فصل: تفسير الآيات (25- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (25- 29):

{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)}
قد الثوب: شقه. السيد فيعل من ساد يسود، يطلق على المالك، وعلى رئيس القوم. وفيعل بناء مختص بالمعتل، وشذ بيئس وصيقل اسم امرأة. السجن: الحبس.
{واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قدّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قدّ من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين}: أي واستبق يوسف وامرأة العزيز إلى الباب هذا للخروج والهروب منها، وهذه لمنعه ومراودته. وأصل استبق أن يتعدى بإلى، فحذف اتساعاً. وتقدم أنّ الأبواب سبعة، فكان تنفتح له الأبواب باباً باباً من غير مفتاح، على ما نقل عن كعب أن فراش القفل كان يتناثر ويسقط، حتى خرج من الأبواب. ويحتمل أن تكون الأبواب المغلقة ليست على الترتيب باباً فباباً، بل تكون في جهات مختلفة كلها منافذ للمكان الذي كانا فيه، فاستبقا إلى باب يخرج منه. ولا يكون السابع على الترتيب، بل أحدها. وقدت يحتمل أن يكون معطوفاً على واستبقا، ويحتمل أن يكون حالاً أي: وقد قدّت جذبته من خلفه بأعلى القميص من طوقه، فانخرق إلى أسفله. والقدّ: القطع والشق، وأكثر استعماله فيما كان طولاً قال:
تقدّ السلوقي المضاعف نسجه ** وتوقد بالصفاح نار الحباحب

