فصل: تفسير الآيات (69- 75):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (69- 75):

{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)}
العير الإبل التي عليها الأحمال، سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء. وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير، كأنها جمع عير. وأصلها فعل كسقف، وسقف فعل به ما فعل ببيض وعيد، والعير مؤنث. وقالوا في الجمع: عيرات، فشذوا في جمعه بالألف والتاء، وفي فتح يائه وقال الشاعر:
غشيت ديار الحي بالبكرات ** فعارمة فبرقة العيرات

قال الأعلم: هنا مواضع الأعيار، وهي الحمير. الصواع الصاع، وفيه لغات تأتي في القرآن، ويؤنث ويذكر.
{ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين}: روي أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال: أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم، وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه. فقال يوسف: بقي أخوكم وحيداً، فأجلسه معه على مائدته، وجعل يؤاكلهم وقال: أنتم عشرة، فلينزل كل اثنين منكم بيتاً، وهذا لا ثاني له فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح، وسأله عن ولده فقال: لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له: أتحب أنْ أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له: أنا أخوك يوسف فلا تبتئس، فلا تحزن بما كانوا يعملون بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك. وعن ابن عباس: تعرف إليه أنه أخوه، وهو الظاهر. وهو قول ابن إسحاق وغيره، أعلمه أنه أخوه حقيقة واستكتمه، وقال له: لا تبالي بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم. قال ابن عطية: وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بقوله: بما كانوا يعملون إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السقاية ونحو ذلك انتهى. ولا يحتمل ذلك لأنه لو كان التركيب بما يعملون بغير كانوا، لأمكن على بعده، لأن الكلام إنما هو مع أخوة يوسف. وأما ذكر فتيانه فبعيد جداً، لأنهم لم يتقدم لهم ذكر إلا في قوله: وقال لفتيانه، وقد حال بينهما قصص.
واتسق الكلام مع الأخوة اتساقاً لا ينبغي أن يعدل عن الضمير عائد إليهم، وأن ذلك إشارة إلى ما كان يلقى منهم قديماً من الأذى، إذ قد أمن من ذلك باجتماعه بأخيه يوسف. وقال وهب: إنما أخبر أنه أخوه في الود مقام أخيه الذاهب، ولم يكشف إليه الأمر، بل تركه تجوز عليه الحيلة كسائر إخوته.
والظاهر أنّ الذي جعل السقاية في رحل أخيه هو يوسف، ويظهر من حيث كونه ملكاً أنه لم يباشر ذلك بنفسه، بل جعل غيره من فتيانه، أو غيرهم أن يجعلها. وتقدم قول وهب: إنه لم يكشف له أنه أخوه، وأنه تركه تجوز عليه الحيلة. وروي أنه قال ليوسف: أنا لا أفارقك قال: قد علمت اغتمام والدي، فإذا حبستك ازداد غمه، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يحمل. قال: لا أبالي، فافعل ما بدا لك. قال: فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم، قال: فافعل. وقرأ عبد الله فيما نقل الزمخشري: وجعل السقاية في رحل أخيه، أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أذن. وفي نقل ابن عطية وجعل السقاية بزيادة واو في جعل دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله: في رحل أخيه، فاحتمل أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيين، واحتمل أن يكون جواب لما محذوفاً تقديره: فقدها حافظها كما قيل: إنما أوحى إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط، ثم إن حافظها فقدها، فنادى برأيه على ما ظهر له، ورجحه الطبري. وتفتيش الأوعية يرد هذا القول، والذي يظهر أنّ تأذين المؤذن كان عن أمر يوسف. وقال السدي: كان هذا الجعل من غير علم من بنيامين، وما تقدم يدل على أنه كان بعلم منه.
وقال الجمهور: وابن عمر، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد: السقاية إناء يشرب به الملك، وبه كان يكال الطعام للناس. وقيل: كان يسقى بها الملك ثم جعلت صاعاً يكال به، وقيل: كانت الدواب تسقى بها ويكال بها. وقال ابن جبير: الصواع هو مثل المكوك الفارسي، وكان إناء يوسف الذي يشرب فيه، وكان إلى الطول ماهر. قال: وحدثني ابن عباس أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية. وقال ابن جبير أيضاً: الصواع المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه. كانت تشرب به الأعاجم. والسقاية من فضة أو ذهب أو فضة مموهة بالذهب، أو نحاس، أو مسك، أو كانت مرصعة بالجواهر أقوال أولها للجمهور، ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك الإناء.
