فصل: تفسير الآيات (61- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (61- 62):

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)}
قرأ ابن وثاب والأعمش: وإلى ثمود بالصرف على إرادة الحي، والجمهور على منع الصرف ذهاباً إلى القبيلة. أنشأكم اخترعكم وأوجدكم، وذلك باختراع آدم أصلهم، فكان إنشاء الأصل إنشاء للفرع. وقيل: من الأرض باعتبار الأصل المتولد منه النبات، المتولد منه الغذاء، المتولد منه المني ودم الطمث، المتولد منهما الإنسان. وقيل: من بمعنى في واستعمركم جعلكم عماراً. وقيل: استعمركم من العمر أي: استبقاكم فيها قاله الضحاك أي، أطال أعماركم. وقيل: من العمرى، قاله مجاهد: فيكون استعمر في معنى أعمر، كاستهلكه في معنى أهلكه. والمعنى: أعمركم فيها دياركم، ثم هو وارثها منكم. أو بمعنى: جعلكم معمرين دياركم فيها، لأنّ من ورث داره من بعده فإنه أعمره إياها، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره. وقال زيد بن أسلم: استعمركم أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وغرس أشجار. وقيل: ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها، إن ربي قريب أي: داني الرحمة، مجيب لمن دعاه. قد كنت فينا مرجواً. قال كعب: كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم، لأنه كان ذا حسب وثروة. وعن ابن عباس: فاضلاً خيراً نقدمك على جميعنا. وقال مقاتل: كانوا يرجعون رجوعه إلى دينهم، إذ كان يبغض أصنامهم، ويعدل عن دينهم، فلما أظهر إنذارهم انقطع رجاؤهم منه. وذكر الماوردي يرجون خيره، فلما أنذرهم انقطع رجاؤه خيره. وبسط الزمخشري هذا القول فقال: فينا فيما بيننا مرجواً كانت تلوح فيك مخايل الخير وجمارات الرشد، فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاوراً في الأمور مسترشداً في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك، وعلمنا أنْ لا خير فيك انتهى. وقيل: لما كان قوى الخاطر، وكان من قبيلتهم، قوي رجاؤهم في أنْ ينصر دينهم ويقوي مذهبهم. وقال ابن عطية: والظاهر الذي حكاه الجمهور أن قوله: مرجواً مشوراً، نؤمل فيك أن تكون سيداً سادًّا مسدّ الأكابر، ثم قرروه على التوبيخ في زعمهم بقولهم: أتنهانا. وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال: معناه حقيراً، فإما أن يكون لفظ مرجو بمعنى حقير، فليس ذلك في كلام العرب، وإنما يتجه ذلك على جهة التفسير للمعنى، وذلك أنّ القصد بقولهم: مرجواً بقول: لقد كنت فينا سهلاً مرامك، قريباً رد أمرك ممن لا يظن أنْ يستعجل من أمره مثل هذا. فمعنى مرجواً أي: مؤخراً اطراحه وغلبته. ونحو هذا فيكون ذلك على جهة الاحتقار، ولذلك فسر بحقير، ثم يجيء قولهم: أتنهانا، على جهة التوعد والاستبشاع لهذه المقالة منه انتهى. وما يعبد آباؤنا حكاية حال ماضية، وأنا وإننا لغتان لقريش. قال الفراء: من قال إننا أخرج الحرف على أصله، لأن كناية المتكلمين ن، فاجتمعت ثلاث نونات.
ومن قال: أنا استثقل، اجتماعها، فأسقط الثالثة وأبقى الأولتين انتهى. والذي أختاره أن ن ضمير المتكلمين لا تكون المحذوفة، لأن في حذفها حذف بعض اسم وبقي منه حرف ساكن، وإنما المحذوفة النون الثانية من أنّ فحذفت لاجتماع الأمثال، وبقي من الحرف الهمزة والنون الساكنة، وهذا أولى من حذف ما بقي منه حرف. وأيضاً فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمين، ولم يعهد حذف نون ن، فكان حذفها من أن أولى. ومريب اسم فاعل من متعد، أرابه أوقعه في الريبة، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة. أو من لازم أراب الرجل إذا كان ذا ريبة، وأسند ذلك إلى الشك إسناداً مجازياً، ووجود مثل هذا الشك كوجود التصميم على الكفر.