والقط: يستعمل فيما كان عرضاً، وقال المفضل بن حرب: رأيت في مصحف قط من دبر أي شق. قال يعقوب: الشق في الجلد في الصحيح، والثوب الصحيح. وقال ابن عطية: وقرأت فرقة قط. وألفيا سيدها أي: وجد أو صادفا زوجها وهو قطفير. والمرأة تقول لبعلها: سيدي، ولم يضف إليهما، لأن قطفير ليس سيد يوسف على الحقيقة. ويقال: ألفاه ووارطه وصادفه ووالطه ولاظه، كله بمعنى واحد. قيل: ألفياه مقبلاً يريد أن يدخل، وقيل: مع ابن عم المرأة. وفي الكلام حذف تقديره: فرابه أمرهما وقال: ما لكما؟ فلما سأل وقد خافت لومه، أو سبق يوسف بالقول، بادرت أن جاءت بحيلة جمعت فيها بين تبرئة ساحتها من الريبة، وغضبها على يوسف وتخويفه طمعاً في مواقعتها خيفة من مكرها، كرهاً لما آيست أن يواقعها طوعاً ألا ترى إلى قولها: ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن؟ ولم تصرح باسم يوسف، بل أتت بلفظ عام وهو قولها: ما جزاء من أراد، وهو أبلغ في التخويف. وما الظاهر أنها نافية، ويجوز أن تكون استفهامية أي: أيّ شيء جزاؤه إلا السجن؟ وبدأت بالسجن إبقاء على محبوبها، ثم ترقت إلى العذاب الأليم، قيل: وهو الضرب بالسوط.
وقولها: ما جزاء أي: إن الذنب ثابت متقرر في حقه، وأتت بلفظ بسوء أي: بما يسوء، وليس نصاً في معصية كبرى، إذ يحتمل خطابه لها بما يسوؤها، أو ضربه إياها. وقوله: إلا أن يسجن أو عذاب، يدل على عظم موقع السجن من ذوي الأقدار حيث قرنته بالعذاب الأليم.
وقرأ زيد بن علي: أو عذاباً أليماً، وقدره الكسائي أو يعذب عذاباً أليماً. ولما أغرت بيوسف وأظهرت تهمته احتاج إلى إزالة التهمة عن نفسه فقال: هي راودتني عن نفسي، ولم يسبق إلى القول أولاً ستراً عليها، فلما خاف على نفسه وعلى عرضه الطاهر قال: هي، وأتى بضمير الغيبة، إذ كان غلب عليه الحياء أن يشير إليها ويعينها بالإشارة فيقول: هذه راودتني، أو تلك راودتني، لأن في المواجهة بالقبيح ما ليس في الغيبة. ولما تعارض قولاهما عند العزيز وكان رجلاً فيه إناءة ونصفة، طلب الشاهد من كل منهما، فشهد شاهد من أهلها. فقال أبو هريرة، وابن عباس، والحسن، وابن جبير، وهلال بن يساف، والضحاك: كان ابن خالتها طفلاً في المهد أنطقه الله تعالى ليكون أدل على الحجة. وروي في الحديث: «أنه من الصغار الذين تكلموا في المهد» وأسنده الطبري. وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وابن السوداء» وقيل: كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب، ولا ينافي هذا قول قتادة، كان رجلاً حليماً من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره. وقيل: كان حكماً حكمه زوجها فحكم بينهما، وكان الشاهد من أهلها ليكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة. ويحتمل أن يكون معهما في الدار بحيث لا يشعر به، فبصر بما جرى بينهما، فأغضبه الله ليوسف، وشهد بالحق. ويبعد قول مجاهد وابن حبيب أنّ الشاهد هو القميص المقدود لقوله: شاهد من أهلها، ولا يوصف القميص بكونه شاهداً من أهل المرأة. وسمى الرجل شاهداً من حيث دل على الشاهد، وهو تخريق القميص. وقال الزمخشري: سمى قوله شهادة لأنه أدى تأديتها في ثبت قول يوسف وبطل قولها، وإن كان قميصه محكي إما بقال مضمرة على مذهب البصريين، وإما بشهد، لأنّ الشهادة قول من الأقوال على مذهب الكوفيين. وكان هنا دخلت عليها أداة الشرط، وتقدم خلاف المبرد والجمهور فيها، هل هي باقية على مضيها ولم تقلها أداة الشرط؟ أو المعنى: أن يتبين كونه. فأداة الشرط في الحقيقة إنما دخلت على هذا المقدر. وجواب الشرط فصدقت وفكذبت، وهو على إضمار قد أي: فقد صدقت، وفقد كذبت. ولو كان فعلاً جامداً أو دعاء لم يحتج إلى تقدير قد.
