فصل: تفسير الآيات (106- 108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (106- 108):

{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)}
الزفير والشهيق: زعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أنّ الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار، والشهيق بمنزلة آخر نهيقه. وقال رؤبة:
حشرج في الصدر صهيلاً وشهق ** حتى يقال ناهق وما نهق

وقال ابن فارس: الشهيق ضد الزفير، لأن الشهيق رد النفس، والزفير إخراج النفس من شدة الجري، مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته. وقال الشماخ:
بعيد مدى التطريب أول صوته ** زفير ويتلوه شهيق محشرج

والشهيق النفس الطويل الممتد، مأخوذ من قولهم: جبل شاهق أي طويل. وقال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ويخرجه، والشهيق أن يخرج ذلك النفس بشدّة يقال: إنه عظيم الزفرة.
الجذ القطع بالمعجمة والمهملة. قال ابن قتيبة: جذذت وجددت، وهو بالذال أكثر. قال النابغة:
تجذ السلوقي المضاعف يسجه ** وتوقد بالصفاح نار الحباحب

{فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} قال الضحاك ومقاتل والفراء: الزفير أول نهيق الحمار، والشهيق آخره، وروي عن ابن عباس، وقال أبو العالية والربيع بن أنس: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، وروي عن ابن عباس أيضاً. وقال ابن السائب: الزفير زفير الحمار، والشهيق شهيق البغال. وانتصاب خالدين على أنها حال مقدرة، وما مصدرية ظرفية أي: مدة دوام السموات والأرض، والمراد بهذا التوقيت التأييد كقول العرب: ما أقام ثبير وما لاح كوكب، وضعت العرب ذلك للتأييد من غير نظر لفناء ثبير أو الكوكب، أو عدم فنائهما. وقيل: سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة لا بد، يدل على ذلك {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} وقوله: {وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء} ولأنه لابد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلمهم، إما سماء يخلقها الله، أو يظلهم العرش وكلما أظلك فهو سماء. وعن ابن عباس: إن السموات والأرض في الآخرة يردان إلى النور الذي أخذتا منه، فهما دائمتان أبداً في نور العرش. والظاهر أنّ قوله: إلا ما شاء ربك استثناء من الزمان الدال عليه قوله: خالدين فيهما ما دامت السموات والأرض. والمعنى: إلا الزمان الذي شاءه الله تعالى، فلا يكون في النار، ولا في الجنة، ويمكن أن يكون هذا الزمان المستثنى هو الزمان الذي يفصل الله بين الخلق يوم القيامة، إذا كان الاستثناء من الكون في النار والجنة، لأنه زمان يخلو فيه الشقي والسعيد من دخول النار أو الجنة. وأما إن كان الاستثناء من الخلود فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكون الزمان المستثنى، هو الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة، فليسوا خالدين في النار إذ قد أخرجوا منها وصاروا في الجنة، وهذا روى معناه عن قتادة والضحاك وغيرهما، ويكون الذين شقوا شاملاً للكفار وعصارة المسلمين.
وأما بالنسبة إلى أهل الجنة فلا يتأتى منهم ما تأتى في أهل النار، إذ ليس منهم من يدخل الجنة ثم لا يخلد فيها، لكن يمكن ذلك باعتبار أن يكون أريد الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين، أو الذي فات أصحاب الأعراف، فإنهم بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخلدوا فيها صدق على العصاة المؤمنين وأصحاب الأعراف أنهم ما خلدوا في الجنة تخليد من دخلها لأول وهلة، ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستكن في الجار والمجرور، أو في خالدين، وتكون ما واقعة على نوع من يعقل، كما وقعت في قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} أو تكون واقعة على من يعقل على مذهب من يرى وقوعها على من يعقل مطلقاً، ويكون المستثنى في قصة النار عصاة المؤمنين، وفي قصة الجنة هم، أو أصحاب الأعراف لأنهم لم يدخلوا الجنة لأول وهلة، ولا خلدوا فيها خلود من دخلها أول وهلة.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى الاستثناء في قوله: إلا ما شاء ربك، وقد ثبت خلود أهل الجنة والنار في الآية من غير استثناء؟ (قلت): هو استثناء من الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة، وذلك أنّ أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب يساوي عذاب النار، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم. وهكذا أهل الجنة لهم مع تبوّء الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعاً منهم، وهو رضوان الله تعالى. كما قال: {وعد الله} الآية إلى قوله: {ورضوان من الله أكبر} ولهم ما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة ما لا يعرف كنهه إلا هو، فهو المراد بالاستثناء، والدليل عليه قوله: عطاء غير مجذوذ. ومعنى قوله في مقابلته: إن ربك فعال لما يريد، أنه يفعل بأهل النار، ما يريد من العذاب، كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له، فتأمله فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ولا يخدعنك عنه قول المجبرة: المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم. وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم لما روي لهم بعض الثوابت عن عبد الله بن عمرو بن العاص: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك عندما يلبثون فيها أحقاباً.