ثم أذن مؤذن أي: نادى مناد، أذن: أعلم. وآذن أكثر الإعلام، ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه. وثم تقتضي مهلة بين جعل السقاية والتأذين، فروي أنه لما فصلت العير بأوقارها وخرجوا من مصر أدركوا وقيل لهم ذلك.
وقيل: قبل الخروج من مصر أمر بهم فحبسوا، وأذن مؤذن. والظاهر وقول الجمهور: إن العير الإبل. وقال مجاهد: كانت دوابهم حميراً، ومناداة العير والمراد أصحابها كقوله: يا خيل الله اركبي، ولذلك جاء الخطاب: إنكم لسارقون، فروعي المحذوف، ولم يراع العير كما روعي في اركبي. وفي قوله: والعير التي أقبلنا فيها. ويجوز أن تطلق العير على القافلة، أو الرفقة، فلا يكون من مجاز الحذف: والذي يظهر أن هذا التحيل، ورمى أبرياء السرقة، وإدخال الهم على يعقوب، بوحي من الله. لما علم تعالى في ذلك من الصلاح، ولما أراد من محنتهم بذلك. ويقويه قوله: كذلك كدنا ليوسف. وقيل: لما كانوا باعوا يوسف استجيز أن يقال لهم هذا، ونسبة السرقة إليهم جميعاً: وإن كان الصواع إنما وجد في رحل واحد منهم كما تقول: بنو فلان فتلوا فلاناً، والقاتل واحد منهم. قالوا: أي إخوة يوسف، وأقبلوا جملة حالية أي: وقد أقبلوا عليهم، أي: على طالبي السقاية، أو على المؤذن إنْ كان أريد به جمع. كأنه جعل مؤذنين ينادون، وساءهم أن يرموا بهذه المثلبة وقالوا: ماذا تفقدون؟ ليقع التفتيش فتظهر براءتهم، ولم يلوذوا بالإنكار من أول، بل سألوا كمال الدعوى رجاء أن يكون فيها ما تبطل به فلا يحتاج إلى خصام. واحتمل أن يكون ماذا استفهاماً في موضع نصب بتفقدون، ويحتمل أن يكون ما وحدها استفهاماً مبتدأ، وذا موصولة بمعنى الذي خبر عن ما، وتفقدون صلة لذا، والعائد محذوف أي: تفقدونه. وقرأ السلمي تفقدون بضم التاء من أفقدته إذا وجدته فقيداً نحو: أحمدته إذا أصبته محموداً. وضعف هذه القراءة أبو حاتم، وجهها ما ذكرناه.
وصواع الملك هو المكيال، وهو السقاية سماه أولاً بإحدى جهتيه، وآخراً بالثانية. وقرأ الجمهور صواع بضم الصاد، بعدها واو مفتوحة، بعدها ألف، بعدها عين مهملة. وقرأ أبو حيوة، والحسن، وابن جبير فيما نقل ابن عطية كذلك، إلا أنه كسر الصاد. وقرأ أبو هريرة، ومجاهد: صاع بغير واو على وزن فعل، فالألف فيها بدل من الواو المفتوحة. وقرأ أبو رجاء: صوع على وزن قوس. وقرأ عبد الله بن عون بن أبي أرطيان: صوع بضم الصاد، وكلها لغات في الصاع. وقرأ الحسن، وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب اللوامح: صواغ بالغين المعجمة على وزن غراب. وقرأ يحيى بن يعمر كذلك، إلا أنه يحذف الألف ويسكن الواو. وقرأ زيد بن علي: صوغ مصدر صاغ، وصواغ صوغ مشتقان من الصوغ مصدر صاغ يصوغ، أقيما مقام المفعول بمعنى مصوغ الملك. ولمن جاء به أي: ولمن دل على سارقه وفضحه، وهذا جعل وأنا به زعيم من كلام المؤذن. وأنا بحمل البعير كفيل أؤديه إلى ما جاء به، وأراد به وسق بعير من طعام جعلاً لمن حصله.
