فصل: تفسير الآيات (11- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة التغابن:

.تفسير الآيات (1- 10):

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)}
ومناسبة هذه السورة لما قبلها: أن ما قبلها مشتمل على حال المنافقين، وفي آخرها خطاب المؤمنين، فأتبعه بما يناسبه من قوله: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}، هذا تقسيم في الإيمان والكفر بالنظر إلى الاكتساب عند جماعة من المتأولين لقوله: كل مولود يولد على الفطرة، وقوله تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} وقيل: ذانك في أصل الخلقة، بدليل ما في حديث النطفة من قول الملك: أشقيّ أم سعيد؟ والغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع يوم طبع كافراً. وما روى ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال: «خلق الله فرعون في البطن كافراً» وحكى يحيى بن زكريا: في البطن مؤمناً. وعن عطاء بن أبي رباح: {فمنكم كافر} بالله، {مؤمن} بالكواكب؛ ومؤمن بالله وكافر بالكوكب. وقدّم الكافر لكثرته. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} وحين ذكر الصالحين قال: {وقليل ما هم} وقال الزمخشري: فمنكم آت بالكفر وفاعل له، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له، كقوله تعالى: {وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} والدليل عليه قوله تعالى: {والله بما تعملون بصير}: أي عالم بكفركم وإيمانكم اللذين هما من قبلكم، والمعنى: الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح، وتكونوا بأجمعكم عباداً شاكرين. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. وقال أيضاً: وقيل: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر} بالخلق: هم الدهرية، {ومنكم مؤمن} به. وعن الحسن: في الكلام حذف دل عليه تقديره: ومنكم فاسق، وكأنه من كذب المعتزلة على الحسن. وتقدم الجار والمجرور في قوله: {له الملك وله الحمد}، قال الزمخشري: ليدل بتقدمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل، وذلك لأن الملك على الحقيقة له، لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه، والقائم به المهيمن عليه؛ وكذلك الحمد، لأن أصول النعم وفروعها منه. وأما ملك غيره فتسليط منه، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده.
وقرأ الجمهور: {صوركم} بضم الصاد؛ وزيد بن عليّ وأبو رزين: بكسرها، والقياس الضم، وهذا تعديد للنعمة في حسن الخلقة، لأن أعضاء بني آدم متصرّفة بجميع ما تتصرّف فيه أعضاء الحيوان، وبزيادة كثيرة فضل بها. ثم هو مفضل بحسن الوجه وجمال الجوارح، كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} وقيل: النعمة هنا إنما هي صورة الإنسان من حيث هو إنسان مدرك عاقل، فهذا هو الذي حسن له حتى لحقته كمالات كثيرة، وتكاد العرب لا تعرف الصورة إلا الشكل، لا المعنى القائم بالصورة.
ونبه تعالى بعلمه بما في السموات والأرض، ثم بعلمه بما يسر العباد وما يعلنونه، ثم بعلمه بما أكنته الصدور على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء، لا من الكليات ولا من الجزئيات، فابتدأ بالعلم الشامل للعالم كله، ثم بخاص العباد من سرّهم وإعلانهم، ثم ما خص منه، وهو ما تنطوي عليه صدورهم من خفي الأشياء وكامنها، وهذا كله في معنى الوعيد، إذ هو تعالى المجازي على جميع ذلك بالثواب والعقاب.
وقرأ الجمهور: {ما تسرون وما تعلنون} بتاء الخطاب؛ وعبيد عن أبي عمرو، وأبان عن عاصم: بالياء.
{ألم يأتكم}: الخطاب لقريش، ذكروا بما حل بالكفار قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وغيرهم ممن صرح بذكرهم في سورة براءة وغيرها، وقد سمعت قريش أخبارهم، {فذاقوا وبال أمرِهم}: أي مكروههم وما يسوؤهم منه. {ذلك}: أي الوبال، {بأنه}: أي بأن الشأن والحديث استبعدوا أن يبعث الله تعالى من البشر رسولاً، كما استبعدت قريش، فقالوا على سبيل الاستغراب: {أبشر يهدوننا}، وذلك أنهم يقولون: نحن متساوون في البشرية، فأنى يكون لهؤلاء تمييز علينا بحيث يصيرون هداة لنا؟ وارتفع {أبشر} عند الجوفي وابن عطية على الابتداء، والخبر {يهدوننا}، والأحسن أن يكون مرفوعاً على الفاعلية، لأن همزة الاستفهام تطلب الفعل، فالمسألة من باب الاشتغال. {فكفروا}: العطف بالفاء يدل على تعقب كفرهم مجيء الرسل بالبينات، أي لم ينظروا في تلك البينات ولا تأمّلوها، بل عقبوا مجيئها بالكفر، {واستغنى الله}: استفعل بمعنى الفعل المجرد، وغناه تعالى أزلي، فالمعنى: أنه ظهر تعالى غناه عنهم إذ أهلكهم، وليست استفعل هنا للطلب. وقال الزمخشري: معناه: وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال. والزعم: تقدم تفسيره، والذين كفروا: أهل مكة، وبلى: إثبات لما بعد حرف النفي، {وذلك على الله يسير}: أي لا يصرفه عنه صارف.
{فآمنوا بالله ورسوله}: وهو محمد صلى الله عليه وسلم، {والنور الذي أنزلنا}: هو القرآن، وانتصب {يوم يجمعكم} بقوله: {لتنبؤن}، أو بخبير، بما فيه من معنى الوعيد والجزاء، أو باذكر مضمرة، قاله الزمخشري؛ والأول عن النحاس، والثاني عن الحوفي. وقرأ الجمهور: يجمعكم بالياء وضم العين؛ وروي عنه سكونها وإشمامها الضم؛ وسلام ويعقوب وزيد بن علي والشعبي: بالنون. {ليوم الجمع}: يجمع فيه الأولون والآخرون، وذلك أن كل واحد يبعث طامعاً في الخلاص ورفع المنزلة. {ذلك يوم التغابن}: مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً، لأن السعداء نزلوا منازل الأشقياء لو كانوا سعداء، ونزل الأشقياء منازل السعداء لو كانوا أشقياء، وفي الحديث: «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة»، وذلك معنى يوم التغابن. وعن مجاهد وغيره: إذا وقع الجزاء، غبن المؤمنون الكافرين لأنهم يجوزون الجنة وتحصل الكفار في النار. وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم وزيد بن عليّ والحسن بخلاف عنه: نكفر وندخله بالنون فيهما؛ والأعمش وعيسى والحسن وباقي السبعة: بالياء فيهما.

