فصل: تفسير الآيات (50- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (50- 51):

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)}
الخطب: الشان والأمر الذي فيه خطر، ويجمع على خطوب قال:
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ** بمدرك أطراف الخطوب ولا آل

حصحص تبين بعد الخفاء، قاله الخليل. وقيل: مأخود من الحصة حصحص الحق بانت حصته من حصة الباطل. وقيل: ثبت واستقر، ويكون متعدياً من حصحص البعير ألقى ثفناته للإناخة قال: حصحص في صم الصفا ثفناته.
{وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين}: في الكلام حذف تقديره: فحفظ الرسول ما أول به يوسف الرؤيا، وجاء إلى الملك ومن أرسله وأخبرهم بذلك، وقال الملك: وقال ابن عطية: في تضاعيف هذه الآيات محذوفات يعطيها ظاهر الكلام ويدلّ عليها، والمعنى: فرجع الرسول إلى الملك ومن مع الملك فنص عليهم مقالة يوسف، فرأى الملك وحاضروه نبل التعبير، وحسن الرأي، وتضمن الغيب في أمر العام الثامن مع ما وصفه به الرسول من الصدق في المنام المتقدم، فعظم يوسف في نفس الملك وقال: ائتوني به، فلما وصل الرسول في إخراجه إليه وقال: إنّ الملك قد أمر بأن تخرج إليه، قال له: ارجع إلى ربك أي: إلى الملك وقل له: ما بال النسوة؟ ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان وقل له يستقصي عن ذنبي، وينظر في أمري، هل سجنت بحق أو بظلم؟ وكان هذا الفعل من يوسف إناءة وصبراً وطلباً لبراءة الساحة، وذلك أنه فيما روي خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة، ويسكت عن أمر دينه صفحاً، فيراه الناس بتلك العين أبداً ويقولون: هذا الذي راود امرأة مولاه، فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته ويتحقق منزلته من العفة والخير، وحينئذ يخرج للإحظاء والمنزلة.
وقال الزمخشري: إنما تأتي وتثبت في إجابة الملك، وقدم سؤال النسوة لتظهر براءة ساحته عما فرق به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا: ما خلد في السجن سبع سنين إلا أمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب، ويكشف سره، وفيه دليل على أنّ الاجتهاد في نفي التهم واجبة وجوب ابقاء الوقوف في مواقفها. قال عليه السلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم» انتهى. ولأجل هذا كان الزمخشري، وكان مقطوع الرجل قد أثبت على القضاة أن رجله لم تقطع في خيانة ولا فساد، وكان يظهر ذلك المكتوب في كل بلد دخله خوفاً من تهمة السوء.
وإنما قال: سل الملك عن شأن النسوة، ولم يقل سله أن يفتش عنهن، لأن السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث عنما سئل عنه، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجري التفتيش عن حقيقة القصة، وقص الحديث حتى يتبين له براءته بياناً مكشوفاً يتميز فيه الحق من الباطل. ومن كرم يوسف عليه السلام أنه لم يذكر زوج العزيز مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب، واقتصر على ذكر المقطعات الأيدي. وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم في رواية النسوة بضم النون، وقرأت فرقة اللاي بالياء، وكلاهما جمع التي. إن ربي أي: إن الله بكيدهنّ عليم. أراد أن كيدهن عظيم لا يعلمه إلا الله لبعد عوده، واستشهد بعلم الله على أنهن كدنه، وأنه بريء مما قذف به. أو أراد الوعيد لهن، أو هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالرب العزيز مولاه، ففي ذلك استشهاد به وتقريع. وما ذكره ابن عطية من هذا الاحتمال لا يسوغ، والضمير في بكيدهن عائد على النسوة المذكورات لا للجنس، لأنها حالة توقيف على ذنب. قال: ما خطبكن في الكلام حذف تقديره: فرجع الرسول فأخبره بما قال يوسف، فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز وقال لهن: ما خطبكن؟ وهذا استدعاء منه أن يعلمنه بالقصة، ونزه جانب يوسف بقوله: إذ راودتن يوسف عن نفسه، ومراودتهن له قولهن ليوسف: أطع مولاتك. وقال الزمخشري: هل وجدتن منه ميلاً؟ لكنْ قلن: حاش لله تعجباً من عفته، وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة، ومن نزاهته عنها. وقال ابن عطية: أجاب النساء بجواب جيد تظهر منه براءة أنفسهن جملة، وأعطين يوسف بعض براءة، وذلك أن الملك لما قررهن أنهن راودته قلن جواباً عن ذلك: حاش لله. ويحتمل أن يكون قولهن: حاش لله، في جهة يوسف عليه السلام. وقولهن ما علمنا عليه من سوء ليس بإبراء تام، وإنما كان الإبراء التام وصف القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في جهتهن، فلما سمعت امرأة العزيز مقالتهن وحيدتهن عن الوقوع في الخزي قالت: الآن حصحص الحق. وقرئ حصحص على البناء للمفعول، أقرت على نفسها بالمراودة، والتزمت الذنب، وأبرأت يوسف البراءة التامة.

