فصل: تفسير الآيات (4- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (4- 6):

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}
الجوارح: الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين. وسميت بذلك لأنها تجرح ما تصيد غالباً، أو لأنها تكتسب، يقال امرأة: لا جارح لها، أي لا كاسب. ومنه: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} أي ما كسبتم. ويقال: جرح واجترح بمعنى اكتسب.
المكلب بالتشديد: معلم الكلاب ومضرّيها على الصيد، وبالتخفيف صاحب كلاب. وقال الزجاج: رجل مكلب ومكلب وكلاب صاحب كلاب.
الغسل في اللغة: إيصال الماء إلى المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد ونحوها قاله بعضهم، وقال آخرون: هو إمرار الماء على الموضع، ومن ذلك قول بعض العرب:
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها

المرفق: المفصل بين المعصم والعضد، وفتح الميم وكسر الراء أشهر. الرجل: معروفة، وجمعت على أفعل في القلة والكثرة. والكعب: هو العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل. الحرج: الضيق، والحرج الناقة الضامر، والحرج النعش.
{يسألونك ماذا أحل لهم} سبب نزولها فيما قال: عكرمة ومحمد بن كعب، سؤال عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة. ماذا يحل لنا من هذه الكلاب؟ وكان إذ ذاك أمر الرسول بقتلها فقتلت حتى بلغت العواصم لقول جبريل عليه السلام: «إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب». وفي صحيح أبي عبد الله الحاكم بسنده إلى أبي رافع.
قال: «مرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب» فقال الناس: يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم الآيات. وقال ابن جبير: نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل قالا: يا رسول الله، إنا نصيد بالكلاب والبزاة، وإن كلاب آل درع وآل أبي حورية لتأخذ البقر والحمروالظباء والضب، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما يقتل فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت. وعلى اعتبار السبب يكون الجواب أكثر مما وقع السؤال عنه، لأنهم سألوا عن شيء خاص من المطعم، فأجيبوا بما سألوا عنه، وبشيء عام في المطعم.
ويحتمل أن يكون ماذا كلها استفهاماً، والجملة خبر. ويحتمل أن يكون ما استفهاماً، وذا خبراً. أي: ما الذي أحل لهم؟ والجملة إذ ذاك صلة. والظاهر أنّ المعنى: ماذا أحل لهم من المطاعم، لأنه لما ذكر ما حرم من الميتة وما عطف عليه من الخبائث، سألوا عما يحل لهم؟ ولما كان يسألونك الفاعل فيه ضمير غائب قال لهم بضمير الغائب. ويجوز في الكلام ماذا أحل لنا، كما تقول: أقسم زيد ليضربن ولأضربن، وضمير التكلم يقتضي حكاية ما قالوا كما لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها. وقال الزمخشري: في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم، كأنه قيل: يقولون: ماذا أحل لهم انتهى.
ولا يحتاج إلى ما ذكر، لأنه من باب التعليق كقوله: سلهم أيهم بذلك زعيم، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك. ونصّوا على أنّ فعل السؤال يعلق، وإن لم يكن من أفعال القلوب، لأنه سبب للعلم، فكما تعلق العلم فكذلك سببه. وقال أبو عبد الله الرازي: لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا: ماذا أحل لهم ومعلوم أن ذلك باطل، لأنهم لا يقولون ذلك، وإنما يقولون: ماذا أحل لنا. بل الصحيح: أنّ هذا ليس حكاية كلامهم بعبارتهم، بل هو بيان كيفية الواقعة انتهى.
{قل أحل لكم الطيبات} لما كانت العرب تحرم أشياء من الطيبات كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، بغير إذن من الله تعالى، قرر هنا أنّ الذي أحل هي الطيبات. ويقوي قول الشافعي: أن المعنى المستلذات، ويضعف أن المعنى: قل أحل لكم المحللات، ويدل عليه قوله: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} كالخنافس والوزع وغيرهما. والطيب في لسان العرب يستعمل للحلال وللمستلذ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة. والمعتبر في الاستلذاذ والاستطابة أهل المروءة والأخلاق الجميلة، كان بعض الناس يستطيب أكل جميع الحيوانات. وهذه الجملة جاءت فعلية، فهي جواب لما سألوا عنه في المعنى لا على اللفظ، لأن الجملة السابقة وهي: ماذا أحل لهم اسمية، وهذه فعلية.
{وما علمتم من الجوارح مكلبين} ظاهر علمتم يخالف ظاهر استئناف مكلبين، فغلّب الضحاك والسدي وابن جبير وعطاء ظاهر لفظ مكلبين فقالوا: الجوارح هي الكلاب خاصة. وكان ابن عمر يقول: إنما يصطاد بالكلاب. وقال هو وأبو جعفر: ما صيد بغيرها من باز وصقر ونحوهما فلا يحل، إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه. وجوز قوم البزاة، فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم. وغلب الجمهور ظاهر: وما علمتم، وقالوا: معنى مكلبين مؤدبين ومضرين ومعودين، وعمموا الجوارح في كواسر البهائم والطير مما يقبل التعليم. وأقصى غاية التعليم أنْ يشلي فيستشلي، ويدعى فيجيب، ويزجر بعد الظفر فينزجر، ويمتنع من أن يأكل من الصيد. وفائدة هذه الحال وإن كانت مؤكدة لقوله: علمتم، فكان يستغنى عنها أن يكون المعلم مؤتمراً بالتعليم حاذقاً فيه موصوفاً به، واشتقت هذه الحال من الكلب وإن كانت جاءت غاية في الجوارح على سبيل التغليب، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه.