قالوا: تالله أقسموا بالتاء من حروف القسم، لأنها تكون فيها التعجب غالباً كأنهم عجبوا من رميهم بهذا الأمر. وروي أنهم ردوا البضاعة التي وجدوها في الطعام وتحرجوا من أكل الطعام بلا ثمن، وكانوا قد اشتهروا بمصر بصلاح، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زروع الناس، فأقسموا على إثبات شيء قد علموه منهم، وهو أنكم قد علمتم أن مجيئنا لم يكن لفساد، ثم استأنفوا الإخبار عن نفي صفة السرقة عنهم، وأن ذلك لم يوجد منهم قط. ويحتمل أن يكون في حيز جواب القسم، فيكون معطوفاً على قوله: لقد علمتم. قال ابن عطية: والتاء في تالله بدل من واو، كما أبدلت في تراث، وفي التوراة، والتخمة، ولا تدخل التاء في القسم إلا في المكتوبة من بين أسماء الله تعالى وغير ذلك لا تقول: تالرحمن، ولا تالرحيم انتهى. أما قوله: والتاء في تالله بدل من واو، فهو قول أكثر النحويين. وخالفهم السهيلي فزعم أنها أصل بنفسها وليست بدلاً من واو، وهو الصحيح على ما قررناه في النحو. وأما قوله: وفي التوراة فعلى مذهب البصريين إذ زعموا أنّ الأصل ورواة من ورى الزند. ومن النحويين من زعم أن التاء زائدة، وذلك مذكور في النحو. وأما قوله: ولا تدخل إلى آخره فقد حكي عن العرب دخولها على الرب، وعلى الرحمن، وعلى حياتك، قالوا: ترب الكعبة، وتالرحمن، وتحياتك. والخطاب في لقد علمتم لطالبي الصواع، والضمير في جزاؤه عائد على السارق. فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم: وما كنا سارقين له؟ قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: فما جزاؤه الضمير للصواع أي: فما جزاء سرقته إن كنتم كاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة منه انتهى. وقوله: هو الظاهر لاتحاد الضمائر في قوله: قالوا جزاؤه من وجد في رحله، إذ التقدير إذ ذاك قال: جزاء الصاع، أي: سرقته من وجد الصاع في رحله. وقولهم: جزاؤه من وجد في رحله، كلام من لم يشك أنهم برآء مما رموا به، ولاعتقادهم البراءة علقوا الحكم على وجدان الصاع لا على سرقته، فكأنهم يقولون: لا يمكن أن نسرق، ألا يمكن أن يوجد الصاع في رحالنا. وكان في دين يعقوب استعباد السارق. قال الزمخشري: سنة، وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم، ولذلك أجابوا على شريعتهم، وجوزوا في إعراب هذا الكلام وجوهاً: أحدها: أن يكون جزاؤه مبتدأ، ومن شرطية أو موصولة مبتدأ ثان، فهو جزاؤه جواب الشرط، أو خبر ما الموصولة، والجملة من قوله: من وجد إلى آخره خبر المبتدأ الأول، والضمير في قالوا: جزاؤه للسارق قاله ابن عطية: وهذا لا يصح لخلو الجملة الواقعة خبر جزاؤه من رابط. الثاني: أنّ المعنى قالوا: جزاء سرقته، ويكون جزاؤه مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر.