.تفسير الآيات (63- 65):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)}
تقدم الكلام في أرأيتم في قصة نوح، والمفعول الثاني هنا لأرأيتم محذوف يدل عليه قوله: فمن ينصرني من الله إن عصيته، والتقدير: أعصيه في ترك ما أنا عليه من البينة. وقال ابن عطية: أرأيتم هو من رؤية القلب، والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد مفعولي علمت وأخواتها، وإدخال أداة الشرط التي هي إن على جملة محققة، وهي كان على بينة من ربه، لكنه خاطب الجاحدين للبينة فكأنه قال: قدروا أني على بينة من ربي وانظروا إنْ تابعتكم وعصيت ربي في أوامره، فمن يمنعني من عذابه؟ قال ابن عطية: وفي الكلام محذوف تقديره: أيضرني شككم، أو أيمكنني طاعتكم، ونحو هذا مما يليق بمعنى الآية انتهى. وهذا التقدير الذي قدره استشعار منه بالمفعول الثاني الذي يقتضيه أرأيتم، وأن الشرط وجوابه لا يقعان ولا يسدان مسد مفعولي أرأيتم، والذي قدرناه نحن هو الظاهر لدلالة قوله: فمن ينصرني من الله إن عصيته، فما تزيدونني غير تخسير. قال الزمخشري: غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران، وأقول أنكم خاسرون انتهى. يفعل هذا للنسبة كفسقته وفجرته أي: نسبته أي الفسق والفجور. قال ابن عباس: معناه ما تزيدونني بعبادتكم إلا بصارة في خسرانكم انتهى. فهو على حذف مضاف أي: غير بصارة تخسيركم. وقال مجاهد: ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خساراً، وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان سألهم الإيمان. وقال ابن عطية: فما تعطوني فيما اقتضيته منكم من الإيمان غير تخسير لأنفسكم، وهو من الخسارة وليس التخسير إلا لهم، وفي حيزهم، وأضاف الزيادة إليه من حيث هو مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم كما تقول لمن توصيه: أنا أريدك خيراً وأنت تريدني سوءاً، وكان الوجه البين أن يقول: وأنت تريد شراً، لكن من حيث كنت مريد خير، ومقتضى ذلك حسن أن يضيف الزيادة إلى نفسك انتهى. وقيل: التقدير فما تحملونني عليه، غير أني أخسركم أي: أرى منكم الخسران. وقيل: التقدير تخسروني أعمالكم وتبطلونها. قيل وهذا أقرب، لأن قوله: فمن ينصرني من الله إن عصيته كالدلالة على أنه أراد إن اتبعتكم فيما أنتم عليه ودعوتموني إليه لم أزدد إلا خسراناً في الدين، فأصير من الهالكين الخاسرين. وانتصب آية على الحال، والخلاف في الناصب في نحو هذا زيد منطلقاً، أهو حرف التنبيه؟ أو اسم الإشارة؟ أو فعل محذوف؟ جاز في نصب آية ولكم في موضع الحال، لأنه لو تأخر لكان نعتاً لآية، فلما تقدم على النكرة كان حالاً، والعامل فيها محذوف.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): فبم يتعلق لكم؟ (قلت): بآية حالاً منها متقدمة، لأنها لو تأخرت لكان صفة لها، فلما تقدمت انتصب على الحال انتهى.
وهذا متناقض، لأنه من حيث تعلق لكم بآية كان لكم معمولاً لآية، وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها، لأنّ الحال تتعلق بمحذوف، فتناقض هذا الكلام، لأنه من حيث كونه معمولاً لها كانت هي العاملة، ومن حيث كونه حالاً منها كان العامل غيرها، وتقدم الكلام على الجمل التي بعد آية. وقرأت فرقة: تأكل بالرفع على الاستئناف، أو على الحال. وقريب عاجل لا يستأخر عن مسكموها بسوء إلا يسيراً، وذلك ثلاثة أيام، ثم يقع عليكم، وهذا الإخبار بوحي من الله تعالى، فعقروها نسب إلى جميعهم وإن كان العاقر واحداً لأنه كان برضا منهم، وتمالؤ. ومعنى تمتعوا استمتعوا بالعيش في داركم في بلدكم، وتسمى البلاد الديار لأنها يدار فيها أي: يتصرف، يقال: ديار بكر لبلادهم قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: في داركم جمع دارة، كساحة وساح وسوح، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
له داع بمكة مشمعل ** وآخر فوق دارته ينادي