قال أبو سليمان الدمشقي: وإنما قيل مكلبين، لأن الغالب من صيدهم أن يكون بالكلاب انتهى. واشتقت من الكلب وهي الضراوة يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضارياً به. قال الزمخشري: أو لأن السبع يسمى كلباً، ومنه قوله عليه السلام: «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك» فأكله الأسد، ولا يصح هذا الاشتقاق، لأنّ كون الأسد كلباً هو وصف فيه، والتكليب من صفة المعلم، والجوارح هي سباع بنفسها لا بجعل المعلم.
وظاهر قوله: وما علمتم، أنه خطاب للمؤمنين. فلو كان المعلم يهودياً أو نصرانياً فكره الصيد به الحسن، أو مجوسياً فكره الصيد به: جابر بن عبد الله، والحسن، وعطاء، ومجاهد، والنخعي، والثوري، وإسحاق. وأجاز أكل صيد كلابهم: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي إذا كان الصائد مسلماً. قالوا: وذلك مثل شفرته. والجمهور: على جواز ما صاد الكتابي. وقال مالك: لا يجوز فرق بين صيده وذبيحته. وما صاد المجوسي فالجمهور على منع أكله: عطاء، وابن جبير، والنخعي، ومالك، وأبو حنيفة، والليث، والشافعي. وقال أبو ثور: فيه قول أنهم أهل كتاب، وأن صيدهم جائز، وما علمتم موضع ما رفع على أنه معطوف على الطيبات، ويكون حذف مضاف أي: وصيد ما علمتم، وقدره بعضهم: واتخاذ ما علمتم. أو رفع على الابتداء، وما شرطية، والجواب: فكلوا. وهذا أجود، لأنه لا إضمار فيه.
وقرأ ابن عباس وابن الحنفية: وما عُلمتم مبنياً للمفعول أي: من أمر الجوارح والصيد بها. وقرأ: مكلبين من أكلب، وفعل وأفعل، قد يشتركان. والظاهر دخول الكلب الأسود البهيم في عموم الجوارح، وأنه يجوز أكل صيده، وبه قال الجمهور. ومذهب أحمد وجماعة من أهل الظاهر: أنه لا يجوز أكل صيده، لأنه مأمور بقتله، وما أوجب الشرع قتله فلا يجوز أكل صيده. وقال أحمد: لا أعلم أحداً رخص فيه إذا كان بهيماً وبه قال: ابن راهويه. وكره الصيد به: الحسن، وقتادة، والنخعي. وقد تقدم ذكر أقصى غاية التعليم في الكلب، أنه إذا أمر ائتمر، وإذا زجر انزجر. وزاد قوم شرطاً آخر وهو أن لا يأكل مما صاد، فأما سباع الطير فلا يشترط فيها الأكل عند الجمهور. وقال ربيعة: ما أجاب منها فهو المعلم. وقال ابن حبيب: لا يشترط فيها إلا شرط واحد: وهو أنه إذا أمرها أطاعت، فإن انزجارها إذا زجرت لا يتأتى فيها. وظاهر قوله: وما علمتم، حصول التعليم من غير اعتبار عدد. وكان أبو حنيفة لا يجد في ذلك عدداً. وقال أصحابنا: إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات فقد حصل له التعليم. وقال غيرهم: إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد صار معلماً.
{تعلمونهنّ مما علمكم الله} أي: إنّ تعليمكم إياهنّ ليس من قبل أنفسكم، إنما هو من العلم الذي علمكم الله، وهو أن جعل لكم روية وفكراً بحيث قبلتم العلم. فكذلك الجوارح بصبر لها إدراك مّا وشعور، بحيث يقبلن الائتمار والانزجار. وفي قوله: مما علمكم الله، إشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه، إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان. ومفعول علم وتعلمونهنّ الثاني محذوف تقديره: وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهنّ تعلمونهنّ ذلك، وفي ذلك دلالة على أن صيد ما لم يعلم حرام أكله، لأنّ الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم.
والدليل على ذلك الخطاب في عليكم في قوله: فكلوا مما أمسكن عليكم، وغير المعلم إنما يمسك لنفسه. ومعنى مما علمكم الله أي: من الأدب الذي أدّبكم به تعالى، وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه، فإذا أمر فائتمر، وإذا زجر فانزجر، فقد تعلم مما علمنا الله تعالى. وقال الزمخشري: مما علمكم الله من كلم التكليف، لأنه إلهام من الله تعالى ومكتسب بالعقل انتهى. والجملة من قوله: تعلمونهن، حال ثانية. ويجوز أن تكون مستأنفة على تقدير: أن لا تكون ما من قوله: وما علمتم من الجوارح، شرطية، إلا إن كانت اعتراضاً بين الشرط وجزائه. وخطب الزمخشري هنا فقال: وفيه فائدة جليلة وهي أنّ كل آخذ علماً أن لا يأخذه إلا من قبل أهله علماً وأبحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، واحتاج إلى أن تضرب إليه أكباد الإبل، فكم من أخذ من غير متقن فقد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله.
{فكلوا مما أمسكن عليكم} هذا أمر إباحة. ومِن هنا للتبعيض والمعنى: كلوا من الصيد الذي أمسكن عليكم. ومن ذهب إلى أن مِن زائدة فقوله ضعيف، وظاهره أنه إذا أمسك على مرسله جاز الأكل سواء أكل الجارح منه، أو لم يأكل، وبه قال: سعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وأبو هريرة، وابن عمر. وهو قول مالك وجميع أصحابه. ولو بقيت بضعة بعد أكله جاز أكلها ومن حجتهم: أنّ قتله هي ذكاته، فلا يحرم ما ذكى. وقال أبو هريرة أيضاً وابن جبير، وعطاء، وقتادة، وعكرمة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا يؤكل ما بقي من أكل الكلب ولا غيره، لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على مرسله. ولأنّ في حديث عديّ: «وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه» وعن عليّ: «ذا أكل البازي فلا تأكل» فرق قوم ما أكل منه الكلب فمنعوا من أكله، وبين ما أكل منه البازي، فرخصوا في أكله منهم: ابن عباس، والشعبي، والنخعي، وحماد بن أبي سليمان، وأبو جعفر محمد بن عليّ الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، لأنّ الكلب إذا ضرب انتهى، والبازي لا يضرب. والظاهر أنّ الجارح إذا شرب من الدم أكل الصيد، وكره ذلك سفيان الثوري. والظاهر أنه إذا انفلت من صاحبه فصاد من غير إرسال أنه لا يجوز أكل ما صاد. وقال عليّ، والأوزاعي: إن كان أخرجه صاحبه للصيد جاز أكل ما صاد. وممن منع من أكله إذا صاد من غير إرسال صاحبه: ربيعة، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأبو ثور. والظاهر جواز أكل ما قتله الكلب بفمه من غير جرح لعموم مما أمسكن. وقال بعضهم: لا يجوز لأنه ميت.