والأصل جزاؤه من وجد في رحله، فهو هو. فموضع الجزاء موضع هو، كما تقول لصاحبك: من أخو زيد؟ فتقول: أخوه من يقعد إلى جنبه، فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من، والثاني إلى الأخ. ثم تقول: فهو أخوه مقيماً للمظهر مقام المضمر قاله الزمخشري. ووضع الظاهر موضع المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتهويل، وغير فصيح فيما سوى ذلك نحو: زيد قام زيد. وينزه القرآن عنه. قال سيبويه: لو قلت كان زيد منطلقاً زيد، لم يكن ضد الكلام، وكان هاهنا ضعيفاً، ولم يكن كقولك: ما زيد منطلقاً هو، لأنك قد استغنيت عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تضمره. الثالث: أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي المسؤول عنه جزاؤه ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه كما تقول: من يستفتي في جزاء صيد الحرم جزاء صيد الحرم، ثم تقول: {ومن قتله منكم متعمداً فجزآء مثل ما قتل من النعم} قاله الزمخشري. وهو متكلف، إذ تصير الجملة من قوله: المسؤول عنه جزاؤه، على هذا التقدير ليس فيه كثير فائدة، إذ قد علم من قوله: فما جزاؤه أنّ الشيء المسؤول عنه جزاء سرقته، فأي فائدة في نطقهم بذلك؟ وكذلك القول في المثال الذي مثل به من قول المستفتي. الرابع: أن يكون جزاؤه مبتدأ أي: جزاء سرقة الصاع، والخبر من وجد في رحله أي: أخذ من وجد في رحله. وقولهم: فهو جزاؤه، تقرير لحكم أي: فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كقولك: حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه فذلك جزاؤه، أو فهو حقه، لتقرر ما ذكرته من استحقاقه قاله الزمخشري، وقال معناه ابن عطية إلا أنه جعل القول الواحد قولين قال: ويصح أن يكون من خبراً على أنّ على أنّ المعنى جزاء السارق من وجد في رحله عائد على من، ويكون قوله: فهو جزاؤه، زيادة بيان وتأكيد. ثم قال: ويحتمل أن يكون التقدير جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد بقوله: فهو جزاؤه. وهذا القول هذا الذي قبله، غير أنه أبرز المضاف المحذوف في قوله: استرقاق من وجد في رحله، وفيما قبله لابد من تقديره، لأنّ الذات لا تكون خبراً عن المصدر، فالتقدير في القول قبله جزاؤه أخذ من وجد في رحله، أو استرقاق هذا لابد منه على هذا الإعراب. وهذا الوجه هو أحسن الوجوه، وأبعدها من التكلف. كذلك أي: مثل الجزاء، وهو الاسترقاق. نجزي الظالمين أي بالسرقة وهو ديننا وسنتنافى أهل السرقة.

.تفسير الآيات (76- 79):

{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)}
الوعاء: الظرف الذي يحفظ فيه الشيء، وتضم واوه، ويجوز أن تبدل واوه همزة.
{فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعآء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون} قيل: قال لهم من وكل بهم: لابد من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة، وتمكين الحيلة، وإبقاء ظهورها حتى بلغ وعاءه، فقال: ما أظن هذا أخذ شيئاً فقالوا: والله ما تتركه حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فاستخرجوه منه.
وقرأ الحسن من وعاء بضم الواو، وجاء كذلك عن نافع. وقرأ ابن جبير: من إعاء بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا: إشاح وإسادة في وشاح ووسادة، وذلك مطرد في لغة هذيل، يبدلون من الواو المكسورة الواقعة أولاً همزة، وأنث في قوله ثم استخرجها على معنى السقاية، أو لكون الصواغ يذكر ويؤنث. وقال أبو عبيد: يؤنث الصواع من حيث سمى سقاية، ويذكر من حيث هو صاع، وكان أبا عبيد لم يحفظ تأنيث الصواع. وقيل: الضمير في قوله: ثم استخرجها عائد على السرقة، كذلك أي مثل ذلك الكيد العظيم كدنا ليوسف يعني: علمناه إياه، وأوحينا به إليه. وقال الضحاك، والسدي: كدنا صنعنا. قال ابن عطية: وأضاف الله تعالى الكيد إلى ضميره، لما أخرج القدر الذي أباح ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتياد الناس كيد. وفسر ابن عباس في دين الملك بسلطانه، وفسره قتادة بالقضاء والحكم انتهى. وقال الزمخشري: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك تفسير للكيد وبيان له، لأنه كان في دين ملك مصر، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ إلا أن يلزم ويستعبد، إلا أن يشاء الله، إلا بمشيئته وإذنه. وقال ابن عطية: والاستثناء حكاية حال التقدير: إلا أن يشاء الله ما وقع من هذه الحيلة انتهى. والذي يظهر أنه استثناء منقطع أي: لكن بمشيئة الله أخذه في دين غير الملك، وهو دين آل يعقوب: أنّ الاسترقاق جزاء السارق.
وقرأ الكوفيون، وابن محيصن: نرفع بنون درجات منوناً من نشاء بالنون، وباقي السبعة كذلك، إلا أنهم أضافوا درجات. وقرأ يعقوب بالياء في يرفع، ويشاء أي: يرفع الله درجات من يشاء رفع درجاته. وقرأ عيسى البصرة: نرفع بالنون درجات منوناً من يشاء بالياء. قال صاحب اللوامح: وهذه قراءة مرغوب عنها تلاوة وجملة، وإن لم يمكن إنكارها.
