فصل: تفسير الآيات (102- 107):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (102- 107):

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)}
قال ابن الأنباري: سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت مشروحة شرحاً وافياً، وأمل أن يكون ذلك سبباً لإسلامهم، فخالفوا تأميله، فعزاه الله تعالى بقوله: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين الآيات. وقيل: في المنافقين، وقيل: الثنوبة، وقيل: في النصارى. وقال ابن عباس: في تلبية المشركين. وقيل: في أهل الكتاب آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فجمعوا بين الإيمان والشرك. والإشارة بذلك إلى ما قصه الله من قصة يوسف وإخوته. وما كنت لديهم أي: عند بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم على أن يجعلوه في الجب، ولا حين ألقوه فيه، ولا حين التقطته السيارة، ولا حين بيع. وهم يمكرون أي يبغون الغوائل ليوسف، ويتشاورون فيما يفعلون به. أو يمكرون بيعقوب حين أتوا بالقميص ملطخاً بالدم، وفي هذا تصريح لقريش بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا النوع من علم البيان يسمى بالاحتجاج النظري، وبعضهم يسميه المذهب الكلامي، وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج، وتقدم نظير ذلك في آل عمران، وفي هود. وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه، لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقي فيها أحداً ولا سمع منه، ولم يكن من علم قومه، فإذا أخبر به وقصه هذا القصص الذي أعجز حملته ورواته لم تقع شبهة في أنه ليس منه، وإنما هو من جهة القرون الخالية ونحوه {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} فقوله: وما كنت، هنا تهكم بهم، لأنه قد علم كل أحد أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان معهم. وأجمعوا أمرهم أي: عزموا على إلقاء يوسف في الجب، وهم يمكرون جملة حالية. والمكر: أن يدبر على الإنسان تدبيراً يضره ويؤذيه والناس، الظاهر العموم لقوله: ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. وعن ابن عباس: أنهم أهل مكة. ولو حرصت: ولو بالغت في طلب إيمانهم لا يؤمنون لفرط عنادهم وتصميمهم على الكفر. وجواب لو محذوف أي: ولو حرصت لم يؤمنوا، إنما يؤمن من يشاء الله إيمانه. والضمير في عليه عائد على دين الله أي: ما تبتغي عليه أجراً على دين الله، وقيل: على القرآن، وقيل: على التبليغ، وقيل: على الإنباء بمعنى القول. وفيه توبيخ للكفرة، وإقامة الحجة عليهم. أو وما تسألهم على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى، كما يعطى حملة الأحاديث والأخبار إن هو إلا موعظة وذكر من الله للعالمين عامة، وحث على طلب النجاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ا وقرأ بشر بن عبيد: وما نسألهم بالنون. ثم أخبر تعالى أنهم لفرط كفرهم يمرون على الآيات التي تكون سبباً للإيمان ولا تؤثر فيهم، وأن تلك الآيات هي في العالم العلوي وفي العالم السفلي وتقدم قراءة ابن كثير وكأين.
قال ابن عطية وهو اسم فاعل من كان فهو كائن ومعناها معنى كم في التكثير انتهى. وهذا شيء يروي عن يونس، وهو قول مرجوح في النحو. والمشهور عندهم أنه مركب من كاف التشبيه ومن أي، وتلاعبت العرب به فجاءت به لغات. وذكر صاحب اللوامح أن الحسن قرأ وكي بياء مكسورة من غير همز ولا ألف ولا تشديد، وجاء كذلك عن ابن محيصن، فهي لغة انتهى. من آية علامة على توحيد الله وصفاته، وصدق ما جيء به عنه. وقرأ عكرمة وعمرو بن قائد: والأرض بالرفع على الابتداء، وما بعده خبر. ومعنى يمرون عليها فيشاهدون ما فيها من الآيات. وقرأ السدي: والأرض بالنصب، وهو من باب الاشتغال أي: ويطوون الأرض يمرون عليها على آياتها، وما أودع فيها من الدلالات. والضمير في عليها وعنها في هاتين القراءتين يعود على الأرض، وفي قراءة الجمهور وهي بجر الأرض، يعود الضمير على آية أي: يمرون على تلك الآيات ويشاهدون تلك الدلالات، ومع ذلك لا يعتبرون. وقرأ عبد الله: والأرض برفع الضاد، ومكان يمرون يمشون، والمراد: ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر. وهم مشركون جملة حالية أي: إيمانهم ملتبس بالشرك. وقال ابن عباس: هم أهل الكتاب، أشركوا بالله من حيث كفروا بنبيه، أو من حيث ما قالوا في عزير والمسيح. وقال عكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد: هم كفار العرب أقروا بالخالق الرازق المحيي المميت، وكفروا بعبادة الأوثان والأصنام. وقال ابن عباس: هم الذين يشبهون الله بخلقه. وقيل: هم أهل مكة قالوا: لله ربنا لا شريك له، والملائكة بناته، فأشركوا ولم يوحدوا. وعن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي، وقتادة أيضاً ذلك في تلبيتهم يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وفي الحديث كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع أحدهم يقول: لبيك لا شريك لك يقول له: «قط قط» أي قف هنا ولا تزد إلا شريك هو لك. وقيل: هم الثنوية قالوا بالنور والظلمة. وقال عطاء: هذا في الدعاء ينسى الكفار ربهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء. وقيل: هم المنافقون، جهروا بالإيمان وأخفوا الكفر. وقيل: على بعض اليهود عبدوا عزيراً، والنصارى عبدوا عيسى. وقيل: قريش لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا: إنا مؤمنون، ثم عادوا إلى الشرك بعد كشفه. وقيل: جميع الخلق مؤمنهم بالرسول وكافرهم، فالكفار تقدم شركهم، والمؤمنون فيهم الشرك الخفي، وأقربهم إلى الكفر المشبهة. ولذلك قال ابن عباس: آمنوا محملاً، وكفروا مفصلاً. وثانيها من يطيع الخلق بمعصية الخالق، وثالثها من يقول: نفعني فلان وضرّني فلان.
أفأمنوا: استفهام إنكار فيه توبيخ وتهديد، غاشية نقمة تغشاهم أي، تغطيهم كقوله: {يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم} وقال الضحاك: يعني الصواعق والقوارع انتهى. وإتيان الغاشية يعني في الدنيا، وذلك لمقابلته بقوله أو تأتيهم الساعة أي يوم القيامة، بغتة أي: فجأة في الزمان من حيث لا يتوقع، وهم لا يشعرون تأكيد لقوله بغتة. قال الكرماني: لا يشعرون بإتيانها أي: وهم غيره مستعدين لها. قال ابن عباس: تأخذهم الصيحة على أسواقهم ومواضعهم. وقرأ أبو حفص، وبشر بن عبيد: أو يأتيهم الساعة.