{واذكروا اسم الله عليه} الظاهر عود الضمير في عليه إلى المصدر المفهوم من قوله: فكلوا، أي على الأكل.
وفي الحديث في صحيح مسلم «سم الله وكل مما يليك» وقيل: يعود على ما أمسكن، على معنى: وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته، وهذا فيه بعد. وقيل: على ما علمتم من الجوارح أي: سموا عليه عند إرساله لقوله: «ذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل» اختلفوا في التسمية عند الإرسال: أهي على الوجوب؟ أو على الندب؟ والمستحب أن يكون لفظها بسم الله والله أكبر. وقول من زعم: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً، وإنّ الأصل: فاذكروا اسم الله عليه وكلوا مما أمسكن عليكم، قول مرغوب عنه لضعفه.
{واتقوا الله إن الله سريع الحساب} لما تقدم ذكر ما حرَّم وأحلَّ من المطاعم أمر بالتقوى، فإنّ التقوى بها يمسك الإنسان عن الحرام. وعلل الأمر بالتقوى بأنه تعالى سريع الحساب لمن خالف ما أمر به من تقواه، فهو وعيد بيوم القيامة، وأن حسابه تعالى إياكم سريع إتيانه، إذ يوم القيامة قريب. أو يراد بالحساب المجازاة، فتوعد مَن لم يتق بمجازاة سريعة قريبة، أو لكونه تعالى محيطاً بكل شيء لا يحتاج في الحساب إلى مجادلة عدّ، بل يحاسب الخلائق دفعة واحدة. {اليوم أحل لكم الطيبات} فائدة إعادة ذكر إحلال الطيبات التنبيه بإتمام النعمة فيما يتعلق بالدنيا، ومنها إحلال الطيبات كما نبه بقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} على إتمام النعمة في كل ما يتعلق بالدين. ومن زعم أنّ اليوم واحد قال: كرره ثلاث مرات تأكيداً، والظاهر أنها أوقات مختلفة. وقد قيل في الثلاثة: إنها أوقات أريد بها مجرد الوقت، لا وقت معين. والظاهر أنّ الطيبات هنا هي الطيبات المذكورة قبل.
{وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} طعامهم هنا هي الذبائح كذا قال معظم أهل التفسير. قالوا: لأنّ ما كان من نوع البر والخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى ذكاة لا يختلف في حلها باختلاف حال أحد، لأنها لا تحرم بوجه سواء كان المباشرة لها كتابياً، أو مجوسياً، أم غير ذلك. وأنها لا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة، ولأن ما قبل هذا في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى. وذهب قوم إلى أنّ المراد بقوله: وطعام، جميع مطاعمهم. ويعزي إلى قوم ومنهم بعض أئمة الزيدية حمل الطعام هنا على ما لا يحتاج فيه إلى الذكاة كالخبز والفاكهة، وبه قالت الإمامية. قال الشريف المرتضى: نكاح الكتابية حرام، وذبائحهم وطعامهم وطعام من يقطع بكفره. وإذا حملنا الطعام على ما قاله الجمهور من الذبائح فقد اختلفوا فيما هو حرام عليهم، أيحل لنا أم يحرم؟ فذهب الجمهور إلى أنّ تذكية الذمي مؤثرة في كل الذبيحة ما حرم عليهم منها وما حل، فيجوز لنا أكله.
وذهب قوم إلى أنه لا تعمل الذكاة فيما حرم عليهم، فلا يحل لنا أكله كالشحوم المحضة، وهذا هو الظاهر لقوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب، وهذا المحرم عليهم ليس من طعامهم. وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك.
والظاهر حل طعامهم سواء سموا عليه اسم الله، أم اسم غيره، وبه قال: عطاء، والقاسم بن بحصرة، والشعبي، وربيعة، ومكحول، والليث، وذهب إلى أنّ الكتابي إذا لم يذكر اسم الله على الذبيحة وذكر غير الله لم تؤكل وبه قال: أبو الدرداء، وعبادة بن الصامت، وجماعة من الصحابة. وبه قال: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك. وكره النخعي والثوري أكل ما ذبح وأهلّ به لغير الله. وظاهر قوله: «أوتوا الكتاب» أنه مختص ببني إسرائيل والنصارى الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، دون مَن دخل في دينهم من العرب أو العجم، فلا تحل ذبائحهم لنا كنصارى بني تغلب وغيرهم. وقد نهى عن ذبائحهم عليّ رضي الله عنه، وقال: لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر. وذهب الجمهور ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وابن المسيب، والشعبي، وعطاء، وابن شهاب، والحكم، وقتادة، وحماد، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه: أنه لا فرق بين بني إسرائيل والنصارى ومن تهوّد أو تنصر من العرب أو العجم في حل أكل ذبيحتهم. والظاهر أنّ ذبيحة المجوسي لا تحل لنا لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب. وما روي عن مالك أنه قال: هم أهل كتاب وبعث إليهم رسول يقال: رزادشت لا يصح. وقد أجاز قوم أكل ذبيحتهم مستدلين بقوله: {سنوا بهم سنة أهل الكتاب}. وقال ابن المسيب: إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس. وقال أبو ثور: وإنْ أمر بذلك في الصحة فلا بأس. والظاهر أنّ ذبيحة الصابئ لا يجوز لنا أكلها، لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب. وخالف أبو حنيفة فقال: حكمهم حكم أهل الكتاب. وقال صاحباه: هم صنفان، صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة، وصنف لا يقرأون كتاباً ويعبدون النجوم، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب.