.تفسير الآيات (11- 18):

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
الظاهر إطلاق المصيبة على الرزية وما يسوء العبد، أي في نفس أو مال أو ولد أو قول أو فعل، وخصت بالذكر، وإن كان جميع الحوادث لا تصيب إلا بإذن الله. وقيل: ويحتمل أن يريد بالمصيبة الحادثة من خير وشر، إذ الحكمة في كونها بأذن الله. وما نافية، ومفعول أصاب محذوف، أي ما أصاب أحداً، والفاعل من مصيبة، ومن زائدة، ولم تلحق التاء أصاب، وإن كان الفاعل مؤنثاً، وهو فصيح، والتأنيث لقوله تعالى: {ما تسبق من أمة أجلها} وقوله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} أي بإرادته وعلمه وتمكينه. {ومن يؤمن بالله}: أي يصدق بوجوده ويعلم أن كل حادثة بقضائه وقدره، {يهد قلبه} على طريق الخير والهداية. وقرأ الجمهور: يهد بالياء، مضارعاً لهدى، مجزوماً على جواب الشرط. وقرأ ابن جبير وطلحة وابن هرمز والأزرق عن حمزة: بالنون؛ والسلمي والضحاك وأبو جعفر: يهد مبنياً للمفعول، قلبه: رفع؛ وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن دينار: يهدأ بهمزة ساكنة، قلبه بالرفع: يطمئن قلبه ويسكن بإيمانه ولا يكون فيه اضطراب. وعمرو بن فايد: يهدا بألف بدلاً من الهمزة الساكنة؛ وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً: يهد بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة الساكنة وإبدال الهمزة ألفاً في مثل يهدأ ويقرأ، ليس بقياس خلافاً لمن أجاز ذلك قياساً، وبنى عليه جواز حذف تلك الألف للجازم، وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى:
جزى متى يظلم يعاقب بظلمه ** سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم

أصله: يبدأ، ثم أبدل من الهمزة ألفاً، ثم حذفها للجازم تشبيهاً بألف يخشى إذا دخل الجازم.
ولما قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله}، ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وحذر مما يلحق الرجل من امرأته وولده بسبب ما يصدر من بعضهم من العداوة، ولا أعدى على الرجل من زوجته وولده إذا كانا عدوين، وذلك في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فبإذهاب ماله وعرضه، وأما في الآخرة فبما يسعى في اكتسابه من الحرام لهما، وبما يكسبانه منه بسبب جاهه. وكم من امرأة قتلت زوجها وجذمت وأفسدت عقله، وكم من ولد قتل أباه. وفي التواريخ وفيما شاهدناه من ذلك كثير.
وعن عطاء بن أبي رباح: أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمع أهله وولده، فثبطوه وشكوا إليه فراقة، فرق ولم يغز؛ إنه ندم بمعاقبتهم، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا} الآية.
وقيل: آمن قوم بالله، وثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، ولم يهاجروا إلا بعد مدة، فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم، فنزلت.
وقيل: قالوا لهم: أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم؟ فغضبوا عليهم وقالوا: لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير. فلما هاجروا، منعوهم الخير، فحبوا أن يعفوا عنهم ويردوا إليهم البر والصلة. ومن في {من أزواجكم وأولادكم} للتبعيض، وقد توجد زوجة تسر زوجها وتعينه على مقاصده في دينه ودنياه، وكذلك الولد. وقال الشعب العبسي يمدح ولده رباطاً:
إذا كان أولاد الرجال حزازة ** فأنت الحلال الحلو والبارد العذب

لنا جانب منه دميث وجانب ** إذا رامه الأعداء مركبه صعب

وتأخذه عند المكارم هزة ** كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب

وقال قرمان بن الأعرف في ابنه منازل، وكان عاقاً له، قصيدة فيها بعض طول منها:
وربيته حتى إذا ما تركته ** أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

فلما رآني أحسب الشخص أشخصاً ** بعيداً وذا الشخص البعيد أقاربه

تعمد حقي ظالماً ولوى يدي ** لوى يده الله الذي هو غالبه

{إنما أموالكم وأولادكم فتنة}: أي بلاء ومحنة، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة، ولا بلاء أعظم منهما. وفي باب العداوة جاء بمن التي تقتضي التبعيض، وفي الفتنة حكم بها على الأموال والأولاد على بعضها، وذلك لغلبة الفتنة بهما، وكفى بالمال فتنة قصة ثعلبة بن حاطب، أحد من نزل فيه، ومنهم من عاهد الله: {لئن آتانا من فضله} الآيات. وقد شاهدنا من ذكر أنه يشغله الكسب والتجارة في أمواله حتى يصلي كثيراً من الصلوات الخمس فائتة. وقد شاهدنا من كان موصوفاً عند الناس بالديانة والورع، فحين لاح له منصب وتولاه، استناب من يلوذ به من أولاده وأقاربه، وإن كان بعض من استنابه صغير السن قليل العلم سيئ الطريقة، ونعوذ بالله من الفتن. وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة، {كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى} شغلتنا أموالنا وأهلونا. {والله عنده أجر عظيم}: تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة. والأجر العظيم: الجنة.
{فاتقوا الله ما استطعتم}، قال أبو العالية: جهدكم. وقال مجاهد: هو أن يطاع فلا يعصى، {واسمعوا} ما توعظون به، {وأطيعوا} فيما أمرتم به ونهيتم عنه، {وأنفقوا} فيما وجب عليكم. و{خيراً} منصوب بفعل محذوف تقديره: وأتوا خيراً، أو على إضمار يكن فيكون خبراً، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي إنفاقاً خيراً، أو على أنه حال، أو على أنه مفعول ب: وأنفقوا خيراً، أي مالاً، أقوال، الأول عن سيبويه.
ولما أمر بالإنفاق، أكده بقوله: {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً}، ورتب عليه تضعيف القرض وغفران الذنوب. وفي لفظ القرض تلطف في الاستدعاء، وفي لفظ المضاعفة تأكيد للبذل لوجه الله تعالى. ثم اتبع جوابي الشرط بوصفين: أحدهما عائد إلى المضاعفة، إذ شكره تعالى مقابل للمضاعفة، وحلمه مقابل للغفران. قيل: وهذا الحض هو في الزكاة المفروضة، وقيل، هو في المندوب إليه. وتقدم الخلاف في القراءة في {يوق} وفي {شح} وفي {يضاعفه}.

