فصل: تفسير الآيات (39- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (39- 40):

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}
لما ذكر ما هو عليه من الدين الحنيفي تلطف في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام، فناداهما باسم الصحبة في المكان الشاق الذي تخلص فيه المودة وتتمخض فيه النصيحة. واحتمل قوله: يا صاحبي السجن، أن يكون من باب الإضافة إلى الظرف، والمعنى: يا صاحبيّ في السجن، واحتمل أن يكون من إضافته إلى شبه المفعول كأنه قيل: يا ساكني السجن، كقوله {أصحاب النار} {وأصحاب الجنة} ثم أورد الدليل على بطلان ملة قومهما بقوله: أأرباب، فأبرز ذلك في صورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بالدليل من غير استفهام. وهكذا الوجه في محاجة الجاهل أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها، ثم كذلك إلى أن يصل إلى الإذعان بالحق. وقابل تفرق أربابهم بالواحد، وجاء بصفة القهار تنبيهاً على أنه تعالى له هذا الوصف الذي معناه الغلبة والقدرة التامة، وإعلاماً بعروّ أصنامهم عن هذا الوصف الذي لا ينبغي أن يعبد إلا المتصف به، وهم عالمون بأن تلك الأصنام جماد. والمعنى: أعبادة أرباب متكاثرة في العدد خير أم عبادة واحد قهار وهو الله؟ فمن ضرورة العاقل يرى خيرية عبادته، ثم استطرد بعد الاستفهام إلى إخبار عن حقيقة ما يعبدون. والخطاب بقوله: ما تعبدون، لهما ولقومهما من أهل. ومعنى إلا أسماء: أي ألفاظاً أحدثتموها أنتم وآباؤكم فهي فارغة لا مسميات تحتها، وتقدّم تفسير مثل هذه الجملة في الأعراف. إنْ الحكم إلا لله أي: ليس لكم ولا لأصنامكم حكم ما الحكم في العبادة والدين إلا لله ثم بين ما حكم به فقال أمر أن لا تعبدوا إلا إياه. ومعنى القيم: الثابت الذي دلت عليه البراهين. لا يعلمون بجهالاتهم وغلبة الكفر عليهم.

.تفسير الآيات (41- 42):

