّ بِالْقَلْبِ- وَهُوَ بَاطِنُ الْإِنْسَانِ- حَلَّ بِالْجِلْدِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ- وَهُوَ ظَاهِرُ الْإِنْسَانِ-؛ فَقَدْ حَلَّ الِانْفِعَالُ بِمَجْمُوعِ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي السُّكُونَ لَا الْحَرَكَةَ، وَالِانْزِعَاجَ وَالسُّكُونَ لَا الصِّيَاحَ، وَهِيَ حَالَةُ السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ- كَمَا تَقَدَّمَ-‏.‏

فَإِذَا رَأَيْتَ أَحَدًا سَمِعَ مَوْعِظَةً أَيَّ مَوْعِظَةٍ كَانَتْ؛ فَيَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَثَرِ مَا ظَهَرَ عَلَى السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ عَلِمْتَ أَنَّهَا رِقَّةٌ هِيَ أَوَّلُ الْوَجْدِ، وَأَنَّهَا صَحِيحَةٌ لَا اعْتِرَاضَ فِيهَا‏.‏

وَإِذَا رَأَيْتَ أَحَدًا سَمِعَ مَوْعِظَةً قُرْآنِيَّةً أَوْ سُنِّيَّةً أَوْ حِكْمِيَّةً؛ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ شَيْءٌ، حَتَّى يَسْمَعَ شِعْرًا مُرَنَّمًا أَوْ غِنَاءً مُطْرِبًا فَتَأَثَّرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ انْزِعَاجٌ بِقِيَامٍ أَوْ دَوَرَانٍ أَوْ شَطْحٍ أَوْ صِيَاحٍ أَوْ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ‏.‏

وَسَبَبُهُ أَنِ الَّذِي حَلَّ بِبَاطِنِهِ لَيْسَ بِالرِّقَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا، بَلْ هُوَ الطَّرَبُ الَّذِي يُنَاسِبُ الْغِنَاءَ؛ لِأَنَّ الرِّقَّةَ ضِدُّ الْقَسْوَةِ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَالطَّرَبُ ضِدُّ الْخُشُوعِ- كَمَا يَقُولُهُ الصُّوفِيَّةُ-؛ وَالطَّرَبُ مُنَاسِبٌ لِلْحَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَوَرَانُ الطِّبَاعِ، وَلِذَلِكَ اشْتَرَكَ فِيهِ مَعَ الْإِنْسَانِ الْحَيَوَانُ؛ كَالْإِبِلِ وَالنَّحْلِ، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنَ الْأَطْفَالِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالْخُشُوعُ ضِدُّهُ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى السُّكُونِ، وَقَدْ فُسِّرَ بِهِ لُغَةً؛ كَمَا فُسِّرَ الطَّرَبُ بِأَنَّهُ خِفَّةٌ تَصْحَبُ الْإِنْسَانَ مِنْ حُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ‏.‏

قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

طَرَبَ الْوَالِهِ أَوْ كَالْمُخْتَبَلِ وَالتَّطْرِيبُ‏:‏ مَدُّ الصَّوْتِ وَتَحْسِينُهُ‏.‏

وَبَيَانُهُ‏:‏ أَنَّ الشِّعْرَ الْمُغَنَّى بِهِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مَا فِيهِ ‏(‏مِنَ‏)‏ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْقُلُوبِ، فَفِيهَا تَعْمَلُ، وَبِهَا تَنْفَعِلُ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُنْسَبُ السَّمَاعُ إِلَى الْأَرْوَاحِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا فِيهِ مِنَ النَّغَمَاتِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى النِّسَبِ التَّلْحِينِيَّةِ، وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الطِّبَاعِ، فَيُهَيِّجُهَا إِلَى مَا يُنَاسِبُهَا، وَهِيَ الْحَرَكَاتُ عَلَى اخْتِلَافِهَا‏.‏