وقرأ الجمهور: من قبل، ومن دبر، بضم الباء فيهما والتنوين. وقرأ الحسن وأبو عمر، وفي رواية: بتسكينها وبالتنوين، وهي لغة الحجاز وأسد. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والعطاردي، وأبو الزناد، ونوح القارئ، والجارود بن أبي سبرة بخلاف عنه: من قبل، ومن دبر، بثلاث ضمات. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والجارود أيضاً في رواية عنهم: بإسكان الباء مع بنائهما على الضم، جعلوها غاية نحو: من قبل. ومعنى الغاية أن يصير المضاف غاية نفسه بعدما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما لأنهما إسمان متمكنان، وليسا بظرفين. وقال أبو حاتم: وهذا رديء في العربية، وإنما يقع هذا البناء في الظروف. وقال الزمخشري: والمعنى من قبل القميص ومن دبره، وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها: قبل، ومن جهة يقال لها: دبر. وعن ابن أبي إسحاق: أنه قرأ من قبل ومن دبر بالفتح، كان جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث. وقال أيضاً: (فإن قلت): إن دل قد قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتذبت ثوبه إليها فقدّته، فمن أين دل قدّه من قبل على أنها صادقة، وأنه كان تابعها؟ (قلت): من وجهين: أحدهما: أنه إذا كان تابعها وهي دافعة عن نفسها فقدت قميصه من قدامه بالدفع. والثاني: أن يسرع خلفها ليلحقها، فيتعثر في قدام قميصه فيشقه انتهى. وقوله: وهو من الكاذبين، وهو من الصادقين، جملتان مؤكدتان لأنّ من قوله: فصدقت، يعلم كذبه. ومن قوله: فكذبت، يعلم صدقه. وفي بناء قد للمفعول ستر على من قده، ولما كان الشاهد من أهلها راعي جهة المرأة فبدأ بتعليق صدقها على تبين كون القميص قد من قبل، ولما كانت كل جملة مستقلة بنفسها أبرز إسم كان بلفظ المظهر، ولم يضمر ليدل على الاستقلال، ولكون التصريح به أوضح. وهو نظير قوله: «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى» فلما رأى العزيز، وقيل: الشاهد قميصه قد من دبر قال: إنه أي إن قولك: ما جزاء إلى آخره قاله الزجاج، أو أن هذا الأمر وهو طمعها في يوسف ذكره الماوردي والزمخشري، أو إلى تمزيق القميص قاله: مقاتل والخطاب في من كيدكن لها ولجواريها، أولها وللنساء. ووصف كيد النساء بالعظم، وإن كان قد يوجد في الرجال، لأنهن ألطف كيداً بما جبلن عليه وبما تفرغن له، واكتسب بعضهن من بعض، وهن أنفذ حيلة. وقال تعالى: {ومن الشر النفاثات في العقد} وأما اللواتي في القصور فمعهن من ذلك ما لا يوجد لغيرهن، لكونهن أكثر تفرغاً من غيرهن، وأكثر تأنساً بأمثالهن.
يوسف أعرض عن هذا أي: عن هذا الأمر واكتمه، ولا تتحدث به. وفي ندائه باسمه تقريب له وتلطيف، ثم أقبل عليها وقال: واستغفري لذنبك، والظاهر أنّ المتكلم بهذا هو العزيز.
وقال ابن عباس: ناداه الشاهد وهو الرجل الذي كان مع العزيز وقال: استغفري لذنبك، أي لزوجك وسيدك انتهى. ثم ذكر سبب الاستغفار وهو قوله: لذنبك، ثم أكد ذلك بقوله: إنك كنت من الخاطئين، ولم يقل من الخاطئات، لأن الخاطئين أعم، لأنه ينطلق على الذكور والإناث بالتغليب. يقال: خطئ إذا أذنب متعمداً. قال الزمخشري: وما كان العزيز إلا حليماً، روي أنه كان قليل الغيرة انتهى. وتربة إقليم قطفير اقتضت هذا، وأين هذا مما جرى لبعض ملوكنا أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنس وجارية تغنيهم من وراء ستر، فاستعاد بعض خلصائه بيتين من الجارية كانت قد غنت بهما، فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعاً في طست وقال له الملك: استعد البيتين من هذا الرأس، فسقط في يد ذلك المستعيد، ومرض مدة حياة ذلك الملك.