ويمكن أن يسمي جميع مسكن الحي داراً انتهى. ذلك أي: الوعد بالعذاب غير مكذوب، أي صدق حق. والأصل غيره مكذوب فيه، فاتسع فحذف الحرف وأجرى الضمير مجرى المفعول به، أو جعل غير مكذوب لأنه وفى به فقد صدق، أو على أنّ المكذوب هنا مصدر عند من يثبت أنّ المصدر يجيء على زنة مفعول.

.تفسير الآيات (66- 68):

{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)}
الصيحة: فعلة للمرة الواحدة من الصياح، يقال: صاح يصبح إذا صوت بقوة.
{فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيهآ ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود}: والكلام في جاء أمرنا كالكلام السابق في قصة قوم هود. قيل: الواو زائدة في ومن أي من خزي يومئذ فيتعلق من بنجينا، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن الواو لا تزاد عندهم بل تتعلق من بمحذوف أي: ونجيناهم من خزي، أي وكانت التنجية من خزي يومئذ. وقرأ طلحة وأبان بن تغلب: ومن خزي بالتنوين، ونصب يومئذ على الظرف معمولاً لخزي. وقرأ الجمهور بالإضافة، وفتح الميم نافع والكسائي، وهي فتحة بناء لإضافته إلى إذ، وهو غير متمكن. وقرأ باقي السبعة بكسر الميم وهي حركة إعراب، والتنوين في إذ تنوين عوض من الجملة المحذوفة المتقدمة الذكر أي: ومن فضيحة يوم إذ جاء الأمر وحل بهم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة انتهى. وهذا ليس بجيد، لأن التنوين في إذ تنوين العوض ولم يتقدم إلا قوله، فلما جاء أمرنا ولم تتقدم جملة فيها ذكر يوم القيامة ولا ما يكون فيها، فيكون هذا التنوين عوضاً من الجملة التي تكون في يوم القيامة. وناسب مجيء الأمر وصفه تعالى بالقوي العزيز، فإنهما من صفات الغلبة والقهر والانتقام، والجملة التي بعد هذا تقدم الكلام عليها في الأعراف ألا إن ثمود، منع حمزة وحفص صرفه، وصرفه الباقون، لثمود صرفه الكسائي، ومنعه باقي السبعة.

.تفسير الآيات (69- 73):

{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)}
حنذت الشاة أحنذها حنذا شويتها، وجعلت فوقها حجارة لتنضجها فهي حنيذ، وحنذت الفرس أحضرته شوطاً أو شوطين ثم ظاهرت عليه الجلال في الشمس ليعرق. أوجس الرجل قال الأخفش: خامر قلبه، وقال الفراء: استشعر، وقيل: أحس. والوجيس ما يعتري النفس عند أوائل الفزع، ووجس في نفسه كذا خطر بها يجس وجسا ووجوساً وتوجس تسمع وتحسس. قال:
وصادقتا سمع التوجس للسرى ** لهجس خفي أو لصوت مندد

الضحك معروف، وكان ينبغي أن يذكر في سورة التوبة في قوله: {فليضحكوا قليلاً} ويقال: ضحك بفتح الحاء، والضحكة الكثير الضحك، والضحكة المضحوك منه، ويقال: ضحكت الأرنب أي حاضت، وأنكر أبو عبيدة والفراء وأبو عبيد: ضحك بمعنى حاض، وعرف ذلك غيرهم. وقال الشاعر أنشده اللغويون:
وضحك الأرانب فوق الصفا ** كمثل دم الجوف يوم اللقا

