فصل: تفسير الآيات (97- 100):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (97- 100):

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}
{جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتله ما شرع وذكر تعظيم الكعبة بقوله {هدياً بالغ الكعبة}، فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قياماً للناس أي ركز في قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى أحد، وصارت وازعة لهم من الأذى وهم في الجاهلية الجهلاء لا يرجون جنة ولا يخافون ناراً إذ لم يكن لهم ملك يمنعهم من أذى بعضهم فقامت لهم حرمة الكعبة مقام حرمة الملك هذا مع تنافسهم وتحاسدهم ومعاداتهم وأخذهم بالثأر، ولذلك جعل الثلاثة المذكورة بعد الكعبة قياماً للناس فكانوا لا يهيجون أحداً في الشهر الحرام ولا من ساق الهدي لأنه لا يعلم أنه لم يجيء لحرب ولا من خرج يريد البيت بحج أو عمرة فتقلد من لحي الشجر ولا من قضى نسكه فتقلد من شجر الحرم، ولما بعثت قريش زمن الحديبية إلى المؤمنين الحلس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا رجل يعظم الحرمة فألقوه بالبدن مشعرة» فلما رآها الحلس عظم عليه ذلك وقال ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالة قريش، وجعل هنا بمعنى صيَّر. وقيل جعل بمعنى بين وينبغي أن يحمل هذا على تفسير المعنى إذ لم ينقل جعل مرادفة لهذا المعنى لكنه من حيث التصيير يلزم منه التبيين والحكم، ولما كان لفظ الكعبة قد أطلقه بعض العرب على غير البيت الحرام كالبيت الذي كان في خثعم يسمى كعبة اليمانية، بين تعالى أن المراد هنا بالكعبة البيت الحرام، وهو بدل من الكعبة أو عطف بيان، وقال الزمخشري: البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفة كذلك انتهى. وليس كما ذكر لأنهم ذكروا في شرط عطف البيان الجمود فإذا كان شرطه أن يكون جامداً. لم يكن فيه إشعار بمدح إذ ليس مشتقاً وإنما يشعر بالمدح المشتق إلا أن يقال أنه لما وصف عطف البيان بقوله الحرام اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلك والقيام مصدر كالصيام ويقال هذا قيام له وقوام له وكأنهم ذهبوا في قيام إلى أنه ليس مصدراً بل هو اسم كالسواك فلذلك صحت الواو قال: قوام دنيا وقيام دين. إذا لحقت تاء التأنيث لزمت التاء قالوا القيامة واختلفوا في تفسير قوله {قياماً للناس} فقيل باتساع الرزق عليهم إذ جعلها تعالى مقصودة من جميع الآفاق وكانت مكة لا زرع ولا ضرع، وقيل بامتناع الإغارة في الحرم، وقيل بسبب صيرورتهم أهل الله فكل أحد يتقرب إليهم، وقيل بما يقام فيها من المناسك وفعل العبادات، وروي عن ابن عباس، وقيل: يأمن من توجه إليها وروي عنه، وقيل بعدم أذى من أخرجوه من جر جريرة ولجأ إليها، وقيل ببقاء الدين ما حجت واستقبلت، وقال عطاء لو تركوه عاماً واحداً لم ينظروا ولم يؤخروا.
وقال أبو عبد الله الرازي لا يبعد حمله على جميع الوجوه، لأن قوام المعيشة بكثرة المنافع وبدفع المضار وبحصول الجاه والرئاسة وبحصول الدين والكعبة سبب لحصول هذه الأقسام انتهى.
وقرأ ابن عامر قيماً بغير ألف فإن كان أصله قياماً بالألف وحذفت فقيل حكم هذا أن يجيء في الشعر وإن كان مصدراً على فعل فكان قياسه أن تصح فيه الواو كعوض، وقرأ الجحدري قيماً بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة وهو كسيد اسم يدل على ثبوت الوصف من غير تقييد بزمان ولفظ الناس عام، فقيل المراد العموم، وقيل المراد العرب، قال أبو عبد الله بن أبي الفضل وحس هذا المجاز أن أهل كل بلدة إذا قالوا الناس فعلوا كذا لا يريدون بذلك إلا أهل بلدتهم فلذلك خوطبوا على وفق عادتهم انتهى. والشهر الحرام ظاهره الإفراد، فقيل هو ذو الحجة وحده وبه بدأ الزمخشري قال لأن لاختصاصه من بين الأشهر المحرمة برسم الحج شأناً قد عرفه الله انتهى، وقيل المراد الجنس فيشمل الأشهر الحرم الأربعة الثلاثة بإجماع من العرب وشهر مضر وهو رجب كان كثير من العرب لا يراه ولذلك يسمى شهر الله إذ كان تعالى قد ألحقه في الحرمة بالثلاثة فنسبه وسدده، والمعنى شهر آل الله وهو شهر قريش وله يقول عوف بن الأحوص:
وشهر بني أمية والهدايا ** إذا سيقت مصرحها الدماء

ولما كانت الكعبة موضعاً مخصوصاً لا يصل إليه كل خائف جعل الله الأشهر الحرم والهدي والقلائد قياماً للناس كالكعبة.
{ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض} الظاهر أن الإشارة هي للمصدر المفهوم أي ذلك الجعل لهذه الأشياء قياماً للناس وأمناً لهم ليعلموا أنه تعالى يعلم تفاصيل الأمور الكائنة في السموات والأرض ومصالحكم في دنياكم ودينكم فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم، وأجاز الزمخشري أن تكون الإشارة إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره، وقال الزجاج الإشارة إلى ما نبأ به تعالى من الأخبار بالمغيبات والكشف عن الأسرار مثل قوله {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} ومثل إخباره بتحريفهم الكتب أي ذلك الغيب الذي أنبأكم به على لسان رسوله يدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض. وقيل الإشارة إلى صرف قلوب الناس إلى مكة في الأشهر المعلومة فيعيش أهلها معهم ولولا ذلك ماتوا جوعاً لعلمه بما في مصالحهم وليستدلوا على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض.
{وأن الله بكل شيء عليم} هذا عموم تندرج فيه الكليات والجزئيات كقوله تعالى {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها}، {اعلموا أن الله شديد العقاب} هذا تهديد إذ أخبر أن عقابه شديد لمن انتهك حرمته.
{وأن الله غفور رحيم} وهذا توجيه بالغفران والرحمة لمن حافظ على طاعة الله أو تاب عن معاصيه.
{ما على الرسول إلا البلاغ} لما تقدم الترغيب والترهيب أخبر تعالى أن كلف رسوله بالتبليغ وهو توصيل الأحكام إلى أمته وهذا فيه تشديد على إيجاب القيام بما أمر به تعالى، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليه الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط. قال ابن عطية هي إخبار للمؤمنين ولا يتصور أن يقال هي أنه موادعة منسوخة بآيات القتال بل هذه حال من آمن بهذا وشهد شهادة الحق فإنه عصم من الرسول ماله ودمه فليس على الرسول في جهته أكثر من التبليغ. انتهى. وذكر بعض المفسرين الخلاف فيها أهي محكمة أم منسوخة بآية السيف والرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل يجوز أن يكون اسم جنس والمعنى ما على كل من أرسل إلا البلاغ والبلاغ والبلوغ مصدران لبلغ وإذا كان مصدر البلغ فبلاغ الشرائع مستلزم لتبليغ من أرسل بها فعبر باللازم عن الملزوم ويحتمل أن يكون مصدر البلغ المشدد على حذف الزوائد فمعنى البلاغ التبليغ.
{والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} جملة فيها تهديد إذ أخبر تعالى أنه مطلع على حال العبد ظاهراً وباطناً فهو مجازيه على ذلك ثواباً أو عقاباً، ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى ألزم رسوله التبليغ للشريعة وألزمكم أنتم تبليغها فهو العالم بما تبدون منها وما تكتمونه فيجازيكم على ذلك وكان ذلك خطاباً لأمته إذا كان الإبداء والكتم يمكن صدورهما منهم بخلاف الرسول فإنه يستحيل عليه أن يكتم شيئاً من شرائع الله تعالى.
{قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} روى جابر أن رجلاً قال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي، فهل ينفعني ذلك المال إذا عملته في طاعة الله تعالى؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبل إلا الطيب» فنزلت هذه الآية تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما حذر عن المعصية ورغب في التوبة بقوله: {اعلموا أن الله شديد العقاب} الآية. وأتبعه في التكليف بقوله: {ما على الرسول إلا البلاغ} ثم بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله: {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية. فقال هل يستوي الخبيث والطيب، الآية أو يقال لما بين أن عقابه شديد لمن عصى وأنه غفور رحيم لمن أطاع بين أنه لا يستوي المطيع والعاصي وإن كان من العصاة والكفار كثرة فلا يمنعه كثرتهم من عقابه، والظاهر أن الخبيث والطيب عامان فيندرج تحتهما حلال المال وحرامه وصالح العمل وفاسده وجيد الناس ورديئهم وصحيح العقائد وفاسدها والخبيث من هذا كله لا يصلح ولا يحب ولا يحسن له عاقبة والطيب ولو قل نافع جيد العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته} الآية. والخبيث فاسد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب خلاف ذلك وقد خصص بعض المتقدمين هنا الخبيث والطيب ببعض ما يقتضيه عموم اللفظ، فقال ابن عباس والحسن هو الحلال والحرام، وقال السدي هو المؤمن والكافر وذكر الماوردي قولاً أنه المطيع والعاصي وقولاً آخر أنه الجيد والرديء، وقيل: الطيب المعرفة والطاعة والخبيث الجهل والمعصية والأحسن حمل هذه الأقوال على أنها تمثيل للطيب والخبيث لأقصر اللفظ عليها، وقوله: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} ظاهره أنه من جملة المأمور بقوله ووجه كاف الخطاب في قوله {ولو أعجبك} أن المعنى ولو أعجبك أيها السامع أو أيها المخاطب وأما أن لا يكون من جملة ما أمر بقوله ويكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر بعضهم أنه يحتمل ذلك والأولى القول الأول أو يحمل على أنه خطاب له في الظاهر والمراد غيره.
{فاتقوا الله يا اولي الألباب لعلكم تفلحون} أي اتقوه في إيثار الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر، قال الزمخشري ومن حق هذه الآية أن يكفح بها المجبرة إذا افتخروا بالكثرة. قال شاعرهم:
وكاثر بسعدٍ إنّ سعداً كثيرة ** ولا ترجُ من سعدٍ وفاء ولا نصرا

وقال آخر:
لا يدهمنك من دهمائهم عدد ** فإنّ جلَّهم كلَّهم بقرُ

وهو على عادته من تسمية أهل السنة مجبرة وذمهم وخص تعالى الخطاب والنداء بأولي الألباب لأنهم المتقدمون في تمييز الطيب والخبيث فلا ينبغي لهم إهمال ذلك. قال ابن عطية وكأن الإشارة إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالجبلة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد انتهى.