.تفسير الآية رقم (30):

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)}
النسوة بكسر النون فعلة، وهو جمع تكسير للقلة لا واحد له من لفظه. وزعم ابن السراج أنه اسم جمع. وقال الزمخشري: النسوة اسم مفرد لجمع المرأة، وتأنيثه غير حقيقي، ولذا لم تلحق فعله تاء التأنيث انتهى. وعلى أنه جمع تكسير لا يلحق التاء لأنه يجوز: قامت الهنود، وقام الهنود. وقد تضم نونه فتكون إذ ذاك اسم جمع، وتكسيره للكثرة على نسوان، والنساء جمع تكسير للكثرة أيضاً، ولا واحد له من لفظه.
شغف: خرق الشغاف، وهو حجاب القلب. وقيل: سويداؤه، وقيل: داء يصل إلى القلب فينفذ إلى القلب. وكسر الغين لغة تميم. وقيل: الشغاف جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب، شغف وصلت الحدة إلى القلب فكان يحترق من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران، والمشغوف الذي أحرق الحب قلبه. ومنه قول الأعشى:
يعصي الوشاة وكان الحب آونة ** مما يزين للمشفوف ما صنعا

وقد تكسر غينه.
{وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً إنا لنراها في ضلال مبين}: لم تلحق تاء التأنيث لأنه جمع تكسير المؤنث، ويجوز فيه الوجهان. ونسوة كما ذكرنا جمع قلة. وكن على ما نقل خمساً: امرأة خبازة، وامرأة ساقية، وامرأة بوابة، وامرأة سجانة، وامرأة صاحب دوابة في المدينة هي مصر. ومعنى في المدينة: أنهم أشاعوا هذا الأمر من حب امرأة العزيز ليوسف، وصرحوا بإضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع، لأن النفوس أقبل لسماع ذوي الأخطار وما يجري لهم. وعبرت بتراود وهو المضارع الدال على أنه صار ذلك سجية لها، تخادعه دائماً عن نفسه كما تقول: زيد يعطي ويمنع. ولم يقلن: راودت فتاها، ثم نبهن على علة ديمومة المراودة وهي كونه قد شغفها حباً أي: بلغ حبه شغاف قلبها. وانتصب حباً على التمييز المنقول من الفاعل كقوله: ملأت الإناء ماء، أصله ملأ الماء الإناء. وأصل هذا شغفها حبه، والفتى الغلام وعرفه في المملوك. وفي الحديث: «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي»، وقد قيل في غير المملوك. وأصل الفتى في اللغة الشاب، ولكنه لما كان جل الخدمة شباناً استعير لهم اسم الفتى. وقرأ ثابت البناتي: شغفها بكسر الغين المعجمة، والجمهور بالفتح. وقرأ علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين، وابنه محمد بن علي، وابنه جعفر بن محمد، والشعبي، وعوف الأعرابي: بفتح العين المهملة، وكذلك قتادة وابن هرمز ومجاهد وحميد والزهري بخلاف عنهم، وروي عن ثابت البناني وابن رجاء كسر العين المهملة. قال ابن زيد: الشغف في يالحب، والشغف في البغض. وقال الشعبي: الشغف والمشغوف بالغين منقوطة في الحب، والشغف الجنون، والمشغوف المجنون. وأدغم النحويان، وحمزة، وهشام، وابن محيصن دال قد في شين شغفها. ثم نقمن عليها ذلك فقلن: إنا لنراها في ضلال مبين أي: في تحير واضح للناس.

.تفسير الآية رقم (31):

{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)}
المتكأ: الوسادة، والنمرقة. المتك: الأترج، والواحد متكة قال الشاعر:
فاهدت متكة لهي أبيها

وقيل: اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين الأترج وغيره من الفواكه. قال:
يشرب الإثم بالصواع جهاراً ** ونرى المتك بيننا مستعارا

وهو من متك بمعنى بتك الشيء أي قطعه. وقال صاحب اللوامح: المتك بالضم عند الخليل العسل، وعند الأصمعي الأترج. وقال أبو عمر: والشراب الخالص. وقال أبو عمر: وفيه ثلاث لغات، المتك بالحركات الثلاث، وقيل: بالكسر الخلال، وقيل: بل المسك. وقال الكسائي أيضاً: فيه اللغات الثلاث، وقد يكون بالفتح المجمر عند قضاعة. وقال أيضاً: قد يكون في اللغات الثلاث الفالوذ المعقد. وقال الفضل: في اللغات الثلاث هو البزماورد، وكل ملفوف بلحم ورقاق. وقال أيضاً: المتك بالضم المائدة، أو الخمر في لغة كندة. السكين: تذكر وتؤنث، قاله الفراء والكسائي. ولم يعرف الأصمعي فيه إلا التذكير. حاش: قال الفراء من العرب من يتمها، وفي لغة الحجاز: حاش لك، وبعض العرب: حشى زيد كأنه أراد حشى لزيد، وهي في أهل الحجاز انتهى. وقال الزمخشري: حاشى كلمة تفيد معنى التنزيه في الاستثناء، تقول: أساء القوم حاشى زيد. قال:
حاشى أبي ثوبان أن لنا ** ضنا عن الملحاة والشتم

وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى حاش الله: براءة الله، وتنزيه الله انتهى. وما ذكر أنها تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين، لا فرق بين قولك: قام القوم إلا زيداً، وقام القوم حاشى زيد. ولما مثل بقوله أساء القوم حاشى زيد، وفهم من هذا التمثيل براءة زيد من الإساءة، جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضع. وأما ما أنشده من قوله: حاشى أبي ثوبان، فكذا ينشده ابن عطية، وأكثر النحاة. وهو بيت ركبوا فيه صدر بيت على عجز آخر، وهما من بيتين وهما:
حاشى أبي ثوبان أن أبا ** ثوبان ليس ببُكْمَة فدْمِ