وقال الآخر:
وعهدي بسلمى ضاحكاً في لبانة ** ولم يعد حقاً ثديها أن يحلما

أي حائضاً في لبانة، واللبانة والعلاقة والشوذر واحد. ومنه ضحكت الكافورة إذا انشقت، وضحكت الشجرة سال منها صمغها وهو شبه الدم، وضحك الحوض امتلأ وفاض.
الشيح: معروف، والفعل شاخ يشيخ، وقد يقال للأنثى: شيخة. قال:
وتضحك مني شيخة عبشمية

ويجمع على أشياخ وشيوخ وشيخان، ومن أسماء الجموع مشيخة ومشيوخاء. المجيد قال ابن الأعرابي: الرفيع. يقال: مجد يمجد مجداً ومجادة ومجد، لغتان أي كرم وشرف، وأصله من قولهم: مجدت الإبل تمجد مجداً شبعت. وقال: أمجدت الدابة أكثرت علفها، وقال أبو حية النميري:
تزبد على صواحبها وليست ** بماجدة الطعام ولا الشراب

أي: ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب. وقال الليث: أمجد فلان عطاء ومجده إذا كثره، ومن أمثالهم «في كل شجر نار» واستمجد المرخ والعفار أي استكثر من النار. وقال ابن عطية: مجد الشيء إذا حسنت أوصافه. الروع: الفزع قال الشاعر:
إذا أخذتها هزة الروع أمسكت ** بمنكب مقدام على الهول أروعا

{ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنّا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق يعقوب قالت يويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}: تقدم أن ترتيب قصص هذه السورة كترتيب قصص الأعراف، وإنما أدرج شيئاً من أخبار إبراهيم عليه السلام بين قصة صالح ولوط، لأنّ له مدخلاً في قصة لوط، وكان ابراهيم بن خالة لوط. والرسل هنا الملائكة، بشرت إبراهيم بثلاث بشائر: بالولد، وبالخلة، وبإنجاء لوط ومن آمن معه.
قيل: كانوا اثنى عشر ملكاً، روى ذلك عن ابن عباس. وقال السدي: أحد عشر، وحكى صاحب الغنيان عشرة منهم جبريل. وقال الضحاك: تسعة، وقال محمد بن كعب: ثمانية، وحكى الماوردي: أربعة، وقال ابن عباس وابن جبير: ثلاثة جبريل، وميكائيل، وإسرافيل. وقال مقاتل: جبريل، وميكائيل، وملك الموت. وروي: أن جبريل عليه السلام كان مختصاً بإهلاك قوم لوط، وميكائيل ببشرى إبراهيم بإسحاق عليهما السلام، وإسرافيل بإنجاء لوط ومن آمن معه. قيل: وكانت الملائكة جرداً مرداً على غاية من الحسن والجمال والبهجة، ولهذا يضرب بهم المثل في الحسن كما قال تعالى حكاية عما قيل في يوسف: {ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم} وقال الغزي:
قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة ** حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وانتصب سلاماً على إضمار الفعل أي: سلمنا عليك سلاماً، فسلاماً قطعه معمولاً للفعل المضمر المحكى بقالوا، قال ابن عطية: ويصح أن يكون سلاماً حكاية لمعنى ما قالوا، لا حكاية للفظهم، قاله: مجاهد، والسدي. ولذلك عمل فيه القول، كما تقول لرجل قال: لا إله إلا الله قلت: حقاً وإخلاصاً، ولو حكيت لفظهم لم يصح أن يعمل فيه القول انتهى. ويعني لم يصح أن يعمل في لفظهم القول، يعني في اللفظ، وإن كان ما لفظوا به في موضع المفعول للقول. وسلام خبر مبتدأ محذوف أي: أمري أو أمركم سلام، أو مبتدأ محذوف الخبر أي: عليكم سلام، والجملة محمية وإن كان حذف منها أحد جزءيها كما قال:
إ ذا ذقت فاها قلت طعم مدامة