.تفسير الآيات (101- 114):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)}
{أشياء} مذهب سيبويه والخليل أنها لفعاء مقلوبة من فعلاء، والأصل شيئاً من مادة شيء، وهو اسم جمع كطرفاء وحلفاء ومذهب غيرهما أنها جمع. واختلفوا فقال الكسائي وأبو حاتم، هو جمع شيء كبيت وأبيات، وقال الكسائي لم تنصرف أشياء لشبه آخرها بآخر حمراء ولكثرة استعمالها والعرب تقول أشياوان كما تقول حمراوان. ذهب الفراء والأخفش إلى أنها جمع على وزن أفعلاء، قال الفراء شيء مخفف من شيء كما قالوا هوناً في جمع هين المخفف من هين، وقال الأخفش ليس مخففاً من شيء بل هو فعل جمع على أفعلاء فاجتمع في هذين القولين همزتان لام الكلمة وهمزة التأنيث فقلبت الهمزة التي هي لام الكلمة ياء لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء التي هي عين الكلمة استخفافاً، وذهب قوم إلى أن وزن شيء في الأصل شيء كصديق وأصدقاء، ثم حذفت الهمزة الأولى وفتحت ياء المد لكون ما بعدها ألفاً، قال ووزنها في هذا القول إلى أفياء وفي القول الذي قبله أفلاء، وتقرير هذه المذاهب صحة وإبطالاً مذكور في علم التصريف.
البحيرة فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة بمعنى المنطوحة، قال أبو عبيدة هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن في آخرها ذكر شقوا أذنها وخلوا سبيلها لا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن ماء ولامرعى، وروي نحوه عن ابن عباس إلا أنه لم يذكر عنه آخرها ذَكَر، وقال قتادة وينظر في الخامس فإذا كان ذكراً ذبحوه وأكلوه وإن كانت أنثى شقوا أذن الأنثى وقالوا هي بحيرة، فلم تركب ولم تطرد عن ماء ولا مرعى وإذا لقيها ألمعي لم يركبها تحرّجاً وتخوراً منه. روي عن عكرمة وزاد، حرم على النساء لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء، وقال ابن سيدة البحيرة هي التي خليت بلا راع، وقال مجاهد البحيرة ما نتجت السائبة من أنثى شق أذنها وخلّى سبيلها مع أمها في الفلا لم تركب ولم تحلب كما فعل بأمها، وقال ابن المسيب هي التي تمنع درها للطواغيت فلا يحلبها، وقيل هي الناقة إذا ولدت خمساً أو سبعاً شقوا أذنها. وقال ابن عطية إذا نتجت الناقة عشرة أبطن شقوا أذنها نصفين طولاً فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرّجال، وقيل البحيرة السقب وإذا ولد يحزوا أذنه، وقالوا اللهم إن عاش فعفى وإن مات فذكي فإذا مات أكل، ويظهر من اختلاف هذه النقول أن العرب كانت تختلف طرائقها في البحيرة فصار لكلّ منها في ذلك طريقة وهي كلها ضلال.
السائبة فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال ساب الماء وسابت الحية، وقيل هي السيبة اسم الفاعل بمعنى المفعول نحو قولهم
{عيشة راضية} أي مرضية، قال أبو عبيدة كان الرّجل إذا قدم من سفر أو نذر نذراً أو شكر نعمة سيب بعيراً فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حلوا لها، وقال الفراء إذا ولدت الناقة عشرة أبطن إناث سيبت فلم تركب ولم تحلب ولم يجزّ لها وبر ولم يشرب لها لبن إلا ولد أو ضيف، وقال ابن عباس السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق، وكان الرجل يسبب من ماله شيئاً فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها للسبيل، وقال الشافعي كانوا ينذرون تسبيب الناقة ليحج حجة عليها، وقيل السائبة العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث.
الوصيلة هي في الغنم على قول الأكثرين، روى أبو صالح عن ابن عباس أنها الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فيأكلها الرّجال والنساء وإن كان ذكراً، ونحوه أكلوه جميعاً. فإذا كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك مع أخيها فلا تذبح ومنافعها للرّجال دون النساء فإذا ماتت اشترك الرّجال والنساء فيها، وقال ابن قتيبة إن كان السابع ذكراً ذبح فأكل منه الرجال دون النساء وقالوا خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كانت ذكراً وأنثى فكما في قول ابن عباس، وقال ابن إسحاق هي الشاة تنتج عشرة أبطن متواليات في خمسة أبطن وما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإناث، وقال الفراء هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين فإذا ولدت في سابعها عناقاً وجدياً قيل وصلت أخاها فجرت مجرى السائبة، وقال الزجاج هي الشاة التي تلد أنثى فلهم أو ذكراً فلآلهتهم، وقال أبو عبيدة نحوه وزاد إذا ولدت ذكراً وأنثى معاً قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها، وروى الزهري عن ابن المسيب أنها الناقة البكر تبتكر في أول النتاج بالأنثى ثم تثنى بالأنثى فيستقونها لطواغيتهم ويقولون وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، وقيل هي الشاة تلد ثلاثة أبطن أو خمسة فإن كان آخرها جدياً ذبحوه لآلهتهم أو عناقاً استحيوها وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته من الذبح.
الحامي اسم فاعل من حمى وهو الفحل من الإبل، قال ابن مسعود وابن عباس واختاره أبو عبيدة والزجاج هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيقولون قد حمى ظهره فيسيبونه لأصنامهم فلا يحمل عليه شيء، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس واختاره الفراء أنه الفحل يولد لولد ولده، وقال عطاء هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيظهر من بين أولاده عشرة إناث من بناته وبنات بنانه، وقال ابن زيد هو الذي ينتج له سبع إناث متواليات وذكر الماوردي عن الشافعي أنه يضرب في إبل الرجل عشر سنين.
الحبس المنع من التصرف يقال حبست أحبس واحتبست فرساً في سبيل الله فهو محبس وحبيس وقفته للغزو.
وعثر على الرجل اطلع عليه مشتق من العثرة التي هي الوقوع وذلك أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو فلذلك قيل لكل من اطلع على أمر كان خفيًّا عليه قد عثر عليه ويقال قد عثر عليه وقد أعثر عليه إذا أطلعه عليه ومنه {وكذلك أعثرنا عليهم} أي اطلعنا، وقال الليث عثر يعثر عثوراً هجم على أمر لم يهجم عليه غيره وعثر عثرة وقع على شيء.
المائدة الخوان الذي عليه طعام فإذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة، قال أبو عبد الله هي فاعلة بمعنى مفعولة وهي من العطاء والممتاد المطلوب منه العطاء ماده أعطاه وامتاده استعطاه.
وقال الزجاج هي فاعلة من ماد يميد تحرك فكأنها تميد بما عليها، وقال ابن قتيبة المائدة الطعام من ماده يميده أعطاه كأنها تميد الآكلين أي تطعمهم وتكون فاعلة بمعنى مفعول بها أي ميد بها الآكلون. وقيل من الميد وهو الميل وهذا قريب من قول الزجاج.
{يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لك تسؤكم} روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أنس قال: قال رجل: يا رسول الله من أبي قال «أبوك فلان» ونزلت الآية. وفي حديث أنس أيضاً أن رجلاً قال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: «النار» وإن السائل من أبي هو عبد الله بن حذافة وفي غير حديث أنس، فقام آخر فقال من أبي فقال «أبوك سالم مولى شيبة» وقيل نزلت بسبب سؤالهم عن الحج أفي كل عام؟ فسكت فقال أفي كل عام؟ قال: «لا ولو قلت نعم لوجبت». روي هذا عن عليّ وأبي هريرة وأبي أمامة وابن عباس، وقيل السائل سراقة بن مالك، وقيل عكاشة بن محصن الأسدي، وقيل محصن، وقيل رجل من بني أسد. وقيل الأقرع بن حابس، وقال الحسن: سألوا عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه، وقال ابن جبير ورواه مجاهد عن ابن عباس: سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ولذلك جاء ذكرها بعدها وروي عن عكرمة أنهم سألوا الآيات والمعجزات. وذكر أبو سليمان الدمشقي أنها نزلت في تسهيم الفرائض، وروي أنه تعالى لما بين أمر الكعبة والهدي والقلائد وأعلم أن حرمتها هو تعالى الذي شرعها إذ هي أمور قديمة من لدن إبراهيم عليه السلام، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية هل تلحق بذلك أم لا؟ إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وما هو من تلقاء الشيطان، والظاهر من الروايات أن الأعراب ألحوا عليه بأنواع من السؤالات فزجروا عن ذلك بهذه الآية، وقيل نزلت في حجاج اليمامة حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عن الإيقاع بهم وإن كانوا مشركين، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما قال: {ما على الرسول إلا البلاغ} صار كأنه قيل ما بلغه الرسول فخذوه وكونوا منقادين له وما لم يبلغه فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه فربما جاءكم بسبب الخوض الفاسد تكاليف تشق عليكم، قاله أبوعبد الله الرازي وفيه بعض تلخيص، وقال أيضاً هذا متصل بقوله {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مختلفة والجملة الشرطية وما عطف عليها من الشرط في موضع الصفة لأشياء والمعنى لا تكثروا مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتى لكم بها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها قاله الزمخشري وبناه على ما نقل في سبب النزول أنه سئل عن الحج، وقرأ الجمهور {إن تبد لكم} بالتاء مبنيّاً للمفعول، وقرأ ابن عباس ومجاهد مبنيّاً للفاعل، وقرأ الشعبي بالياء مفتوحة من أسفل وضم الدال {يسؤكم} بالياء فيهما مضمومة في الأول ومفتوحة في الثاني، وقال ابن عطية والتحرير إن يبدها الله تعالى.
{وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} قال ابن عباس معناه لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم إما لتكليف شرعي يلزمكم وإما لخبر يسوءكم، مثل الذي قال من أبي؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذ إن سألتم عن بيانه بين لكم وأبدى انتهى. قال ابن عطية: فالضمير في قوله {عنها} عائد على نوعها لا على الأول التي نهى عن السؤال عنها.
قال: ويحتمل أن يكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم لقيتم غب ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون ما يسوءكم كالذي قيل له إنه في النار انتهى.
وقال الزمخشري {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن} أي عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه {تبد لكم} تلك التكاليف {التي تسوءكم} وتؤمروا بتحملها فتعرّضوا أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها انتهى. وعلى هذا يكون الضمير في {عنها} عائداً على أشياء نفسها لا على نوعها والذي يظهر أنهم نهوا عن السؤال عن أشياء وصفت بوصفين أحدهما أنها إن سألوا عنها أبديت لهم وقت نزول القرآن فيكون {حين} ظرفاً لقوله {تبد لكم} لا لقوله {وإن تسألوا عنها} والوصف الثاني أنها إن أبديت لهم ساءتهم وهذا الوصف وإن تقدم مرتب على الوصف المتأخر وإنما تقدم لأنه أردع لهم عن المسألة عن تلك الأشياء أن يسألوا عنها لأنهم إذا أخبروا أنهم تسوءهم تلك المسألة إذا أبديت كانت أنفر عن أن يسألوا بعد، فما كان هذا الوصف أزجر عن السؤال قدّم وتأخر الوصف في الذكر الذي ليس فيه زجر ولا ردع واتكل في ذلك على فهم المعنى مع أن غطف الوصف الثاني بالواو يقتضي التشريك فقط دون الترتيب، ولا يدل قوله {وإن تسألوا عنها} على جواز السؤال كما زعم بعضهم فقال: الضمير عائد على أشياء فكيف يفعل أشياء بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعاً وجائزاً معاً.
وأجاب بوجهين أحدهما أن يكون ممنوعاً قبل نزول القرآن مأموراً به بعد نزوله الثاني أنهما وإن كانا غير مختلفين إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسؤولاً عنه شيء واحد، فلهذا الوجه حسن اتحاد الضمير، انتهى. وهذا ليس بجواب ثان لأنه فرض أن تلك الأشياء بأعيانها، السؤال عنها ممنوع وجائز وإذا كانا نوعين مختلفين فليست الأشياء بأعيانها وجملة الشرط كما ذكرناه لا تدل على الجواز ألا ترى أنك تقول لا تزن وإن زنيت حددت فقوله وإن زنيت حددت لا يدل ذلك على الجواز بل جملة الشرط لا تدل على الوقوع بل لا تدل على الإمكان إذ قد يقع التعليق بين المستحيلين كقوله {لئن أشركت ليحبطن عملك} {عفا الله عنها} ظاهره أنه استئناف إخباره من الله تعالى، وذهب بعضهم إلى أنها في موضع جر صفة لأشياء كأنه قيل لا تسألوا عن أشياء معفو عنها ويكون معنى عفا أي ترك لكم التكليف فيها والمشقة عليكم بها لقوله إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل، وهو القول الأول وهو الاستئناف يحتمل أن يكون المعنى هذا أي تركها الله ولم يعرفكم بها ويحتمل أن يكون المعنى أنه تجاوز عن ارتكابكم تلك السؤالات ولم يؤاخذكم بها ويدل على هذا المعنى قوله: {والله غفور حليم} ولذلك قال الزمخشري عفا الله عنكم ما سلف عن مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها.
{والله غفور حليم} لا يؤاخذكم بما يفرط منكم بعقوبته خرّج الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها». وروى أبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم الناس جرماً من سأل عن مسألة لم تكن حراماً فحرمت من أجل مسألته». {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} الظاهر أن الضمير في {سألها} عائد على أشياء. وقال الحوفي: ولا يتجه حمله على الظاهر لا من جهة اللفظ العربيّ ولا من جهة المعنى، أما من جهة اللفظ فكان يعدى بعن فكان قد سأل عنها كما قال {لا تسألوا عن أشياء} فعدى بعن، وأما من جهة المعنى فلأن المسؤول عنه مختلف قطعاً فيهما لأن المنهي عنه الذي هو مثل سؤال من سأل أين مدخلي ومن أبي.
ومن سأل عن الحج وأين ناقتي وما في بطن ناقتي غير سؤال القوم الذين تقدموا، فقال الزمخشري الضمير في {سألها} ليس براجع إلى أشياء حتى يجب تعديته بعن، وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها {لا تسألوا} يعني قد سأل هذه المسألة قوم من الأولين ثم أصبحوا أي بمرجوعها كافرين، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا. انتهى. وقال ابن عطية نحواً من قول الزمخشري قال: ومعنى هذه الآية أن هذه السؤالات التي هي تعنتات وطلب شطط واقتراحات ومباحثات قد سألها قبلكم الأمم ثم كفروا بها. انتهى، ولا يستقيم ما قالاه إلا على حذف مضاف وقد صرح به بعض المفسرين، فقال قد سأل أمثالها أي أمثال هذه المسألة أو أمثال هذه السؤالات، وقرأ الجمهور سألها بفتح السين والهمزة، وقرأ النخعي بكسر السين من غير همز يعني بالكسر والإمالة، وجعل الفعل من مادّة سين وواو ولام لا من مادّة سين وهمزة ولام، وهما لغتان ذكرهما سيبويه، ومن كلام العرب هما يتساولان بالواو وإمالة النخعي سأل مثل إمالة حمزة خاف. والقوم قال ابن عباس هم قوم عيسى سألوا المائدة ثم كفروا بها بعد أن شرط عليهم العذاب الذي لا يعذبه أحداً من العالمين، وقال ابن زيد أيضاً هم قوم موسى سألوا في ذبح البقرة وشأنها، وقال ابن زيد أيضاً هم الذين قالوا لنبيَ لهم {ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله} وقيل قوم موسى سألوا أن يريهم الله جهرة فصار ذلك وبالاً عليهم، وقيل قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها بعد أن دخلوا على الاشتراط في قوله تعالى: {لها شرب ولكم يوم معلوم} وبعد اشتراط العذاب عليهم إن مسوها بسوء، وقال مقاتل كان بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدّقوهم فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين، وقال السدّي كقريش في سؤالهم أن يجعل الله لهم الصفا ذهباً، قال ابن عطية إنما يتجه في قريش مثال سؤالهم آية فلما شق القمر كفروا انتهى، وقال بعض المتأخرين القوم قريش سألوا أموراً ممتنعة كما أخبر تعالى {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} وهذا لا يستقيم إلا إن أريد بمن قبلهم آباؤهم الذين ماتوا في ابتداء التنزيل، قال أبو البقاء العكبري {من قبلكم} متعلق بسألها، ولا يجوز أن يكون صفة لقوم ولا حالاً لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها انتهى.
وهذا الذي ذكره صحيح في ظرف الزمان المجرد من الوصف أما إذا وصف فذكروا أنه يكون خبراً تقول نحن في يوم طيب وأما قبل وبعد فالحقيقة أنهما وصفان في الأصل فإذا قلت جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء زيد زماناً أي في زمان متقدم على زمان مجيء عمرو، ولذلك صح أن يقع صلة للموصول ولم يلحظ فيه الوصف وكان ظرف زمان مجرداً لم يجز أن يقع صلة، قال تعالى: {والذين من قبلكم} ولا يجوز والذين اليوم وقد تكلمنا على هذا في أول البقرة ومعنى {ثم أصبحوا} ثم صاروا ولا يراد أن كفرهم مقيد بالصباح.
{ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} مناسبة هذه لما قبلها أنه تعالى لما نهى عن سؤال ما لم يأذن فيه ولا كلفهم إياه منع من التزام أمور ليست مشروعة من الله تعالى، ولما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بأحكام الكعبة بين تعالى أنه لم يشرع شيئاً منها، أو لما ذكر المحللات والمحرمات في الشرع عاد إلى الكلام في المحللات والمحرمات من غير شرع، وفي حديث روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن أول من غير دين إسماعيل عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف نصب الأوثان وسبب السائبة وبحر البحيرة وحمى الحامي» ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار، وروي أنه كان ملك مكة، وروى زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قد عرفت أول من بحر البحيرة هو رجل من مدلج كانت له ناقتان فجدع ذانهما وحرم ألبانهما وركوب ظهورهما قال: فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه». قال الزمخشري يعني {ما جعل الله} ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك، وقال ابن عطية و{جعل} في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني، وإنما هي بمعنى ما سن ولا شرع، ولم يذكر النحويون في معاني جعل شرع، بل ذكروا أنها تأتي بمعنى خلق وبمعنى ألقى وبمعنى صير، وبمعنى الأخذ في الفعل فتكون من أفعال المقاربة. وذكر بعضهم بمعنى سمى وقد جاء حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها إلا أنه قليل والحمل على ما سمع أولى من إثبات معنى لم يثبت في لسان العرب فيحتمل أن يكون المفعول الثاني محذوفاً، أي ما صير الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامياً مشروعة بل هي من شرع غير الله،
{والأنعام خلقها لكم} خلقها الله تعالى رفقاً لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة وأهل الجاهلية قطعوا طريق الانتفاع بها وإذهاب نعمة الله بها، قال ابن عطيّة وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجوز الأحباس والأوقاف وقاسوا على البحيرة والسائبة والفرق بيّن ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبساً لا تجتنى ثمرتها ولا تزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة، وأما الحبس المتعين طريقة واستمرار الانتفاع به فليس من هذا، وحسبك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب في مال له: «اجعله حبساً لا يباع أصله» وحبس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
{ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} قال الزمخشري بتحريم ما حرموا.
{وأكثرهم لا يعقلون} فلا ينسبوا التحريم حتى يفتروا ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارهم انتهى. نص الشعبي وغيره أن المفترين هم المبتدعون وأن الذين لا يعقلون هم الأتباع، وقال ابن عباس {الذين كفروا} يريد عمرو بن لحي وأصحابه، وقيل في {لا يعقلون} أي الحلال من الحرام، وقال قتادة: {لا يعقلون} أن هذا التحريم من الشيطان لا من الله، وقال محمد بن موسى: {الذين كفروا} هنا هم أهل الكتاب والذين {لا يعقلون} هم أهل الأوثان، قال ابن عطية وهذا تفسير من انتزاع آخر الآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى وعما أخبر أيضاً من قوله {وإذا قيل لهم} انتهى. وقال مكي ذكر أهل الكتاب هنا لا معنى له إذ ليس في هذا صنع ولا شبه وإنما ذكر ذلك عن مشركي العرب فهم الذين عنوا بذلك.
{وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون}.
تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة وهنا {تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} وهناك {اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} وهنا {لا يعلمون شيئاً} وهناك {لا يعقلون شيئاً} والمعنى في هذا التغاير لا يكاد يختلف ومعنى {إلى ما أنزل الله} أي من القرآن الذي فيه التحريم الصحيح ومعنى {حسبنا}: كافينا وقول ابن عطية: معنى {حسبنا} كفانا ليس شرحاً بالمرادف إذ شرح الاسم بالفعل، وقال ابن عطية في {أولو}: ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى والتزموا شنيع القول وإنما التوقيف توبيخ لهم كأنهم يقولون بعده: نعم، ولو كان كذلك انتهى. وقوله في الهمزة ألف التوقيف عبارة لم أقف عليها من كلام النحاة يقولون همزة الإنكار همزة التوبيخ وأصلها همزة الاستفهام، وقوله: كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى يعني فكان التقدير قالوا: فاعتنى بالهمزة فقدّمت لقوله: {ولم يسيروا في الأرض} وليس كما ذكر من أنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى على ما نبينه إن شاء الله تعالى، وقال الزمخشري والواو في قوله: {أولو كان آباؤهم} واو الحال وقد دخلت عليها همزة الإنكار والتقدير أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم {لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون}، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة. انتهى. وجعل الزمخشري الواو، في {أَولو}، واو الحال وهو مغاير لقول ابن عطية أنها واو العطف لا من الجهة التي ذكرها ابن عطية واو الحال لكن يحتاج ذلك إلى تبيين، وذلك أنه قد تقدم من كلامنا أن لو التي تجيء هذا المجيء هي شرطية وتأتي لاستقصاء ما قبلها والتنبيه على حاله داخلة فيما قبلها وإن كان مما ينبغي أن لا تدخل، فقوله: «أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردّوا السائل ولو بظلف محرق واتقوا النار ولو بشق تمرة». وقول الشاعر:
قوم إذا حاربو شدّوا مآزرهم ** دون النساء ولو باتت بإطهار