عمرو بن عبد الله إن به ** ضنًّا عن الملحاة والشتَم

{فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهنّ متكئاً وآتت كل واحدة منهنّ سكيناً وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم}: روي أن تلك المقالة الصادرة عن النسوة إنما قصدن بها المكر بامرأة العزيز ليغضبنها حتى تعرض عليهن يوسف ليبين عذرها، أو يحق لومها ومكرهن هو اغتيابهن إياها، وسوء مقالتهن فيها أنها عشقت يوسف. وسمي الاغتياب مكراً، لأنه في خفية وحال غيبة، كما يخفي الماكر مكره. وقيل: كانت استكتمتهن سرها فأفشينه عليها، أرسلت إليهن ليحضرن. قيل: دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات. والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها.
وأعتدت لهن متكئاً أي: يسرت وهيئأت لهن ما يتكئن عليه من النمارق والمخادّ والوسائد، وغير ذلك مما يكون في مجلس أعد للكرامة. ومن المعلوم أن هذا النوع من الإكرام لا يخلو من طعام وشراب، وهنا محذوف تقديره: فجئن واتكأن. ومتكئاً إما أن يراد به الجنس، وإما أن يكون المراد وأعتدت لكل واحدة منهن متكئاً، كما جاءت وآتت كل واحدة منهن سكيناً. قال ابن عباس متكئاً مجلساً، ذكره الزهراوي، ويكون متكئاً ظرف مكان أي: مكاناً يتكئن فيه. وعلى ما تقدم تكون الآلات التي يتكأ عليها. وقال مجاهد: المتكأ الطعام يحز حزاً. قال القتبي: يقال اتكأنا عند فلان أي أكلنا، ويكون هذا من المجاز عبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف بالمتكأ وهي عادة المترفين، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فلا آكل متكئاً» أو كما قال: وإذا كان المتكأ ليس معبراً به عما يؤكل، فمعلوم أنّ مثل هذا المجلس لابد فيه من طعام وشراب، فيكون في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين. فقيل: كان لحماً وكانوا لا ينهشون اللحم، إنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين. وقيل: كان أترجاً، وقيل: كان بزماورد وهو شبيه بالأترج موجود في تلك البلاد. وقيل: هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط، ومضمونه: أنه يحتاج إلى أن يقطع بالسكين، وعادة من يقطع شيئاً أن يعتمد عليه، فيكون متكئاً عليه. قيل: وكان قصدها في بروزهن على هذه الهيئات متكئات في أيديهن سكاكين يحززن بها شيئين: أحدهما: دهشهن عند رؤيته وشغلهن بأنفسهن، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فتبكتهن، ويكون ذلك مكراً بهن إذ ذهلن عما أصابهنّ من تقطيع أيديهن، وما أحسسن به مع الألم الشديد لفرط ما غلب عليهن من استحسان يوسف وسلبه عقولهن. والثاني: التهويل على يوسف بمكرها إذا خرج على نساء مجتمعات في أيديهن الخناجر، توهمه أنهن يثبن عليه، فيكون يحذر مكرها دائماً. ولعله يجيبها إلى مرادها على زعمها ذلك، ويوسف قد عصمه الله من كل ما تريده به من السوء.
وقرأ الزهري، وأبو جعفر، وشيبة: متكي مشدد التاء من غير همز بوزن متقي، فاحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن يكون من الاتكاء، وفيه تخفيف الهمز كما قالوا في توضأت توضئة. والثاني: يكون مفتعلاً من أوكيت السقاء إذا شددته أي: ما يشتددن عليه، إما بالاتكاء، وإما بالقطع بالسكين. وقرأ الأعرج: متكئاً مفعلاً من تكأ يتكأ إذا اتكأ. وقرأ الحسن: وابن هرمز: متكاء بالمد والهمز، وهو مفتعل من الاتكاء، إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف كما قالوا: ومن ذم الرجال بمنتزاح. وقالوا:
أعوذ بالله من العقراب ** الشائلات عقد الاذناب

وقرأ ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والجحدري، والكلبي، وابان بن تغلب: متكئاً بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وجاء كذلك عن ابن هرمز.
وقرأ عبد الله ومعاذ، وكذلك إلا أنهما فتحا الميم، وتقدم تفسير متك، ومتك في المفردات. وقالت: اخرج عليهن، هذا الخطاب ليوسف عليه السلام. وخروجه يدل على طواعيتها فيما لا يعصي الله فيه، وفي الكلام حذف تقديره: فخرج عليهن. ومعنى أكبرنه: أعظمنه ودهشن برؤية ذلك الجمال الفائق الرائع. قيل: كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء.وفي حديث الإسراء أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر بلقيا يوسف قيل: يا رسول الله كيف رأيته؟ قال: «كالقمر ليلة البدر» وقيل: كان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس. وقيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه. وقيل: ورث الجمال عن جدته سارة. وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي، عن أبيه، عن جده: معناه حضن، وأنشد بعض النساء حجة لهذا التأويل:
تأتي النساء على أطهارهن ولا ** تأتي النساء إذا أكبرن إكبارا