فَكُلُّ تَأَثُّرٍ فِي الْقَلْبِ مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ تَحْصُلُ عَنْهُ آثَارُ الْكَوْنِ وَالْخُضُوعِ؛ فَهُوَ رِقَّةٌ، وَهُوَ التَّوَاجُدُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ كَلَامُ الْمُجِيبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَحْمُودٌ‏.‏

وَكُلُّ تَأَثُّرٍ يَحْصُلُ عَنْهُ ضِدُّ السُّكُونِ؛ فَهُوَ طَرَبٌ لَا رِقَّةَ فِيهِ وَلَا تَوَاجُدَ، وَلَا هُوَ عِنْدَ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَحْمُودٌ‏.‏

لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ التَّوَاجُدِ- فِي الْغَالِبِ- إِلَّا الثَّانِي الْمَذْمُومَ، فَهُمْ إِذًا مُتَوَاجِدُونَ بِالنَّغَمِ وَاللُّحُونِ، لَا يُدْرِكُونَ مِنْ مَعَانِي الْحِكْمَةِ شَيْئًا، فَقَدْ بَاؤُوا إِذًا بِأَخْسَرِ الصَّفْقَتَيْنِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ‏.‏

وَإِنَّمَا جَاءَهُمُ الْغَلَطُ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَاطِ الْمَنَاطَيْنِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ‏}‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا‏}‏؛ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ‏(‏تَعَالَى‏)‏‏:‏ ‏{‏إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا‏}‏؛ أَيْنَ فِيهِ أَنَّهُمْ قَامُوا يَرْقُصُونَ أَوْ يَزْفِنُونَ أَوْ يَدُورُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ‏؟‏ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ الدَّاخِلِ تَحْتَ هَذَا الْجَوَابِ‏.‏

وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ لَفْظُ السَّمَاعِ غَيْرَ مُفَسَّرٍ، ‏[‏فَـ‏]‏ فَهِمَ مِنْهُ الْمُحْتَجُّ أَنَّهُ الْغِنَاءُ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ شِيعَتُهُ، وَهُوَ فَهْمُ عُمُومِ النَّاسِ، لَا فَهْمُ الصُّوفِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ صَوْتٍ أَفَادَ حِكْمَةً يَخْضَعُ لَهَا الْقَلْبُ، وَيَلِينُ لَهَا الْجِلْدُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَاجَدُونَ عِنْدَهُ التَّوَاجُدَ الْمَحْمُودَ، فَسَمَاعُ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ سَمَاعٌ، وَكَذَلِكَ سَمَاعُ السُّنَّةِ وَكَلَامُ الْحُكَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ حَتَّى أَصْوَاتُ الطَّيْرِ وَخَرِيرُ الْمَاءِ وَصَرِيرُ الْبَابِ، وَمِنْهُ سَمَاعُ الْمَنْظُورِ أَيْضًا إِذَا أَعْطَى حِكْمَةً، وَلَا يَسْتَمِعُونَ هَذَا الْأَخِيرَ إِلَّا فِي الْفَرَطِ بَعْدَ الْفَرَطِ، وَعَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ، وَعَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِلْذَاذِ وَالْإِطْرَابِ، وَلَا هُمْ مِمَّنْ يَدُومُ عَلَيْهِ أَوْ يَتَّخِذُهُ عَادَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ قَادِحٌ فِي مَقَاصِدِهِمُ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا‏.‏

وَلِذَلِكَ قَالَ الْجُنَيْدُ‏:‏ ‏"‏ إِذَا رَأَيْتَ الْمُرِيدَ يُحِبُّ السَّمَاعَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ فِيهِ بَقِيَّةً مِنَ الْبِطَالَةِ ‏"‏‏.‏