فالمعنى أعطوا السائل على كل حال ولو على الحالة التي تشعر بالغنى وهي مجيئه على فرس، وكذلك يقدر ما ذكرنا من المثل على ما يناسب فالواو عاطفة على حال مقدرة فمن حيث هذا العطف صح أن يقال إنها واو الحال وقد تقدم الكلام على ذلك بأشبع من هذا فالتقدير في الآية أحسبهم أتباع ما وجدوا عليه آباءهم على كل حال ولو في الحالة التي تنفي عن آبائهم العلم والهداية فإنها حالة ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء لأن ذلك حال من غلب عليه المفرط.
{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم} قال أبو أمية الشعباني: سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال: لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامّهم فإن وراءكم أياماً أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم». وهذا أصح ما يقال في تأويل هذه الآية لأنه عن الرسول وعليه الصحابة بلغ أبا بكر الصديق أن بعض الناس تأول الآية على أنه لا يلزم الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، فصعد المنبر وقال: أيها الناس لا تغتروا بقول الله: {عليكم أنفسكم} فيقول أحدكم: عليّ نفسي فوالله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم وليسوا منكم سوء العذاب، وعن عمر أن رجلاً قال له: إني لأعمل بأعمال البر كلها إلا في خصلتين قال: وما هما قال لا آمر ولا أنهى، فقال له عمر لقد طمست سهمين من سهام الإسلام إن شاء غفر لك وإن شاء عذبك، وعن ابن مسعود ليس هذا زمان هذه الآية قولوا الحق ما قبل منكم فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن: لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا:
«ليبلغ الشاهد منكم الغائب» ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل. وقال ابن جبير {عليكم أنفسكم} فالزموا شرعكم بما فيه من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر {ولا يضركم من ضلّ} من أهل الكتاب {إذا اهتديتم}، وقال ابن زيد المعنى {يا أيها الذين آمنوا} من أبناء الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب {عليكم أنفسكم} في الاستقامة على الدين {لا يضركم} ضلال الأسلاف {إذا اهتديتم}، قال وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار: سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت فنزلت الآية بسبب ذلك، وقيل: نزلت بسبب ارتداد بعض المؤمنين وافتتانهم كابن أبي السرح وغيره، وقال المهدوي قيل إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال ابن عطية لم يقل أحد فيما علمت أنها آية الموادعة للكفار ولا ينبغي أن يعارض بها شيء مما أمر به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف، وقال الزمخشري كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على العناد والعتوّ من الكفرة ويتمنون دخولهم في الإسلام فقيل لهم عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي في طرق الهدى ولا يضركم الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين، كما قال تعالى لنبيه: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم فهو مخاطب به وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنّ مع تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد. وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه، وروى أبو صالح عن ابن عباس أن منافقي مكة قالوا: عجباً لمحمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية فهلا أكلاههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب فشق ذلك على المسلمين فنزلت، وقال مقاتل ما يقارب هذا القول، وذكروا في مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما بين أنواع التكاليف ثم قيل {ما على الرسول إلا البلاغ} إلى قوله: {وإذا قيل لهم تعالوا} الآية. كان المعنى أن هؤلاء الجهال ما تقدّم من المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرّين على جهلهم فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم فإن ذلك لا يضركم بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره، و{عليكم}: من كلم الإغراء وله باب معقود في النحو وهو معدود في أسماء الأفعال فإن كان الفعل متعدياً كان اسمه متعدياً وإن كان لازماً كان لازماً و{عليكم}: اسم لقولك الزم فهو متعد فلذلك نصب المفعول به والتقدير هنا عليكم إصلاح أنفسكم أو هداية أنفسكم، وإذا كان المغرى به مخاطباً جاز أن يؤتى بالضمير منفصلاً فتقول عليك إياك أو يؤتى بالنفس بدل الضمير فتقول عليك نفسك كما في هذه الآية، وحكى الزمخشري عن نافع أنه قرأ {عليكم أنفسكم} بالرفع وهي قراءة شاذة تخرج على وجهين: أحدهما يرتفع على أنه مبتدأ وعليكم في موضع الخبر والمعنى على الإغراء، والوجه الثاني أن يكون توكيداً للضمير المستكن في {عليكم} ولم تؤكد بمضمر منفصل إذ قد جاء ذلك قليلاً ويكون مفعول {عليكم} محذوفاً لدلالة المعنى عليه والتقدير {عليكم أنفسكم} هدايتكم {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، وقرأ الجمهور {لا يضركم} بضم الضاد والراء وتشديدها، قال الزمخشري: وفيه وجهان أن يكون خبراً مرفوعاً وينصره قراءة أبي حيوة {لا يضركم} وأن يكون جواباً للأمر مجزوماً وإنما ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل {لا يضركم} ويجوز أن يكون نهياً انتهى.
وقرأ الحسن بضم الضاد وسكون الراء من ضار يضور، وقرأ النخعي بكسر الضاد وسكون الراء من ضار يضير وهي لغات.
{إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون} أي مرجع المهتدين والضالين وغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وزيد تقومان وهذا فيه تذكير بالحشر وتهديد بالمجازاة.
{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان} روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدي يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاماً من فضة مخوصاً بالذهب فاستحلفهما، وفي رواية فحلفهما بعد العصر النبي صلى الله عليه وسلم «ما كتمتما ولا اطلعتما» ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من عدي وتميم فجاء الرجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما، وما اعتدينا قال: فأخذ الجام وفيهم نزلت الآية، قيل والسهمي هو مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم وأن جام الفضة كان يريد به الملك وهو أعظم تجاراته وأن عدياً وتميماً باعاه بألف درهم واقتسماها، وقيل اسمه بديل بن أبي مارية مولى العاصي بن وائل السهمي وأنه خرج مسافراً في البحر إلى أرض النجاشي. وأن إناء الفضة كان وزنه ثلثمائة مثقال وكان مموّهاً بالذهب قال فقدموا الشام، فمرض بديل وكان مسلماً الحديث. وذكر أبو عبد الله بن الفضل أن ورثة بديل قالوا لهما ألستما زعمتما أن صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه، فما بال هذا الإناء معكما وهو مما خرج صاحبنا به وقد حلفتما عليه قالا إنا كنا ابتعناه منه، ولم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقر لكم فتأخذوه منا وتسألوا عليه البينة ولا نقدر عليها فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت انتهى.
وفي رواية قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر وأديت لهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا ما أمروا به فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه فحلف فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: {بعد أيمانهم} فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يد عدي بن زيد وزاد الواقدي في حديثه أن تميماً وعدي كانا أخوين ويعني والله أعلم أنهما أخوان لأم وأن بديلاً كتب وصيته بيده ودسها في متاعه، وأوصى إلى تميم وعدي أن يؤدّيا رحله وأن الرسول استحلفهما بعد العصر وأنه حلف عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة، وذكر الزمخشري هذا السبب مختصراً مجرداً فذكر فيه أن بديل بن أبي مريم كان من المهاجرين وأنه كتب كتاباً فيه ما معه وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدوا فرفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وقال ابن عطية ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامه وقد عده بعض المتأخرين في الصحابة، وقال مكي بن أبي طالب: هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً، قال ابن عطية وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها وذلك بين من كتابه انتهى. وقال أبو الحسن السخاوي ما رأيت أحداً من الأئمة تخلص كلامه فيها من أولها إلى آخرها انتهى. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر {يا أيها الذين آمنوا} كان في ذلك تنفير عن الضلال واستبعاد عن أن ينتفع بهم في شيء من أمور المؤمنين من شهادة أو غيرها فأخبر تعالى بمشروعية شهادتهم أو الإيصاء إليهم في السفر على ما سيأتي بيانه، وقال أبو نصر القشيري لما نزلت السورة بالوفاء بالعقود وترك الخيانات انجر الكلام إلى هذا، وقرأ الجمهور {شهادة بينكم} بالرفع وإضافة {شهادة} إلى {بينكم}، وقرأ الشعبي والحسن والأعرج {شهادة بينكم} برفع شهادة وتنوينه، وقرأ السلمي والحسن أيضاً {شهادة} بالنصب والتنوين وروي هذا عن الأعرج وأبي حيوة و{بينكم} في هاتين القراءتين منصوب على الظرف فشهادة على قراءة الجمهور مبتدأ مضاف إلى بين بعد الاتساع فيه كقوله
{هذا فراق بيني وبينك} وخبره {اثنان} تقديره شهادة اثنين أو يكون التقدير ذوا شهادة بينكم إثنان واحتيج إلى الحذف ليطابق المبتدأ الخبر وكذا توجيه قراءة الشعبي والأعرج، وأجاز الزمخشري أن يرتفع {اثنان} على الفاعلية بشهادة ويكون {شهادة} مبتدأ وخبره محذوف وقدره فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان، وقيل {شهادة} مبتدأ خبره {إذا حضر أحدكم الموت}، وقيل خبره {حين الوصية}، ويرتفع {اثنان} على أنه خبر مبتدأ محذوف، التقدير الشاهدان اثنان ذوا عدل منكم، أو على الفاعلية، التقدير يشهد اثنان، وقيل {شهادة} مبتدأ و{اثنان} مرتفع به على الفاعلية وأغنى الفاعل عن الخبر. وعلى الإعراب الأول يكون {إذاً} معمولاً للشهادة وأما {حين} فذكروا أنه يكون معمولاً لحضر أو ظرفاً للموت أو بدلاً من إذا ولم يذكر الزمخشري غير البدل، قال و{حين الوصية} بدل منه يعني من {إذا} وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية وأنها من الأمور اللازمة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها، وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل انتهى. وقال الماتريدي واتبعه أبو عبد الله الرازي: التقدير ما بينكم فحذف ما، قال أبو عبد الله الرازي: يعني شهادة ما بينكم، {بينكم} كناية عن التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع وحذف ما من قوله ما بينكم جائز لظهوره ونظيره {هذا فراق بيني وبينكم} أي ما بيني وبينك وقوله {لقد تقطع بينكم} في قراءة من نصب انتهى، وحذف ما الموصولة لا يجوز عند البصريين ومع الإضافة لا يصح تقدير ما البتة وليس قوله {هذا فراق بيني وبينك} نظيره {لقد تقطع بينكم} لأن ذلك مضاف إليه وهذا باق على طريقته فيمكن أن يتخيل فيه تقدير ما لأن الإضافة إليه أخرجته عن الظرفية وصيرته مفعولاً به على السعة وأما تخريج قراءة السلمي والحسن {شهادة} بالنصب والتنوين ونصب {بينكم} فقدره الزمخشري ليقم شهادة اثنان فجعل {شهادة} مفعولاً بإضمار هذا الأمر و{اثنان} مرتفع بليقم على الفاعلية وهذا الذي قدره الزمخشري هو تقدير ابن جني بعينه، قال ابن جني التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان انتهى، وهذا الذي ذكره ابن جني مخالف لما قاله أصحابنا قالوا لا يجوز حذف الفعل وإبقاء فاعله إلا أن أشعر بالفعل ما قبله كقوله تعالى: {يسبح له فيها بالغدو والآصال} على قراءة من فتح الباء فقرأه مبنياً للمفعول وذكروا في اقتياس هذا خلافاً أي يسبحه رجال فدل يسبح على يسبحه أو أجيب به نفي كأن يقال لك ما قام أحد عندك فتقول بلى زيد أي قام زيد أو أجيب به استفهام كقول الشاعر:
ألا هل أتى أم الحويرث مرسل ** بل خالد إن لم تعقه العوائق