وقد بلغني أن من الضلال من اعتبر هذا الحديث، فاعتقد أنّ الكفار لا يخلدون في النار، وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه، وتنبيهاً عن أن نغفل عنه. ولئن صح هذا عن أبي العاص فمعناه يخرجون من النار إلى برد الزمهرير، فذلك خلو جهنم وصفق أبوابها انتهى. وهو على طريق الاعتزال في تخليد أهل الكبائر غير التائبين من المؤمنين في النار، وأما ما ذكره من الاستثناء في أهل النار من كونهم لا يخلدون في عذاب النار، إذ ينتقلون إلى الزمهرير فلا يضيق عليهم أنهم خالدون في عذاب النار، فقد يتمشى. وأما ما ذكره من الاستثناء في أهل الجنة من قوله: خالدين، فلا يتمشى لأنهم مع ما أعطاهم الله من رضوانه، وما تفضل عليهم به من سوى ثواب الجنة، لا يخرجهم ذلك عن كونهم خالدين في الجنة، فلا يصح الاستثناء على هذا، بخلاف أهل النار فإنه لخروجهم من عذابها إلى الزمهرير يصح الاستثناء.
وقال ابن عطية: وأما قوله إلا ما شاء ربك، فقيل فيه: إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام، فهو على نحو قوله: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط كأنه قال: إن شاء الله، فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع. وقيل: هو استثناء من طول المدة، وذلك على ما روي أن جهنم تخرب ويعدم أهلها، وتخفق أبوابها، فهم على هذا يخدلون حتى يصير أمرهم إلى هذا، وهذا قول محيل. والذي روى ونقل عن ابن مسعود وغيره: أنها تخلو من النار إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين، وهو الذي يسمى جهنم، وسمى الكل به تجوزاً. وقيل: إلا بمعنى الواو، فمعنى الآية: وما شاء الله زائداً على ذلك. وقيل: في هذه الآية بمعنى سوى، والاستثناء منقطع كما تقول: لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك، بمعنى سوى تلك الألف. فكأنه قال: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، سوى ما شاء الله زائداً على ذلك، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا: عطاء غير مجذوذ، وهذا قول الفرّاء. وقيل: سوى ما أعد لهم من أنواع العذاب مما لا يعرف كالزمهرير. وقيل: استثناء من مدة السموات والأرض التي فرطت لهم في الحياة الدنيا. وقيل: في البرزخ بين الدنيا والآخرة. وقيل: في المسافات التي بينهم في دخول النار إذ دخولهم إنما هو زمراً بعد زمر. وقيل: الاستثناء من قوله ففي النار، كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك، وهذا قول رواه أبو نصرة عن جابر، أو عن أبي سعيد الخدري، ثم أخبر منبهاً على قدرة الله تعالى فقال: إن ربك فعال لما يريد انتهى.
