فصل: تفسير الآيات (32- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (32- 35):

{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}
ذا اسم الإشارة، واللام لبعد المشار، وكن خطاب لتلك النسوة. واحتمل أن يكون لما رأى دهشهن وتقطيع أيديهن بالسكاكين وقولهن: ما هذا بشراً، بعد عنهن إبقاء عليهن في أنْ لا تزداد فتنتهن، وفي أنْ يرجعن إلى حسنهن، فأشارت إليه باسم الإشارة الذي للبعيد، ويحتمل أن تكون أشارت إليه وهو للبعد قريب بلفظ البعيد رفعاً لمنزلته في الحسن، واستبعاداً لمحله فيه، وأنه لغرابته بعيد أن يوجد منه. واسم الإشارة تضمن الأوصاف السابقة فيه كأنه قيل: الذي قطعتن أيديكن بسببه وأكبرتنه وقلتن فيه ما قلتن من نفي البشرية عنه وإثبات الملكية له، هو الذي لمتنني فيه أي: في محبته وشغفي به، قال الزمخشري: ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن: عشقت عبدها الكنعاني تقول: هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه، يعني: إنكن لو تصورنه بحق صورته، ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتننان به انتهى. والضمير في فيه عائد على يوسف. وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون الإشارة إلى حب يوسف، والضمير عائد على الحب، فيكون ذلك إشارة إلى غائب على بابه انتهى. ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة، واستنامت إليهن في ذلك، إذ علمت أنهن قد عذرنها.
فاستعصم قال ابن عطية: معناه طلب العصمة، وتمسك بها وعصاني. وقال الزمخشري: والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها، ونحو: استمسك، واستوسع،، واستجمع الرأي، واستفحل الخطب. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان انتهى. والذي ذكر التصريفيون في استعصم أنه موافق لاعتصم، فاستفعل فيه موافق لافتعل، وهذا أجود من جعل استفعل فيه للطلب، لأن اعتصم يدل على وجود اعتصامه، وطلب العصمة لا يدل على حصولها. وأما أنه بناء مبالغة يدل على الاجتهاد في الاستزادة من العصمة، فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى لاستفعل. وأما استمسك واستوسع واستجمع الرأي فاستفعل فيه موافقة لافتعل، والمعنى: امتسك واتسع واجتمع الرأي، وأما استفحل الخطب فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي: تفحل الخطب نحو: استكبر وتكبر. ثم جعلت تتوعده مقسمة على ذلك وهو يسمع قولها بقولها: ولئن لم يفعل ما آمره. والضمير في آمره عائد على الموصول أي: ما آمر به، فحذف الجار، كما حذف في أمرتك الخير. ومفعول آمر الأول محذوف، وكان التقدير ما آمره به. وإن جعلت ما مصدرية جاز، فيعود الضمير على يوسف أي: أمري إياه، ومعناه: موجب أمري. وقرأت فرقة: وليكونن بالنون المشددة، وكتبها في المصحف بالألف مراعاة لقراءة الجمهور بالنون الخفيفة، ويوقف عليها بالألف كقول الأعشى:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

ومن الصاغرين: من الأذلاء، ولم يذكر هنا العذاب الأليم الذي ذكرته في ما جزاء من أراد بأهلك سوءا، لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته، فناسب هناك التغليظ بالعقوبة. وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء، وأقامت عذرها عند النسوة، فرقت عليه، فتوعدته بالسجن. وقال له النسوة: أطع وافعل ما أمرتك به، فقال: رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه. فأسند الفعل إليهن لما ينصحن له وزين له مطاوعتها، ونهينه عن الفاء نفسه في السجن والصغار، فالتجأ إلى الله تعالى. والتقدير: دخول السجن. وقرأ عثمان، ومولاه طارق، وزيد بن علي، والزهري، وابن أبي إسحاق، وابن هرمز، ويعقوب: السجن بفتح السين وهو مصدر سجن أي: حبسهم إياي في السجن أحب إليّ وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل، لأنه لم يحب ما يدعونه إليه قط، وإنما هذان شران، فآثر أحد الشرّين على الآخر، وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة، لكن لما يترتب على تلك اللذة من معصية الله وسوء العاقبة، ولم يخطر له ببال. ولما