{وطعامكم حل لهم} أي: ذبائحكم وهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب. لما كان الأمر يقتضي أن شيئاً شرعت لنا فيه التذكية، ينبغي لنا أن نحميه منهم، فرخص لنا في ذلك رفعاً للمشقة بحسب التجاوز، فلا علينا بأس أن نطعمهم ولو كان حراماً عليهم طعام المؤمنين، لما ساغ للمؤمنين إطعامهم. وصار المعنى: أنه أحل لكم أكل طعامهم، وأحل لكم أن تطعموهم من طعامكم، والحل الحلال ويقال في الاتباع هذا حل بل.
{والمحصنات من المؤمنات} هذا معطوف على قوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب. والمعنى: وأحل لكم نكاح المحصنات من المؤمنات.
{والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} والإحصان أن يكون بالإسلام وبالتزويج، ويمتنعان هنا، وبالحرية وبالعفة.
فقال عمر بن الخطاب، ومجاهد، ومالك، وجماعة: الإحصان هنا الحريّة، فلا يجوز نكاح الأمة الكتابية. وقال جماعة: منهم مجاهد، والشعبي، وأبو ميسرة، وسفيان، الإحصان هنا العفة، فيجوز نكاح الأمة الكتابية. ومنع بعض العلماء من نكاح غير العفيفة بهذا المفهوم الثاني. قال الحسن: إذا اطلع الإنسان من امرأته على فاحشة فليفارقها. وعن مجاهد: يحرم البغايا من المؤمنات ومن أهل الكتاب. وقال الشعبي إحصان اليهودية والنصرانية أن لا تزني، وأن تغتسل من الجنابة. وقال عطاء: رخص في التزويج بالكتابية، لأنه كان في المسلمات قلة، فأما الآن ففيهنّ الكثرة، فزالت الحاجة إليهن. والرخصة في تزويجهن ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في إباحة نكاح الحرائر الكتابيات، واتفق على ذلك الصحابة إلا شيئاً روي عن ابن عمر أنه سأله رجل عن ذلك فقال: اقرأ آية التحليل يشير إلى هذه الآية، وآية التحريم يشير إلى {ولا تنكحوا المشركات} وقد تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}.
وتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه نايلة بنت الفرافصة الكلبية على نسائه، وتزوج طلحة بن عبد الله يهودية من الشام، وتزوج حذيفة يهودية. (فإن قلت): يكون ثم محذوف أي: والمحصنات اللاتي كن كتابيات فأسلمن، ويكون قد وصفهن بأنهن من الذين أوتوا الكتاب باعتبار ما كن عليه كما قال: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله} وقال: {من أهل الكتاب أمة قائمة} ثم قال بعد {يؤمنون بالله واليوم الآخر} (قلت): إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار، ولا يطلق على مسلم أنه من أهل الكتاب، كما لا يطلق عليه يهودي ولا نصراني. فأما الآيتان فأطلق الاسم مقيداً بذكر الإيمان فيهما، ولا يوجد مطلقاً في القرآن بغير تقييد، إلا والمراد بهم اليهود والنصارى. وأيضاً فإنه قال: والمحصنات من المؤمنات، فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات، فوجب أن يحمل قوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وإلاّ زالت فائدته، إذ قد اندرجن في قوله: والمحصنات من المؤمنات. وأيضاً فمعلوم من قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} أنه لم يرد به طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب، بل المراد اليهود والنصارى، فكذلك هذه الآية.
(فإن قيل): يتعلق في تحريم الكتابيات بقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} (قيل): هذا في الحربية إذا خرج زوجها مسلماً، أو الحربي تخرج امرأته مسلمة: ألا ترى إلى قوله: {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} ولو سلمنا العموم لكان مخصوصاً بقوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، والظاهر جواز نكاح الحربية الكتابية لاندراجها في عموم. والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم. وخص ابن عباس هذا العموم بالذمية، فأجاز نكاح الذمية دون الحربية، وتلا قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون} إلى قوله
{وهم صاغرون} ولم يفرق غيره من الصحابة من الحربيات والذميات. وأما نصارى بني تغلب فمنع نكاح نسائهن عليّ وابراهيم وجابر بن زيد، وأجازه ابن عباس. {إذا آتيتموهن أجورهن} أي مهورهن. وانتزع العلماء من هذا أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل لها من المهر ما يستحلها به، ومن جوز أن يدخل دون بذل ذلك رأى أنه محكم الالتزام في حكم المؤتى. وفي ظاهر قوله: إذا آتيتموهن أجورهن، دلالة على أنّ إماء الكتابيات لسن مندرجات في قوله: والمحصنات، فيقوى أن يراد به الحرائر، إذ الإماء لا يعطون أجورهن، وإنما يعطي السيد. إلا أن يجوز فنجعل إعطاء السيد إعطاء لهن. وفيه دلالة أيضاً على أن أقل الصداق لا يتقدر، إذ سماه أجراً، والأجر في الإجارات لا يتقدر.
{محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} تقدم تفسيره نظيره في النساء.
{ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس: أنه تعالى لما أرخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن: لولا أن الله رضي ديننا وقبل عملنا لم يبح للمؤمنين تزويجنا، فنزلت. وقال مقاتل: فيما أحصن المسلمون من نكاح نساء أهل الكتاب يقول: ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر انتهى. ولما ذكر فرائض وأحكاماً يلزم القيام بها، أنزل ما يقتضي الوعيد على مخالفتها ليحصل تأكيد الزجر عن تضييعها. وقال القفال: ما معناه، لما حصلت لهم في الدنيا فضيلة مناكحة نسائهم، وأكل ذبائحهم، من الفرق في الآخرة بأنَّ من كفر حبط عمله انتهى. والكفر بالإيمان لا يتصور. فقال ابن عباس، ومجاهد: أي: ومن يكفر بالله. وحسن هذا المجاز أنه تعالى رب الإيمان وخالقه. وقال الكلبي: ومن يكفر بشهادة أن لا إله إلا الله، جعل كلمة التوحيد إيماناً. وقال قتادة: إن ناساً من المسلمين قالوا: كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا؟ فأنزل الله تعالى: ومن يكفر بالإيمان، أي بالمنزل في القرآن، فسمي القرآن إيماناً لأنه المشتمل على بيان كل ما لابد منه في الإيمان. قال الزجاج: معناه من أحل ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله فهو كافر. وقال أبو سليمان الدمشقي: من جحد ما أنزله الله من شرائع الإسلام وعرفه من الحلال والحرام. وتبعه الزمخشري في هذا التفسير فقال: ومن يكفر بالإيمان أي: بشرائع الإسلام، وما أحل الله وحرم. وقال ابن الجوزي: سمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري يقول: إنما أباح الله الكتابيات لأن بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن، فحذر نكاحهن من الميل إلى دينهن بقوله: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله. وقرأ ابن السميفع: حبط بفتح الباء وهو في الآخرة من الخاسرين حبوط عمله وخسرانه.
في الآخرة مشروط بالموافاة على الكفر.
{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها حين فقدت العقد بسبب فقد الماء ومشروعية التيمم، وكان الوضوء متعذراً عندهم، وإنما جيء به للاستطراد منه إلى التيمم، وذلك في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق، وفيها كان هبوب الريح وقول عبد الله بن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة وحديث الافك. وقال علقمة بن الفغو وهو من الصحابة: إنها نزلت رخصة للرسول لأنه كان لا يعمل عملاً إلا على وضوء، ولا يكلم أحداً ولا يرد سلاماً على غير ذلك، فأعلمه الله أنّ الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما افتتح بالأمر بإيفاء العهود، وذكر تحليلاً وتحريماً في المطعم والمنكح واستقصى ذلك، وكان المطعم آكد من المنكح وقدمه عليه، وكان النوعان من لذات الدنيا الجسمية ومهماتها للإنسان وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض، استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربه سبحانه وتعالى، ولما كان أفضل الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا تمكن إلا بالطهارة، بدأ بالطهارة وشرائط الوضوء، وذكر البدل عنه عند تعذر الماء. ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام، جاءت العبارة: إذا قمتم أي: إذا أردتم القيام إلى فعل الصلاة. وعبر عن إرادة القيام بالقيام، إذ القيام متسبب عن الإرادة، كما عبروا عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الأعمى لا يبصر أي لا يقدر على الأبصار، وقوله: {نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين} أي قادرين على الإعادة. وقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} أي إذا أردت قراءة القرآن لما كان الفعل متسبباً عن القدرة والإرادة أقيم المسبب مقام السبب.
وقيل: معنى قمتم إلى الصلاة، قصدتموها، لأنّ من توجه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له، فعبر عن القصد له بالقيام إليه. وظاهر الآية يدل على أنّ الوضوء واجب على كل من قام إلى الصلاة متطهراً كان أو محدثاً، وقال به جماعة منهم: داود. وروى فعل ذلك عن عليّ وعكرمة. وقال ابن شيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة. وذهب الجمهور: إلى أنه لابد في الآية من محذوف وتقديره: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، لأنه لا يجب الوضوء إلا على المحدث، ويدل على هذا المحذوف مقابلته بقوله: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} وكأنه قيل: إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا هذه الأعضاء، وامسحوا هذين العضوين. وإن كنتم محدثين الحدث الأكبر فاغسلوا جميع الجسد. وقال قوم منهم: السدي، وزيد بن أسلم: إذا قمتم من المضاجع يعنون النوم. وقالوا: في الكلام تقديم وتأخير أي: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء أي الملامسة الصغرى فاغسلوا وجوهكم.
وهذا التأويل ينزه حمل كتاب الله عليه، وإنما ذكروا ذلك طلباً لأن يعم الإحداث بالذكر.
وقال قوم: الخطاب خاص وإن كان بلفظ العموم، وهو رخصة للرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه ذلك، فأمر بالسواك، فرفع عنه الوضوء إلا من حدث. وقال قوم: الأمر بالوضوء لكل صلاة على سبيل الندب، وكان كثير من الصحابة يفعله طلباً للفضل منهم: ابن عمر. وقال قوم: الوضوء عند كل صلاة كان فرضاً ونسخ. وقيل: فرضاً على الرسول خاصة، فنسخ عنه عام الفتح. وقيل: فرضاً على الأمة فنسخ عنه وعنهم. ولا يجوز أن يكون: فاغسلوا، أمراً للمحدثين على الوجوب وللمتطهرين على الندب، لأنّ تناول الكلام لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية قاله الزمخشري.
فاغسلوا وجوهكم، الوجه: ما قابل الناظر وحده، طولاً منابت الشعر فوق الجبهة مع آخر الذقن. والظاهر أنّ اللحية ليست داخلة في غسل الوجه، لأنها ليست منه. وكذلك الأذنان عرضاً من الأذن إلى الأذن. ومن رأى أن الغسل هو إيصال الماء مع إمرار شيء على المغسول أوجب الدلك، وهو مذهب مالك، والجمهور لا يوجبونه. والظاهر أن المضمضة والاستنشاق ليس مأموراً بهما في الآية في غسل الوجه، ويرون ذلك سنة. وقال مجاهد: الاستنشاق شطر الوضوء. وقال عطاء، والزهري، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، وإسحاق: من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة. وقال أحمد: يعيد من ترك الاستنشاق، ولا يعيد من ترك المضمضة: والإجماع على أنه لا يلزم غسل داخل العينين، إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه.