التقدير أتى خالد أو يأتيها خالد وليس حذف الفعل الذي قدره ابن جني وتبعه الزمخشري واحداً من هذه الأقسام الثلاثة والذي عندي أن هذه القراءة الشاذة تخرج على وجهين: أحدهما أن يكون {شهادة} منصوبة على المصدر الذي ناب مناب الفعل بمعنى الأمر و{اثنان} مرتفع به والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب قولك: ضرباً زيداً إلا أن الفاعل في ضرباً مسند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب وهذا مسند إلى الظاهر لأن معناه ليشهد، والوجه الثاني أن يكون أيضاً مصدراً ليس بمعنى الأمر بل يكون خبراً ناب مناب الفعل في الخبر، وإن كان ذلك قليلاً كقولك افعل وكرامة ومسرة أي وأكرمك وأسرك فكرامة ومسرة بدلان من اللفظ بالفعل في الخبر وكما هو الأحسن في قول امرئ القيس:
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم

فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفاً لأنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر التقدير وقف صحبي على مطيهم والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان، والشهادة هنا هل هي التي تقام بها الحقوق عند الحكام أو الحضور أو اليمين ثلاثة أقوال آخرها للطبري والقفال كقوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات} وقيل تأتي الشهادة بمعنى الإقرار نحو قوله: {والملائكة يشهدون} وبمعنى العلم نحو قوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} وبمعنى الوصية وخرجت هذه الآية عليه فيكون فيها أربعة أقوال.
{ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} {ذوا عدل} صفة لقوله {اثنان} و{منكم} صفة أخرى و{من غيركم} صفة لآخران، قال الزمخشري {منكم} من أقاربكم و{من غيركم} من الأجانب {إن أنتم ضربتم في الأرض} يعني أن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هو أصلح وهم له أنصح، وقيل {منكم} من المسلمين وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر، وعن مكحول نسخها قوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} انتهى. وما اختاره الزمخشري وبدأ به أولاً هو قول ابن عباس وعكرمة والحسن والزهري قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم أحق بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أسندها إلى غيرهما من المسلمين الأجانب وهذا القول مخالف لما ذكره الزمخشري وغيره من المفسرين حتى ابن عطية قال لا نعلم خلافاً أن سبب هذه الآية أن تميماً الداري وعدي بن زياد كانا نصرانيين وساقا الحديث المذكور أولاً فهذا القول مخالف لسبب النزول وأما القول الثاني الذي حكاه الزمخشري هو مذهب أبي موسى وابن المسيب ويحيى بن يعمر وابن جبير وأبي مجلز وابراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي، وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال الثوري ومال إليه أبو عبيد واختاره أحمد قالوا: معنى قوله: {منكم} من المؤمنين ومعنى {من غيركم} من الكفار، قال بعضهم وذلك أن الآية نزلت ولا يؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفار ومذهب أبي موسى وشريح وغيرهما أن الآية محكمة، قال أحمد: شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين ورجح أبو عبد الله الرازي هذا القول قال: قوله: {يا أيها الذين آمنوا} خطاب لجميع المؤمنين فلما قال: {أو آخران من غيركم} كان من غير المؤمنين لا محالة وبأنه لو كان الآخران مسلمين لم يكن جواز الاستشهاد بهما مشروطاً بالسفر لأن المسلم جائز استشهاده في الحضر والسفر وبأنه دلت الآية على وجوب الحلف من بعد الصلاة وأجمع المسلمون على أن الشاهد لا يجب تحليفه فعلمنا أنهما ليسا من المسلمين وبسبب النزول وهو شهادة النصرانيين على بديل وكان مسلماً وبأن أبا موسى قضى بشهادة يهوديين بعد أن حلفهما وما أنكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعاً وباتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل وليس فيها منسوخ، وقال أبو جعفر النحاس ناصراً للقول الأول: هذا ينبني على معنى غامض في العربية وذلك أن معنى آخر في العربية من جنس الأول تقول مررت بكريم وكريم آخر فقوله آخر يدل على أنه من جنس الأول ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر ولا مررت برجل وحمار آخر فوجب من هذا أن يكون معنى قوله {أو آخران من غيركم} أي عدلان والكفار لا يكونون عدولاً انتهى، وما ذكره في المثل صحيح إلا أن الذي في الآية مخالف للمثل التي ذكرها النحاس في التركيب لأنه مثل بآخر وجعله صفة لغير جنس الأول.
وأما الآية فمن قبيل ما تقدم فيه آخر على الوصف واندرج آخر في الجنس الذي قبله ولا يعتبر جنس وصف الأول تقول: جاءني رجل مسلم وآخر كافر ومررت برجل قائم وآخر قاعدٍ واشتريت فرساً سابقاً وآخر مبطئاً فلو أخرت آخر في هذه المثل لم تجز المسألة لو قلت: جاءني رجل مسلم وكافر آخر ومررت برجل قائم وقاعد آخر واشتريت فرساً سابقاً ومبطئاً آخر لم يجز وليست الآية من هذا القبيل إلا أن التركيب فيها جاء {اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} فآخران من جنس قوله {اثنان} ولاسيما إذا قدرته رجلان اثنان فآخران هما من جنس قولك رجلان اثنان ولا يعتبر وصف قوله {ذوا عدل منكم} وإن كان مغايراً لقوله {من غيركم} كما لا يعتبر وصف الجنس في قولك عندي رجلان اثنان مسلمان وآخران كافران إذ ليس من شرط آخر إذا تقدم أن يكون من جنس الأول بعيد وصفه وهو على ما ذكرته هو لسان العرب قال الشاعر:
كانوا فريقين يصغون الزجاج على ** قعس الكواهل في أشداقها ضخم

وآخرين على الماذيّ فوقهم ** من نسج داود أو ما أورثت إرم

التقدير كانوا فريقين فريقاً أو ناساً يصغون الزجاج ثم قال وآخرين ترى المأذى، فآخرين من جنس قولك فريقاً، ولم يعبره بوصفه وهو قوله يصغون الزجاج لأن الشاعر قسم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصفين متحدي الجنس، وهذا الفرق قل من يفهمه فضلاً عمن يعرفه، وأما القول الثالث الذي حكاه الزمخشري وهو أنه منسوخ، وحكاه عن مكحول، فهو قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال: تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض لا على المسلمين، والناسخ قوله: {ممن ترضون من الشهداء} وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وزعموا أن آية الدين من آخر ما نزل، والظاهر أن أو للتخيير وقال به ابن عباس فمن جعل قوله {من غيركم} أي من الكفار فاختلفوا. فقيل {غيركم} يعني به أهل الكتاب وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل أهل الكتاب والمشركين وهو ظاهر قوله {من غيركم}، وقيل {أو} للترتيب إذا كان قوله {من غيركم} يعني به من غير أهل ملتكم فالتقدير إن لم يوجد من ملتكم.
{إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب ولو جرى على لفظ {إذا حضر أحدكم الموت} لكان التركيب إن هو ضرب في الأرض فأصابته مصيبة الموت وإنما جاء الالتفات جمعاً لأن قوله {أحدكم} معناه إذا حضر كل واحد منكم الموت، والمعنى إذا سافرتم في الأرض لمصالحكم ومعايشكم، وظاهر الآية يقتضي أن استشهاد آخرين من غير المسلمين مشروط بالسفر في الأرض وحضور علامات الموت.
{تحبسونهما من بعد الصلاة} الخطاب للمؤمنين لا لما دلّ عليه الخطاب في قوله {إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم} لأن ضرب في الأرض وأصابه الموت ليس هو الحابس، {تحبسونهما} صفة لآخران واعترض بين الموصوف والصفة بقوله {إن أنتم إلى الموت} وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة، حسب اختلاف العلماء في ذلك، إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه استغنى عن جواب إن لما تقدم من قوله و{آخران من غيركم} انتهى. وإلى أن {تحبسونهما} صفة ذهب الحوفي وأبو البقاء وهو ظاهر كلام ابن عطية إذ لم يذكر غير قول أبي علي الذي قدّمناه.
وقال الزمخشري (فإن قلت): ما موضع {تحبسونهما}. (قلت): هو استئناف كلام كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما فكيف إن ارتبنا فقيل: {تحبسونهما}، وما قاله الزمخشري من الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته. وإنما قال الزمخشري بعد اشتراط العدالة فيهما لأنه اختار أن يكون قوله {أو آخران من غيركم} معناه أو عدلان آخران من غير القرابة وتقدم من كلام أبي على أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه إلى آخر كلامه، فظهر منه أن تقدير جواب الشرط هو {إن ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} فاستشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم، والظاهر أن الشرط قيد في شهادة اثنين ذوي عدل من المؤمنين أو آخرين من غير المؤمنين فيكون مشروعية الوصية للضارب في الأرض المشارف على الموت أن يشهد اثنين، ويكون تقدير الجواب: إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فاستشهدوا اثنين إما منكم وإما من غيركم، ولا يكون الشرط إذ ذاك قيداً في آخرين من غيرنا فقط، بل هو قيد فيمن ضرب في الأرض وشارف الموت فيشهد اثنان منا أو من غيرنا.
وقال ابن عباس في الكلام محذوف تقديره فأصابتكم مصيبة الموت وقد استشهدتموهما على الإيصاء، وقال ابن جبير تقديره وقد أوصيتم. قيل وهذا أولى لأن الشاهد لا يحلف والموصي يحلف. ومعنى {تحبسونهما} تستوثقونهما لليمين والخطاب لمن يلي ذلك من ولاة الإسلام، وضمير المفعول عائد في قول على آخرين من غير المؤمنين وظاهر عوده على اثنين منا أو من غيرنا سواء كانا وصيين أو شاهدين، وظاهر قوله من بعد الصلاة أن الألف واللام للجنس أو من بعد أي صلاة، وقد قيل بهذا الظاهر وخص ذلك ابن عباس بصلاة دينهما وذلك تغليظ في اليمين، وقال الحسن بعد العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما، وقال الجمهور هي صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف عدياً وتميماً بعد العصر عند المنبر ورجح هذا القول بفعله صلى الله عليه وسلم وبقوله في الصحيح: «من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان». وبأن التحليف كان معروفاً بعدهما فالتقييد بالمعروف يغني عن التقييد باللفظ وبأن جميع الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه فتكون الألف واللام في هذا القول للعهد وكذا في قول الحسن.
{فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذاً لمن الآثمين} ظاهره تقييد حلفهما بوجود الارتياب فمتى لم توجد الريبة فلا تحليف. وينبغي أن يحمل تحليف أبي موسى لليهوديين اللذين استشهدهما مسلم توفي على وصيته على أنه وقعت ريبة وإن لم يذكر ذلك في قصة ذلك المسلم، والفاء في قوله {فيقسمان} عاطفة هذه الجملة على قوله {تحبسونهما} هذا هو الظاهر. وقال أبو علي وإن شئت لم تقدر الفاء لعطف جملة ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرمة:
وإنسان عيني يحسر الماء تارة ** فيبدو وتارات يجم فيغرق