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)}
البضع: ما بين الثلاث إلى التسع قاله قتادة. وقال مجاهد: من الثلاثة إلى السبعة، وقال أبو عبيدة: البضع لا يبلغ العقد ولا نصف العقد، وإنما هو من الواحد إلى العشرة. وقال الفراء: ولا يذكر البضع إلا مع العشرات، ولا يذكر مع مائة ولا ألف.
{يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضيَ الأمر الذي فيه تستفتيان وقال للذي ظنّ أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين}: لما ألقى إليهما ما كان أهم وهو أمر الدين رجاء في إيمانهما، ناداهما ثانياً لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب، فروي أنه قال: لبنوّ: أما أنت فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك، وما رأيت من الكرامة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه. وقال لملحب: أما أنت فما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتصلب، فروي أنهما قالا: ما رأينا شيئاً، وإنما تحالمنا لنجرّبك. وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب. وروي أنهما رأيا ثم أنكرا. وقرأ الجمهور: فيسقي ربه من سقى، وفرقة: فيسقي من أسقى، وهما لغتان بمعنى واحد. وقرئ في السبعة: نسقيكم ونسقيكم. وقال صاحب اللوامح: سقى وأسقى بمعنى واحد في اللغة، والمعروف أن سقاه ناوله ليشرب، وأسقاه جعل له سقياً. ونسب ضم الفاء لعكرمة والجحدري، ومعنى ربه. سيده. وقال ابن عطية: وقرأ عكرمة والجحدري: فيسقي ربه خمراً بضم الياء وفتح القاف، أي ما يرويه. وقال الزمخشري: وقرأ عكرمة فيسقى ربه، فيسقى ما يروى به على البناء للمفعول، ثم أخبرهما يوسف عليه السلام عن غيب علمه من قبل الله أنّ الأمر قد قضى ووافق القدر، وسواء كان ذلك منكما حلم، أو تحالم. وأفرد الأمر وإن كان أمر هذا، لأنّ المقصود إنما هو عاقبة أمرهما الذي أدخلا به السجن، هو اتهام الملك إياهما بسمه، فرأيا ما رأيا، أو تحالما بذلك، فقضيت وأمضيت تلك العاقبة من نجاة أحدهما، وهلاك الآخر. وقال أي: يوسف للذي ظن: أي أيقن هو أي يوسف: إنه ناج وهو الساقي. ويحتمل أن يكون ظن على بابه، والضمير عائد على الذي وهو الساقي أي: لما أخبره يوسف بما أخبره، ترجح عنده أنه ينجو، ويبعد أن يكون الظن على بابه، ويكون مسنداً إلى يوسف على ما ذهب إليه قتادة والزمخشري. قال قتادة: الظن هنا على بابه، لأن عبارة الرؤيا ظن. وقال الزمخشري: الظان هو يوسف عليه السلام إن كان تأويله بطريق الاجتهاد فيبعد، لأنه قوله: قضي الأمر، فيه تحتم ما جرى به القدر وإمضاؤه، فيظهر أن ذلك بطريق الوحي، إلا أن حمل قضي الأمر على قضى كلامي، وقلت ما عندي، فيجوز أن يعود على يوسف.
فالمعنى أن يوسف عليه السلام قال لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك: اذكرني عند الملك أي: بعلمي ومكانتي وما أنا عليه مما آتاني الله، أو اذكرني بمظلمتي وما امتحنت به بغير حق. وهذا من يوسف على سبيل الاستعانة والتعاون في تفريج كربه، وجعله بإذن الله وتقديره سبباً للخلاص كما جاء عن عيسى عليه السلام: {من أنصاري إلى الله} وكما كان الرسول يطلب من يحرسه. والذي أختاره أن يوسف إنما قال لساقي الملك: اذكرني عند ربك ليتوصل إلى هدايته وإيمانه بالله، كما توصل إلى إيضاح الحق للساقي ورفيقه. والضمير في فأنساه عائد على الساقي، ومعنى ذكر ربه: ذكر يوسف لربه، والإضافة تكون بأدنى ملابسة. وإنساء الشيطان له بما يوسوس إليه من اشتغاله حتى يذهل عما قال له يوسف، لما أراد الله بيوسف من إجزال أجره بطول مقامه في السجن. وبضع سنين مجمل، فقيل: سبع، وقيل: اثنا عشر. والظاهر أن قوله: فلبث في السجن، إخبار عن مدّة مقامه في السجن، منذ سجن إلى أن أخرج. وقيل: هذا اللبث هو ما بعد خروج الفتيين وذلك سبع. وقيل: سنتان. وقيل: الضمير في أنساه عائد على يوسف. ورتبوا على ذلك أخباراً لا تليق نسبتها إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

.تفسير الآيات (43- 44):

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)}
السمن: معروف وهو مصدر سمن يسمن، واسم الفاعل سمين، والمصدر واسم الفاعل على غير قياس. العجفاء: المهذولة جداً قال:
ورجال مكة مستنون عجاف

الضغث أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من النبات والعشب من جنس واحد أو، من أخلاط النبات والعشب فمن جنس واحد ما روي في قوله: {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به} إنه أخذ عثكالاً من النخل. وروي أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم فعل نحو هذا في إقامة حد على رجل. وقال ابن مقبل:
خود كأن راشها وضعت به ** أضغاث ريحان غداة شمال