وأيديكم إلى المرافق، اليد: في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب، وقد غيا الغسل إليها. واختلفوا في دخولها في الغسل، فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها، وذهب زفر وداود إلى أنه لا يجب. وقال الزمخشري: إلى، تفيد معنى الغاية مطلقاً، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل. ثم ذكر مثلاً مما دخل وخرج ثم قال: وقوله: {إلى المرافق وإلى الكعبين} لا دليل فيه على أحد الأمرين انتهى كلامه. وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد إلى قرينة دخول أو خروج فإنّ في ذلك خلافاً. منهم من ذهب إلى أنه داخل، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل، وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين: وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل، فإذا عرى من القرينة فيجب حمله على الأكثر. وأيضاً فإذا قلت: اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد إلى هو داخل الموضع الذي انتهى إليه المكان المشتري، فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشتري، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز، فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء.
فإذا لم يتصوّر أن يكون داخلاً إلا بمجاز، وجب أن يحمل على أنه غير داخل، لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثمّ قرينة مرجحة المجاز على الحقيقة. فقول الزمخشري: عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج، لا دليل فيه على أحد الأمرين، مخالف لنقل أصحابنا، إذ ذكروا أنّ النحويين على مذهبين: أحدهما: الدخول، والآخر: الخروج. وهو الذي صححوه. وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف، ويكون من المجمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام. وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين، فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه. وقال ابن عطية: تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال: إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها، فإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط بعطى أنّ الحد آخر المذكور بعدها، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل. فالرّوايتان محفوظتان عن مالك. روى أشهب عنه: أنهما غير داخلتين، وروى غيره أنهما داخلتان انتهى. وهذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني فقال: إنْ لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم.
والظاهر أنّ الوضوء شرط في صحة الصلاة من هذه الآية، لأنه أمر بالوضوء للصلاة، فالآتي بها دونه تارك للمأمور، وتارك المأمور يستحق العقاب. وأيضاً فقد بيّن أنه متى عدم الوضوء انتقل إلى التيمم، فدل على اشتراطه عند القدرة عليه. والظاهر أنّ أول فروض الوضوء هو غسل الوجه، وبه قال أبو حنيفة. وقال الجمهور: النية أولها. وقال أحمد وإسحاق: تجب التسمية في أول الوضوء، فإن تركها عمداً بطل وضوءه. وقال بعضهم: يجب ترك الكلام على الوضوء، والجمهور على أنه يستحب. والظاهر أنّ الواجب في هذه المأمور بها هو مرة واحدة. والظاهر وجوب تعميم الوجه بالغسل بدأت بغسل أي موضع منه. والظاهر وجوب غسل البياض الذي بين العذار والأذن، وبه قال: أبو حنيفة، ومحمد، والشافعي. وقال أبو يوسف وغيره: لا يجب. والظاهر أنّ ما تحت اللحية الخفيفة لا يجب غسله، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يجب وأنّ ما استرسل من الشعر تحت الذقن لا يجب غسله. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك والمزني: يجب. وعن الشافعي القولان. والظاهر أن قوله: وأيديكم، لا ترتيب في غسل اليدين، ولا في الرجلين، بل تقديم اليمنى على اليسرى فيهما مندوب إليه من السنة. وقال أحمد: هو واجب. والظاهر أنّ التغيية بإلى تقتضي أن يكون انتهاء الغسل إلى ما بعدها، ولا يجوز الابتداء من المرفق حتى يسيل الماء إلى الكف، وبه قال بعض الفقهاء.
وقال الجمهور: لا يخل ذلك بصحة الوضوء. والسنة أن يصبّ الماء من الكف بحيث يسيل منه إلى المرفق.
{وامسحوا برءُوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} هذا أمر بالمسح بالرأس، واختلفوا في مدلول باء الجرّ هنا فقيل: إنها للإلصاق. وقال الزمخشري: المراد إلصاق المسح بالرأس، وما مسح بعضه ومستوفيه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه انتهى. وليس كما ذكر، ليس ماسح بعضه يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه، إنما يطلق عليه أنه ملصق المسح ببعضه. وأما أنْ يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه حقيقة فلا، إنما يطلق عليه ذلك على سبيل المجاز، وتسمية لبعض بكل. وقيل: الباء للتبعيض، وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة حتى قال بعضهم، وقال من لا خبرة له بالعربية. الباء في مثل هذا للتبعيض وليس بشيء يعرفه أهل العلم. وقيل: الباء زائدة مؤكدة مثلها في قوله {ومن يرد فيه بإلحاد} {وهزي إليك بجذع النخلة} {ولا تلقوا بأيديكم} أي إلحاد أو جذع وأيديكم. وقال الفراء: تقول العرب هزه وهزّ به، وخذ الخطام وبالخطام، وحز رأسه وبرأسه، ومده ومد به. وحكى سيبويه: خشنت صدره وبصدره، ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد، وهذا نص في المسألة.