تقديره عندهم إذا حسر بدا فكذلك إذا حبستموهما اقسما انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى تقدير شرط محذوف وإبقاء جوابه فتكون الفاء إذ ذاك فاء الجزاء وإلى تقدير مضمر بعد الفاء أي فهما يقسمان وفهو يبدو، وخرّج أصحابنا بيت ذي الرمة على توجيه آخر وهو أن قوله: يحسر الماء تارة. جملة في موضع الخبر وقد عريت عن الرابط فكان القياس أن لا تقع خبراً للمبتدأ لكنه عطف عليهما بالفاء جملة فيها ضمير المبتدأ فحصل الربط بذلك و{لا نشتري} هو جواب قوله فيقسمان بالله وفصل بين القسم وجوابه بالشرط. والمعنى إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما، وقيل إن أريد بهما الشاهدان، فقد نسخ تحليف الشاهدين وإن أريد الوصيّان فليس بمنسوخ تحليفهما وعن عليّ أنه كان يحلّف الشاهد والراوي إذا اتهمها، والضمير في {به} عائد على الله أو على القسم أو على تحريف الشهادة، أقوال ثالثها لأبي علي، وقوله: {نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً} كناية عن الاستبدال عرضاً من الدنيا وهو على حذف مضاف أي ذا ثمن لأن الثمن لا يشترى ولا يصح أن يكون {لا نشتري} لا نبيع هنا وإن كان ذلك في اللغة. قال الزمخشري أن لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ولو كان من نقسم لأجله قريباً منا وذلك على عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً فإنهم داخلون تحت قوله: {كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} وإنما قال فإنهم داخلون إلى آخره لأن الاثنين والآخرين عنده مؤمنون فاندرجوا في قوله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين} الآية. قال ابن عطية وخص ذا القربى بالذكر لأن العرف ميل النفس إلى أقربائهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل والجملة من قوله: {ولا نكتم شهادة الله} معطوفة على قوله: {لا نشتري به ثمناً} فيكون من جملة المقسم عليه وأضاف الشهادة إلى الله لأنه تعالى هو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها ويحتمل أن يكون {ولا نكتم} خبراً منهما أخبرا عن أنفسهما أنهما لا يكتمان شهادة الله ولا يكون داخلاً تحت المقسم عليه. وقرأ الحسن والشعبي {ولا نكتم} بجزم الميم نهيا أنفسهما عن كتمان الشهادة ودخول لا الناهية على المتكلم قليل نحو قوله:
إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد ** بها أبداً ما دام فيها الجراضم

وقرأ علي ونعيم بن ميسرة والشعبي بخلاف عنه {شهادة الله} بنصبهما وتنوين {شهادة} وانتصبا بنَكتم التقدير ولا نكتم الله شهادة، قال الزهراوي ويحتمل أن يكون المعنى ولا نكتم شهادة والله ثم حذف الواو ونصب الفعل إيجازاً. وروي عن عليّ والسلميّ والحسن البصري شهادة بالتنوين آلله بالمدّ في همزة الاستفهام التي هي عوض من حرف القسم دخلت تقريراً وتوقيفاً لنفوس المقسمين أو لمن خاطبوه، وروي عن الشعبي وغيره أنه كان يقف على شهادة بالهاء الساكنة الله بقطع ألف الوصل دون مد الإستفهام.
قال ابن جني الوقف على شهادة بسكون الهاء واستئناف القسم حسن لأن استئنافه في أول الكلام أوقر له وأشدّ هيبة من أن يدخل في عرض القول. وروي عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش {شهادة} بالتنوين {الله} بقطع الألف دون مد وخفض هاء الجلالة ورويت هذه عن الشعبي. وقرأ الأعمش وابن محيصن لملاثمين بإدغام نون من في لام الآثمين بعد حذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام.
{فإن عثر على أنهما استحقا إثماً} أي فإن عثر بعد حلفهما على أنهما استحقا إثماً أي ذنباً بحنثهما في اليمين بأنها ليست مطابقة للواقع و{عثر} استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه وبعد إن لم يرج ولم يقصد كما تقول على الخبير سقطت ووقعت على كذا. قال أبو علي: الإثم هنا هو الشيء المأخوذ لأن أخذه إثم قسمي إثماً كما يسمى ما أخذ بغير الحق مظلمة، قال سيبويه المظلمة اسم ما أخذ منك ولذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر انتهى. والظاهر أن الإثم هنا ليس الشيء المأخوذ بل الذنب الذي استحقا به أن يكونا من الآثمين الذي تبرآ أن يكونا منهم في قولهما {إنا إذاً لمن الآثمين} ولو كان الإثم هو الشيء المأخوذ ما قيل فيه استحقا إثماً لأنهما ظلما وتعدّيا وذلك هو الموجب للإثم.
{فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان} قرأ الحرميان والعربيان والكسائي {استحق} مبنياً للفاعل {والأوليان} مثنى مرفوع تثنية الأولى ورويت هذه القراءة عن أبيّ وعليّ وابن عباس وعن ابن كثير في رواية قرة عنه، وقرأ حمزة وأبو بكر {استُحق} مبنياً للمفعول {والأوليان} جمع الأول، وقرأ الحسن {استحق} مبنياً للفاعل الأولان مرفوع تثنية أول، وقرأ ابن سيرين الأوليين تثنية الأولى فأما القراءة الأولى فقال الزمخشري {فآخران} فشاهدان آخران {يقومان مقامهما من الذين استحق} عليهم أي من الذين استحق عليهم الإثم، ومعناه وهم الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعترته، وفي قصة بديل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين حلف رجلين من ورثته أنه إناء صاحبهما وأن شهادتهما أحق من شهادتهما، و{الأوليان} الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وارتفاعهما على هما لأوليان كأنه قيل ومن هما فقيل {الأوليان}، وقيل هما بدل من الضمير في {يقومان} أو من آخران ويجوز أن يرتفعا باستحق أي من الذين استحق عليهم ابتدأت الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال انتهى. وقد سبقه أبو عليّ إلى أن تخريج رفع {الأوليان} على تقديرهما الأوليان، وعلى البدل من ضمير {يقومان} وزاد أبو عليّ وجهين آخرين، أحدهما أن يكون {الأوليان} مبتدأ ومؤخراً، والخبر آخران يقومان مقامهما. كأنه في التقدير فالأوليان بأمر الميت آخران يقومان فيجيء الكلام كقولهم تميمي أنا.
والوجه الآخر أن يكون {الأوليان} مسنداً إليه {استحق}. قال أبو عليّ فيه شيء آخر وهو أن يكون {الأوليان} صفة لآخران لأنه لما وصف خصص فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له انتهى. وهذا الوجه ضعيف لاستلزامه هدم ما كادوا أن يجمعوا عليه من أن النكرة لا توصف بالمعرفة ولا العكس وعلى ما جوّزه أبو الحسن يكون إعراب قوله: {فآخران} مبتدأ والخبر {يقومان} ويكون قد وصف بقوله من {الذين} أو يكون قد وصف بقوله {يقومان} والخبر {من الذين} ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر أو يكونان صفتين لقوله: {فآخران} ويرتفع آخران على خبر مبتدإ محذوف أي فالشاهدان آخران ويجوز عند بعضهم أن يرتفع على الفاعل، أي فليشهد آخران وأما مفعول {استحق} فتقدم تقدير الزمخشري أنه استحق عليهم الإثم، ويعني أنه ضمير عائد على الإثم لأن الإثم محذوف، لأنه لا يجوز حذف المفعول الذي لم يسم فاعله وقد سبقه أبو عليّ والحوفي إلى هذا التقدير وأجازوا وجهين آخرين أحدهما: أن كون التقدير استحق عليهم الإيصاء، والثاني: أن يكون من الذين استحق عليهم الوصية.
وأما ما ذكره الزمخشري من ارتفاع قوله {الأوليان} باستحق فقد أجازه أبو علي كما تقدم ثم منعه قال لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئاً منها. وأما {الأوليان} بالميت فلا يجوز أن يستحقا فيسند {استحق} إليهما إلا أن الزمخشري إنما رفع قوله الأوليان باستحق على تقدير حذف مضاف ناب عنه {الأوليان}، فقدره استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال فيسوغ توجيهه، وأجاز ذلك ابن جرير على أن يكون التقدير من الذين استحق عليهم إثم الأولين، وأجاز ابن عطية أيضاً أن يرتفع {الأوليان} باستحق وطول في تقرير ذلك وملخصه أنه حمل استحق هنا على الاستعارة بأنه ليس استحقاقاً حقيقة لقوله {استحقا إثماً} وإنما معناه أنهم غلبوا على المال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهل دينه فجعل تسورهم عليه استحقاقاً مجازاً والمعنى من الجماعة التي غابت وكان حقها أن تحضر وليها، قال فلما غابت وانفرد هذا الموصي استحقت هذه الحال وهذان الشاهدان من غير أهل الدين الولاية وأمر الأوليين على هذه الجماعة ثم يبنى الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازاً، ويقوي هذا الغرض أن يعدى الفعل بعلى لما كان باقتدار وحمل هنا على الحال، ولا يقال استحق منه أو فيه إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه، وأما استحق عليه فيقال في الحمل والغلبة والاستحقاق المستعار انتهى. والضمير في {مقامهما} عائد على شاهدي الزور {ومن الذين} هم ولاة الميت. وقال النحاس في قول من قدر الذين استحق عليهم الإيصاء هذا من أحسن ما قيل فيه لأنه لم يجعل حرف بدلاً من حرف يعني أنه لم يجعل على بمعنى في ولا بمعنى من، وقد قيل بهما أي من الذين استحق منهم الإثم لقوله: {إذا اكتالوا على الناس} أي من الناس استحق عليهم الإثم أي من الناس وأجاز ابن العربي تقدير الإيصاء واختار أبو عبد الله الرازي وابن أبي الفضل أن يكون التقدير من الذين استحق عليهم المال، قال أبو عبد الله وقد أكثر الناس في أنه لم وصف موالي بهذا الوصف، وذكروا فيه قولاً والأصح عندي فيه وجه واحد وهو أنهم وصفوا بذلك بأنه لما أخذ مالهم استحق عليهم مالهم فإن من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال تعلق ملكه له فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليك ذلك المال انتهى. {والأوليان} بمعنى الأقربين إلى الميت أو الأوليان بالحلف؛ وذلك أن الوصيين ادعيا أن مورث هذين الشاهدين باعهما الإناء وهما أنكرا ذلك فاليمين حق لهما. كإنسان أقر لآخر بدين وادعى أنه قضاه فترد اليمين على الذي ادعى أولاً لأنه صار مدعى عليه وتلخص في إعراب {الأوليان} على هذه القراءة وجوه الابتداء والخبر لمبتدأ محذوف والبدل من ضمير {يقومان} والبدل من آخران والوصف لآخران والمفعولية باستحق على حذف مضاف مختلف في تقديره.
وأما القراءة الثانية وهي بناء {استحق} للفاعل ورفع الأوليين فقال الزمخشري معناه من الورثة الذين استحق عليهم أوليان من سهم بالشهادة أن يجردوهما لقيام الشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين انتهى.
وقال ابن عطية ما ملخصه {الأوليان} رفع باستحق وذلك على أن يكون المعنى {من الذين استحق عليهم} مالهم وتركهم شاهدا الزور فسميا أوليين أي صيرهما عدم الناس أولى بهذا الميت، وتركته فجازا فيها، أو يكون المعنى من الذين حق عليهم أن يكون الأوليان منهم فاستحق بمعنى حق كاستعجب وعجب، أو يكون {استحق} بمعنى سعى واستوجب فالمعنى من القوم الذين حضر أوليان منهم فاستحقا عليهم أي استحقا لهم وسعيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقربانهما انتهى. وقال بعضهم المفعول محذوف أي {من الذين استحق عليهم الأوليان} وصيتهما.
وأما القراءة الثالثة وهي قراءة {استحق} مبنياً للمفعول والأولين جمع الأول فخرج على أن الأولين وصف للذين، قال أبو البقاء أو بدل من الضمير المجرور بعلى، قال الزمخشري أو منصوب على المدح ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها انتهى؛ وهذا على تفسير أن قوله: {أو آخران من غيركم} أنهم الأجانب لا أنهم الكفار، وقال ابن عطية معناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم أي غلبوا عليه ثم وصفهم بأنهم أولون أي في الذكر في هذه الآية وذلك في قوله: {اثنان ذوا عدل منكم} انتهى.
وأما القراءة الرابعة وهي قراءة الحسن فالأولان مرفوع باستحق. قال الزمخشري ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعي وهو أبو حنيفة وأصحابه لا يرون ذلك فوجه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما اختانا فحلفا فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتماه فأنكر الورثة فكان اليمين على الورثة لإنكارهم الشراء.
وأما القراءة الخامسة وهي قراءة ابن سيرين فانتصاب الأوليين على المدح.
{فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا} أي فيقسم الآخران القائمان مقام شهادة التحريف أن ما أخبرا به حق والذي ذكرناه من نص القصة أحق مما ذكراه أولاً وحرفا فيه وما زدنا على الحد. وقال ابن عباس ليميننا أحق من يمينهما ومن قال الشهادة في أول القصة ليست بمعنى اليمين قال هنا الشهادة يمين وسميت شهادة لأنها يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة. قال ابن الجوزي {أحق} أصح لكفرهما وإيماننا انتهى.
{إنا إذاً لمن الظالمين} ختما بهذه الجملة تبرياً من الظلم واستقباحاً له وناسب الظلم هنا لقولهما {وما اعتدينا} والاعتداء والظلم متقاربان وناسب ختم ما أقسم عليه شاهدا الزور {بقوله لمن الآثمين} لأن عدم مطابقة يمينهما للواقع وكتمهما الشهادة يجران إليهما الإثم.
{ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم} أي ذلك الحكم السابق ولما كان الشاهدان لهما حالتان: حالة يرتاب فيها إذا شهدا، فإذ ذاك يحبسان بعد الصلاة ويحلفان اليمين المشروعة في الآية قوبلت هذه الحالة بقوله: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها} أي على ما شهدا حقيقة دون إنكار ولا تحريف ولا كذب، وحالة يطلع فيها إذا شهدا على إثمهما بالشهادة وكذبهما في الحلف، فإذ ذاك لا يلتفت إلى أيمانهم وترد على شهود آخرين فعمل بأيمانهم وذلك بعد حلفهم وافتضاحهم فيها بظهور كذبهم قوبلت هذه الحالة بقوله: {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} وكان العطف بأو لأن الشاهدين إذا لم يتضح صدقهما لا يخلوان من إحدى هاتين الحالتين إما حصول ريبة في شهادتهما وإما الاطلاع على خيانتهما فلذلك كان العطف بأو الموضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فالمعنى ما تقدّم ذكره من الأحكام أقرب إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغي أو خوف رد الأيمان إلى غيرهم فتسقط أيمانهم ولا تقبل. قال ابن عباس ذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ثم يخافون الفضيحة ورد اليمين انتهى. وقيل ذلك إشارة إلى تحليف الشاهدين في جمع من الناس. وقيل إلى الحبس بعد الصلاة فقط. قال ابن عطية ويظهر هذا من كلام السدّي وأو على هذا التأويل بمنزلة قولك تحبني يا زيد أو تسخطني كأنك قلت وإلا أسخطتني فكذلك معنى الآية {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وإلا خافوا رد الأيمان} وأما على مذهب ابن عباس فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا أو أقرب إلى أن يخافوا انتهى.
فتلخص أن {أو} تكون على بابها أو تكون بمعنى الواو، و{يخافوا} معطوف في هذين الوجهين على {يأتوا} أو يكون بمعنى إلى أن كقولك لألزمنك أو تقضيني حقي وهي التي عبر عنها ابن عطية بتلك العبارة السابقة من تقديرها بشرط محذوف فعله وجزاؤه، وإذا كانت بمعنى إلى أن فهي عند البصريين على بابها من كونها لأحد الشيئين. إلا أن العطف بها لا يكون على الفعل الذي هو يأتوا لكنه يكون على مصدر متوهم وذلك على ما تقرر في علم العربية، وجمع الضمير في يأتوا وما بعده وإن كان السابق مثنى فقيل هو عائد على الشاهدين باعتبار الصنف والنوع، وقيل لا يعود إلى كليهما بخصوصيتهما بل إلى الناس الشهود والتقدير ذلك أدنى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي.
{واتقوا الله واسمعوا} أي احذروا عقاب الله تعالى واتخذوا وقاية منه بأن لا تخونوا ولا تحلفوا به كاذبين وأدوا الأمانة إلى أهلها واسمعوا سماع إجابة وقبول.
{والله لا يهدي القوم الفاسقين} إشارة إلى من حرّف الشهادة أنه فاسق خارج عن طاعة الله فالله لا يهديه إلا إذا تاب، فاللفظ عام والمعنى اشتراط انتفاء التوبة.
{يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} مناسبة هذه لما قبلها أنه لما أخبر تعالى بالحكم في شاهدي الوصية وأمر بتقوى الله والسمع والطاعة، ذكر بهذا اليوم المهول المخوف وهو يوم القيامة فجمع بذلك بين فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة لمن حرّف الشهادة ولمن لم يتق الله ولم يسمع، وذكروا في نصب {يوم} وجوهاً: أحدها: أنه منصوب بإضمار اذكروا. والثاني: بإضمار احذروا. والثالث: باتقوا. والرابع: باسمعوا قاله الحوفي. والخامس: بلا يهدي، قال قوم منهم الزمخشري وأبو البقاء قالا: لا يهديهم في ذلك اليوم طريق الجنة، قال أبو البقاء أولاً يهديهم في ذلك اليوم إلى الحجة. والسادس: أجاز الزمخشري أن ينتصب على البدل من المنصوب في قوله {واتقوا الله}، وهو بدل الاشتمال، كأنه قيل واتقوا الله يوم جمعه وفيه بعد لطول الفصل بالجملتين. والسابع أن ينتصب على الظرف والعامل فيه مؤخر تقديره {يوم يجمع الله الرسل} كان كيت وكيت قاله الزمخشري، وقال ابن عطية وصف الآية وبراعتها إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفاً والعامل اذكروا واحذروا مما حسن اختصاره لعلم السامع والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة، وخص الرسل بالذكر لأنهم قادة الخلق وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق وهم المكلمون أولاً انتهى. والذي نختاره غير ما ذكروا وهو أن يكون {يوم} معمولاً لقوله {قالوا لا علم لنا} أي قال الرسل وقت جمعهم وقول الله لهم {ماذا أجبتم} وصار نظير ما قلناه في قوله
{وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل} وسؤاله تعالى إياهم بقوله ماذا {أجبتم} سؤال توبيخ لأممهم لتقوم الحجة عليهم ويبتدأ حسابهم كما سئلت الموءودة توبيخاً لوائدها وتوقيفاً له على سوء فعله وانتصاب {ماذا أجبتم} ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم قاله الزمخشري، وقيام ما الاستفهامية مقام المصدر جائز وكذلك ماذا إذا جعلتها كلها استفهاماً وأنشدوا على مجيء ما ذكر مصدراً قول الشاعر:
ماذا تعير ابنتي ربع عويلهما ** لا ترقدان ولا بؤسي لمن رقدا

