فصل: تفسير الآية رقم (23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (23):

{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}
قال ابن عباس: يبغون بالدعاء إلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد. قال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى قوله بغير الحق، والبغي لا يكون بحق؟ (قلت): بلى وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم، وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة انتهى. وكأنه قد شرح قوله: يبغون بأنهم يفسدون، ويبعثون مترقين في ذلك ممعنين فيه من بغي الجرح إذا ترقى للفساد انتهى. قال الزجاج: البغي الترقي في الفساد. وقال الأصمعي: بغي الجرح ترقي إلى الفساد، وبغت المرأة فجرت انتهى. ولا يصح أن يقال في المسلمين إنهم باغون على الكفرة، إلا إن ذكر أنّ أصل البغي هو الطلب مطلقاً ولا يتضمن الفساد، فحينئذ ينقسم إلى طلب بحق، وطلب بغير حق. ولما حمل ابن عطية البغي هنا على الفساد قال: أكد ذلك بقوله بغير الحق. وجواب لما إذا الفجائية وما بعدها، ومجيء إذا وما بعدها جواباً لها دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبله من الفعل الذي بعد لمّا، وأنها تفيد الترتب والتعليق في المضي، وأنها كما قال سيبويه: حرف. ومذهب غيره أنها ظرف، وقد أوضحنا ذلك فيما كتبناه في علم النحو. والجواب بإذا الفجائية دليل على أنه لم يتأخر بغيهم عن إنجائهم، بل بنفس ما وقع الإنجاء وقع البغي، والخطاب بيا أيها الناس، قال الجمهور: لأهل مكة. والذي يظهر أنه خطاب لأولئك الذين أنجاهم الله وبغوا، ويحتمل كما قالوا: العموم، فيندرج أولئك فيهم، وهذا ذمّ للبغي في أوجز لفظ. ومعنى على أنفسكم. وبال البغي عليكم، ولا يجني ثمرته إلا أنتم. فقوله: على أنفسكم، خبر للمبتدأ الذي هو بغيكم، فيتعلق بمحذوف. وعلى هذا التوجيه انتصب متاع في قراءة زيد بن علي وحفص، وابن أبي إسحاق، وهارون، عن ابن كثير: على أنه مصدر في موضع الحال أي: متمتعين، أو باقياً على المصدرية أي: يتمتعون به متاع، أو نصباً على الظرف نحو: مقدم الحاج أي وقت متاع الحياة الدنيا. وكل هذه التوجيهات منقولة. والعامل في متاع إذا كان حالاً أو ظرفاً ما تعلق به خبر بعيكم أي: كائن على أنفسكم، ولا ينتصبان ببغيكم، لأنه مصدر قد فصل بينه وبين معموله بالخبر، وهو غير جائز. وارتفع متاع في قراءة الجمهور على أنه خبر مبتدأ محذوف. وأجاز النحاس، وتبعه الزمخشري، أن يكون على أنفسكم متعلقاً بقوله: بغيكم، كما تعلق في قوله، فبغى عليهم، ويكون الخبر متاع إذا رفعته. ومعنى على أنفسكم: على أمثالكم. والذين جنسكم جنسهم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً: متاعاً الحياة الدنيا بنصب متاع وتنوينه، ونصب الحياة. وقال سفيان بن عيينة: في هذه الجملة تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا. وقرأ فرقة: فينبئكم بالياء على الغيبة، والمراد الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (24):