وقال ابن عطية: وقرأ الجمهور نرفع على ضمير المعظم وكذلك نشاء. وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب: بالياء أي: الله تعالى انتهى. ومعناه في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه. وعليم صفة مبالغة. وقوله: ذي علم أي: عالم. فالمعنى أن فوقه أرفع منه درجة في علمه، وهذا معنى قول الحسن وقتادة وابن عباس. وعن أن العليم هو الله عز وجل. قيل: روى عنه أنه حدث بحديث عجيب، فتعجب منه رجل ممن حضر فقال: الحمد لله، وفوق كل ذي علم عليم، فقال له ابن عباس: بئس ما قلت، إنما العليم الله، وهو فوق كل ذي علم. وقرأ عبد الله: وفوق كل ذي عالم، فخرجت على زيادة ذي، أو على أن قوله عالم مصدر بمعنى علم كالباطل، أو على أن التقدير: وفوق كل ذي شخص عالم.
روي أن أخوة يوسف عليه السلام لما رأوا إخراج الصواع من رحل أخيهم بنيامين قالوا: يا بنيامين ابن راحيل قبحك الله، ولدت أمك أخوين لصين، كيف سرقت هذه السقاية؟ فرفع يديه إلى السماء وقال: والله ما فعلت، فقالوا: فمن وضعها في رحلك؟ قال: الذي وضع البضاعة في رحالكم. وقال الزمخشري ما معناه: رموا بالسرقة تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف. وإن كنتم كاذبين، فرض لانتفاء براءتهم، وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً على أنه لو صرح به كما صرح بالتسريق لكان له وجه، لأنهم قالوا: {وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب} والكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية كقوله: وخذ بيدك ضغثاً فيتخلص من جلدها ولا يحنث. وقول ابراهيم عليه السلام: هي أختي لتسلم من يد الكافر. وعلم الله في هذه الحيلة التي لقنها ليوسف مصالح عظيمة، فجعلها سلماً وذريعة إليها، فكانت حسنة جميلة انتهى. وقولهم: إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل، لا يدل على الجزم بأنه سرق، بل أخرجوا ذلك مخرج الشرط أي: إن كان وقعت منه سرقة فهو يتأسى ممن سرق قبله، فقد سرق أخ له من قبل. والتعليق على الشرط على أنّ السرقة في حق بنيامين وأخيه ليس مجزوماً بها، كأنهم قالوا: إنْ كان هذا الذي رمى به بنيامين حقاً فالذي رمى به يوسف من قبل حق، لكنه قوي الظن عندهم في حق يوسف بما ظهر لهم أنه جرى من بنيامين، ولذلك قالوا: إن ابنك سرق. وقيل: حققوا السرقة في جانب بنيامين وأخيه بحسب ظاهر الأمر، فكأنهم قالوا: إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل، لأن أخاه يوسف قد كان سرق، فعلى هذا القول يكون قولهم إنحاء على يوسف وبنيامين. وقيل: التقدير فقد قيل عن يوسف إنه سرق، وقولهم هذا هو بحسب الظاهر والإخبار بأمر جرى لتزول المعرة عنهم، وتختص بالشقيقين.