ومن الأخلاط قول العرب في أمثالها: ضغث على إمالة.
{وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين}: لما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر الرّيان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته، فرأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس، وسبع بقرات عجاف، فابتلعت العجاف السمان. ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها. أرى: يعني في منامه، ودل على ذلك: أفتوني في رؤياي. وأرى حكاية حال، فلذلك جاء بالمضارع دون رأيت. وسمان صفة لقوله: بقرات، ميز العدد بنوع من البقرات وهي السمان منهن لا يحسنهن. ولو نصب صفة لسبع لكان التمييز بالجنس لا بالنوع، ويلزم من وصف البقرات بالسمن وصف السبع به، ولا يلزم من وصف السبع به وصف الجنس به، لأنه يصير المعنى سبعاً من البقرات سماناً. وفرق بين قولك: عندي ثلاث رجال كرام، وثلاثة رجال كرام، لأن المعنى في الأول ثلاثة من الرجال الكرام، فيلزم كرم الثلاثة لأنهم بعض من الرجال الكرام. والمعنى في الثاني: ثلاثة من الرجال كرام، فلا يدل على وصف الرجال بالكرم. ولم يضف سبع إلى عجاف لأن اسم العدد لا يضاف إلى الصفة إلا في الشعر، إنما تتبعه الصفة. وثلاثة فرسان، وخمسة أصحاب من الصفات التي أجريت مجرى الأسماء. ودل قوله: سبع بقرات على أن السبع العجاف بقرات، كأنه قيل: سبع بقرات عجاف، أو بقرات سبع عجاف. وجاء جمع عجفاء على عجاف، وقياسه عجف كخضراء أو خضر، حملاً على سمان لأنه نقيضه. وقد يحمل النقيض على النقيض، كما يحمل النظير على النظير. والتقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في السنبلات، فيكون قد حذف اسم العدد من قوله: وأخر يابسات، لدلالة قسميه وما قبله عليه، فيكون التقدير: وسبعاً أخر يابسات.
ولا يصح أن يكون وأخر مجروراً عطفاً على سنبلات خضر، لأنه من حيث العطف عليه كان من جملة مميز سبع، ومن جهة كونه أخر كان مبايناً لسبع، فتدافعا بخلاف أن لو كان التركيب سبع سنبلات خضر ويابسات، فإنه كان يصح العطف، ويكون من توزيع السنبلات إلى خضر ويابسات. والملأ: أشراف دولته وأعيانهم الذين يحضرون عند الملك. وقرأ أبو جعفر: بالإدغام في الرؤيا، وبابه بعد قلب الهمزة واواً، ثم قلبها ياء، لاجتماع الواو والياء، وقد سبقت إحداهما بالسكون. ونصوا على شذوذه، لأن الواو هي بدل غير لازم، واللام في الرؤيا مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله إذا تقدم عليه، فلو تأخر لم يحسن ذلك بخلاف اسم الفاعل فإنه لضعفه قد تقوى بها فتقول: زيد ضارب لعمر وفصيحاً. والظاهر أن خبر كنتم هو قوله: تعبرون. وأجاز الزمخشري فيه وجوهاً متكلفة أحدها: أن تكون الرؤيا للبيان قال: كقوله: وكانوا فيه من الزاهدين، فتتعلق بمحذوف تقديره أعني فيه، وكذلك تقدير هذا إن كنتم أعني الرؤيا تعبرون، ويكون مفعول تعبرون محذوفاً تقديره تعبرونها. والثاني: أن تكون الرؤيا خبر كان قال: كما تقول: كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه، وتعبرون خبراً آخر أو حالاً. والثالث: أن يضمن تعبرون معنى فعل يتعدى باللام، كأنه قيل: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرّؤيا، وعبارة الرّؤيا مأخوذة من عبر النهر إذا جازه من شط إلى شط، فكان عابر الرّؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها. وعبر الرّؤيا بتخفيف الباء ثلاثياً وهو المشهور، وأنكر بعضهم التشديد، وأنشد المبرد في الكامل قول الشاعر:
رأيت رؤياً ثم عبرتها ** وكنت للأحلام عباراً

وأضغاث جمع ضغث أي تخاليط أحلام، وهي ما يكون من حديث النفس، أو وسوسة الشيطان، أو مزاج الإنسان. وأصله أخلاط النبات، استعير للأحلام، وجمعوا الأحلام. وأن رؤياه واحدة إما باعتبار متعلقاتها إذ هي أشياء، وإما باعتبار جواز ذلك كما تقول: فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرساً واحداً، تعليقاً بالجنس. وإما بكونه قص عليهم مع هذه الرّؤيا غيرها. والأحلام جمع حلم، وأضغاث خبر مبتدأ محذوف أي: هي أضغاث أحلام. والظاهر أنهم نفوا عن أنفسهم العلم بتأويل الأحلام أي: لسنا من أهل تعبيير الرؤيا. ويجوز أن تكون الأحلام المنفي علمها أرادوا بها الموصوفة بالتخليط والأباطيل أي: وما نحن بتأويل الأحلام التي هي أضغاث بعالمين أي: لا يتعلق علم لنا بتأويل تلك، لأنه لا تأويل لها إنما التأويل للمنام الصحيح، فلا يكون في ذلك نفي للعلم بتأويل المنام الصحيح، ولا تصور علمهم. والباء في بتأويل متعلقة بقوله بعالمين.