أي طعمه طعم مدامة وقرأ الإخوان قال: سلم، والسلم السلام كحرم وحرام، ومنه قول الشاعر:
مررنا فقلنا ايه سلم فسلمت ** كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح

اكتل اتخذ إكليلاً. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالسلم ضد الحرب تقول: نحن سلم لكم انتهى. ونصب سلاماً يدل على التجدد، ورفع سلام يدل على الثبوت والاستقرار، والأقرب في إعراب فما لبث أن تكون ما نافية، ولبث معناه تأخر وأبطأ، وأن جاء فاعل بلبث التقدير فما تأخر مجيئه قاله: الفراء. وجوزوا أن يكون في لبث ضمير إبراهيم فهو فاعل، وأن جاء على إسقاط الحرف فقدر بأن وبعن، وبفي، وجعل بعضهم أن بمعنى حتى حكاه ابن العربي. وأن تكون ما مصدرية، وذلك المصدر في موضع رفع بالابتداء، وأن تكون بمعنى الذي أي: فلبثه، أو الذي لبثه، أو الذي لبثه، والخبر أن جاء على حذف أي: قدر مجيئه، وهذا من أدب الضيافة، وهو تعجيل القرى. وكان مال إبراهيم البقر، فقدم أحسن ما فيه وهو العجل. قال مجاهد: حنيذ مطبوخ، وقال الحسن: نضيج مشوي سمين يقطر ودكا. وقال السدي: سمين، وقيل: سميط لا يصل إليه، أي إلى العجل. والمعنى: لا يمدون أيديهم إلى أكله، فلم ينف الوصول الناشئ عن المد بل جعل عدم الوصول استعارة عن امتناعهم من الأكل.
نكرهم أي أنكرهم قال الشاعر:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ** من الحوادث إلا الشيب والصلعا

وقيل: نكر فيما يرى، وأنكر فيما لا يرى من المعاني، فكأنّ الشاعر قال: وأنكرت مودتي ثم جاءت بنكر الشيب والصلع مما يرى بالبصر. ومنه قول أبي ذؤيب:
فنكرنه فنفرن وامترست به ** هو جاء هادية وهاد جرشع