قال ابن عطية: وهذا قول ضعيف، والبيت مصنوع مختلق، كذلك قال الطبري وغيره من المحققين، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمة الله. وقال الزمخشري: وقيل أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته من الكبر لأنها بالحيض تخرج عن حد الصغر إلى حد الكبر، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ** فإن لحت حاضت في الخدور العواتق

انتهى. وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل دليل على أنها ليست هاء السكت، إذ لو كانت هاء السكت، وكان من أجرى الوصل مجرى الوقف، لم يضم الهاء. والظاهر أن الضمير يعود في أكبرنه على يوسف إن ثبت أن أكبر بمعنى حاض، فتكون الهاء عائدة على المصدر أي: أكبرن الإكبار. وقطعن أيديهن أي جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي. والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات، وإما بالنسبة لتكثير الحز في يد كل واحدة منهن. فالجرح كأنه وقع مراراً في اليد الواحدة وصاحبتها لا تشعر لما ذهلت بما راعها من جمال يوسف، فكأنها غابت عن حسها. والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم.
وقال عكرمة: الأيدي هنا الأكمام، ولما فعلن هذا الفعل الصعب من جرح أيديهن، وغلب عليهن ما رأين من يوسف وحسنه قلن: حاش لله. قرأ الجمهور: حاش لله بغير ألف بعد الشين، ولله بلام الجر. وقرأ أبو عمرو: حاشا لله بغير ألف، ولام الجر. وقرأت فرقة منهم الأعمش: حشى على وزن رمى لله بلام الجر. وقرأ الحسن: حاش بسكون الشين وصلاً، ووقفاً بلام الجر.
وقرأ أبيّ وعبد الله: حاشى الله بالإضافة، وعنهما كقراءة أبي عمر، قاله صاحب اللوامح. وقرأ الحسن: حاش الإله. قال ابن عطية: محذوفاً من حاشى. وقال صاحب اللوامح: بحذف الألف، وهذه تدل على كونه حرف جر يجر ما بعده. فأما الإله فإنه فكه عن الإدغام، وهو مصدر أقيم مقام المفعول، ومعناه المألوه بمعنى المعبود. قال: وحذفت الألف من حاش للتخفيف انتهى. وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحب اللوامح: من أن الألف في حاشى في قراءة الحسن محذوفة لا تتعين، إلا أن نقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشين، فإن لم ينقل عنه في ذلك شيء فاحتمل أن تكون الألف حذفت لالتقاء الساكنين، إذ الأصل حاشى الإله، ثم نقل فحذف الهمزة وحرّك اللام بحركتها، ولم يعتد بهذا التحريك لأنه عارض، كما تنحذف في يخشى الإله. ولو اعتد بالحركة لم تحذف الألف. وقرأ أبو السمال: حاشا لله بالتنوين كرعياً لله، فأما القراآت لله بلام الجر في غير قراءة أبي السمال فلا يجوز أن يكون ما قبلها من حاشى، أو حاش، أو حشى، أو حاش حرف جر، لأنّ حرف الجر لا يدخل على حرف الجر، ولأنه تصرف فيهما بالحذف، وأصل التصرف بالحذف أن لا يكون في الحروف. وزعم المبرد وغيره كابن عطية: أنه يتعين فعليتها، ويكون الفاعل ضمير يوسف أي: حاشى يوسف أن يقارف ما رمته به. ومعنى لله: لطاعة الله، أو لمكانة من الله، أو لترفيع الله أن يرمي بما رمته به، أو يذعن إلى مثله، لأنّ ذلك أفعال البشر، وهو ليس منهم، إنما هو ملك. وعلى هذا تكون اللام في لله للتعليل أي: جانب يوسف المعصية لأجل طاعة الله، أو لما ذهب قبل. وذهب غير المبرد إلى أنها اسم، وانتصابها انتصاب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بالفعل كأنه قال: تنزيهاً لله. ويدل على اسميتها قراءة أبي السمال حاشا منوناً، وعلى هذا القول يتعلق لله بمحذوف على البيان كلك بعد سقيا، ولم ينون في القراآت المشهورة مراعاة لأصله الذي نقل منه وهو الحرف. ألا تراهم قالوا: من عن يمينه، فجعلوا عن اسماً ولم يعربوه وقالوا: من عليه فلم يثبتوا ألفه مع المضمر، بل أبقوا عن على بنائه، وقلبوا ألف على مع الضمير مراعاة لأصلها؟ وأما قراءة الحسن وقراءة أبي بالإضافة فهو مصدر مضاف إلى ألفه كما قالوا: سبحان الله، وهذا اختيار الزمخشري. وقال ابن عطية: وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود فقال أبو علي: إن حاشى حرف استثناء، كما قال الشاعر:
حاشى أبي ثوبان