.تفسير الآيات (45- 49):

{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}
أمة يأمه أمها وأمها نسي. يغاث: يحتمل أن يكون من الغوث وهو الفرج، يقال: أغاثهم الله فرج عنهم، ويحتمل أن يكون من الغيث تقول: غيثت البلاد إذا أمطرت، ومنه قول الأعرابية: غثنا ما شئنا.
{وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}: لما استثنى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها، تذكر الناجي من القتل وهو ساقي الملك يوسف، وتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وطلبه إليه ليذكره عند الملك. وادكر أي تذكر ما سبق له مع يوسف بعد أمة أي: مدة طويلة. والجملة من قوله وادكر حاليه، وأصله: واذتكر أبدلت التاء دالاً وأدغمت الذال فيها فصار ادّكر، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الحسن: واذكر بإبدال التاء ذالاً، وإدغام الذال فيها. وقرأ الأشهب العقيلي: بعد إمّة بكسر الهمزة أي: بعد نعمة أنعم عليه بالنجاة من القتل. وقال ابن عطية: بعد نعمة أنعم الله بها على يوسف في تقريب إطلاقه، والأمة النعمة قال:
ألا لا أرى ذا إمة أصبحت به ** فتتركه الأيام وهي كما هيا

قال الأعلم: الأمة النعمة، والحال الحسنة. وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، والضحاك، وقتادة، وأبو رجاء، وشبيل بن عزرة الضبعي، وربيعة بن عمرو: بعد أمه بفتح الهمزة، والميم مخففة، وهاء، وكذلك قرأ ابن عمر، ومجاهد، وعكرمة، واختلف عنهم. وقرأ عكرمة وأيضاً مجاهد، وشبيل بن عزرة: بعد أمه بسكون الميم، مصدر أمه على غير قياس، وقال الزمخشري: ومن قرأ بسكون الميم فقد أخطأ انتهى. وهذا على عادته في نسبته الخطأ إلى القراء. أنا أنبئكم بتأويله أي أخبركم به عمن عنده علمه لا من جهتي. وقرأ الحسن أنا أتيكم مضارع أتى من الإتيان، وكذا في الإمام. وفي مصحف أبي: فأرسلون، أي ابعثوني إليه لأسأله، ومروني باستعباره، استأذن في المضي إلى يوسف. فقال ابن عباس: كان في السجن في غير مدينة الملك، وقيل: كان فيها، ويرسم الناس اليوم سجن يوسف في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال. وفي الكلام حذف التقدير: فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال: والصديق بناء مبالغة كالشريب والسكير، وكان قد صحبه زماناً وجرب صدقه في غير ما شيء كتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وقوله: لعلي أرجع إلى الناس أي: بتفسير هذه الرؤيا.
واحترز بلفظة لعلي، لأنه ليس على يقين من الرجوع إليهم، إذ من الجائز أن يخترم دون بلوغه إليهم. وقوله: لعلهم يعلمون، كالتعليل لرجوعه إليهم بتأويل الرؤيا. وقيل: لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبونك ويخلصونك من محنتك، فتكون لعل كالتعليل لقوله: أفتنا. قال: تزرعون إلى آخره، تضمن هذا الكلام من يوسف ثلاثة أنواع من القول: أحدها: تعبير بالمعنى لا باللفظ. والثاني: عرض رأي وأمر به، وهو قوله: فذروه في سنبله. والثالث: الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن، قاله قتادة. قال ابن عطية: ويحتمل هذا أن لا يكون غيباً، بل علم العبارة أعطى انقطاع الخوف بعد سبع، ومعلوم أنه الأخصب انتهى. والظاهر أن قوله: تزرعون سبع سنين دأباً خبر، أخبر أنهم تتوالى لهم هذه السنون لا ينقطع فيها زرعهم للري الذي يوجد. وقال الزمخشري: تزرعون خبر في معنى الأمر كقوله: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون} وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إنجاز