فصل: تفسير الآيات (53- 58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (53- 58):

{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}
{وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} الكاف للتشبيه في موضع نصب والإشارة بذلك إلى فتون سابق وقد تقدم ذكر أمم رسل وإرسالهم مبشرين ومنذرين، وتقسيم أممهم إلى مؤمن ومكذب فدل ذلك على أن اتباع الرسل مختلفون وواقع فيهم الفتون لا محالة؛ كما وقع في هذه الأمة فشبه تعالى ابتلاء هذه الأمة واختبارها بابتلاء الأمم السالفة أي حال هذه الأمّة حال الأمم السابقة في فتون بعضهم ببعض والفتون بالغني والفقر أو بالشرف والوضاعة والقوّة والضعف. قال الزمخشري: ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناس ببعض أي ابتليناهم به وذلك إن المشركين كانوا يقولون للمسلمين {أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا} أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بيننا بالخير نحواً {أألقي الذكر عليه من بيننا} {لو كان خيراً ما سبقونا إليه} ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك خذلانهم فافتتنوا حتى كان افتتانهم سبباً لهذا القول لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول متقوّل؛ انتهى. وآخر كلامه على طريقة المعتزلة من تأويل الفتنة التي نسبها تعالى إليه بالخذلان لأن جرياً على عادته. قال ابن عطية: ابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوماً لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيهم قدراً ومنزلة، والإشارة بذلك إلى من ذكر من ظلمهم أن تطرد الضعفة؛ انتهى. ولا ينتظم هذا التشبيه إذ يصير التقدير ومثل ذلك أي طلب الطرد {فتنا بعضهم ببعض} والذي يتبادر إليه الذهن إنك إذا قلت: ضربت مثل ذلك إنما يفهم منه مثل ذلك الضرب لا أنه تقع المماثلة في غيره واللام في {ليقولوا} الظاهر أنها لام كي أي هذا الابتلاء لكي يقولوا: هذه المقالة على سبيل الاستفهام لأنفسهم والمناجاة لها، ويصير المعنى ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سبباً للنظر لمن هدى ومن أثبت أن اللام تكون للصيرورة، جوز هنا أن تكون للصيرورة ويكون قولهم على سبيل الاستحقاق {وهؤلاء} إشارة إلى المؤمنين {ومن الله عليهم} أي بزعمهم إن دينهم منه تعالى.
{أليس الله بأعلم بالشاكرين} هذا استفهام معناه التقرير والردّ على أولئك القائلين أي الله أعلم بمن يشكر فيضع فيه هدايته دون من يكفر فلا يهديه، وجاء لفظ الشكر هنا في غاية من الحسن إذ تقدم من قولهم: {أهؤلاء منّ الله عليهم} أي أنعم عليهم فناسب ذكر الإنعام لفظ الشكر؟ والمعنى أنه تعالى عالم بهؤلاء المنعم عليهم الشاكرين لنعمائه وتضمن العلم معنى الثواب والجزاء لهم على شكرهم فليسوا موضع استخفافكم ولا استعجابكم.
وقيل: بالشاكرين من منّ عليهم بالإيمان دون الرؤساء الذين علم منهم الكفر. وقيل: من يشكر على الإسلام إذا هديته. وقيل: بمن يوفق للإيمان كبلال ومن دونه. وقال الزمشخري: أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق؛ انتهى. وهو على طريقة الاعتزال.
{وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم} الجمهور أنها نزلت في الذين نهى الله عن طردهم فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أبدأهم بالسلام» وقيل: الذين صوّبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة. وقال الفضيل بن عياض: قال قوم: قد أصبنا ذنوباً فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت. وقيل: نزلت في عمر حين أشار بإجابة الكفرة ولم يعلم أنها مفسدة، وعلى هذه الأسباب يكون تفسير {الذين يؤمنون} فإن كان عنى بهم الستة الذين نهى عن طردهم فيكون من باب العام أريد به الخاص ويكون قوله {سلام عليكم} أمراً بإكرامهم وتنبيهاً على خصوصية تشريفهم بهذا النوع من الإكرام وإن كان عنى عمر حين اعتذر واستغفر وقال: ما أردت بذلك إلا الخير كان من إطلاق الجمع على الواحد المعظم، والظاهر أنه يراد به المؤمنون من غير تخصيص لا بالستة ولا بغيرهم وإنها استئناف إخبار من الله تعالى بعد تقصي خبر أولئك الذين نهى عن طردهم ولو كانوا إياهم لكان التركيب الأحسن، وإذا جاؤك والآيات هنا آيات القرآن وعلامات النبوة. وقال أبو عبد الله الرازي: آيات الله آيات وجوده وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه ووحدانيته وما سوى الله لا نهاية له، ولا سبيل للعقول إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار، ولما كان لا نهاية لها فكذلك، لا نهاية في ترقي العبد في معارج تلك الآيات وهذا مشرع جملي لا نهاية لتفاصيله، ثم إن العبد إذا كان موصوفاً بهذه الصفات فعندها أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم سلام عليكم فيكون هذا التسليم بشارة بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة والنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخافات وموضع التغييرات والتبديلات، وأما الكرامة بالوصول إلى الباقيات الصالحات المجردات المقدسات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال؛ انتهى كلامه وهو تكثير لا طائل تحته طافح بإشارات أهل الفلسفة بعيد من مناهج المتشرّعين وعن مناحي كلام العرب ومن غلب عليه شيء حتى في غير مظانه ولله در القائل يغري منصور الموحدين بأهل الفلسفة من قصيدة:
وحرق كتبهم شرقاً وغربا ** ففيها كامن شرّ العلوم

يدب إلى العقائد من أذاها ** سموم والعقائد كالجسوم

وقال المبرد: السلام في اللغة اسم من أسماء الله تعالى وجمعه سلامة ومصدر واسم شجر. وقال الزجاج: مصدر لسلم تسليماً وسلاماً كالسراح من سرّح والأداء من أدى. وقال عكرمة والحسن: أمر بابتداء السلام عليهم تشريفاً لهم. وقال ابن زيد: أمر بإبلاغ السلام عليهم من الله، وقيل: معنى السلام هنا الدعاء من الآفات. وقال أبو الهيثم: السلام والتحية بمعنى واحد ومعنى السلام عليكم حياكم الله. وقال الزمخشري: إما أن يكون أمر بتبليغ سلام الله إليهم وإما أن يكون أمر بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم؛ انتهى. وترديده إما وأما الأول قول ابن زيد، والثاني قول عكرمة. وقال ابن عطية: لفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت؛ انتهى. والتخصيص الذي يعنيه النحاة في النكرة التي يبتدأ بها هو أن يتخصص بالوصف أو العمل أو الإضافة، وسلام ليس فيه شيء من هذه التخصيصات وقد رام بعض النحويين أن يجعل جواز الابتداء بالنكرة راجعاً إلى التخصيص والتعميم والذي يظهر من كلام ابن عطية أنه يعني بقوله إذ قد تخصصت أي استعملت، في الدعاء فلم تبق النكرة على مطلق مدلولها الوصفي إذ قد استعملت يراد بها أحد ما تحتمله النكرة.
{كتب ربكم على نفسه الرحمة} أي أوجبها والبارئ تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً إلا إذا أعلمنا أنه حتم بشيء فذلك الشيء واجب. وقيل: {كتب} وعد والكتب هنا في اللوح المحفوظ. وقيل: في كتاب غيره، وفي صحيح البخاري: «إن الله تعالى كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي» وهذه الجملة مأمور بقولها تبشيراً لهم بسعة رحمة الله وتفريحاً لقلوبهم.
{أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة} السوء: قيل: الشرك. وقيل المعاصي، وتقدم تفسير عمل السوء بجهالة في قوله: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} فأغنى عن إعادته.
{ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم} أي من بعد عمل السوء {وأصلح} شرط استدامة الإصلاح في الشيء الذي تاب منه. قرأ عاصم وابن عامر أنه بفتح الهمزتين فالأولى بدل من الرحمة والثانية خبر مبتدأ محذوف تقديره فأمره أنه أي أن الله غفور رحيم له، ووهم النحاس فزعم أن قوله {فأنه} عطف على أنه وتكرير لها لطول الكلام وهذا كما ذكرناه وهم، لأن {من} مبتدأ سواء كان موصولاً أو شرطاً فإن كان موصولاً بقي بلا خبر وإن كان شرطاً بقي بلا جواب. وقيل: إنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره عليه أنه من عمل.
وقيل: فإنه بدل من أنه وليس بشيء لدخول الفاء فيه ولخلو {من} من خبر أو جواب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والاخوان بكسر الهمزة فيهما الأولى على جهة التفسير للرحمة والثانية في موضع الخبر أو الجواب. وقرأ نافع بفتح الأولى على الوجهين السابقين وكسر الثانية على وجهها أيضاً، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاها الزهراوي عن الأعرج. وحكى سيبويه عنه مثل قراءة نافع. وقال الداني: قراءة الأعرج ضد قراءة نافع و{بجهالة} في موضع نصب على الحال أي وهو جاهل وما أحسن مساق هذا المقول أمره أولاً أن يقول للمؤمنين سلام عليكم فبدأ أولاً بالسلامة والأمن لمن آمن ثم خاطبهم ثانياً بوجوب الرحمة وأسند الكتابة إلى ربهم أي كتب الناظر لكم في مصالحكم والذي يربيكم ويملككم الرحمة فهذا تبشير بعموم الرحمة، ثم أبدل منها شيئاً خاصاً وهو غفرانه ورحمته لمن تاب وأصلح، ولو ذهب ذاهب إلى أن الرحمة مفعول من أجله وأن أنه في موضع نصب لكتب أي لأجل رحمته إياكم لم يبعد ولكن الظاهر أن الرحمة مفعول {كتب} واستدل المعتزلة بقوله: {كتب على نفسه الرحمة} أنه لا يخلق الكفر في الكافر لأن الرحمة تنافي ذلك وتنافي تعذيبه أبد الآباد.
{وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} الكاف للتشبيه وذلك إشارة إلى التفصيل الواقع في هذه السورة أي ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه ومن ترى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده. وقيل: المعنى كما فصلنا في هذه السورة دليل على صحة التوحيد والنبوة والقضاء والقدر نفصل لك دليلنا وحججنا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل. وقيل: إشارة إلى التفصيل للأمم السابقة ومثل ذلك التفصيل لمن كان قبلكم نفصل لكم. وقال التبريزي: معناه كما بينا للشاكرين والكافرين. وقال ابن قتيبة: تفصيلها إتيانها متفرقة شيئاً بعد شيء. وقال تاج القراء: الفصل بون ما بين الشيئين والتفصيل التبيين بين المعاني الملتبسة. وقال ابن عطية: والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى ما تقدم من النهي عن طرد المؤمنين وبيان فساد منزع المعارضين لذلك، وتفصيل الآيات تبيينها وشرحها وإظهارها؛ انتهى. واستبان يكون لازماً ومتعدّياً وتميم وأهل نجد يذكرون السبيل وأهل الحجاز يؤنثونها. وقرأ العربيان وابن كثير وحفص {ولتستبين} بالتاء {سبيل} بالرفع. وقرأ الأخوان وأبو بكر وليستبين بالياء {سبيل} بالرفع فاستبان هنا لازمة أي ولتظهر سبيل المجرمين. وقرأ نافع {ولتستبين} بتاء الخطاب {سبيل} بالنصب فاستبان هنا متعدية. فقيل: هو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل له ظاهراً والمراد أمته لأنه صلى الله عليه وسلم كان استبانها وخص {سبيل المجرمين} لأنه يلزم من استبانتها استبانة سبيل المؤمنين أو يكون على حذف معطوف لدلالة المعنى عليه التقدير سبيل المجرمين والمؤمنين.