وقال أبو مجلز: إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنه بعذاب يكون جزاؤه الخلود في النار، فلا يدخله النار. وقيل: معنى إلا ما شاء ربك كما شاء ربك قيل: كقوله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا من قد سلف} أي كما قد سلف. وقرأ الحسن: شقوا بضم الشين، والجمهور بفتحها. وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرّف، وابن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص سعدوا بضم السين، وباقي السبعة والجمهور بفتحها. وكان علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي سعدوا مع علمه بالعربية، ولا يتعجب من ذلك إذ هي قراءة منقولة عن ابن مسعود ومن ذكرنا معه. وقد احتج الكسائي بقولهم: مسعود، قيل: ولا حجة فيه لأنه يقال: مكان مسعود فيه، ثم حذف فيه وسمى به، وقال المهدوي: من قرأ سعدوا فهو محمول على مسعود، وهو شاذ قليل لأنه لا يقال سعده الله، إنما يقال: أسعده الله. وقال الثعلبي: سعد وأسعد بمعنى واحد، وانتصب عطاء على المصدر أي: أعطوا عطاء بمعنى إعطاء كقوله: {والله أنبتكم من الأرض نبتاً} أي إنباتاً. ومعنى غير مجذوذ: غير مقطوع، بل هو ممتد إلى غير نهاية.

.تفسير الآية رقم (109):

{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)}
لما ذكر تعالى قصص عبدة الأوثان من الأمم السالفة، واتبع ذلك بذكر أحوال الأشقياء والسعداء، شرح للرسول صلى الله عليه وسلم أحوال الكفار من قومه، وإنهم متبعو آبائهم كحال من تقدم من الأمم في اتباع آبائهم في الضلال. وهؤلاء إشارة إلى مشركي العرب باتفاق، وأنَّ ديدنهم كديدن الأمم الماضية في التقليد والعمى عن النظر في الدلائل والحجج. وهذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وعدة بالانتقام منهم، إذ حالهم في ذلك حال الأمم السالفة، والأمم السالفة قد قصصنا عليك ما جرى لهم من سوء العاقبة. والتشبيه في قوله: كما يعبد، معناه أنّ حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت، وقد بلغك ما نزل بأسلافهم، فسينزل بهم مثله. وما يعبد استئناف جرى مجرى التعليل للنهي عن المرية، وما في مما وفي كما يحتمل أن تكون مصدرية وبمعنى الذي. وقرأ الجمهور: لموفوهم مشدداً من وفى، وابن محيصن مخففاً من أوفى، والنصيب هنا قال ابن عباس: ما قدر لهم من خير ومن شر. وقال أبو العالية: من الرزق. وقال ابن زيد: من العذاب، وكذا قال الزمخشري قال: كما وفينا آباءهم أنصباءهم، وغير منقوص حال من نصيبهم، وهو عندي حال مؤكدة، لأنّ التوفية تقتضي التكميل.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف نصب غير منقوص حالاً من النصيب الموفى؟ (قلت): يجوز أن يوفى وهو ناقص، ويوفى وهو كامل. ألا تراك تقول: وفيته شطر حقه، وثلث حقه، وحقه كاملاً وناقصاً؟ انتهى وهذه مغلطة إذا قال: وفيته شطر حقه، فالتوفية وقعت في الشطر، وكذا ثلث حقه، والمعنى أعطيته الشطر أو الثلث كاملاً لم أنقصه منه شيئاً. وأما قوله: وحقه كاملاً وناقصاً، أما كاملاً فصحيح، وهي حال مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال، وأما وناقصاً فلا يقال لمنافاته التوفية. والخطاب في فلا تك متوجه إلى من داخله الشك، لا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى: والله أعلم قل يا محمد لكل من شك لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء، فإنّ الله لم يأمرهم بذلك، وإنما اتبعوا في ذلك آباءهم تقليداً لهم وإعراضاً عن حجج العقول.