في الآخر من احتمال المشقة في ذات الله، والصبر على النوائب، وانتظار الفرج، والحضور مع الله تعالى في كل وقت داعياً له في تخليصه. آثره ثم ناط العصمة بالله، واستسلم لله كعادة الأنبياء والصالحين، وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو. فقال: وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن أي: أمل إلى ما يدعونني إليه. وجعل جواب الشرط قوله: أصب، وهي كلمة مشعرة بالميل فقط، لا بمباشرة المعصية. وقرئ أصب إليهن من صببت صبابة فأنا صب، والصبابة إفراط الشوق، كأنه ينصب فيما يهوي. وقراءة الجمهور: أصب من صبا إلى اللهو يصبو صباً وصبوّا، ويقال: صبا يصبا صباً، والصبا بالكسر اللهو واللعب. وأكن من الجاهلين من الذين لا يعلمون بما، لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء، أو من السفهاء لأنّ الوقوع في موافقة النساء والميل إليهن سفاهة. قال الشاعر:
إحدى بليلي وما هام الفؤاد بها ** إلا السفاه وإلا ذكرة حلما

وذكر استجابة الله له ولم يتقدم لفظ دعاء لأن قوله: وإلا تصرف عني، فيه معنى طلب الصرف والدعاء، وكأنه قال: رب اصرف عني كيدهن، فصرف عنه كيدهن أي: حال بينه وبين المعصية. إنه هو السميع لدعاء الملتجئين إليه، العليم بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم. ثم بدا لهم أي: ظهر لهم، والفاعل لبدا ضمير يفسره ما يدل عليه المعنى أي: بدا لهم هو أي رأى أو بدا. كما قال:
بدا لك من تلك القلوص بداء

هكذا قاله النحاة والمفسرون، إلا من أجاز أن تكون الجملة فاعلة، فإنه زعم أن قوله: ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي: سجنه حتى حين، والرد على هذا المذهب مذكور في علم النحو.
والذي أذهب إليه أن الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من قوله: ليسجنن، أو من قوله: السجن على قراءة الجمهور، أو على السجن على قراءة من فتح السين. والضمير في لهم للعزيز وأهله، والآيات هي: الشواهد الدالة على براءة يوسف. قال مجاهد وغيره: قد القميص، فإن كان الشاهد طفلاً فهي آية عظيمة، وإن كان رجلاً فيكون استدلالاً بالعادة. والذي يظهر أنّ الآية إنما يعبر بها عن الواضح الجلي، وجمعها يدل على ظهور أمور واضحة دلت على براءته، وقد تكون الآيات التي رأوها لم ينص على جميعها في القرآن، بل رأوا قول الشاهد. وقد القميص وغير ذلك مما لم يذكره. وأما ما ذكره عكرمة أن من الآيات خمش وجهها، والسدي من حز أيديهن، فليس في ذلك دلالة على البراءة فلا يكون آية. وليسجننه جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمول لقول محذوف تقديره قائلين. وقرأ الحسن: لتسجننه بالتاء على خطاب بعضهم العزيز ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم. وقرأ ابن مسعود: عتى بإبدال حاء حتى عينا، وهي لغة هذيل. وأقرأ بذلك فكتب إليه يأمره أن يقرئ بلغة قريش حتى لا بلغة هذيل، والمعنى: إلى زمان. والحين يدل على مطلق الوقت، ومن عين له هنا زماناً فإنما كان ذلك باعتبار مدة سجن يوسف، لا أنه موضوع في اللغة كذلك، وكأنها اقترحت زماناً حتى تبصر ما يكون منه. وفي سجنهم ليوسف دليل على مكيدة النساء، واستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها، وعشقه لها، وجعله زمام أمره بيدها، هذا مع ظهور خيانتها وبراءة يوسف. روي أنه لما امتنع يوسف من المعصية، ويئست منه امرأة العزيز قالت لزوجها: إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس، وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره، وأنا محبوسة محجوبة، فأما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته، وإلا حبسته كما أنا محبوسة، فحينئذ بدا لهم سجنه، قال ابن عباس: فأمر به فحمل على حمار، وضرب بالطبل، ونودي عليه في أسواق مصر أنّ يوسف العبراني أراد سيدته، فهذا جزاؤه أن يسجن. قال أبو صالح: ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكي.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}
عصر العنب وغيره أخرج ما فيه من المائع بقوة. الخبر: معروف، وجمعه اخباز، ومعانيه خباز.
{ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين}: في الكلام حذف تقديره: فسجنوه، فدخل معه السجن غلامان. وروي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان، أحدهما خبازه، والآخر ساقيه. وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي، فسجنهما قاله: السدي. ومع تدل على الصحبة واستحداثها، فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة. ولما دخل يوسف السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله، وكان يسلي حزينهم، ويعود مريضهم، ويسال لفقيرهم، ويندبهم إلى الخير، فأحبه الفتيان ولزماه، وأحبه صاحب السجن والقيم عليه وقال له: كن في أي البيوت شئت فقال له يوسف: لا تحبني يرحمك الله، فلقد أدخلت على المحبة مضرات، أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها، وأحبني أبي فامتحنت بمحبته، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت بمحبتها بما ترى. وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن: إني أعبر الرؤيا وأجيد. وروي أن الفتيين قالا له: إنا لنحبك من حين رأيناك فقال: أنشدكما الله أنْ لا تحباني، وذكر ما تقدم. وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول: اصبروا وابشروا تؤجروا إن لهذا لأجراً فقالوا: بارك الله عليك، ما أحسن وجهك، وما أحسن خلقك! لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ قال يوسف: ابن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله ابراهيم. فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك.
وهذه الرؤيا التي للفتيين قال مجاهد: رأيا ذلك حقيقة فأراد سؤاله. وقال ابن مسعود والشعبي: استعملاها ليجرباه. والذي رأى عصر الخمر اسمه بنو قال: رأيت حبلة من كرم لها ثلاثة أغصان حسان، فيها عناقيد عنب حسان، فكنت أعصرها وأسقي الملك. والذي رأى الخبز اسمه ملحب قال: كنت أرى أن أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز، والطير تأكل من أعلاه، ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى، فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن، وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل، وكلاهما لمدلول واحد. ولا يجوز أن يقول: اضربني ولا أكرمني. وسمى العنب خمراً باعتبار ما يؤول إليه. وقيل: الخمر بلغة غسان اسم العنب. وقيل: في لغة ازد عمان. وقال المعتمر: لقيت أعرابياً يحمل عنباً في وعاء فقلت: ما تحمل؟ قال: خمراً، أراد العنب. وقرأ أبي وعبد الله: أعصر عنباً، وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سواد المصحف، وللثابت عنهما بالتواتر قراءتهما أعصر خمراً.
قال ابن عطية: ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة، إذ العصر لها ومن أجلها. وفي مصحف عبد الله: فوق رأسي ثريداً تأكل الطير منه، وهو أيضاً تفسير لا قراءة. والضمير في تأويله عائداً إلى ما قصا عليه، أجرى مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: بتأويل ذلك. وقال الجمهور: من المحسنين أي في العلم، لأنهما رأيا منه ما علما به أنه عالم. وقال الضحاك وقتادة: من المحسنين في حديثه مع أهل السجن وإجماله معهم. وقال ابن إسحاق: أرادا إخباره أنهما يريان له إحساناً عليهما ويداً، إذا تأول لهما ما رأياه.