وقيل: خص {سبيل المجرمين} لأنهم الذين أثاروا ما تقدم من الأقوال وهم أهم في هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم، وظاهر المجرمين العموم وتأوله ابن زيد على أنه عنى بالمجرمين الآمرون بطرد الضعفة واللام في {ولتستبين} متعلقة بفعل متأخر أي {ولتستبين سبيل المجرمين} فصلناها لكم أو قبلها علة محذوفة وهو قول الكوفيين التقدير لنبين لكم ولتستبين. وقال الزمخشري: لنستوضح سبيلهم فتعامل كلاًّ منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل.
{قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله} أمره تعالى أن يجاهرهم بالتبري من عبادتهم غير الله، ولما ذكر تعالى تفصيل الآيات لتستبين سبيل المبطل من المحق نهاه عن سلوك سبيلهم ومعنى نهيت زجرت. قال الزمخشري: بما ركب في من أدلة العقل وبما أوتيت من أدلة السمع والذين يدعون هم الأصنام، عبر عنها بالذين على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل و{تدعون}. قال ابن عباس: معناه تعبدون. وقيل: تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيداً سميته. وقيل: يدعون في أموركم وحوائجكم وفي قوله: {تدعون من دون الله} استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة، ولفظة {نهيت} أبلغ من النفي بلا {أعبد} إذ فيه ورود تكليف.
{قل لا أتبع أهواءكم} أي ما تميل إليه أنفسكم من عبادة غير الله ولما كانت أصنامهم مختلفة كان لكل عابد صنم هوى يخصه فلذلك جمع، و{أهواءكم} عام وغالب ما يستعمل في غير الخير ويعم عبادة الأصنام وما أمروا به من طرد المؤمنين الضعفاء وغير ذلك مما ليس بحق وهي أعم من الجملة السابقة وأنص على مخالفتهم، وفي قوله {أهواءكم} تنبيه على السبب الذي حصل منه الضلال وتنبيه لمن أراد اتباع الحق ومجانبة الباطل كما قال ابن دريد:
وآفة العقل الهوى فمن علا ** على هواه عقله فقد نجا

{قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين} المعنى إن اتبعت أهواءكم ضللت وما اهتديت والجملة من قوله: {وما أنا من المهتدين} مؤكدة لقوله {قد ضللت} وجاءت تلك فعلية لتدل على التجدد وهذه اسمية لتدل على الثبوت فحصل نفي تجدد الضلال وثبوته وجاءت رأس آية. وقرأ السلمي وابن وثاب وطلحة {ضللت} بكسر فتحة اللام وهي لغة، وفي التحرير قرأ يحيى وابن أبي ليلى هنا في السجدة في أئذا ضللنا بالصاد غير معجمة ويقال صل اللحم أنتن ويروى ضللنا أي دفنا في الضلة وهي الأرض الصلبة رواه أبو العباس عن مجاهد بن الفرات في كتاب الشواذ له. {قل إني على بينة من ربي} أي على شريعة واضحة وملة صحيحة. وقيل: البينة هي المعجزة التي تبين صدقي وهي القرآن، قالوا: ويجوز أن تكون التاء في {بينة} للمبالغة والمعنى على أمر بين لما نفي أن يكون متبعاً للهوى نبه على ما يجب اتباعه وهو الأمر الواضح من الله تعالى.
{وكذبتم به} إخبار منه عنهم أنهم كذبوا به والظاهر عود الضمير على الله أي وكذبتم بالله. وقيل: عائد على {بينة} لأن معناه على أمر بيِّن. وقيل: على البيان الدال عليه بينة. وقيل: على القرآن.