وَإِنَّمَا لَهُمْ مِنْ سَمَاعِهِ- إِنِ اتَّفَقَ- وَجْهُ الْحِكْمَةِ- إِنْ كَانَ فِيهِ حِكْمَةٌ-، فَاسْتَوَى عِنْدَهُمُ النَّظْمُ وَالنَّثْرُ، وَإِنْ أَطْلَقَ أَحَدٌ مِنْهُمُ السَّمَاعَ عَلَى الصَّوْتِ الْحَسَنِ الْمُضَافِ إِلَى شِعْرٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَمِنْ حَيْثُ فَهِمَ الْحِكْمَةَ لَا مِنْ حَيْثُ يُلَائِمُ الطِّبَاعَ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمْعِهِ مِنْ حَيْثُ يَسْتَحْسِنُهُ؛ فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلْفِتْنَةِ، فَيَصِيرُ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ السَّمَاعُ الْمُلِذُّ الْمُطْرِبُ‏.‏

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ عِنْدَهُمْ مَا تَقَدَّمَ‏:‏

مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنِ ادَّعَى السَّمَاعَ وَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَ الطَّيْرِ وَصَرِيرَ الْبَابِ وَتَصْفِيقَ الرِّيَاحِ؛ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ الْحُصَرِيٌّ‏:‏ ‏"‏ أَيْشٍ أَعْمَلُ بِسَمَاعٍ يَنْقَطِعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْهُ‏؟‏ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَمَاعُكَ سَمَاعًا مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ ‏"‏‏.‏

وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَالِمٍ؛قَالَ‏:‏ ‏"‏ خَدَمْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيَّ سِنِينَ، فَمَا رَأَيْتُهُ تَغَيَّرَ عِنْدَ سَمَاعِ شَيْءٍ يَسْمَعُهُ مِنَ الذِّكْرِ أَوِ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ؛ قُرِئَ بَيْنَ يَدَيْهِ‏:‏ ‏{‏فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ‏}‏، تَغَيَّرَ وَارْتَعَدَ وَكَادَ يَسْقُطُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى حَالِ صَحْوِهِ؛ سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ يَا حَبِيبِي ضَعُفْنَا ‏"‏‏.‏

وَقَالَ السُّلَمِيُّ‏:‏ ‏"‏ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ وَوَاحِدٌ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ عَلَى بَكْرَةٍ، فَقَالَ لِي‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ‏!‏ تَدْرِي أَيْشٍ تَقُولُ هَذِهِ الْبَكْرَةُ‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ لَا‏.‏ فَقَالَ‏:‏ تَقُولُ اللَّهُ، اللَّهُ‏.‏

فَهَذِهِ الْحِكَايَاتُ وَأَشْبَاهُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْثِرُونَ سَمَاعَ الْأَشْعَارِ عَلَى غَيْرِهَا؛ فَضْلًا عَلَى أَنْ يَتَصَنَّعُوا فِيهَا بِالْأَغَانِي الْمُطْرِبَةِ‏.‏

وَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ، وَبَعُدُوا عَنْ أَحْوَالِ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ أَخَذَ الْهَوَى فِي التَّفْرِيعِ فِي السَّمَاعِ، حَتَّى صَارَ يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ الْمَصْنُوعُ عَلَى قَانُونِ الْأَلْحَانِ، فَتَعَشَّقَتْ بِهِ الطِّبَاعُ، وَكَثُرَ الْعَمَلُ بِهِ وَدَامَ- وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ بِهِ الرَّاحَةَ فَقَطْ-؛ فَصَارَ قَذًى فِي طَرِيقِ سُلُوكِهِمْ، فَرَجَعُوا بِهِ الْقَهْقَرَى، ثُمَّ طَالَ الْأَمَدُ حَتَّى اعْتَقَدَهُ الْجُهَّالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا قَارَبَهُ أَنَّهُ قُرْبَةٌ، وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ، وَهُوَ الْأَدْهَى‏.‏