.سورة الطلاق:

.تفسير الآيات (1- 3):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}
{يا أيها النبي}: نداء للنبي صلى الله عليه وسلم، وخطاب على سبيل التكريم والتنبيه، {إذا طلقتم}: خطاب له عليه الصلاة والسلام مخاطبة الجمع على سبيل التعظيم، أو لأمته على سبيل تلوين الخطاب، أقبل عليه السلام أولاً، ثم رجع إليهم بالخطاب، أو على إضمار القول، أي قل لأمتك إذا طلقتم، أو له ولأمته، وكأنه ثم محذوف تقديره: يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم، فالخطاب له ولهم، أي أنت وأمتك، أقوال. وقال الزمخشري: خص النبي صلى الله عليه وسلم، وعمّ بالخطاب، لأن النبي إمام إمته وقدوتهم. كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه، وأنه مدره قومه ولسانهم، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه، فكان هو وحده في حكم كلهم، وساداً مسد جميعهم. انتهى، وهو كلام حسن.
ومعنى {إذا طلقتم}: أي إذا أردتم تطليقهن، والنساء يعني: المدخول بهن، وطلقوهن: أي أوقعوا الطلاق، {لعدتهن}: هو على حذف مضاف، أي لاستقبال عدّتهن، واللام للتوقيت، نحو: كتبته لليلة بقيت من شهر كذا، وتقدير الزمخشري هنا حالاً محذوفة يدل عليها المعنى يتعلق بها المجرور، أي مستقبلات لعدتهن، ليس بجيد، لأنه قدر عاملاً خاصاً، ولا يحذف العامل في الظرف والجار والمجرور إذا كان خاصاً، بل إذا كان كوناً مطلقاً. لو قلت: زيد عندك أو في الدار، تريد: ضاحكا عندك أو ضاحكا في الدار، لم يجز. فتعليق اللام بقوله: {فطلقوهن}، ويجعل على حذف مضاف هو الصحيح.
وما روي عن جماعة من الصحابة والتابعين، رضي الله تعالى عنهم، من أنهم قرأوا: فطلقوهن في قبل عدتهن؛ وعن بعضهم: في قبل عدّتهن؛ وعن عبد الله: لقبل طهرهن، هو على سبيل التفسير، لا على أنه قرآن، لخلافه سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون شرقاً وغرباً، وهل تعتبر العدة بالنسبة إلى الأطهار أو الحيض؟ تقدم ذلك في البقرة في قوله: {ثلاثة قروء} والمراد: أن يطلقهن في طهر لم يجامعهن فيه، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن، فإن شاء ردها، وإن شاء أعرض عنها لتكون مهيأة للزوج؛ وهذا الطلاق أدخل في السنة. وقال مالك: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة، وكره الثلاث مجموعة أو مفرقة. وأبو حنيفة كره ما زاد على الواحدة في طهر واحد، فأما مفرقاً في الأطهار فلا. وقال الشافعي: لا بأس بإرسال الطلاق الثلاث، ولا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح، راعى في السنة الوقت فقط، وأبو حنيفة التفريق والوقت.
وقوله: {فطلقوهن} مطلق، لا تعرض فيه لعدد ولا لوصف من تفريق أو جمع؛ والجمهور: على أنه لو طلق لغير السنة وقع. وعن ابن المسيب وجماعة من التابعين: أنه لو طلق في حيض أو ثلاث، لم يقع.