.تفسير الآية رقم (110):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)}
لما بين تعالى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد ونبوّة الرسول والقرآن الذي أتى به، بيّن أنّ الكفار من الأمم السابقة كانوا على هذه السيرة الفاجرة مع أنبيائهم، فليس ذلك ببدع مِن مَن عاصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وضرب لذلك مثلاً وهو: إنزال التوراة على موسى فاختلفوا فيها. والكتاب هنا التوراة، فقبله بعض، وأنكره بعض، كما اختلف هؤلاء في القرآن. والظاهر عود الضمير فيه على الكتاب لقربه، ويجوز أن يعود على موسى عليه السلام. ويلزم من الاختلاف في أحدهما الاختلاف في الآخر. وجوز أن تكون في بمعنى على، أي: فاختلف عليه، وكان بنو إسرائيل أشدّ تعنتاً على موسى وأكثر اختلافاً عليه. وقد تقدم شرح: {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم} والظاهر عود الضمير في بينهم على قوم موسى عليه السلام، إذ هم المختلفون فيه، أو في الكتاب. وقيل: يعود على المختلفين في الرسول من معاصريه. قال ابن عطية: وأنْ يعمهم اللفظ أحسن عندي، وهذه الجملة من جملة تسليته أيضاً.

.تفسير الآية رقم (111):

{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)}
الظاهر عموم كل وشموله للمؤمن والكافر. وقال الزمخشري: التنوين عوض من المضاف إليه يعني: وإن كلهم، وإن جميع المختلفين فيه. وقال مقاتل: يعني به كفار هذه الأمة. وقرأ الحرميان وأبو بكر: وإن كلا بتخفيف النون ساكنة. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة: لما بالتشديد هنا وفي (يس) و(الطارق) وأجمعت السبعة على نصب كلا، فتصور في قراءتهم أربع قراآت: إحداها: تخفيف أن ولما، وهي قراءة الحرميين. والثانية: تشديدهما، وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص. والثالثة: تخفيف إنْ وتشديد لما وهي قراءة أبي بكر. والرابعة: تشديد أنْ وتخفيف لمّا، وهي قراءة الكسائي وأبي عمرو. وقرأ أبيّ والحسن بخلاف عنه، وإبان بن ثعلب وإنْ بالتخفيف كل بالرفع لمّا مشدداً. وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: وإن كلا لمّا بتشديد الميم وتنوينها، ولم يتعرضوا لتخفيف إنْ ولا تشديدها. وقال أبو حاتم: الذي في مصحف أبيّ وإن من كل إلا ليوفينهم. وقرأ الأعمش: وإن كل إلا، وهو حرف ابن مسعود، فهذه أربعة وجوه في الشاذ. فأما القراءة الأولى فأعمال أنْ مخففة كأعمالها مشددة، وهذا المسألة فيها خلاف: ذهب الكوفيون إلى أنّ تخفيف إن يبطل عملها، ولا يجوز أن تعمل. وذهب البصريون إلى أنّ إعمالها جائز، لكنه قليل إلا مع المضمر، فلا يجوز إلا إن ورد في شعر، وهذا هو الصحيح لثبوت ذلك في لسان العرب. حكى سيبويه أن الثقة أخبره أنه سمع بعض العرب أنّ عمر المنطلق، ولثبوت هذه القراءة المتواترة وقد تأولها الكوفيون. وأما لما فقال الفراء: فاللام فيها هي اللام الداخلة على خبر إنّ، وما موصولة بمعنى الذي كما جاء: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} والجملة من القسم المحذوف وجوابه الذي هو ليوفينهم صلة، لما نحو قوله تعالى: {وإن منكم لمن ليبطئن} وهذا وجه حسن، ومن إيقاع ما على من يعقل قولهم: لاسيما زيد بالرفع، أي لاسي الذي هو زيد. وقيل: ما نكرة موصوفة وهي لمن يعقل، والجملة القسمية وجوابها قامت مقام الصفة، لأن المعنى: وإنْ كلا لخلق موفى عمله، ورجح الطبري هذا القول واختاره. وقال أبو عليّ: العرف أن تدخل لام الابتداء على الخير، والخبر هنا هو القسم وفيه لام تدخل على جوابه، فلما اجتمع اللامان والقسم محذوف، واتفقا في اللفظ، وفي تلقي القسم فصل بينهما بما كما فصلوا بين أن واللام انتهى. ويظهر من كلامه أنّ اللام في لما هي اللام التي تدخل في الخبر، ونص الحوفي على أنها لام إنْ، إلا أنّ المنقول عن أبي علي أنّ الخبر هو ليوفينهم، وتحريره ما ذكرنا وهو القسم وجوابه. وقيل: اللام في لما موطئة للقسم، وما مزيدة، والخبر الجملة القسمية وجوابها، وإلى هذا القول في التحقيق يؤول قول أبي علي.