{ما عندي ما تستعجلون به} الذي استعجلوا به قيل الآيات المقترحة قاله الزجاج. وقيل: العذاب ورجح بأن الاستعجال لم يأت في القرآن إلا للعذاب لأنهم لم يستعجلوا بالآيات المقترحة وبأن لفظ {وكذبتم به} يتضمن أنكم واقعتم ما أنتم تستحقون به العذاب إلا أن ذلك ليس لي. قال الزمخشري: يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم: {فأمطر علينا حجارة من السماء} {إن الحكم إلا لله} أي الحكم لله على الإطلاق وهو الفصل بين الخصمين المختلفين بإيجاب الثواب والعقاب. وقيل: القضاء بإنزال العذاب وفيه التفويض العام لله تعالى. {يقضي الحق} هي قراءة العربيين والأخوين أي يقضي القضاء الحق في كل ما يقضى فيه من تأخير أو تعجيل، وضمن بعضهم يقضي معنى ينفذ فعداه إلى مفعول به. وقيل: يقضي بمعنى يصنع أي كل ما يصنعه فهو حق قال الهذلي:
وعليهما مسدودتان قضاهما ** داود أو صنع السوابغ تبع

أي صنعهما وقيل حذف الباء والأصل بالحق، ويؤيده قراءة عبد الله وأبي وابن وثاب والنخعي وطلحة والأعمش يقضي بالحق بياء الجر وسقطت الباء خطأ لسقوطها لفظاً لالتقاء الساكنين. وقرأ مجاهد وابن جبير يقضي بالحق.
{وهو خير الفاصلين} وفي مصحف عبد الله وهو أسرع الفاصلين. وقرأ ابن عباس والحرميان وعاصم {يقص الحق} من قص الحديث كقوله {نحن نقص عليك أحسن القصص} أو من قص الأثر أي اتبعه. وحكى أن أبا عمرو بن العلاء سئل أهو يقص الحق أو يقضي الحق؟ فقال: لو كان يقص لقال وهو خير القاصين أقرأ أحد بهذا وحيث قال {وهو خير الفاصلين} فإنما يكون الفصل في القضاء؛ انتهى. ولم يبلغ أبا عمرو أنه قرئ بها ويدل على ذلك قوله: أقرأ بها أحد ولا يلزم ما قال، فقد جاء الفصل في القول قال تعالى: {إنه لقول فصل} وقال: {أحكمت آياته ثم فصلت} وقال: {نفصل الآيات} فلا يلزم من ذكر الفاصلين أن يكون معيناً ليقضي و{خير} هنا أفعل التفضيل على بابها. وقيل: ليست على بابها لأن قضاءه تعالى لا يشبه قضاء ولا يفصل كفصله أحد وهذا الاستدلال يدل على أنها بابها.
{قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم} أي لو كان في قدرتي الوصول إلى ما تستعجلون به من اقتراح الآيات أو من حلول العذاب لبادرت إليه ووقع الانفصال بيني وبينكم. وروي عن عكرمة في {لقضي الأمر بيني وبينكم} أي لقامت القيامة وما روي عن ابن جريج من أن المعنى لذبح الموت لا يصح ولا له هنا معنى.
وقال الزمخشري و{ما تستعجلون به} من العذاب لأهلكنكم عاجلاً غضباً لربي وامتعاضاً من تكذيبكم به ولتخلصت منكم سريعاً؛ انتهى. وهو قول ابن عباس لم أمهلكم ساعة ولأهلكنكم. {والله أعلم بالظالمين} الظاهر أن المعنى والله أعلم بكم فوضع الظاهر المشعر بوصفهم بالظلم موضع المضمر ومعنى {أعلم} بهم أي بمجازاتهم ففيه وعيد وتهديد. وقيل: بتوقيت عقابهم وقيل: بما آل أمرهم من هداية بعض واستمرار بعض. وقيل: بمن ينبغي أن يؤخذ وبمن يمهل. وقيل: بما تقتضيه الحكمة من عذابهم.