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما قال: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا} ضرب مثلاً عجيباً غريباً للحياة الدنيا تذكر من يبغي فيها على سرعة زوالها وانقضائها، وأنها بحال ما تعز وتسر، تضمحل ويؤول أمرها إلى الفناء. وقال الزمخشري: هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه انتهى. وإنما هنا ليست للحصر لا وضعاً ولا استعمالاً، لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالاً غير هذا، والمثل هنا يحتمل أن يراد به الصفة، وأن يراد به القول السائر المشبه به حال الثاني بالأول. والظاهر تشبيه صفة الحياة الدنيا بماء فيما يكون به، ويترتب عليه من الانتفاع ثم الانقطاع. وقيل: شبهت الحياة الدنيا بالنبات على تلك الأوصاف، فيكون التقدير: كنبات ماء، فحذف المضاف. وقيل: شبهت الحياة بحياة مقدرة على هذه الأوصاف، فيكون التقدير: كحياة قوم بماء أنزلناه من السماء. قيل: ويقوي هذا قوله: وظن أهلها أنهم قادرون عليها. والسماء إما أن يراد من السحاب، وإما أن يراد من جهة السماء، والظاهر أن النبات اختلط بالماء. ومعنى الاختلاط: تشبثه به، وتلقفه إياه، وقبوله له، لأنه يجري له مجرى الغذاء، فتكون الباء للمصاحبة. وكل مختلطين يصح في كل منهما أن يقال: اختلط بصاحبه، فلذلك فسره بعضهم بقوله: خالطه الماء وداخله، فغذّى كل جزء منه. وقال الكرماني: فاختلط به اختلاط مجاورة، لأنّ الاختلاط تداخل الأشياء بعضها في بعض انتهى. ولا يمتنع اختلاط النبات بالماء على سبيل التداخل، فلا تقول: إنه اختلاط مجاورة. وقيل: اختلط اختلف وتنوع بالماء، وينبو لفظ اختلط عن هذا التفسير. وقيل: معنى اختلط تركب. وقيل: امتد وطال. وقال الزمخشري: فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً. وقال ابن عطية: وصلت فرقة النبات بقوله فاختلظ أي: اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء انتهى. وعلى هذه الأقوال الباء في بماء للسببية، وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل في قوله: فاختلط، هو ضمير يعود على الماء أي: فاختلط الماء بالأرض. ويقف هذا الذاهب على قوله: فاختلط، ويستأنلف به نبات على الابتداء، والخبر المقدم. قال ابن عطية: يحتمل على هذا أن يعود الضمير في به على الماء وعلى الاختلاط الذي تضمنه الفعل انتهى. والوقف على قوله: فاختلط، لا يجوز وخاصة في القرآن لأنه تفكيك للكلام المتصل الصحيح المعنى، الفصيح اللفظ، وذهاب إلى اللغز والتعقيد، والمعنى الضعيف. ألا ترى أنه لو صرح بإظهار الاسم الذي الضمير في كناية عنه فقيل بالاختلاط نبات الأرض، أو بالماء نبات الأرض، لم يكد ينعقد كلاماً من مبتدأ وخبر لضعف هذا الإسناد وقربه من عدم الإفادة، ولولا أنّ ابن عطية ذكره وخرّجه على ما ذكرناه عنه لم نذكره في كتابنا.
ولما كان النبات ينقسم إلى مأكول وغيره، بيّن أنّ المراد أحد القسمين بمن فقال: مما يأكل الناس، كالحبوب والثمار والبقول والأنعام، كالحشيش وسائر ما يرعى. قال الحوفي: مِن متعلقه باختلط. وقال أبو البقاء: مما يأكل حال من النبات، فاقتضى قول أبي البقاء أن يكون العامل في الحال محذوفاً لأنّ المجرور والظرف إذا وقعا حالين كان العامل محذوفاً. وقول أبي البقاء: هو الظاهر، وتقديره: كائناً مما يأكل، وحتى غاية، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولاً حتى تصحّ الغاية. فأما أن يقدر قبلها محذوف أي: فما زال ينمو حتى إذا، أو يتجوز في فاختلط، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا.
وقوله: أخذت الأرض زخرفها وازينت، جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتست وتزينت بأنواع الحلى، فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وأثواب مختلفة، واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظة الزخرف وهو الذهب، لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس. وازينت أي: بنباتها وما أودع فيه من الحبوب والثمار والأزهار، ويحتمل أن يكون قوله: وازينت تأكيداً لقوله: أخذت الأرض زخرفها. واحتمل أن لا يكون تأكيداً، إذ قد يكون أخذ الزخرف لا لقصد التزيين، فقيل: وازينت ليفيد أنها قصدت التزيين. ونسبة الأخذ إلى الأرض والتزيين من بديع الاستعارة. وقرأ الجمهور: وازينت وأصله وتزينت، فأدغمت التاء في الزاي فاجتلبت همزة الوصل لضرورة تسكين الزاي عند الإدغام. وقرأ أبي وعبد الله، وزيد بن علي، والأعمش: وتزينت على وزن تفعلت. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر، والحسن، والشعبي، وأبو العالية، وقتادة، ونصر بن عاصم، وابن هرمز، وعيسى الثقفي: وأزينت على وزن أفعلت، كأحصد الزرع أي حضرت زينتها وحانت. وصحت الياء فيه على جهة الندور، كأعبلت المرأة. والقياس: وأزانت، كقولك وأبانت. وقرأ أبو عثمان النهدي بهمزة مفتوحة بوزن افعألت، قاله عنه صاحب اللوامح قال: كأنه كانت في الوزن بوزن احمأرَّت، لكنهم كرهوا الجمع بين ساكنين، فحركت الألف فانقلبت همزة مفتوحة. ونسب ابن عطية هذه القراءة لفرقة فقال: وقرأت فرقة وازيأنت وهي لغة منها قال الشاعر:
إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرَّت

وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة: وازيانت بنون مشدّدة وألف ساكنة قبلها. قال ابن عطية: وهي قراءة أبي عثمان النهدي. وقرأت فرقة: وازّاينت، والأصل وتزاينت فأدغم، والظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين. وقيل: بمعنى أيقنوا وليس بسديد، ومعنى القدرة عليها التمكن من تحصيلها ومنفعتها ورفع غلتها، وذلك لحسن نموها وسلامتها من العاهات.
والضمير في أهلها عائد على الأرض، وهو على حذف مضاف أي: أهل نباتها. وقيل: الضمير عائد على الغلة. وقيل: على الزينة، وهو ضعيف. وجواب إذا قوله: أتاها أمرنا كالريح والصر والسموم وغير ذلك من الآفات كالفار والجراد. وقيل: أتاها أمرنا بإهلاكها، وأبهم في قوله: ليلاً أو نهاراً، وقد علم تعالى متى يأتيها أمره، أو تكون أو للتنويع، لأنّ بعض الأرض يأتيها أمره تعالى ليلاً وبعضها نهاراً، ولا يخرج كائن عن وقوعه فيهما. والحصيد: فعيل بمعنى مفعول أي: المحصود، ولم يؤنث كما لم تؤنث امرأة جريج. وقال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل انتهى. وعبر بحصيد عن التألف استعارة، جعل ما هلك من الزرع بالآفة قبل أوانه حصيداً علاقة ما بينهما من الطرح على الأرض. وقيل: يجوز أن تكون تشبيهاً بغير الأداة والتقدير: فجعلناها كالحصيد. وقوله: كأن لم تغن بالأمس، مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل، ولم يقم بالأرض بهجة خضرة نضرة تسر أهلها.
وقرأ الحسن وقتادة: كأن لم يغن بالياء على التذكير. فقيل: عائد على المضاف المحذوف الذي هو الزرع، حذف وقامت هاء التأنيث مقامه في قوله: عليها، وفي قوله: أتاها فجعلناها. وقيل: عائد على الزخرف، والأولى عوده على الحصيد أي: كأن لم يغن الحصيد. وكان مروان بن الحكم يقرأ على المنبر: كأن لم تتغن بتائين مثل تتفعل. وقال الأعشى: طويل الثواء طويل التغني، وهو من غنى بكذا أقام به. قال الزمخشري: والأمس مثل في الوقت. كأنه قيل: كأن لم تغن آنفاً انتهى. وليس الأمس عبارة عن مطلق الوقت، ولا هو مرادف كقوله: آنفاً، لأنّ آنفاً معناه الساعة، والمعنى: كأن لم يكن لها وجود فيما مضى من الزمان. ولولا أنّ قائلاً قال في غير القرآن كأن لم يكن لها وجود الساعة لم يصح هذا المعنى، لأنه لا وجود لها الساعة، فكيف تشبه وهي لا وجود لها حقيقة بما لا وجود لها حقيقة؟ إنما يشبه ما انتفى وجوده الآن بما قدر انتفاء وجوده في الزمان الماضي، لسرعة انتقاله من حالة الوجود إلى حالة العدم، فكان حالة الوجود ما سبقت له. وفي مصحف أبي: كأن لم تغن بالأمس، وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها. وفي التحرير نفصل الآيات، رواه عنه ابن عباس. وقيل في مصحفه: وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها. وفي التحرير: وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن يقرأ في قراءة أبيّ كأن لم تغن بالأمس، وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها، ولا يحسن أن يقرأ أحد بهذه القراءة لأنها مخالفة لخط المصحف الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون انتهى. كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون أي: مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي، نفصل في المستقبل. وقرأ أبو الدرداء: لقوم يتذكرون بالذال بدل الفاء.

.تفسير الآية رقم (25):

{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}
لما ذكر مثل الحياة الدنيا وما يؤول إليه من الفناء والاضمحلال، وما تضمنه من الآفات والعاهات، ذكر تعالى أنه داع إلى دار السلامة والصحة والأمن، وهي الجنة، إذ أهلها سالمون من كل مكروه. ويجوز أن يكون تعالى أضافها إلى اسمه الشريف على سبيل التعظيم لها والتشريف كما قيل: بيت الله، وناقة الله، ويجوز أن تكون مضافة إلى السلامة بمعنى التسليم لفشوّ ذلك بينهم، ولتسليم الملائكة عليهم كما قال: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً} قال الحسن: إن السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم كما قال تعالى: {تحيتهم فيها سلاماً} وقد وردت في دعوة الله عباده أحاديث. وقال قتادة: ذكر لنا أنّ في التوراة مكتوباً يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشرّ انته. ولما كان الدعاء عامًّاً لم تتقيد بالمشيئة، ولما كانت الهداية خاصة تقيدت بالمشيئة فقال: ويهدي من يشاء. وقال الزمخشري: ويهدي يوفق من يشاء، وهم الذين علم أنّ اللطف يجدي عليهم، لأن مشيئته تابعة لحكمته.