وقال ابن عطية معناه ماذا أجابت به الأمم، ولم يجعل ما مصدراً بل جعلها كناية عن الجواب، وهو الشيء المجاب به لا للمصدر، وهو الذي عنى الزمخشري بقوله ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم. وقال الحوفي ما للاستفهام وهو مبتدأ بمعنى الذي خبرها وأجبتم صلته والتقدير ماذا أجبتم به انتهى، وحذف هذا الضمير المجرور بالحرف يضعف لو قلت جاءني الذي مررت تريد به كان ضعيفاً إلا إن اعتقد أنه حذف حرف الجر أولاً فانتصب الضمير ثم حذف منصوباً ولا يبعد. وقال أبو البقاء {ماذا} في موضع نصب بأجبتم وحرف الجر محذوف أي بماذا أجبتم وما وذا هنا بمنزلة اسم واحد ويضعف أن يجعل ذا بمعنى الذي هنا لأنه لا عائد هنا وحذف العائد مع حرف الجر ضعيف انتهى، وما ذكره أبو البقاء أضعف لأنه لا ينقاس حذف حرف الجر إنما سمع ذلك في ألفاظ مخصوصة ونصوا على أنه لا يجوز زيداً مررت به تريد بزيد مررت ولا سرت البيت تريد إلى البيت إلا في ضرورة شعر نحو قول الشاعر:
تحنُّ فتبدي ما بها من صبابة ** وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني

يريد لقضي عليّ فحذف عليّ وعدى الفعل إلى الضمير فنصبه ونفيهم العلم عنهم بقوله {لا علم لنا}، قال ابن عباس معناه لا علم لنا إلا علماً أنت أعلم به منا كأن المعنى لا علم لنا يكفي وينتهي إلى الغاية، وقال ابن جريج معنى {ماذا أجبتم} ماذا عملوا بعدكم وماذا أحدثوا فلذلك قالوا {لا علم لنا} ويؤيده {إنك أنت علام الغيوب}، إلا أن لفظة {ماذا أجبتم} تنبو عن أن تشرح بقوله ماذا عملوا وذكر المفسرون عن الحسن ومجاهد والسدي وسهل التستري أقوالاً في تفسير قولهم {لا علم لنا} لا تناسب الرسل أضربت عن ذكرها صفحاً. وقال الزمخشري: (فإن قلت) كيف يقولون لا علم لنا وقد علموا ما أجيبوا. (قلت): يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه، وإحاطته بما منوا به منهم، وذلك أعظم على الكفرة وأفتّ في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم إذا اجتمع عليهم توبيخ الله تعالى وتشكي أنبيائهم عليهم، ومثاله أن ينكت بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكتة قد عرفها السلطان واطلع على كنهها، وعزم على الانتصار له منه فيجمع بينهما ويقول له ما فعل بك هذا الخارجي وهو عالم بما فعل به يريد توبيخه وتبكيته، فيقول: أنت أعلم بما فعل بي تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه واتكالاً عليه وإظهاراً لشكايته وتعظيماً لما به انتهى، وليست الآية كهذا المثال الذي ذكره لأن في الآية {لا علم لنا} وهذا نفي لسائر أفراد العلم عنهم بالنسبة إلى الإجابة.
وفي المثال أنت أعلم بما فعل بي وهذا لا ينفي العلم عنه غير أنه أثبت لسلطانه أنه أعلم بالخارجي منه. وقال ابن أبي الفضل في قول الزمخشري ليس بالقوي لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى يريد الرسول توبيخهم، وقيل معناه علمنا ساقط مع علمك ومغمور به لأنك علام الغيوب ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم فكأنه لا علم لنا إلا جنب علمك حكاه الزمخشري بهذا اللفظ. قال الزجاج معناه مختصراً. وقال ابن عطية قول ابن عباس أصوب لأنه يترجح بالتسليم إلى الله تعالى ورد الأمر إليه إذ لا يعلمون إلا بما شوفهوا به مدة حياتهم وينقصهم ما في قلوب المشافهين من نفاق ونحوه وما كان بعدهم من أممهم والله تعالى يعلم جميع ذلك على التفصيل والكمال فرأوا التسليم له والخشوع لعلمه المحيط انتهى. وقيل لا علم لنا بما كان بعدنا وإنما الحكم للخاتمة. قال الزمخشري وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون موبخين انتهى. وقال ابن أبي الفضل الأصحّ ما اختاره ابن عباس أي تعلم ما أظهروا وما أضمروا ونحن ما نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا فبهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم انتهى، فيكون مما نفيت فيه الحقيقة ظاهراً والمقصود نفي الكمال كأنه قال: لا علم لنا كامل، تقول لا رجل في الدار أي كامل الرجولية في فوته ونفاذه. وقال أبو عبد الله الرازي ثبت في علم الأصول أن العلم غير والظن غير والحاصل عند كل أحد من الغير إنما هو الظن لا العلم ولذلك قال عليه السلام: «نحن نحكم بالظواهر والله متولي السرائر». وقال عليه السلام: «إنكم تختصمون إلى الحديث» والأنبياء قالوا: لا علم لنا البتة بأحوالهم إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن والظن كان معتبراً في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظنون أما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحْكام فيها مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور فلهذا السبب قالوا {لا علم} ولم يذكروا البتة ما معهم من الظن، لأن الظن لا عبرة به في القيامة انتهى كلامه.
وقال ابن عطية: لا علم لنا بسؤالك ولا جواب لنا عنه. وقرأ ابن عباس وأبو حيوة {ماذا أجبتم} مبنيًّا للفاعل. وقرأ علام بالنصب وهو على حذف الخبر لفهم المعنى فيتم الكلام بالمقدر في قوله {إنك أنت} أي إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره. وقال الزمخشري ثم نصب {علام الغيوب} على الاختصاص أو على النداء أو صفة لاسم إن انتهى. وهذا الوجه الأخير لا يجوز لأنهم أجمعوا على أن ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا يجوز أن يوصف وأما ضمير الغائب ففيه خلاف شاذّ، للكسائي. وقرأ حمزة وأبو بكر {الغيوب} بكسر الغين حيث وقع كأنّ من قال ذلك من العرب قد استثقل توالي ضمتين مع الياء ففر إلى حركة مغايرة للضمة مناسبة لمجاورة الياء وهي للكسرة.
{إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} يحتمل أن يكون {إذ} بدلاً من قوله: {يوم يجمع الله الرسل} والمعنى أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وبتعدد ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام فكذبوهم وسموهم سحرة وجاوزوا حد التصديق إلى أن اتخذوهم آلهة كما قال بعض بني إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى من البينات {هذا سحر مبين} واتخذه بعضهم وأمه إلهين قاله الزمخشري. وقال ابن عطية يحتمل أن يكون العامل في {إذ} مضمراً تقديره اذكر يا محمد إذ، وقال هنا بمعنى يقول لأن الظاهر من هذا القول أنه في القيامة تقدمة لقوله: {أأنت قلت للناس} ويحتمل أن يكون {إذ} بدلاً من قوله: {يوم يجمع الله} انتهى. وجوزوا أن يكون إذ في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك إذ قال الله. وإذا كان المنادى علماً مفرداً ظاهر الضمة موصوفاً بابن متصل مضاف إلى علم جاز فتحه اتباعاً لفتحة ابن. هذا مذهب الجمهور وأجاز الفرّاء وتبعه أبو البقاء في ما لا يظهر فيه الضمة تقدير والفتحة فإن لم تجعل {ابن مريم} صفة وجعلته بدلاً أو منادى فلا يجوز في ذلك العلم إلا الضم وقد خلط بعض المفسرين وبعض من ينتمي إلى النحو هنا، فقال بعض المفسرين: يجوز أن يكون {عيسى} في محل الرفع لأنه منادى معرفة غير مضاف ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيداً وكل ما كان مثل هذا جاز فيه الوجهان نحو يا زيد بن عمرو وأنشد النحويون:
يا حكم بن المنذر بن الجارود ** أنت الجواد بن الجواد بن الجود