.تفسير الآيات (52- 53):

{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)}
الظاهر أن هذا من كلام امرأة العزيز وهو داخل تحت قوله: قالت. والمعنى: ذلك الإقرار والاعتراف بالحق، ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته والذب عنه، وأرميه بذنب هو منه بريء. ثم اعتذرت عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات بقولها: وما أبرئ نفسي، والنفوس مائلة إلى الشهوات أمارة بالسوء. وقال الزمخشري: وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة فإني قد خنته حين قذفته وقلت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن، وأودعته السجن تريد الاعتذار لما كان منها أن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفساً رحمها الله بالعمصة إن ربي غفور رحيم، استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت. ومن ذهب إلى أن قوله: ذلك ليعلم إلى آخره، من كلام يوسف يحتاج إلى تكلف ربط بينه وبين ما قبله، ولا دليل يدل على أنه من كلام يوسف. فقال ابن جريج: في الكلام تقديم وتأخير، وهذا الكلام متصل بقول يوسف: إن ربي بكيدهن عليم، وعلى هذا فالإشارة بقوله ذلك إلى إلقائه في السجن والتماسه البراءة أي: هذا ليعلم سيدي أني لم أخنه. وقال بعضهم: إنما قال يوسف هذه المقالة حين قالت امرأة العزيز كلامها إلى قولها: وإنه لمن الصادقين، فالإشارة على هذا إلى قولها وصنع الله فيه، وهذا يضعف، لأنه يقتضي حضوره مع النسوة عند الملك. فكيف يقول الملك بعد ذلك: ائتوني به؟ وفسر الزمخشري الآية أولاً على أنها من كلام يوسف فقال: أي ذلك التنبت والتشمر لظهور البراءة، ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في حرمته، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها في أمانة زوجها، وبه في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه. ويجوز أن يكون توكيداً لأمانته، وأنه لو كان خائناً لما هدى الله كيده، ولا سدّده، ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه لئلا يكون لها مزكياً، ولحالها في الأمانة معجباً كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته. فقال: وما أبرئ نفسي من الزلل، وما أشهد لها بالبراءة الكلية، ولا أزكيها، إن النفس لأمارة بالسوء. أراد الجنس أي: هذا الجنس يأمر بالسوء، ويحمل على ما فيه من الشهوات انتهى. وفيه تكثير وتحميل للفظ ما ليس فيه، ويزيد على عادته في خطابته. ولما أحسّ الزمخشري بأشكال قول من قال: إنه من كلام يوسف قال: (فإن قلت): كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك؟ (قلت): كفى بالمعنى دليلاً قائداً إلى أن يجعل من كلامه، ونحوه قوله: قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون؟ وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم انتهى.
وهذا ليس كما ذكر، إذ لا يتعين في هذا التركيب أن يكون من كلام فرعون، بل هو من كلام الملأ تقدمهم فرعون إلى هذه المقالة، فقالوا ذلك بعض لبعض، فيكون في قول فرعون: يريد أن يخرجكم خطاباً للملأ من فرعون، ويكون في هذا التركيب خطاباً من بعضهم لبعض، ولا يتنافى اجتماع المقالتين. وبالغيب يحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أي: غائباً عنه، أو من المفعول أي: غائباً عني، أو ظرفاً أي بمكان الغيب. والظاهر أنّ إلا ما رحم ربي استثناء متصل من قوله: لأمارة بالسوء، لأنه أراد الجنس بقوله: إن النفس، فكأنه قال: إلا النفس التي رحمها ربي فلا تأمر بالسوء، فيكون استثناء من الضمير المستكن في أمارة. ويجوز أن يكون مستثنى من مفعول أمارة المحذوف إذ التقدير: لأمارة بالسوء صاحبها، إلا الذي رحمه ربي فلا تأمره بالسوء. وجوزوا أن يكون مستثنى من ظرف الزمان المفهوم عمومه من ما قبل الاستثناء، وما ظرفية إذ التقدير: لأمارة بالسوء مدة بقائها إلا وقت رحمة الله العبد وذهابه بها عن اشتهاء المعاصي. وجوزوا أن يكون استثناء منقطعاً، وما مصدرية. وذكر ابن عطية أنه قول الجمهور أي: ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة.