وتنكير أخ في قوله: فقد سرق أخ له من قبل، لأنّ الحاضرين لا علم لهم به وقالوا له: لأنه كان شقيقه. والجمهور على أن السرقة التي نسبت هي أن عمته ربته وشب، وأراد يعقوب أخذه، فأشفقت من فراقه فأخذت منطقة إسحاق، وكانت متوارثة عندهم، فنطقته بها من تحت ثيابه ثم صاحت وقالت: فقدت المنطقة ففتشت فوجدت عند يوسف، فاسترقته حسبما كان في شرعهم وبقي عندها حتى ماتت، فصار عند أبيه. وقال قتادة وابن جبير: أمرت أمه أن يسرق صنماً. وفي كتاب الزجاج: من ذهب لأبيها فسرقه وكسره، وكان ذلك منها تغييراً للمنكر. وقال ابن إدريس عن أبيه: إنما أكل بنو يعقوب طعاماً، فأخذ يوسف عرقاً فنحاه. وقيل: كان في البيت غاق أو دجاجة، فأعطاها السائل. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي، وابن أبي شريح عن الكسائي، والوليد بن حسان عن يعقوب وغيرهم: فقد سرق بالتشديد مبنياً للفعول بمعنى نسب إلى السرقة، بمعنى جعل سارقاً ولم يكن كذلك حقيقة. والضمير في قوله: فأسرها يفسره سياق الكلام أي: الحزازة التي حدثت في نفسه من قولهم كما فسره في قول حاتم:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ** إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر

وقيل: أسر المجازاة، وقيل: الحجة. وقال الزمخشري: اختار على شريطة التفسير تفسيره أنتم شر مكاناً، وإنما أنث لأن قوله: أنتم شر مكاناً جملة أو كلمة على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة، كأنه قيل: فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله. وقرأ عبد الله، وابن أبي عبلة: فأسره بضمير تذكير. قال الزمخشري: يريد القول أو الكلام انتهى. والظاهر من قوله: أنتم شر مكاناً، خطابهم بهذا القول في الوجه، فكأنه أسر كراهية مقالتهم، ثم وبخهم بقوله: أنتم شر مكاناً، وفيه إشارة إلى تكذيبهم وتقوية أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم، وعدلوا إلى الشفاعة بأبيه الشيخ يعقوب عليه السلام. وقال قوم: لم يقل يوسف هذا الكلام لهم مواجهة، إنما قاله في نفسه، وهو تفسير قوله: الذي أسر في نفسه، وهو قول الزمخشري المتقدم. ومعنى شر مكاناً أي منزلة في السرق، لأنكم سارقون بالصحة لسرقتكم أخاكم من أبيكم. ومعنى أعلم بما تصفون يعني: هو أعلم بما تصفون منكم، لأنه عالم بحقائق الأمور، وكيف كانت سرقة أخيه التي أحلتم سرقته عليه. وروي أن روبيل غضب ووقف شعره حتى خرج من ثيابه، فأمر يوسف ابناً له يمسه فسكن غضبه فقال روبيل: لقد مسني أحد من ولد يعقوب، ثم أنهم تشاوروا في محاربة يوسف وكانوا أهل قوة لا يدانون في ذلك، فلما أحس يوسف بذلك قام إلى روبيل فلببه وصرعه، فرأوا من قوته ما استعظموه وعند ذلك.
{قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون}: استعطفوا يوسف إذ كان قد أخذ عليهم الميثاق. ومعنى كبيراً في السن، أو القدر. وكانوا قد أعلموا يوسف بأنه كان له ابن قد هلك، وهذا شقيقه يستأنس به، وخاطبوه بالعزيز إذ كان في تلك الخطة بعزل قطفير، أو موته على ما سبق. ومعنى مكانه أي: بدله على جهة الاسترهان أو الاستعباد، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: يحتمل قولهم أن يكون مجازاً، وهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حرّ بسارق بدل من قد أحكمت السنة رقه، وإنما هذا كمن يقول لمن يكره فعله: اقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله، وعلى هذا يتجه قول يوسف: معاذ الله لأنه تعوذ من غير جائز. ويحتمل أن يكون قولهم حقيقة، وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يريدوا استرقاق حر، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الجمالة، أي: خذ أحدنا حتى ينصرف إليك صاحبك. ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه ويعرف يعقوب جلية الأمر. وقوله: من المحسنين، وصفوه بما شاهدوه من إحسانه لهم ولغيرهم، أو من المحسنين إلينا في هذه اليد إنْ أسديتها إلينا، وهذا تأويل ابن إسحاق ومعاذ الله تقدم الكلام فيه في قوله: معاذ الله إنه ربي، والمعنى: وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده. فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم، وباطنه أن الله أمرني وأوحى إلي بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة، أو مصالح جمة علمها في ذلك. فلو أخذت غير من أمرني بأخذه كنت ظالماً وعاملاً على خلاف الوحي. وأن نأخذ تقديره: من أن نأخذ، وإذن جواب وجزاء أي: إن أخذنا بدله ظلمنا. وروي أنه قال لما أيأسهم من حمله معهم: إذا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه السلام وقولوا له: إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف، ليعلم أنّ في أرض مصر صديقين مثله.