وعلى هذه المفهومات ظهر الاختلاف بين العلماء في مسح الرأس، فروي عن ابن عمر: أنه مسح اليافوخ فقط، وعن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه، وعن ابراهيم والشعبي: أي نواحي رأسك مسحت أجزأك، وعن الحسن: إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها. وأما فقهاء الأمصار فالمشهور من مذهب مالك: وجوب التعميم. والمشهور من مذهب الشافعي: وجوب أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح، ومشهور أبي حنيفة والشافعي: أن الأفضل استيعاب الجميع. ومن غريب ما نقل عمن استدل على أنّ بعض الرأس يكفي أن قوله تعالى: وامسحوا برؤوسكم، كقولك: مسحت بالمنديل يدي، فكما أنه لا يدل هذا على تعميم جميع اليد بجزء من أجزاء المنديل فكذلك الآية، فتكون الرأس والرجل آلتين لمسح تلك اليد، ويكون الفرض إذ ذاك ليس مسح الرأس والأرجل، بل الفرض مسح تلك اليد بالرأس والرجل، ويكون في اليد فرضان: أحدهما: غسل جميعها إلى المرفق، والآخر: مسح بللها بالرأس والأرجل. وعلى من ذهب إلى التبعيض يلزم أن يكون التبعيض في قوله في قصة التيمم: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} أن يقتصر على مسح بعض الوجه وبعض اليد، ولا قائل به. وعلى من جعل الباء آلة يلزم أيضاً ذلك، ويلزم أن يكون المأمور به في التيمم هو مسح الصعيد بجزء من الوجه واليد.
والظاهر أنّ الأمر بالغسل والمسح يقع الامتثال فيه بمرة واحدة، وتثليث المعسول سنة. وقال أبو حنيفة ومالك: ليس بسنة. وقال الشافعي: بتثليث المسح. وروي عن أنس، وابن جبير، وعطاء مثله. وعن ابن سيرين: يمسح مرتين.
والظاهر من الآية: أنه كيفما مسح أجزأه.
واختلفوا في الأفضل ابتداء بالمقدم إلى القفا، ثم إلى الوسط، ثلاثة أقوال الثابت منها في السنة الصحيحة الأول، وهو قول: مالك، والشافعي، وأحمد، وجماعة من الصحابة والتابعين. والثاني: منها قول الحسن بن حي. والثالث: عن ابن عمر. والظاهر أنّ رد اليدين على شعر الرأس ليس بفرض، فتحقق المسح بدون الرد. وقال بعضهم: هو فرض. والظاهر أن المسح على العمامة لا يجزئ، لأنه ليس مسحاً للرأس. وقال الأوزاعي، والثوري، وأحمد: يجزئ، وأنّ المسح يجزئ ولو بأصبع واحدة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يجزئ بأقل من ثلاث أصابع. والظاهر أنه لو غسل رأسه لم يجزه، لأن الغسل ليس هو المأمور به وهو قول: أبي العباس ابن القاضي من الشافعية، ويقتضيه مذهب الظاهرية. وقال ابن العربي: لا نعلم خلافاً في أنّ الغسل يجزيه من المسح إلا ما روى لنا الشاشي في الدرس عن ابن القاضي أنه لا يجزئه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر، وهي قراءة أنس، وعكرمة، والشعبي، والباقر، وقتادة، وعلقمة، والضحاك: وأرجلِكم بالخفض. والظاهر من هذه القراءة اندراج الأرجل في المسح مع الرأس. وروى وجوب مسح الرجلين عن: ابن عباس، وأنس، وعكرمة، والشعبي، وأبي جعفر الباقر، وهو مذهب الإمامية من الشيعة. وقال جمهور الفقهاء: فرضهما الغسل. وقال داود: يجب الجمع بين المسح والغسل، وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية. وقال الحسن البصري، وابن جرير الطبري: يخير بين المسح والغسل ومن أوجب الغسل تأول أنّ الجر هو خفض على الجواز، وهو تأويل ضعيف جداً، ولم يرد إلا في النعت، حيث لا يلبس على خلاف فيه قد قرر في علم العربية، أو تأول على أنّ الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدى بالباء أي: وافعلوا بأرجلكم الغسل، وحذف الفعل وحرف الجرّ، وهذا تأويل في غاية الضعف. أو تأول على أنّ الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة مظنة الإسراف المذموم المنهى عنه، فعطف على الرابع الممسوح لا ليمسح، ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها. وقيل: إلى الكعبين، فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة، لأنّ المسح لم يضرب له غاية انتهى هذا التأويل. وهو كما ترى في غاية التلفيق وتعمية في الأحكام. وروي عن أبي زيد: أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحاً ويقولون: تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي.
وقرأ نافع، والكسائي، وابن عامر، وحفص: وأرجلكم بالنصب. واختلفوا في تخريج هذه القراءة، فقيل: هو معطوف على قوله: وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين، وفيه الفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض، بل هي منشئة حكماً. وقال أبو البقاء: هذا جائز بلا خلاف. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، قال: وأقبح ما يكون ذلك بالجمل، فدل قوله هذا على أنه ينزه كتاب الله عن هذا التخريج.
وهذا تخريج من يرى أنّ فرض الرجلين هو الغسل، وأما مَن يرى المسح فيجعله معطوفاً على موضع برؤوسكم، ويجعل قراءة النصب كقراءة الجرِّ دالة على المسح. وقرأ الحسن: وأرجلكم بالرفع، وهو مبتدأ محذوف الخبر أي: اغسلوها إلى الكعبين على تأويل من يغسل، أو ممسوحة إلى الكعبين على تأويل من يمسح. وتقدم مدلول الكعب. قال ابن عطية: قول الجمهور هما حدّ الوضوء بإجماع فيما علمت، ولا أعلم أحداً جعل حدّ الوضوء إلى العظم الذي في وجه القدم. وقال غيره: قالت الإمامية: وكل من ذهب إلى وجوب مسح الكعب هو الذي في وجه القدم، فيكون المسح مغياً به. وقال ابن عطية: روى أشهب عن مالك: الكعبان هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب، وليس الكعب بالظاهر الذي في وجه القدم، ويظهر ذلك من الآية في قوله: في الأيدي إلى المرافق، إذ في كل يد مرفق. ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب، فلما كان في كل رجل كعبان خصتا بالذكر انتهى. ولا دليل في قوله في الآية على أن موالاة أفعال الوضوء ليست بشرط في صحته لقبول الآية التقسيم في قولك: متوالياً وغير متوال، وهو مشهور مذهب أبي حنيفة ومالك، وروي عن مالك والشافعي في القديم: أنها شرط. وعلى أن الترتيب في الأفعال ليس بشرط لعطفها بالواو وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، ومذهب الشافعي أنه شرط واستيفاء حجج. هذه المسائل مذكورة في الفقه، ولم تتعرّض الآية للنص على الأذنين. فمذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري، والأوزاعي، ومالك فيما روى عنه أشهب وابن القاسم: أنهما من الرأس فيمسحان. وقال الزهري: هما من الوجه فيغسلان معه. وقال الشافعي: من الوجه هما عضو قائم بنفسه، ليسا من الوجه ولا من الرأس، ويمسحان بماء جديد. وقيل: ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر من الرأس، وعلى هذه الأقوال تبنى فرضية المسح أو الغسل وسنية ذلك.