وأما القراءة الثانية فتشديد إنّ وإعمالها في كل واضح. وأما تشديد لمّا فقال المبرد: هذا لحن، لا تقول العرب إنّ زيداً لما خارج، وهذه جسارة من المبرد على عادته. وكيف تكون قراءة متواترة لحناً وليس تركيب الآية كتركيب المثال الذي قال: وهو أنّ زيداً لما خارج هذا المثال لحن، وأما في الآية فليس لحناً، ولو سكت وقال كما قال الكسائي: ما أدري ما وجه هذه القراءة لكن قد وفق، وأما غير هذين من النحويين فاختلفوا في تخريجها. فقال أبو عبيد: أصله لما منونا وقد قرئ كذلك، ثم بني منه فعلى، فصار كتتري نون إذ جعلت ألفه للإلحاق كارطي، ومنع الصرف إذ جعلت ألف تأنيث، وهو مأخوذ من لممته أي جمعته، والتقدير: وإنْ كلاًّ جميعاً ليوفينهم، ويكون جميعاً فيه معنى التوكيد ككل، ولا يقال لما هذه هي لما المنونة وقف عليها بالألف، لأنها بدل من التنوين، وأجرى الأصل مجرى الوقف، لأنّ ذلك إنما يكون في الشعر. وما قاله أبو عبيد بعيد، إذ لا يعرف بناء فعلى من اللم، ولما يلزم لمن أمال، فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع، ومن كتابتها بالياء ولم تكتب بها، وقيل: لما المشدّدة هي لما المخففة، وشدّدها في الوقف كقولك: رأيت فرّحا يريد فرحاً، وأجرى الوصل مجرى الوقف، وهذا بعيد جداً، وروي عن المازني. وقال ابن جني وغيره: تقع إلا زائدة، فلا يبعد أن تقع لما بمعناها زائدة انتهى. وهذا وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا. وقال المازني: إنْ هي المخفف ثقلت، وهي نافية بمعنى ما، كما خففت إنْ ومعناها المثقلة، ولما بمعنى إلا، وهذا باطل لأنه لم يعهد تثقيل إن النافية، ولنصب كل وإن النافية لا تنصب. وقيل: لما بمعنى إلا كقولك: نشدتك بالله لما فعلت، تريد إلا فعلت، وقاله الحوفي، وضعفه أبو علي قال: لأن لما هذه لا تفارق القسم انتهى. وليس كما ذكر، قد تفارق القسم. وإنما يبطل هذا الوجه، لأنه ليس موضع دخول إلا، لو قلت: إنْ زيداً إلا ضربته لم يكن تركيباً عربياً. وقيل: لما أصلها لمن ما، ومن هي الموصولة، وما بعدها زائدة، واللام في لما هي داخلة في خبر إن، والصلة الجملة القسمية، فلما أدغمت ميم من في ما الزائدة اجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت الوسطى منهن وهي المبدلة من النون، فاجتمع المثلان، فأدغمت ميم من في ميم ما، فصار لمّا وقاله المهدوي. وقال الفراء، وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي: أصل لمّا لمن ما دخلت من الجارة على ما، كما في قول الشاعر:
وإنا لمن ما يضرب الكبش ضربة ** على رأسه تلقى اللسان من الفم

فعمل بها ما عمل في الوجه الذي قبله. وهذان الوجهان ضعيفان جداً لم يعهد حذف نون من، ولا حذف نون من إلا في الشعر، إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم: ملمال يريدون من المال.