والظاهر أن الخطاب في {وأحصوا العدّة} للأزواج: أي اضبطوا بالحفظ، وفي الإحصاء فوائد مراعاة الرجعة وزمان النفقة والسكنى وتوزيع الطلاق على الأقراء. وإذا أراد أن يطلق ثلاثاً، والعلم بأنها قد بانت، فيتزوج بأختها وبأربع سواها.
ونهى تعالى عن إخراجهنّ من مساكنهنّ حتى تنقضي العدّة، ونهاهنّ أيضاً عن خروجهنّ، وأضاف البيوت إليهنّ لما كان سكناهنّ فيها، ونهيهنّ عن الخروج لا يبيحه إذن الأزواج، إذ لا أثر لإذنهم. والإسكان على الزوج، فإن كان ملكه أو بكراء فذاك، أو ملكها فلها عليه أجرته، وسواء في ذلك الرجعية والمبتوبة، وسنة ذلك أن لا تبيت عن بيتها ولا تخرج عنه نهاراً إلا لضرورة، وذلك لحفظ النسب والاحتفاظ بالنساء. {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}: وهي الزنا، عند قتادة ومجاهد والحسن والشعبي وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث، ورواه مجاهد عن ابن عباس، فيخرجن للحد. وعن ابن عباس: البذاء على الاحماء، فتخرج ويسقط حقها في السكنى، وتلزم الإقامة في مسكن تتخذه حفظاً للنسب. وعنده أيضاً: جميع المعاصي، من سرقة، أو قذف، أو زنا، أو غير ذلك، واختاره الطبري، فيسقط حقها في السكنى. وعند ابن عمر والسدي وابن السائب: هي خروجها من بيتها خروج انتقال، فيسقط حقها في السكنى. وعند قتادة أيضاً: نشوزها عن الزوج، فتطلق بسبب ذلك، فلا يكون عليه سكنى؛ وإذا سقط حقها من السكنى أتمت العدّة. {لا تدري} أيها السامع، {لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً}، قال المفسرون: الأمر هنا الرغبة في ارتجاعها، والميل إليها بعد انحرافه عنها؛ أو ظهور حمل فيراجعها من أجله. ونصب لا تدري على جملة الترجى، فلا تدري معلقة عن العمل، وقد تقدم لنا الكلام على قوله: {وإن أدري لعله فتنة لكم} وذكرنا أنه ينبغي أن يزاد في المعلقات لعل، فالجملة المترجاة في موضع نصب بلا تدري.
{فإذا بلغن أجلهن}: أي أشرفن على انقضاء العدّة، {فأمسكوهنّ}: أي راجعوهنّ، {بمعروف}: أي بغير ضرار، {أو فارقوهنّ بمعروف}: أي سرحوهنّ بإحسان، والمعنى: اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهنّ، فيملكن أنفسهنّ. وقرأ الجمهور: {أجلهن} على الإفراد؛ والضحاك وابن سيرين: آجالهنّ على الجمع. والإمساك بمعروف: هو حسن العشرة فيما للزوجة على الزوج، والمفارقة بمعروف: هو أداء المهر والتمتيع والحقوق الواجبة والوفاء بالشرط. {وأشهدوا}: الظاهر وجوب الإشهاد على ما يقع من الإمساك وهو الرجعة، أو المفارقة وهي الطلاق. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله: {وأشهدوا إذا تبايعتم} وعند الشافعية واجب في الرجعة، مندوب إليه في الفرقة. وقيل: {وأشهدوا}: يريد على الرجعة فقط، والإشهاد شرط في صحتها، فلها منفعة من نفسها حتى يشهد. وقال ابن عباس: الإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق يرفع عن النوازل أشكالاً كثيرة، ويفسد تاريخ الإشهاد من الإشهاد.