{وإن كنتم جنباً فاطهروا} لما ذكر تعالى الطهارة الصغرى ذكر الطهارة الكبرى، وتقدم مدلول الجنب في {ولا جنباً إلا عابري سبيل} والظاهر أنّ الجنب مأمور بالاغتسال. وقال عمر، وابن مسعود: لا يتيمم الجنب البتة، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء، والجمهور على خلاف ذلك، وأنه يتيمم، وقد رجعا إلى ما عليه الجمهور. والظاهر أنّ الغسل والمسح والتطهر إنما تكون بالماء لقوله: {فلم تجدوا ماء} أي للوضوء والغسل فتيمموا صعيداً طيباً فدل على أنه لا واسطة بين الماء والصعيد، وهو قول الجمهور. وذهب الأوزاعي والأصم: إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة. والظاهر أنّ الجنب لا يجب عليه غير التطهير من غير وضوء.
ولا ترتيب في الأعضاء المغسولة، ولا دلك، ولا مضمضة، ولا استنشاق، بل الواجب تعميم جسده بوصول الماء إليه. وقال داود وأبو ثور: يجب تقديم الوضوء على الغسل. وقال إسحاق: تجب البداءة بأعلى البدن. وقال مالك: يجب الدلك، وروى عنه محمد بن مروان الظاهري: أنه يجزئه الانغماس في الماء دون تدلك. وقال أبو حنيفة: وزفر، وأبو يوسف، ومحمد، والليث، وأحمد: تجب المضمضة والاستنشاق فيه، وزاد أحمد الوضوء. وقال النخعي: إذا كان شعره مفتولاً جدّاً يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس لا يجب نقضه. وقرأ الجمهور: فاطّهروا بتشديد الطاء والهاء المفتوحتين، وأصله: تطهروا، فأدغم التاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل. وقرئ: فاطْهروا بسكون الطاء، والهاء مكسورة من أطهر رباعياً، أي: فأطهروا أبدانكم، والهمزة فيه للتعدية.
{وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} تقدّم تفسير هذه الجملة الشرطية وجوابها في النساء، إلا أنّ في هذه الجملة زيادة منه وهي مرادة في تلك التي في النساء. وفي لفظه: منه دلالة على إيصال شيء من الصعيد إلى الوجه واليدين، فلا يجوز التيمم بما لا يعلق باليد كالحجر والخشب والرمل العاري عن أن يعلق شيء منه باليد فيصل إلى الوجه، وهذا مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة، ومالك: إذا ضرب الأرض ولم يعلق بيده شيء من الغبار ومسح بها أجزأه. وظاهر الأمر بالتيمم للصعيد، والأمر بالمسح، أنه لو يممه غيره، أو وقف في مهب ريح فسفت على وجهه ويديه وأمرّ يده عليه، أو لم يمر، أو ضرب ثوباً فارتفع منه غبار إلى وجهه ويديه، أنّ ذلك لا يجزئه. وفي كل من المسائل الثلاث خلاف.
{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} أي من تضييق، بل رخص لكم في تيمم الصعيد عند فقد الماء. والإرادة صفة ذات، وجاءت بلفظ المضارع مراعاة للحوادث التي تظهر عنها، فإنها تجيء مؤتنقة من نفي الحرج، ووجود التطهير، وإتمام النعمة. وتقدم الكلام على مثل اللام في ليجعل في قوله: {يريد الله ليبين لكم} فأغنى عن إعادته. ومن زعم أنّ مفعول يريد محذوف تتعلق به اللام، جعل زيادة في الواجب للنفي الذي في صدر الكلام، وإن لم يكن النفي واقعاً على فعل الحرج، ويجري مجرى هذه الجملة ما جاء في الحديث «دين الله يسر، وبعثت بالحنيفية السمحة» وجاء لفظ الدين بالعموم، والمقصود به الذي ذكر بقرب وهو التيمم.
{ولكن يريد ليطهركم} أي بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء. وفي الحديث: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج». وقال الجمهور: المقصود بهذا التطهير إزالة النجاسة الحكمية الناشئة عن خروج الحدث. وقيل: المعنى ليطهركم من أدناس الخطايا بالوضوء والتيمم، كما جاء في مسلم:
«إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء». إلى آخر الحديث. وقيل: المعنى ليطهركم عن التمرّد عن الطاعة. وقرأ ابن المسيب: ليطهرْكم بإسكان الطاء وتخفيف الهاء.
{وليتم نعمته عليكم} أي وليتم برخصة العامة عليكم بعزائمه. وقيل: الكلام متعلق بما دل عليه أوّل السورة من إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح، ثم قال بعد كيفية الوضوء: ويتم نعمته عليكم، أي النعمة المذكورة ثانياً وهي نعمة الدين. وقيل: تبيين الشرائع وأحكامها، فيكون مؤكداً لقوله: {وأتممت عليكم نعمتي} وقيل: بغفران ذنوبهم. وفي الخبر: «تمام النعمة بدخول الجنة والنجاة من النار». {لعلكم تشكرون} أي تشكرونه على تيسير دينه وتطهيركم وإتمام النعمة عليكم.