وروي أنهم كانوا ينكثون بقداح كانت بأيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه، وينبغي أن ينظر من الضيف هل يأكل أو لا ويكون بتلفت ومسارعة، لا بتحديد النظر، لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصراً في الأكل. قيل: كان إبراهيم عليه السلام ينزل في طرف من الأرض مخافة أن يريدوا به مكروهاً. وقيل: كانت عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوا وإلا خافوه. قال الزمخشري: ويظهر أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم، لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه، أو لتعذيب قومه. ألا ترى إلى قولهم: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيما أرسلوا. قال مقاتل: فأوجس وقع في قلبه. وقال الحسن: حدث به نفسه، قيل: وأصل الوجوس الدخول، فكأن الخوف دخل عليه. والظاهر أنه لم يعرف أنهم ملائكة لمجيئهم في صورة البشر، وكان مشغوفاً بإكرام الأضياف، فلذلك جاؤوا في صورهم، ولمسارعته إلى إحضار الطعام إليهم، ولأنّ امتناع الملائكة من الأكل لا يدل على حصول الشر، وإنما عرف أنهم ملائكة بقولهم: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، فنهوه عن شيء وقع في نفسه، وعرفوا خيفته بكون الله جعل لهم من الاطلاع ما لم يجعل لغيرهم كقوله تعالى: {يعلمون ما تفعلون} وفي الحديث الصحيح: «قالت الملائكة ربي عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة» الحديث، أو بما يلوح في صفحات وجه الخائف. وامرأته قائمة جملة من ابتداء وخبر قال الحوفي وأبو البقاء: في موضع الحال، قال أبو البقاء: من ضمير الفاعل في أرسلنا، يعني المفعول الذي لم يسم فاعله، والزمخشري يسميه فاعلاً لقيامه مقام الفاعل. وقال الحوفي: والتقدير أرسلنا إلى قوم لوط في حال قيام امرأته، يعني امرأة ابراهيم. والظاهر أنه حال من ضمير قالوا أي: قالوا لا إبراهيم لا تخف في حال قيام امرأته وهي سارة بنت هاران بن ناخور وهي ابنة عمه، قائمة أي: لخدمة الأضياف، وكانت نساؤهم لا تحتجب كعادة الأعراب، ونازلة البوادي والصحراء، ولم يكن التبرج مكروهاً، وكانت عجوزاً، وخدمة الضيفان مما يعد من مكارم الأخلاق قاله: مجاهد. وجاء في شريعتنا مثل هذا من حديث أبي أسيد الساعدي: وكانت امرأته عروساً، فكانت خادمة الرسول ومن حضر معه من أصحابه.
وقال وهب: كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم. وقال ابن إسحاق: قائمة تصلي. وقال المبرد: قائمة عن الولد. قال الزمخشري: وفي مصحف عبد الله وامرأته قائمة وهو قاعد. وقال ابن عطية: وفي قراءة ابن مسعود: وهي قائمة وهو جالس. ولم يتقدّم ذكر امرأة ابراهيم فيضمر، لكنه يفسره سياق الكلام.
قال مجاهد وعكرمة: فضحكت حاضت. قال الجمهور: هو الضحك المعروف. فقيل: هو مجاز معبر به عن طلاقة الوجه وسروره بنجاة أخيها وهلاك قومه، يقال: أتيت على روضة تضحك أي مشرقة. وقيل: هو حقيقة. فقال مقاتل: وروي عن ابن عباس ضحكت من شدّة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه. والذين جاؤوه ثلاثة، وهي تعهده يغلب الأربعين، وقيل: المائة. وقال قتادة: ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم. وقال السدي: ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت: عجباً لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا، وهم لا يأكلون طعامنا. وقال وهب بن منبه: وروي عن ابن عباس: ضحكت من البشارة بإسحاق، وقال: هذا مقدم بمعنى التأخير. وذكر ابن الأنباري أنّ ضحكها كان سروراً بصدق ظنها، لأنها كانت تقول لابراهيم: اضمم إليك ابن أخيك لوطاً وكان أخاها، فإنه سينزل العذاب بقومه. وقيل: ضحكت لما رأت من المعجز، وهو أنّ الملائكة مسحت العجل الحنيذ فقام حياً يطفر، والذي يظهر والله أعلم أنهم لما لم يأكلوا، وأوجس في نفسه خيفة بعدما نكر حالهم، لحق المرأة من ذلك أعظم ما لحق الرجل. فلما قالوا: لا تخف، وذكروا سبب مجيئهم زال عنه الخوف وسرّ، فلحقها هي من السرور ان ضحكت، إذ النساء في باب الفرح والسرور