قيل: وفائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد، وأن لا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الثاني ثبوت الزوجية ليرث. انتهى. ومعنى منكم، قال الحسن: من المسلمين. وقال قتادة: من الأحرار. {وأقيموا الشهادة لله}: هذا أمر للشهود، أي لوجه الله خالصاً، لا لمراعاة مشهود له، ولا مشهود عليه لا يلحظ سوى إقامة الحق. {ذلكم}: إشارة إلى إقامة الشهادة، إذ نوازل الأشياء تدور عليها، وما يتميز المبطل من المحق.
{ومن يتق الله}، قال علي بن أبي طالب وجماعة: هي في معنى الطلاق، أي ومن لا يتعدى طلاق السنة إلى طلاق الثلاث وغير ذلك، يجعل الله له مخرجاً إن ندم بالرجعة، {ويرزقه} ما يطعم أهله. انتهى. ومفهوم الشرط أنه إن لم يتق الله، فبت الطلاق وندم، لم يكن له مخرج، وزال عنه رزق زوجته. وقال ابن عباس: للمطلق ثلاثاً: إنك لم تتق الله، بانت منك امرأتك، ولا أرى لك مخرجاً. وقال: {يجعل له مخرجاً}: يخلصه من كذب الدنيا والآخرة. والظاهر أن قوله: {ومن يتق الله} متعلق بأمر ما سبق من أحكام الطلاق. وروي أنها في غير هذا المعنى، وهو أن أسر ابن يسمى سالماً لخوف بن مالك الأشجعي، فشكا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره بالتقوى فقبل، ثم لم يلبث أن تفلت ولده واستاق مائة من الإبل، كذا في الكشاف. وفي الوجيز: قطيعاً من الغنم كانت للذين أسروه، وجاء أباه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيطيب له؟ فقال: «نعم»، فنزلت الآية. وقال الضحاك: من حيث لا يحتسب امرأة أخرى. وقيل: ومن يتق الحرام يجعل له مخرجاً إلى الحلال. وقيل: مخرجاً من الشدة إلى الرخاء. وقيل: من النار إلى الجنة. وقيل: من العقوبة، ويرزقه من حيث لا يحتسب من الثواب. وقال الكلبي: ومن يتق الله عند المصيبة يجعل له مخرجاً إلى الجنة.
{ومن يتوكل على الله}: أي يفوض أمره إليه، {فهو حسبه}: أي كافيه. {إن الله بالغ أمره}، قال مسروق: أي لابد من نفوذ أمر الله، توكلت أم لم تتوكل. وقرأ الجمهور: بالغ بالتنوين، أمره بالنصب؛ وحفص والمفضل وأبان وجبلة وابن أبي عبلة وجماعة عن أبي عمرو ويعقوب وابن مصرف وزيد بن علي: بالإضافة؛ وابن أبي عبلة أيضاً وداود بن أبي هند وعصمة عن أبي عمرو: بالغ أمره، رفع: أي نافذ أمره. والمفضل أيضاً: بالغاً بالنصب، أمره بالرفع، فخرجه الزمخشري على أن بالغاً حال، وخبر إن هو قوله تعالى: {قد جعل الله}، ويجوز أن تخرج هذه القراءة على قول من ينصب بأن الجزأين، كقوله:
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن ** خطاك خفافاً أن حراسنا أسدا

ومن رفع أمره، فمفعول بالغ محذوف تقديره: بالغ أمره ما شاء. {قد جعل الله لكل شيء قدراً}: أي تقديراً وميقاتاً لا يتعداه، وهذه الجمل تحض على التوكل. وقرأ جناح بن حبيش: قدراً بفتح الدال، والجمهور بإسكانها.