.تفسير الآيات (37- 38):

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)}
قال الزمخشري: لما استعداه ووصفاه بالإحسان افترض ذلك، فوصف يوسف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما، ويصفه لهما ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، ويجعل ذلك تخليصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد، ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح لهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه، ثم يفتيه بعد ذلك. وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده، وغرضه أن يقتبس منه، وينتفع به في الدين، لم يكن من باب التزكية بتأويله ببيان ماهيته وكيفيته، لأنّ ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معاينة انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري يدل على أن إتيان الطعام يكون في اليقظة، وهو قول ابن جريج قال: أراد يوسف لا يأتيكما في اليقظة ترزقانه إلا نبأتكما منه بعلم، وبما يؤول إليه أمركما أن يأتيكما، فعلى هذا أراد أن يعلمهم أنه يعلم مغيبات لا تتعلق بالرؤيا، وهذا على ما روي أنه نبئ في السجن. وقال السدي وابن إسحاق، لما علم من تعبير منامه رأى الخبز أنها تؤذن بقتله، أخذ في غير ذلك الحديث تنسية لهما أمر المنام، وطماعية في أيمانهما، ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان، وتسلم له آخرته فقال لهما معلناً بعظيم علمه للتعبير: إنه لا يجيئكما طعام في يومكما تريان أنكما رزقتماه ألا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام أي: بما يؤول إليه أمره في اليقظة، قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به. فروى أنهما قالا له: ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال لهما: ذلك مما علمني ربي. والظاهر أن قوله لا يأتيكما إلى آخره، أنه في اليقظة، وأن قوله: مما علمني ربي دليل على أني إذ ذاك كان نبياً يوحى إليه. والظاهر أن قوله: إني تركت، استئناف إخبار بما هو عليه، إذ كانا قد أحباه وكلفا بحبه وبحسن أخلاقه، ليعلمهما ما هو عليه من مخالفة قومهما فيتبعاه. وفي الحديث: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» وعبر بتركت مع أنه لم يتشبث بتلك الملة قط، إجراء للترك مجرى التجنب من أول حالة، واستجلاباً لهما لأن يتركا تلك الملة التي كانا فيها. ويجوز أن يكون إني تركت تعليلاً لما قبله أي: علمني ذلك، وأوحي إلي لأني رفضت ملة أولئك، واتبعت ملة الأنبياء، وهي الملة الحنيفية.
وهؤلاء الذين لا يؤمنون هم أهل مصر، ومن كان الفتيان على دينهم. ونبه على أصلين عظيمين وهما: الإيمان بالله، والإيمان بدار الجزاء، وكررهم على سبيل التوكيد وحسن ذلك الفصل. وقال الزمخشري: وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة، وأن غيرهم مؤمنون بها. ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء انتهى. وليست عندنا هم تدل على الخصوص، وباقي ألفاظه ألفاظ المعتزلة. ولما ذكر أنه رفض ملة أولئك ذكر اتباعه ملة آبائه ليريهما أنه من بيت النبوة، بعد أن عرفهما أنه نبي، بما ذكر من إخباره بالغيوب لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله. وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون: آبائي بإسكان الياء، وهي مروية عن أبي عمرو. ما كان لنا ما صح ولا استقام لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله من شيء عموم في الملك والجني والإنسيّ، فكيف بالصنم الذي لا يسمع ولا يبصر؟ فشيء يراد به المشرك. ويجوز أن يراد به المصدر أي: من شيء من الإشراك، فيعم الإشراك، ويلزم عموم متعلقاته. ومن زائدة لأنها في حيز النفي، إذ المعنى: ما نشرك بالله شيئاً، والإشارة بذلك إلى شركهم وملتهم أي: ذلك الدين والشرع الحنيفي الذي انتفى فيه الإشراك بالله، ومن فضل الله علينا أي: على الرسل، إذ خصوا بأن كانوا وسائط بين الله وعباده. وعلى الناس أي: على المرسل إليهم، إذ يساقون به إلى النجاة حيث أرشدوهم اليه. وقوله: لا يشكرون أي: لا يشكرون فضل الله فيشركون ولا ينتبهون. وقيل: ذلك من فضل الله علينا، لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدل بها، وقد نصب مثل ذلك لسائر الناس من غير تفاوت، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يشكرون اتباعاً لأهوائهم، فيبقون كافرين غير شاكرين.