قال التبريزي الأظهر عندي أن موضع {عيسى} نصب لأنك تجعل الاسم مع نعته إذا أضفته إلى العلم كالشيء الواحد المضاف انتهى.
والذي ذكره النحويون في نحو يا زيد بن بكر إذا فتحت آخر المنادى أنها حركة اتباع الحركة نون {ابن} ولم يعتد بسكون باء ابن لأن الساكن حاجز غير حصين، قالوا: ويحتمل أن يراد بالذكر هنا الإقرار وأن يراد به الإعلام وفائدة هذا الذكر إسماع الأمم ما خصه به تعالى من الكرامة وتأكيد حجته على جاحده، وقيل أمر بالذكر تنبيهاً لغيره على معرفة حق النعمة ووجوب شكر المنعم، قال الحسن ذكر النعمة شكرها والنعمة هنا جنس ويدل على ذلك ما عَدّده بعد هذا التوحيد اللفظي من النعم وأضافها إليه تنبيهاً على عظمها ونعمه عليه قد عددها هنا وفي البقرة وآل عمران ومريم وفي مواضع من القرآن ونعمته على أمه براءتها مما نسب إليها وتكفيلها لزكريا وتقبلها بقبول حسن وما ذكر في سورة التحريم {ومريم ابنة عمران} إلى آخره وغير ذلك وأمر بذكر نعمة أمه لأنها نعمة صائرة إليه.
{إذ أيدتك بروح القدس} قرأ الجمهور بتشديد الياء، وقرأ مجاهد وابن محيصن {أيدتك} على أفعلتك، وقال ابن عطية على وزن فاعلتك، ثم قال ويظهر أن الأصل في القراءتين {أيدتك} على وزن أفعلتك ثم اختلف الإعلال والمعنى فيهما أيدتك من الأبد، وقال عبد المطلب:
الحمد لله الأعز الأكرم ** أيدنا يوم زحوف الأشرم

انتهى والذي يظهر أن أيد في قراءة الجمهور ليس وزنه أفعل لمجيء المضارع على يؤيد فالوزن فعل ولو كان أفعل لكان المضارع يؤيد كمضارع آمن يؤمن وأما من قرأ آيد فيحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل. وأما قول ابن عطية إنه في القراءتين يظهر أن وزنه أفعلتك ثم اختلف الإعلال فلا أفهم ما أراد. وتقدم تفسير نظير هذه الجملة في قوله {وأيدناه بروح القدس} {تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني}.
تقدم تفسير نظير هذه الجمل والقراءات التي فيها والإعراب وما لم يتقدم ذكره نذكره فنقول جاء هناك {كهيئة الطير فتنفخ فيها فتكون}. وقرأ ابن عباس فتنفخها فتكون. وقرأ الجمهور {فتكون} بالتاء من فوق. وقرأ عيسى بن عمر فيها فيكون بالياء من تحت والضمير في {فيها} قال ابن عطية اضطرب المفسرون فيه قال مكي هو في آل عمران عائد على الطائر وفي المائدة عائد على الهيئة، قال ويصح عكس هذا وقال غيره الضمير المذكور عائد على {الطين}. قال ابن عطية ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطين ولا على الهيئة لأن الطير أو الطائر الذي يجيء الطير على هيئته لا نفخ فيه ألبتة، وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة به وكذلك الطين إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك انتهى.
وقال الزمخشري ولا يرجع بعض الضمير إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء وكذلك الضمير في يكون انتهى. والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام مكي أنه لا يريد به ما فهم عنه بل يكون قوله عائداً على الطائر لا يريد به الطائر المضاف إليه الهيئة بل الطائر الذي صوره عيسى ويكون التقدير وإذ يخلق من الطين طائراً صورة مثل صورة الطائر الحقيقي فينفخ فيه فيكون طائراً حقيقة بإذن الله. ويكون قوله عائداً على الهيئة لا يريد به الهيئة المضافة إلى الطائر، بل الهيئة التي تكون الكاف صفة لها ويكون التقدير، وإذ تخلق من الطين هيئة مثل هيئة الطير، {فتنفخ فيها} أي في الهيئة الموصوفة بالكاف المنسوب خلقها إلى عيسى، وأما قول مكي ويصح عكس هذا، وهو أن يكون الضمير المذكر عائداً على الهيئة والضمير المؤنث عائداً على الطائر فيمكن تخريجه على أنه ذكر الضمير وإن كان عائداً على مؤنث لأنه لحظ فيها معنى الشكل كأنه قدر هيئة كهيئة الطير بقوله شكلاً كهيئة الطير وأنه أنث الضمير وإن كان عائداً على مذكر لأنه لحظ فيه معنى الهيئة. قال ابن عطية والوجه عود ضمير المؤنث على ما تقتضيه الآية ضرورة، أي صوراً أو أشكالاً أو أجساماً، وعود الضمير المذكر على المخلوق الذي يقتضيه تخلق ثم قال ولك أن تعيده على ما تدل عليه الكاف في معنى المثل، لأن المعنى وإذ تخلق من الطين مثل هيئة ولك أن تعيد الضمير على الكاف نفسه فيكون اسماً في غير الشعر، فهو قول أبي الحسن وحده من البصريين وكذا قال الزمخشري، إن الضمير في {فيها} للكاف قال لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها وجاء في آل عمران {بإذن الله} مرتين وجاء هنا {بإذني} أربع مرّات عقيب أربع جمل لأن هذا موضع ذكر النعمة والامتنان بها فناسب الإسهاب وهناك موضع إخبار لبني إسرائيل فناسب الإيجاز والتقدير في وإذ تخرج الموتى تحيي الموتى فعبر بالإخراج عن الإحياء كقوله تعالى {كذلك الخروج} بعد قوله {وأحيينا به بلدة ميتاً} أو يكون التقدير وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء.
{وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات} أي منعتهم من قتلك حين هموا بك وأحاطوا بالبيت الذي أنت فيه. وقال عبيد بن عمير لما قال الله لعيسى {اذكر نعمتي عليك} كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يؤخر شيئاً لغدو يقول مع كل يوم رزقه لم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت، أين ما أمسى بات. وهذا القول يظهر منه أن عيسى خوطب بذلك قبل الرفع والبينات هنا هي المعجزات التي تقدم ذكرها وظهرت على يديه ولما فصل تعالى نعمته ذكر ذلك منسوباً لعيسى دون أمه لأن من هذه النعم نعمة النبوة وظهور هذه الخوارق فنعمته عليه أعظم منها على أمه إذ ولدت مثل هذا النبي الكريم.
وقال الشاعر فيما يشبه هذا:
شهد العوالم أنها لنفيسة ** بدليل ما ولدت من النجباء

{فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين} قرأ حمزة والكسائي ساحر بالألف هنا. وفي هود والصف فهذا هنا إشارة إلى عيسى. وقرأ باقي السبعة {سحر} فهذا إشارة إلى ما جاء به عيسى من البينات.
{وإذا أوحيت إلى الحواريين ان آمنوا بي وبرسولي} أي أوحيت إليهم على ألسنة الرسل. وقال ابن عطية إما أن يكون وحي إلهام أو وحي أمر والرسول هنا هو عيسى وهذا الإيحاء إلى الحواريين هو من نعم الله على عيسى بأن جعل له أتباعاً يصدقونه ويعملون بما جاء به ويحتمل أن تكون تفسيرية لأنه تقدّمها جملة في معنى القول وأن تكون مصدرية.
{قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} تقدم تفسير نظير هذه الجملة في آل عمران إلا أن هناك {آمنا به} لأنه تقدم ذكر الله فقط في قوله: {من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله} وهنا جاء {قالوا آمنا} فلم يتقيد بلفظ الجلالة إذ قد تقدم أن {آمنوا بي وبرسولي} وجاء هناك {واشهد بأنا}، وهنا {واشهد بأننا}. وهذا هو الأصل إذ أن محذوف منه النون لاجتماع الأمثال.
{إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قل اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} قال ابن عطية: {إذ قال الحواريون} اعتراض لما وصف حال قوم الله لعيسى يوم القيامة وتضمن الاعتراض إخبار محمد صلى الله عليه وسلم وأمته بنازلة الحواريين في المائدة إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها انتهى. والذي يقتضيه ظاهر اللفظ أن قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك} إلى آخر قصة المائدة كان ذلك في الدّنيا ذكر عيسى بنعمه وبما أجراه على يديه من المعجزات وباختلاف بني إسرائيل عليه وانقسامهم إلى كافر ومؤمن وهم الحواريون ثم استطرد إلى قصة المائدة ثم إلى سؤاله تعالى لعيسى {أأنت قلت للناس}، وإنما حمل بعضهم على أن ذلك في الآخرة كونه اعتقد أن {إذ} بدلاً من {يوم يجمع الله الرسل} وأن في آخر الآيات {هذا يوم ينفع الصادقين} ولا يتعين هذا المحمل على ما نبينه إن شاء الله تعالى في قوله: {هذا ينفع الناس} بل الظاهر ما ذكرناه. وقرأ الجمهور {هل يستطيع ربك} بالياء وضم الباء. وهذا اللفظ يقتضي ظاهره الشك في قدرة الله تعالى على أن ينزل مائدة من السماء، وذلك هو الذي حمل الزمخشري على أن الحواريين لم يكونوا مؤمنين قال: (فإن قلت): كيف قالوا {هل يستطيع ربك} بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ (قلت): ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص وإنما حكى ادعاءهم لهما ثم أتبعه قوله: {إذ قالوا} فآذن أن دعواهم كانت باطلة وأنهم كانوا شاكين وقوله: {هل يستطيع ربك} كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم ولذلك قول عيسى لهم معناه اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ولا تقترحوا عليه ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها.
{إن كنتم مؤمنين} إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة انتهى. وأما غير الزمخشري من أهل التفسير فأطبقوا على أن الحواريين كانوا مؤمنين حتى قال ابن عطية: لا خلاف أحفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين، وقال قوم: قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرئ الأكمة والأبرص ويحيي الموتى، قال المفسرون والحواريون هم خواص عيسى وكانوا مؤمنين ولم يشكوا في قدرة الله تعالى على ذلك. قال ابن الأنباري: لا يجوز لأحد أن يتوهم أن الحواريين شكوا في قدرة الله وإنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ وهو يعلم أنه مستطيع له، ولكنه يريد هل يسهل عليك انتهى. وقال الفارسي: معناه هل يفعل ذلك بمسألتك إياه. وقال الحسن لم يشكوا في قدرة الله وإنما سألوه سؤال مستخبر هل ينزل أم لا فإن كان ينزل فاسأله لنا. قال ابن عطية هل يفعل تعالى هذا وهل يقع منه إجابة إليه كما قال لعبد الله بن زيد: هل يستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فالمعنى هل يحب ذلك وهل يفعله انتهى. وقيل المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك جائز أم لا وذلك لأن أفعاله موقوفة على وجوه الحكمة فإن لم يحصل شيء من وجوه الحكمة كان الفعل ممتنعاً فإن المنافي من وجوه الحكمة كالمنافي من وجوه القدرة. قال أبو عبد الله الرازي هذا الجواب يمشي على قول المعتزلة، وأما على مذهبنا فهو محمول على أنه تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقص به ويعلم وقوعه كان ذلك محالاً غير مقدور لأن خلاف المعلوم غير مقدور، وقال أيضاً ليس المقصود من هذا الكلام كونهم شاكين فيه، بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول: هل يقدر السلطان على إشباع هذا، ويكون غرضه منه أن ذلك أمر واضح لا يجوز للعاقل أن يشك فيه، وأبعد من قال هل ينزل ربك مائدة من السماء ويستطيع صلة ومن قال: الرب هنا جبريل لأنه كان يربي عيسى ويخصه بأنواع الإعانة ولذلك قال في أول الآية {إذ أيدتك بروح القدس} وروي أن الذي نحا بهم هذا المنحى من الاقتراح هو أن عيسى قال لهم مرة هل لكم في صيام ثلاثين يوماً لله تعالى، ثم إن سألتموه حاجة قضاها فلما صاموها قالوا: يا معلم الخبر، إن حق من عمل عملاً أن يطعم فهل يستطيع ربك.
فأرادوا أن تكون المائدة عيد ذلك الصوم. وقرأ الكسائي هل تستطيع ربك بالتاء من فوق {ربك} بنصب الباء وهي قراءة عليّ ومعاذ وابن عباس وعائشة وابن جبير. قالت عائشة كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا {هل يستطيع ربك} نزهتهم عن بشاعة اللفظ وعن مرادهم ظاهره. وقد ذكرنا تأويلات ذلك ومعنى هذه القراءة هل تستطيع سؤال ربك و{أَن ينزل} معمول لسؤال المحذوف إذ هو حذف لا يتم المعنى إلا به. وقال أبو عليّ وقد يمكن أن يستغني عن تقدير سؤال على أن يكون المعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك فيؤول المعنى ولابد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ انتهى. ولا يظهر ما قال أبو علي لأن فعل الله تعالى وإن كان سببه الدعاء لا يكون مقدوراً لعيسى وأدغم الكسائي لام {هل} في ياء {يستطيع} وعلى هذه القراءة يكون قول عيسى {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} لم ينكر عليه الاقتراح للآيات وهو على كلتا القراءتين يكون قوله {إن كنتم مؤمنين} تقريراً للإيمان كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلاً. وقال مقاتل وجماعة اتقوه أن تسألوه البلاء لأنها إن نزلت وكذبتم عذبتم. وقال أبو عبيد وجماعة أن تسألوه ما لم تسأله الأمم قبلكم. وقيل إن تشكوا في قدرته على إنزال المائدة. وقيل اتقوا الله في الشك فيه وفي رسله وآياتهم. وقيل اتقوا معاصي الله. وقيل أمرهم بالتقوى ليكون سبباً لحصول هذا المطلوب كما قال تعالى {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} وقال الزمخشري هنا عيسى في محل النصب على اتباع حركته حركة الابن كقولك يا زيد بن عمرو وهي اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموماً كقولك يا زيد بن عمرو والدليل عليه قوله: أجاز ابن عمر كأني خمر، لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم انتهى. فقوله: عيسى في محل النصب على هذا التقدير وعلى تقدير ضمه فهو لا اختصاص له بكونه في محل النصب على تقدير الأتباع فإصلاحه عيسى مقدر فيه الفتحة على اتباع الحركة وقوله: ويجوز أن يكون مضموماً هذا مذهب الفراء وهو تقدير الفتح والضم ونحوه مما لا تظهر فيه الضمة قياساً على الصحيح ولم يبدأ أولاً بالضم الذي هو مجمع على تقديره فليس بشرط، ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى فتقول يا مثن أقبل وإلى ترخيم بعلبك وهو مبني على الفتح لكنه في تقدير الاسم المضموم وإن عنى ضمة مقدرة فإن عنى ضمة ظاهرة فليس بشرط ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى فتقول يا مثن فإنّ مثل يا جعفر بن زيد مما فتح فيه آخر المنادي لأجل الاتباع مقدّر فيه الضمة لشغل الحرف بحركة الاتباع كما قدر الأعرابي في قراءة من قرأ الحمد لله بكسر الدال لأجل اتباع حركة الله فقولك: يا حار هو مضموم تقديراً وإن كانت الثاء المحذوفة مشغولة في الأصل بحركة الاتباع، وهي الفتحة فلا تنافي بين الترخيم وبين ما فتح اتباعاً وقدرت فيه الضمة، وكان ينبغي للزمخشري أن يتكلم على هذه المسألة قبل هذا في قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك} حيت تكلم الناس عليها.
{قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} لما أمرهم عيسى بتقوى الله منكراً عليهم ما تقدم من كلامهم صرحوا بسبب طلب المائدة وأنهم يريدون الأكل منها، وذلك للشرف لا للشبع واطمئنان قلوبهم بسكون الفكر، إذا عاينوا هذا المعجز العظيم النازل من السماء وعلم الضرورة والمشاهدة بصدقه فلا تعترض الشبه اللاحقة في علم الاستدلال وكينونتهم من المشاهدين بهذه الآية الناقلين لها إلى غيرهم، القائمين بهذا الشرع أو من الشاهدين لله بالوحدانية ولك بالنبوّة، وقد طول بعض المفسرين في تفسير متعلق إرادتهم بهذه الأشياء وملخصها أنهم أرادوا الأكل للحاجة وشدة الجوع. قال ابن عباس وكان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر من صاحب له وذي علة يطلب البرء ومستهزئ فوقعوا يوماً في مفازة ولا زاد فجاعوا وسألوا من الحواريين أن يسألوا عيسى نزول مائدة من السماء فذكر شمعون لعيسى ذلك فقال: قل لهم اتقوا الله، وأرادوا الأكل ليزدادوا إيماناً. قال ابن الأنباري أو التشريف بالمائدة ذكره الماوردي والاطمئنان إما بأن الله قد بعثك إلينا أو اختارنا عواناً لك أو قد أجابك أو العلم بالصدق في أنا إذا صمنا الله تعالى ثلاثين يوماً. لم نسأل الله شيئاً إلا أعطانا أو في أنك رسول حقاً إذ المعجز دليل الصدق وكانوا قبل ذلك لم يرو الآيات، أو يراد بالعلم الضروري والمشاهدة انتهى. وأنت هذه المعاطيف مرتبة ترتيباً لطيفاً وذلك أنهم لا يأكلون منها لا بعد معاينة نزولها فيجتمع على العلم بها حاسة الرؤية وحاسة الذوق فبذلك يزول عن القلب قلق الاضطراب ويسكن إلى ما عاينه الإنسان وذاقه، وباطمئنان القلب يحصل العلم الضروري بصدق من كانت المعجزة على يديه إذ جاءت طبق ما سأل، وسألوا هذا المعجز العظيم لأن تأثيره في العالم العلوي بدعاء من هو في العالم الأرضي أقوى وأغرب من تأثير من هو في العالم الأرضي في عالمه الأرضي، ألا ترى أن من أعظم معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وانشقاق القمر وهما من العالم العلوي وإذا حصل عندهم العلم الضروري بصدق عيسى شهدوا شهادة يقين لا يحتلج بها ظن ولا شك ولا وهم وبذكرهم هذه الأسباب الحاملة على طلب المائدة يترجح قول من قال: كان سؤالهم ذلك قبل علمهم بآيات عيسى ومعجزاته وإن وحي الله إليهم بالإيمان كان في صدر الأمر وعند ذلك قالوا هذه المقالة ثم آمنوا ورأوا الآيات واستمروا وصبروا.
وقرأ ابن جبير: {ونعلم} بضم النون مبنياً للمفعول وهكذا في كتاب التحرير والتحبير وفي كتاب ابن عطية. وقرأ سعيد بن جبير ويعلم بالياء المضمومة والضمير عائد على القلوب، وفي كتاب الزمخشري ويعلم بالياء على البناء للمفعول. وقرأ الأعمش وتعلم بالتاء أي وتعلمه قلوبنا. وقرأ الجمهور {ونكون} بالنون وفي كتاب التحرير والتحبير. وقرأ سنان وعيسى وتكون عليها بالتاء وفي الزمخشري وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم للإيمان والإخلاص وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا انتهى، وإنما قال ذلك لأنه ليس عنده الحواريون مؤمنين وإذا ولي أن المخففة من الثقيلة فعل متصرف عن دعاء فإن كان ماضياً فصل بينهما بقد نحو قوله ونعلم أن قد صدقتنا وإن كان مضارعاً فصل بينهما بحرف تنفيس كقوله {علم أن سيكون منكم مرضي} ولا يقع بغير فصل قيل إلا قليلاً. وقيل إلا ضرورة وفيما تتعلق به عليها التي تقدمت في نحو {إني لكما لمن الناصحين} وقال الزمخشري عاكفين عليها على أن عليها في موضع الحال انتهى. وهذا التقدير ليس بجيد لأن حرف الجر لا يحذف عامله وجوباً إلاّ إذا كان كوناً مطلقاً لا كوناً مقيداً والعكوف كون مقيد ولأن المجرور إذا كان في موضع الحال كان العامل فيها عاكفين المقدر وقد ذكرنا أنه ليس بجيد ثم إن قول الزمخشري مضطرب لأن عليها إذا كان ما يتعلق به هو عاكفين كانت في موضع نصب على المفعول الذي تعدى إليه العامل بحرف الجر وإذا كانت في موضع الحال كان العامل فيها كوناً مطلقاً واجب الحذف فظهر التنافي بينهما.
{قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين} روي أن عيسى لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعو وتقدّم الكلام على لفظة {اللهم} في آل عمران ونادى ربه أولاً بالعلم الذي لا شركة فيه ثم ثانياً بلفظ {ربنا} مطابقاً إلى مصلحنا ومربينا ومالكنا. وقرأ الجمهور {تكون لنا} على أن الجملة صفة لمائدة. وقرأ عبد الله والأعمش {يكن} بالجزم على جواب الأمر والمعنى يكن يوم نزولها عيداً وهو يوم الأحد ومن أجل ذلك اتخذه النصارى عيداً. وقيل العيد السرور والفرح ولذلك يقال يوم عيد فالمعنى يكون لنا سروراً وفرحاً والعيد المجتمع لليوم المشهود وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر أو بالجمعة ونحوه.
وقيل العيد لغة ما عاد إليك من شيء في وقت معلوم سواء كان فرحاً أو ترحاً وغلبت الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية. وقال الخليل العيد كل يوم يجمع الناس لأنهم عادوا إليه. قال ابن عباس {لأولنا} لأهل زماننا {وآخرنا} من يجيء بعدنا. وقيل {لأولنا} المتقدمين منا والرؤساء {وآخرنا} يعني الاتباع والأولية والآخرية فاحتملتا الأكل والزمان والرتبة والظاهر الزمان. وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري لأولانا وأخرانا أنثوا على معنى الأمة والجماعة والمجرور بدل من قوله {لنا} وكرر العامل وهو حرف الجر كقوله {منها من غم} والبدل من ضمير المتكلم والمخاطب إذا كان بدل بعض أو بدل اشتمال جاز بلا خلاف وإن كان بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة فإن أفاد معنى التأكيد جاز لهذا البدل إذ المعنى تكون لنا عيداً كلنا كقولك مررت بكم أكابركم وأصاغركم لأن معنى ذلك مررت بكم كلكم وإن لم تفد توكيداً فمسألة خلاف الأخفش بخير وغيره من البصريين بمنع، ومعنى {وآية منك} علامة شاهدة على صدق عبدك. وقيل حجة ودلالة على كمال قدرتك. وقرأ اليماني {وأنه منك} والضمير في {وأنه} إما للعيد أو الإنزال. {وارزقنا} قيل المائدة، وقيل الشكر لنعمتك {وأنت خير الرازقين} لأنك الغني الحميد تبتدئ بالرزق. قال أبو عبد الله الرازي تأمل هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضاً فقدموا ذكر الأكل وأخروا الأغراض الدينية الروحانية وعيسى طلب المائدة وذكر أغراضه فقدم الدينية وأخر أغراض الأكل حيث قال {وارزقنا} وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية، ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء وقته وإشراق روحه لما ذكر الرزق بقوله {وارزقنا} لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال {وأنت خير الرازقين} فقوله {ربنا} ابتداء منه بنداء الحق سبحانه وتعالى وقوله {أنزل علينا مائدة} انتقال من الذات إلى الصفات وقوله {تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا} إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله {وآية منك} إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزل من حضرة الجلال فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون {وأنت خير الرازقين} وهو عروج مرة أخرى من الأخس إلى الأشرف وعند هذا يلوح همه من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها اللهم اجعلنا من أهله، وهو كلام دائر بين لفظ فلسفي ولفظ صوفي وكلاهما بعيد عن كلام العرب ومناحيها.