.تفسير الآية رقم (26):

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)}
رهقه غشيه، وقيل: لحقه ومنه. ولا ترهقني من أمري عسراً، ورجل مرهق يغشاه الأضياف. وقال الأزهري: الرهق اسم من الإرهاق، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيق. يقال: أرهقته أن يصلي إذا أعجلته عن الصلاة. وقيل: أصل الرهق المقاربة، يقال: غلام مراهق أي قارب الحلم. وفي الحديث: «أرهقوا القبلة» أي ادنوا منها. ويقال: رهقت الكلاب الصيد إذا لحقته، وأرهقنا الصلاة أخرناها حتى تدنو من الأخرى.
القتر والقترة الغبار الذي معه سواد، وقال ابن عرفة: الغبار. وقال الفرزدق:
متوج برداء الملك يتبعه ** موج ترى فوقه الرايات والقترا

أي غبار العسكر. وقال ابن بحر: أصل القتر دخان النار، ومنه قتار القدر انتهى. ويقال: القتر بسكون التاء الشأن والأمر، وجمعه شؤون. وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. عزب يعزب ويعزب بكسر الزاي وضمها غاب حتى خفي، ومنه الروض العازب. وقال أبو تمام:
وقلقل نأى من خراسان جأشها ** فقلت اطمئني أنضر الروض عازبه

وقيل للغائب عن أهله عازب، حتى قالوه لمن لا زوجة له.
{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}: أحسنوا قال ابن عباس: ذكروا كلمة لا إله إلا الله. وقال الأصم: أحسنوا في كل ما تعبدوا به أي: أتوا بالمأمور به كما ينبغي، واجتنبوا المنهى. وقيل: أحسنوا معاملة الناس. وروي أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحسنوا العمل في الدنيا» وفي الصحيح: «ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك» وعن عيسى عليه السلام: «ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة، ولكنّ الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك».
والحسنى قال الأكثرون: هي الجنة، وروي ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو صح وجب المصير إليه. وقال الطبري: الحسنى عام في كل حسن، فهو يعم جميع ما قيل ووعد الله في جميعها بالزيادة، ويؤيد ذلك أيضاً قوله: أولئك أصحاب الجنة. ولو كان معنى الحسنى الجنة لكان في القول تكرير في المعنى. وقال عبد الرحمن بن سابط: هي النضرة. وقال ابن زيد: الجزاء في الآخرة. وقيل: الأمنية ذكره ابن الأنباري. وقال الزمخشري: المثوبة الحسنى وزيادة، وما يزيد على المثوبة وهو التفضل، ويدل عليه قوله تعالى: {ويزيدهم من فضله} وعن علي: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة. وعن ابن عباس: الحسنى الحسنة والزيادة عشرة أمثالها. وعن الحسن: عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وعن مجاهد: الزيادة مغفرة من الله ورضوان. وعن زياد بن شجرة: الزيادة أنّ تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم.
وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى، وجاءت بحديث موضوع: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا يا أهل الجنة، فيكشفون الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله تعالى شيئاً هو أحب إليهم منه» انتهى. أما تفسيره أولاً ونقله عمن ذكر تفسير الزيادة فهو نص الجبائي ونقله، وأما قوله: وجاءت بحديث موضوع فليس بموضوع، بل خرجه مسلم في صحيحه عن صهيب، والنسائي عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وخرجه ابن المبارك في دقائقه موقوفاً على أبي موسى وقال: بأن الزيادة هي النظر إلى الله تعالى، أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، في رواية وحذيفة، وعبادة بن الصامت، وكعب بن عجرة، وأبو موسى، وصهيب، وابن عباس في رواية، وهو قول جماعة من التابعين. ومسألة الرؤية يبحث فيها في أصول الدين. قال مجاهد: أراد ولا يلحقها خزي، والخزي يتغير به الوجه ويسود. قال ابن ابن عباس: والذلة الكآبة. وقال غيره: الهوان. وقيل: الخيبة نفي عن المحسنين ما أثبت للكفار من قوله: {وترهقهم ذلة} وقوله: {عليها غبرة ترهقها قترة} وكنى بالوجه عن الجملة لكونه أشرفها، ولظهور أثر السرر والحزن فيه. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وعيسى بن عمر، والأعمش: قتر بسكون التاء، وهي لغة كالقدر، والقدر وجعلوا أصحاب الجنة لتصرفهم فيها كما يتصرف الملاك على حسب اختيارهم.