وهذه كلها تخريجات ضعيفة جداً ينزه القرآن عنها. وكنت قد ظهر لي فيها وجه جار على قواعد العربية، وهو أنّ لما هذه هي لما الجارمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه، كما حذفوه في قولهم قاربت المدينة، ولما يريدون ولما أدخلها. وكذلك هنا التقدير وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله، ويدل عليه قوله تعالى: ليوفينهم ربك أعمالهم، لما أخبر بانتفاء نقص جزاء أعمالهم أكده بالقسم فقال: ليوفينهم ربك أعمالهم، وكنت اعتقدت أني سبقت إلى هذا التخريج السائغ العاري من التكلف وذكرت ذلك لبعض من يقرأ عليّ فقال: قد ذكر ذلك أبو عمرو وابن الحاجب، ولتركي النظر في كلام هذا الرجل لم أقف عليه، ثم رأيت في كتاب التحرير نقل هذا التخريج عن ابن الحاجب قال: لما هذه هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه لما ثبت من جواز حذف فعلها في قولهم: خرجت ولما سافرت، ولما ونحوه، وهو سائغ فصيح، فيكون التقدير: لما يتركوا، لما تقدم من الدلالة عليه من تفصيل المجموعين في قوله: {فمنهم شقي وسعيد} ثم ذكر الأشقياء والسعداء ومجازاتهم، ثم بين ذلك بقوله: ليوفينهم ربك أعمالهم، قال: وما أعرف وجهاً أشبه من هذا، وإن كان النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن.
وأما القراءة الثالثة والرابعة فتخريجهما مفهوم من تخريج القراءتين قبلهما، وأما قراءة أبي ومن ذكر معه فإنْ نافية، ولمّا بمعنى إلا، والتقدير: ما كل إلا والله ليوفينهم. وكل مبتدأ الخبر الجملة القسمية وجوابها التي بعد لما كقراءة من قرأ {وإن كل لما جميع} {إن كل نفس لما عليها حافظ} ولا التفات إلى قول أبي عبيد والفراء من إنكارهما أن لما تكون بمعنى إلا. قال أبو عبيد: لم نجد هذا في كلام العرب، ومن قال هذا لزمه أن يقول: رأيت القوم لما أخاك يريد إلا أخاك، وهذا غيره موجود. وقال الفراء: أما من جعل لما بمعنى إلا، فإنه وجه لا نعرفه، وقد قالت العرب مع اليمين بالله: لما قمت عنا، وإلا قمت عنا، فأما في الاستثناء فلم ننقله في شعر. ألا ترى أنّ ذلك لو جاز لسمع في الكلام: ذهب الناس لما زيدا؟ والقراءة المتواترة في قوله: وإنْ كل لما، وإن كل نفس لما، حجة عليهما. وكون لما بمعنى إلا نقله الخليل وسيبويه والكسائي، وكون العرب خصصت مجيئها ببعض التراكيب لا يقدح ولا يلزم اطرادها في باب الاستثناء، فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه. وأما قراءة الزهري، وابن أرقم: لما بالتنوين والتشديد، فلما مصدر من قولهم: لممت الشيء جمعته، وخرج نصبه على وجهين: أحدهما: أن يكون صفة لكلا وصف بالمصدر وقدر كل مضافاً إلى نكرة حتى يصح الوصف بالنكرة، كما وصف به في قوله: {أكلاً لما} وهذا تخريج أبي علي. والوجه الثاني: أن يكون منصوباً بقوله: ليوفينهم، على حد قولهم: قياماً لأقومن، وقعوداً لا قعدن، فالتقدير توفية جامعة لأعمالهم ليوفينهم. وهذا تخريج ابن جني وخبر إنّ على هذين الوجهين هو جملة القسم وجوابه. وأما ما في مصحف أبي فإنْ نافية، ومن زائدة. وأما قراءة الأعمش فواضحة، والمعنى: جميع ما لهم. قيل: وهذه الجملة تضمنت توكيدات بأن وبكل وباللام في الخبر وبالقسم، وبما إذا كانت زائدة، وبنون التوكيد وباللام قبلها وذلك مبالغة في وعد الطائع ووعيد العاصي، وأردف ذلك بالجملة المؤكدة وهي: أنه بما يعملون خبير. وهذا الوصف يقتضي علم ما خفي. وقرأ ابن هرمز: بما تعملون على الخطاب.