.تفسير الآيات (54- 57):

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)}
روي أن الرسول جاءه فقال: أجب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات. وكتب على باب السجن: هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن، ولبس ثياباً جدداً، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ فقال: لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها، فأجابه بجميعها، فتعجب منه وقال: أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك قال: رأيت بقرات سمان فوصف لونهن وأحوالهن، وما كان خروجهن، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفاً، وقال له: من حفظك أن تجعل الطعام في الاهراء فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع لك من المكنون ما لم يجتمع لأحد قبلك. وكان يوسف قصد أولاً بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فكان استدعاء الملك إياه أولاً بسبب علم الرؤيا، فلذلك قال: ائتوني به فقط، فلما فعل يوسف ما فعل فظهرت أمانته وصبره وهمته وجودة نظره وتأنيه في عدم التسرع إليه بأول طلب عظمت منزلته عنده، فطلبه ثانياً ومقصوده: استخلاصه لنفسه. ومعنى أستخلصه: أجعله خالصاً لنفسي وخاصاً بي، وسمى الله فرعون مصر ملكاً إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه، فلو كان حياً لكان حكماً له إذا قيل لكافر ملك أو أمير، ولهذا كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم ولم يقل ملكاً ولا أميراً، لأن ذلك حكم. والجواب مسلم وتسلموا. وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيف ما تقلب. وفي الكلام حذف التقدير: فسمع الملك كلام النسوة وبراءة يوسف مما رمى به، فأراد رؤيته وقال: ائتوني به فأتاه، فلما كلمه. والظاهر أن الفاعل بكلمه هو ضمير الملك أي: فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته. ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير يوسف أي: فلما كلم يوسف الملك، ورأى الملك حسن منطقه بما صدق به الخبر، والمرء مخبوء تحت لسانه، قال: إنك اليوم لدينا مكين أي: ذو مكانة ومنزلة، أمين مؤتمن على كل شيء. وقيل: أمين آمين، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام، وبالأمن يحط من إكرام يوسف. ولما وصفه الملك بالتمكن عنده، والأمانة، طلب من الأعمال ما يناسب هذين الوصفين فقال: اجعلني على خزائن الأرض أي: ولني خزائن أرضك إني حفيظ أحفظ ما تستحفظه، عليم بوجوه التصرف. وصف نفسه بالأمانة والكفاءة وهما مقصود الملوك ممن يولونه، إذ هما يعمان وجوه التثقيف والحياطة، ولا خلل معهما لقائل.
وقيل: حفيظ للحساب، عليم بالألسن. وقيل: حفيظ لما استودعتني، عليم بسني الجوع. وهذا التخصيص لا وجه له، ودلّ إثناء يوسف على نفسه أنه يجوز للإنسان أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره، ولا يكون ذلك التزكية المنهي عنها. وعلى جواز عمل الرجل الصالح للرجل التاجر بما يقتضيه الشرع والعدل، لا بما يختاره ويشتهيه مما لا يسيغه الشرع، وإنما طلب يوسف هذه الولاية ليتوصل إلى إمضاء حكم الله، وإقامة الحق، وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن غيره لا يقوم مقامه في ذلك. فإنْ كان الملك قد أسلم كما روى مجاهد فلا كلام، وإن كان كافراً ولا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكينه، فللمتولي أن يستظهر به. وقيل: كان الملك يصدر عن رأي يوسف ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع. وما زال قضاة الإسلام يتولون القضاء من جهة من ليس بصالح، ولولا ذلك لبطلت أحكام الشرع، فهم مثابون على ذلك إذا عدلوا. وكذلك أي: مثل ذلك التمكين في نفس الملك مكناً ليوسف في أرض مصر، يتبوأ منها حيث يشاء أي: يتخذ منها مباءة ومنزلاً كل مكان أراد، فاستولى على جميعها، ودخلت تحت سلطانه. روي أن الملك توجه بتاجه، وختمه بخاتمه، ورداه بسيفه، ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت، فجلس على السرير، ودانت له الملوك، وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعد، فزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيراً مما طلبت؟ فوجدها عذراء، لأنّ العزيز كان لا يطأ، فولدت له ولدين: افراثيم، ومنشا. وأقام العدل بمصر، وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر، ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم، ثم استرقهم جميعاً فقالوا: والله ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال للملك: كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني، فما ترى؟ قال: الرأي رأيك قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم. وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس، وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا، واحتبس بنيامين. وقرأ الحسن وابن كثير: بخلاف عنهم أبو جعفر وشيبه ونافع: حيث نشاء بالنون، والجمهور بالياء. والظاهر أنّ قراءة الياء يكون فاعل نشاء ضميراً يعود على يوسف، ومشيئته معذوقة بمشيئة الله، إذ هو نبيه ورسوله. وإما أن يكون الضمير عائداً على الله أي: حيث يشاء الله، فيكون التفاتاً. نصيب برحمتنا أي: بنعمتنا من الملك والغنى وغيرهما، ولا نضيع في الدنيا أجر من أحسن. ثم ذكر أن أجر الآخرة خير، لأنه الدائم الذي لا يفنى. وقال سفيان بن عيينة: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق، وتلا هذه الآية. وفي الحديث ما يوافق ما قال سفيان، وفي الآية إشارة إلى أن حال يوسف في الآخرة خير من حالته العظيمة في الدنيا.