المأمور به، فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه. والدليل على كونه في معنى الأمن قوله: فذروه في سنبله انتهى. ولا يدل الأمر بتركه في سنبله على أنّ تزرعون في معنى ازرعوا، بل تزرعون إخبار غيب بما يكون منهم من توالي الزرع سبع سنين. وأما قوله: فذروه فهو أمر إشارة بما ينبغي أن يفعلوه. ومعنى دأباً: ملازمة، كعادتكم في المزارعة. وقرأ حفص: دأباً بفتح الهمزة، والجمهور بإسكانها، وهما مصدران لدأب، وانتصابه بفعل محذوف من لفظه أي: تدأبون داباً، فهو منصوب على المصدر. وعند المبرد بتزرعون بمعنى تدأبون، وهي عنده مثل قعد القرفصاء. وقيل: مصدر في موضع الحال أي: دائبين، أو ذوي دأب حالاً من ضمير تزرعون. وما في قوله: فما حصدتم شرطية أو موصولة، بذروه في سنبله إشارة برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل، فإذا بقيت فيها انحفظت، والمعنى: اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل، فيجتمع الطعام ويتركب ويؤكل الأقدم فالأقدم، فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر. وقرأ السلمي: مما يأكلون بالياء على الغيبة أي: يأكل الناس، وحذف المميز في قوله: سبع شداد أي: سبع سنين شداد، لدلالة قوله: سبع سنين عليه. وأسند الأكل الذي في قوله: أكلن على سبيل المجاز من حيث أنه يؤكل فيهما كما قال: {والنهار مبصراً} ومعنى تحصنون تحرزون وتخبؤون، مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ. وقال ابن عباس ومجاهد والجمهور: يغاث من الغيث، وقيل: من الغوث، وهو الفرج. ففي الأول بني من ثلاثي، وفي الثاني من رباعي، تقول: غاثنا الله من الغيث، وأغاثنا من الغوث. وقرأ الأخوان: تعصرون بالتاء على الخطاب، وباقي السبعة بالياء على الغيبة، والجمهور على أنه من عصر النبات كالعنب والقصب والزيتون والسمسم والفجل وجميع ما يعصر، ومصر بلد عصير لأشياء كثيرة والحلب منه، لأنه عصر للضروع.
وروي أنهم لم يعصروا شيئاً مدة الجدب. وقال أبو عبيدة وغيره: مأخوذ من العصرة، والعصر وهو المنجي، ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه:
صادياً يستغيث غير مغاث ** ولقد كان عصرة المنجود

فالمعنى: ينجون بالعصرة. وقرأ جعفر بن محمد، والأعرج، وعيسى البصرة يعصرون بضم الياء وفتح الصاد مبنياً للمفعول، وعن عيسى أيضاً: تعصرون بالتاء على الخطاب مبنياً للمفعول، ومعناه: ينجون من عصره إذا أنجاه، وهو مناسب لقوله: يغاث الناس. وقال ابن المستنير: معناه يمطرون، من أعصرت السحابة ماءها عليهم فجعلوا معصرين مجازاً بإسناد ذلك إليهم، وهو للماء الذي يمطرون به. وحكى النقاش أنه قرئ يعصرون بضم الياء وكسر الصاد وشدّها، من عصر مشدّداً للتكثير. وقرأ زيد ابن علي: وفيه تعصرون، بكسر التاء والعين والصاد وشدها، وأصله تعتصرون، فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين، واتبع حركة التاء لحركة العين. واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه. ومن اعتصر بمعنى نجا قال الشاعر:
لو بغير الماء حلقي شرق ** كنت كالغصان بالماء اعتصاري

أي نجاتي. تأول يوسف عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بمجيء العام الثامن مباركاً خصيباً كثير الخير غزير النعم، وذلك من جهة الوحي. وعن قتادة: زاده الله علم سنة، والذي من جهة الوحي هو التفضيل بحال العام بأنه فيه يغاث الناس، وفيه يعصرون، وإلا فمعلوم بانتهاء السبع الشداد مجيء الخصب.