وَقَوْلُ الْمُجِيبِ‏:‏ ‏"‏ وَأَمَّا مَنْ دَعَا طَائِفَةً إِلَى مَنْزِلِهِ؛ فَتُجَابُ دَعْوَتُهُ، وَلَهُ ‏(‏فِي دَعْوَتِهِ‏)‏ قَصْدُهُ ‏"‏؛ مُطَابِقٌ بِحَسَبِ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا‏:‏ بِأَنَّ مَنْ دَعَا قَوْمًا إِلَى مَنْزِلِهِ لِتَعَلُّمِ آيَةٍ أَوْ سُورَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مُذَاكَرَةٍ فِي عِلْمٍ أَوْ فِي نِعَمِ اللَّهِ، أَوْ مُؤَانَسَةٍ فِي شِعْرٍ فِيهِ حِكْمَةٌ لَيْسَ فِيهِ غِنَاءٌ مَكْرُوهٌ وَلَا صَحِبَهُ شَطْحٌ وَلَا زِفْنٌ وَلَا صِيَاحٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، ثُمَّ أَلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ الطَّعَامِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّكَلُّفِ وَالْمُبَاهَاةِ، وَلَمْ يَقْصَدْ بِذَلِكَ بِدْعَةً وَلَا امْتِيَازًا؛ لِفِرْقَةٍ تَخْرُجُ بِأَفْعَالِهَا وَأَقْوَالِهَا عَنِ السُّنَّةِ؛ فَلَا شَكَّ فِي اسْتِحْسَانِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْمَأْدُبَةِ الْمَقْصُودِ بِهَا حُسْنُ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الْجِيرَانِ وَالْإِخْوَانِ، وَالتَّوَدُّدِ بَيْنَ الْأَصْحَابِ، وَهِيَ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا تَذَاكُرٌ فِي عِلْمٍ أَوْ نَحْوِهِ؛ فَهِيَ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ‏.‏

وَمِثَالُ مَا يُحْكَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُنَيْفٍ؛ قَالَ‏:‏ ‏"‏ دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْقَاضِي عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، فَقَالَ لِي‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ‏!‏ قُلْتُ‏:‏ لَبَّيْكَ أَيُّهَا الْقَاضِي، قَالَ‏:‏ هَاهُنَا ‏(‏أَحْكِي‏)‏ لَكُمْ حِكَايَةً تَحْتَاجُ ‏(‏أَنْ‏)‏ تَكْتُبَهَا بِمَاءِ الذَّهَبِ، فَقُلْتُ‏:‏ أَيُّهَا الْقَاضِي‏!‏ أَمَّا الذَّهَبُ؛ فَلَا أَجِدُهُ، وَلَكِنِّي أَكْتُبُهَا بِالْحِبْرِ الْجَيِّدِ‏.‏

فَقَالَ‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ‏:‏ إِنَّ الْحَارِثَ الْمُحَاسَبِيَّ يَتَكَلَّمُ فِي عُلُومِ الصُّوفِيَّةِ وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِ بِالْآيِ، فَقَالَ أَحْمَدُ‏:‏ أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ كَلَامَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ أَنَا أَجْمَعُكَ مَعَهُ، فَاتَّخَذَ دَعْوَةً، وَدَعَا الْحَارِثَ وَأَصْحَابَهُ وَدَعَا أَحْمَدَ، فَجَلَسَ بِحَيْثُ يَرَى الْحَارِثَ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ، وَأَحْضَرَ الطَّعَامَ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ، فَقَالَ أَحْمَدُ‏:‏ هَذَا مِنَ السُّنَّةِ‏.‏

فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ وَغَسَلُوا أَيْدِيَهُمْ؛ جَلَسَ الْحَارِثُ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْأَلَ شَيْئًا؛ فَلْيَسْأَلْ، فَسُئِلَ عَنِ الْإِخْلَاصِ، وَعَنِ الرِّيَاءِ، وَمَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، فَاسْتَشْهَدَ بِالْآيِ وَالْحَدِيثِ، وَ أَحْمَدُ يَسْمَعُ لَا يُنْكِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ‏.‏