أطرب من الرجال وغالب عليهن ذلك. وقد أشار الزمخشري إلى طرف من هذا فقال: فضحكت سروراً بزوال الخيفة. وذكر محمد بن قيس سبباً لضحكها تركنا ذكره لفظاعته، يوقف عليه في تفسير ابن عطية: وقرأ محمد بن زياد الأعرابي رجل من قراء مكة: فضحكت بفتح الحاء. قال المهدوي: وفتح الحاء غير معروف، فبشرناها هذا موافق لقوله تعالى: ولقد جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى، والمعنى: فبشرناها على لسان رسلنا بشرتها الملائكة بإسحاق، وبأن إسحاق سيلد يعقوب. قال ابن عطية: أضاف فعل الملائكة إلى ضمير اسم الله تعالى، إذ كان ذلك بأمره ووحيه. وقال غيره: لما ولد لابراهيم اسماعيل عليهما السلام من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبشرت بولد يكون نبياً ويلد نبياً، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها. وإنما بشروها دونه، لأنّ المرأة أعجل فرحاً بالولد، ولأن إبراهيم قد بشروه وأمنوه من خوفه، فأتبعوا بشارته ببشارتها. وقيل: خصت بالبشارة حيث لم يكن لها ولد، وكان لإبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل.
والظاهر أن وراء هنا ظرف استعمل اسماً غير ظرف بدخول من عليه كأنه قيل: ومن بعد إسحاق، أو من خلف إسحاق، وبمعنى بعد، روي عن ابن عباس واختاره مقاتل وابن قتيبة، وعن ابن عباس أيضاً: أن الوراء ولد الولد، وبه قال الشعبي: واختاره أبو عبيدة.
وتسميته وراء هي قريبة من معنى وراء الظرف، إذ هو ما يكون خلف الشيء وبعده. فإن قيل: كيف يكون يعقوب وراء لإسحاق وهو ولده لصلبه، وإنما الوراء ولد الولد؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال: المعنى ومن الوراء المنسوب إلى إسحاق يعقوب، لأنه قد كان الوراء لإبراهيم من جهة إسحاق، فلو قال: ومن الوراء يعقوب، لم يعلم أهذا الوراء منسوب إلى إسحاق أم إلى إسماعيل، فأضيف إلى إسحاق لينكشف المعنى ويزول اللبس انتهى. وبشرت من بين أولاد إسحاق بيعقوب، لأنها رأته ولم تر غيره، وهذه البشارة لسارة كانت وهي بنت تسع وتسعين سنة، وابراهيم ابن مائة سنة. وقيل: كان بينهما غير ذلك، وهي أقوال متناقضة.
وهذه الآية تدل على أنّ إسماعيل هو الذبيح، لأن سارة حين أخدمها الملك الجبار هاجر أم إسماعيل كانت شابة جميلة، فاتخذ إبراهيم هاجر سرية، فغارت منها سارة، فخرج بها وبابنها إسماعيل من الشام على البراق، وجاء من يومه مكة، وانصرف إلى الشام من يومه، ثم كانت البشارة بإسحاق وسارة عجوز محالة، وسيأتي الدليل على ذلك أيضاً من سورة والصافات. ويجوز أن يكون الله سماها حالة البشارة بهذين الاسمين، ويجوز أن يكون الإسمان حدثا لها وقت الولادة، وتكون البشارة بولد ذكر بعده ولد ذكر، وحالة الإخبار عن البشارة ذكراً باسمها كما يقول المخبر: إذا بشر في النوم بولد ذكر فولد له ولد ذكر فسماه مثلاً عبد الله: بشرت بعبد الله. وقرأ الحرميان، والنحويان، وأبو بكر يعقوب: بالرفع على الابتداء ومن وراء الخبر كأنه قيل: ومن وراء إسحاق يعقوب كائن، وقدره الزمخشري مولود أو موجود. قال النحاس: والجملة حال داخلة في البشارة أي: فبشرناها بإسحاق متصلاً به يعقوب. وأجاز أبو علي أنْ يرتفع بالجار والمجرور، كما أجازه الأخفش أي: واستقرّ لها من وراء إسحاق يعقوب. وقالت فرقة: رفعه على القطع بمعنى ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب. وقال النحاس: ويجوز أن يكون فاعلاً بإضمار فعل تقديره: ويحدث من وراء إسحاق يعقوب. قال ابن عطية: وعلى هذا لا تدخل البشارة انتهى. ولا حاجة إلى تكلف القطع والعدول عن الظاهر المقتضى للدخول في البشارة.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص، وزيد بن علي: يعقوب بالنصب. قال الزمخشري: كأنه قيل ووهبنا له إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله: ليسوا مصلحين عشيرة، ولا ناعب، انتهى. يعني أنه عطف على التوهم، والعطف على التوهم لا ينقاس، والأظهر أن ينتصب يعقوب بإضمار فعل تقديره: ومن وراء إسحاق وهبنا يعقوب، ودل عليه قوله: فبشرناها، لأن البشارة في معنى الهبة، ورجح هذا الوجه أبو علي ومن ذهب إلى أنه مجرور معطوف على لفظ بإسحاق، أو على موضعه.