وأما قراءة الحسن حاش بالتسكين ففيها جمع بين ساكنين، وقد ضعفوا ذلك. قال الزمخشري: والمعنى تنزيه الله من صفات العجز، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله.
وأما قوله: حاشى لله، ما علمنا عليه من سوء، فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله. ما هذا بشراً لما كان غريب الجمال فائق الحسن عما عليه حسن صور الإنسان، نفين عنه البشرية، وأثبتن له الملكية، لما كان مركوزاً في الطباع حسن الملك، وإن كان لا يرى. وقد نطق بذلك شعراء العرب والمحدثون قال بعض العرب:
فلست لأنسى ولكن لملاك ** تنزل من جو السماء يصوب

وقال بعض المحدثين:
قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة ** حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وانتصاب بشراً على لغة الحجاز، ولذا جاء {ما هن أمهاتهم إنْ أمهاتهم} وما منكم من أحد عنه حاجزين، ولغة تميم الرفع. قال ابن عطية: ولم يقرأ به. وقال الزمخشري: ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ بشر بالرفع، وهي قراءة ابن مسعود انتهى. وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي: ما هذا بشرى، قال صاحب اللوامح: فيحتمل أن يكون معناه بمبيع أو بمشرى أي: ليس هذا مما يشترى ويباع. ويجوز أن يكون ليس بثمن كأنه قال: هو أرفع من أن يجري عليه شيء من هذه الأشياء، فالشراء هو مصدر أقيم مقام المفعول به. وتابعهما عبد الوارث عن أبي عمرو على ذلك، وزاد عليهما: إلا ملك بكسر اللام واحد الملوك، فهم نفوا بذلك عنه ذل المماليك وجعلوه في حيز الملوك، والله أعلم انتهى. ونسب ابن عطية كسر اللام للحسن وأبي الحويرث اللذين قرآ بشرى قال: لما استعظمن حسن صورته قلن هذا ما يصلح أن يكون عبداً بشرى، إنْ هذا إلا يصلح أن يكون ملكاً كريماً. وقال الزمخشري: وقرئ ما هذا بشرى أي: بعبد مملوك لئيم، إنْ هذا إلا ملك كريم. تقول: هذا بشرى أي حاصل بشرى، بمعنى هذا مشتري. وتقول: هذا لك بشرى، أي بكراً. وقال: وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية، وبها ورد القرآن انتهى. وإنما قال القدمي، لأنّ الكثير في لغة الحجاز إنما هو جر الخبر بالباء، فتقول: ما زيد بقائم، وعليه أكثر ما جاء في القرآن. وأما نصب الخبر فمن لغة الحجاز القديمة، حتى أنّ النحويين لم يجدوا شاهداً على نصب الخبر في أشعار الحجازيين غير قول الشاعر:
وأنا النذير بحرة مسودة ** تصل الجيوش إليكم أقوادها

أبناؤها متكنفون أباهم ** حنقو الصدور وما هم أولادها

وقال الفراء وهو سامع لغة حافظ ثقة: لا يكاد أهل الحجاز، ينطقون إلا بالباء، فلما غلب على أهل الحجاز النطق بالباء قال الزمخشري: اللغة القدمى الحجازية، فالقرآن جاء باللغتين القدمى وغيرها.