فَلَمَّا مَضَى هَدْيٌ مِنَ اللَّيْلِ؛ أَمْرَ الْحَارِثُ قَارِئًا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الْحَدْوِ، فَقَرَأَ، فَبَكَى بَعْضُهُمْ، وَانْتَخَبَ آخَرُونَ، ثُمَّ سَكَتَ الْقَارِئُ، فَدَعَا الْحَارِثُ بِدَعَوَاتٍ خِفَافٍ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ‏.‏

فَلَمَّا أَصْبَحُوا؛ قَالَ أَحْمَدُ‏:‏ قَدْ كَانَ بَلَغَنِي أَنَّ هَاهُنَا مَجَالِسَ لِلذِّكْرِ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْمَجَالِسِ؛ فَلَا أُنْكِرُ مِنْهَا شَيْئًا‏.‏

فَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَنَّ أَحْوَالَ الصُّوفِيَّةِ تُوزَنُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، وَأَنَّ مَجَالِسَ الذِّكْرِ لَيْسَتْ مَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ، بَلْ مَا تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُهُ، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا اعْتَادُوهُ؛ فَهُوَ مِمَّا يُنْكَرُ‏.‏

وَالْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ‏.‏

فَإِذًا؛ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ، إِذْ بَايَنُوا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

وَالْأَمْثِلَةُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ، لَوْ تُتُبِّعَتْ؛ لَخَرَجْنَا عَنِ الْمَقْصُودِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا أَمْثِلَةً تُبَيِّنُ مِنَ اسْتِدْلَالَاتِهِمُ الْوَاهِيَةِ مَا يُضَاهِيهَا، وَحَاصِلُهَا الْخُرُوجُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْضَحَهُ الْعُلَمَاءُ، وَبَيَّنَهُ الْأَئِمَّةُ، وَحَصَرَ أَنْوَاعَهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏.‏

وَمَنْ نَظَرَ إِلَى طُرُقِ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ؛ عَرَفَ أَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ؛ لِأَنَّهَا سَيَّالَةٌ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، وَعَلَى ‏(‏كُلِّ‏)‏ وَجْهٍ يَصِحُّ لِكُلِّ زَائِغٍ وَكَافِرٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى زَيْغِهِ وَكُفْرِهِ حَتَّى يَنْسِبَ النِّحْلَةَ الَّتِي الْتَزَمَهَا إِلَى الشَّرِيعَةِ‏.‏

فَقَدْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى كُفْرِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ، كَمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى تَشْرِيكِ عِيسَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ‏}‏‏.‏

وَاسْتَدَلَّ عَلَى ‏(‏أَنَّ الْكَفَّارَ مِنْ‏)‏ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏، الْآيَةَ‏.‏

وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْيَهُودِ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

وَبَعْضُ الْحُلُولِيَّةِ اسْتَدَلَّ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي‏}‏‏.‏

وَالتَّنَاسُخِيُّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ‏}‏‏.‏

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَاتِ، أَوْ حَرَّفَ الْمَنَاطَاتِ، أَوْ حَمَّلَ الْآيَاتِ مَا لَا تَحَمَلُهُ عِنْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، أَوْ تَمَسَّكَ بِالْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ، أَوْ أَخَذَ الْأَدِلَّةَ بِبَادِيَ الرَّأْيِ، ‏(‏لَهُ‏)‏ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ وَافَقَ غَرَضَهُ بِآيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ لَا يَفُوزُ بِذَلِكَ أَصْلًا‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالُ كُلِّ فِرْقَةٍ شُهِرَتْ بِالْبِدْعَةِ عَلَى بِدْعَتِهَا بِآيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ؛ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ- حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ- وَسَيَأْتِي لَهُ نَظَائِرُ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

فَمَنْ طَلَبَ خَلَاصَ نَفْسِهِ؛ تَثَبَّتَ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ الطَّرِيقُ، وَمَنْ تَسَاهَلَ؛ رَمَتْهُ أَيْدِي الْهَوَى فِي مَعَاطِبَ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ‏.‏