فقوله ضعيف، لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور، لا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو، فإن جاء ففي شعر. فإنْ كان المعطوف منصوباً أو مرفوعاً، ففي جواز ذلك خلاف نحو: قام زيد واليوم عمرو، وضربت زيداً واليوم عمراً والظهر أن الألف في يا ويلتا بدل من ياء الإضافة نحو: يا لهفا ويا عجباً، وأمال الألف من يا ويلتا عاصم وأبو عمرو والأعشى، إذ هي بدل من الياء. وقرأ الحسن: يا ويلتي بالياء على الأصل. وقيل: الألف ألف الندبة، ويوقف عليها بالهاء. وأصل الدعاء بالويل ونحوه في التفجع لشدة مكروه يدهم النفس، ثم استعمل بعد في عجب يدهم النفس. ويا ويلتا كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه، واستفهمت بقولها أألد استفهام إنكار وتعجب، وأنا عجوز وما بعده جملتا حال، وانتصب شيخاً على الحال عند البصريين، وخبر التقريب عند الكوفيين. ولا يستغنى عن هذه الحال إذا كان الخبر معروفاً عند المخاطب، لأنّ الفائدة إنما تقع بهذه الحال، أما إذا كان مجهولاً عنده فأردت أن تفيد المخاطب ما كان يجهله، فتجيء الحال على بابها مستغنى عنها.
وقرأ ابن مسعود وهو في مصحفه والأعمش، شيخ بالرفع. وجوزوا فيه. وفي بعلي أن يكونا خبرين كقولهم: هذا حلو حامض، وأن يكونن بعلى الخبر، وشيخ خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من بعلي، وأن يكون بعلي بدلاً أو عطف بيان، وشيخ الخبر. والإشارة بهذا إلى الولادة أو البشارة بها تعجبت من حدوث ولد بين شيخين هرمين، واستغربت ذلك من حيث العادة، لا إنكاراً لقدرة الله تعالى. قالوا: أي الملائكة أتعجبين؟ استفهام إنكار لعجبها. قال الزمخشري: لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادة، فكان عليها أن تتوفر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء في غير بيت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب. وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولهم: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، أرادوا أنّ هذه وأمثالها مما يكرمكم رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة؟ فليست بمكان عجيب، وأمر الله قدرته وحكمته. وقوله: رحمة الله وبركاته عليكم كلام مستأنف علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: إياك والتعجب، فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم. وقيل: الرحمة النبوة، والبركات الأسباط من بني إسرائيل، لأن الأنبياء منهم، وكلهم من ولد إبراهيم انتهى. وقيل: رحمته تحيته، وبركاته فواضل خيره بالخلة والإمامة. وروي أن سارة قالت لجبريل عليه السلام: ما آية ذلك؟ فأخذ عوداً بابساً فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر، فسكن روعها وزال عجبها.
وهذه الجملة المستأنفة يحتمل أن تكون خبراً وهو الأظهر، لأنه يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم، ويحتمل أن يكون دعاء وهو مرجوح، لأن الدعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل بعد. وأهل منصوب على النداء، أو على الاختصاص، وبين النصب على المدح والنصب على الاختصاص فرق، ولذلك جعلهما سيبويه في بابين وهو أنّ المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح، كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم، والمنصوب على الاختصاص لا يكون إلا لمدح أو ذم، لكن لفظه لا يتضمن بوضعه المدح ولا الذم كقوله: بنا تميماً يكشف الضباب. وقوله: ولا الحجاج عيني بنت ماء. وخطاب الملائكة أياها بقولهم: أهل البيت، دليل على اندراج الزوجة في أهل البيت، وقد دل على ذلك أيضاً في سورة الأحزاب خلافاً للشيعة إذ لا يعدون الزوجة من أهل بيت زوجها، والبيت يراد به بيت السكنى. إنه حميد: وقال أبو الهيثم تحمد أفعاله وهو بمعنى المحمود. وقال الزمخشري: فاعل ما يستوجب من عباده، مجيد كريم كثير الإحسان إليهم.