.تفسير الآيات (108- 110):

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}
لما تقدم من قول يوسف عليه السلام: {توفني مسلماً} وكان قوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} دالاً على أنه حارص على إيمانهم، مجتهد في ذلك، داع إليه، مثابر عليه. وذكر {وما تسألهم عليه من أجر} أشار إلى فيهم من ذلك وهو شريعة الإسلام والإيمان، وتوحيد الله. فقال: قل يا محمد هذا الطريقة والدعوة طريقي التي سلكتها وأنا عليها، ثم فسر تلك السبيل فقال: أدعو إلى الله يعني: لا إلى غيره من ملك أو إنسان أو كوكب أو صنم، إنما دعائي إلى الله وحده. قال ابن عباس: سبيلي أي دعوتي. وقال عكرمة: صلاتي، وقال ابن زيد: سنتي، وقال مقاتل والجمهور: ديني.
وقرأ عبد الله: قل هذا سبيلي على التذكير. والسبيل يذكر ويؤنث، ومفعول أدعو هو محذوف تقديره: أدعو الناس. والظاهر تعلق على بصيرة بأدعو، وإنا توكيد للضمير المستكن في ادعو، ومن معطوف على ذلك الضمير والمعنى: أدعو أنا إليها من اتبعني. ويجوز أن يكون على بصيرة خبراً مقدماً، وأنا مبتدأ، ومن معطوف عليه. ويجوز أن يكون على بصيرة حالاً من ضمير ادعو، فيتعلق بمحذوف، ويكون أنا فاعلاً بالجار والمجرور النائب عن ذلك المحذوف، ومن اتبعني معطوف على أنا. وأجاز أبو البقاء أن يكون: ومن اتبعني مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك أي: داع إلى الله على بصيرة. ومعنى بصيرة حجة واضحة وبرهان متيقن من قوله: {قد جاءكم بصائر من ربكم} وسبحان الله داخل تحت قوله قل: أي قل، وتبرئة الله من الشركاء أي: براءة الله من أن يكون له شريك. ولما أمر بأن يخبر عن نفسه أنه يدعو هو ومن اتبعه إلى الله، وأمر أن يخبر أنه ينزه الله عن الشركاء، أمر أن يخبر أنه في خاصة نفسه منتف عن الشرك، وأنه ليس ممن أشرك. وهو نفي عام في الأزمان لم يكن منهم، ولا في وقت من الأوقات. إلا رجالاً حصر في الرسل دعاة إلى الله، فلا يكون ملكاً. وهذا رد على من قال: {لو شاء ربنا لأنزل ملائكة} وكذلك قال: {لو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً} وقال ابن عباس: يعني رجالاً لا نساء، فالرسول لا يكون امرأة، وهل كان في النساء نبية فيه خلاف؟ والنبي أعم من الرسول، لأنه منطلق على من يأتيه الوحي سواء أرسل أو لم يرسل، قال الشاعر في سجاح المتنبئة:
أمست نبيتنا أنثى نطيف بها ** ولم تزل أنبياء الله ذكرانا

فلعنة الله والأقوام كلهم ** على سجاح ومن بالإفك أغرانا

أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت ** أصداؤه ماء مزن أينما كانا

وقرأ أبو عبد الرحمن، وطلحة، وحفص: نوحي بالنون وكسر الحاء، موافقاً لقوله: وما أرسلنا.
وقرأ الجمهور بالياء وفتح الحاء مبنياً للمفعول. والقرى المدن. قال ابن زيد: أهل القرى أعلم وأحلم من أهل البادية، فإنهم قليل نبلهم، ولم ينشئ الله قط منهم رسولاً. وقال الحسن: لم يبعث الله رسولاً من أهل البادية، ولا من النساء، ولا من الجن. والتبدي مكروه إلا في الفتن، ففي الحديث: «من بدا جفا» ثم استفهم استفهام توبيخ وتقريع. والضمير في يسيروا عائد على من أنكر إرسال الرسل من البشر، ومن عاند الرسول وأنكر رسالته كفر أي: هلا يسيرون في الأرض فيعلمون بالتواتر أخبار الرسل السابقة، ويرون مصارع الأمم المكذبة، فيعتبرون بذلك؟ ولدار الآخرة خير، هذا حض على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها، واتقاء المهلكات، ففي هذه الإضافة تخريجان: أحدهما: أنها من إضافة الموصوف إلى صفته، وأصله: ولدار الآخرة. والثاني: أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه، وأصله: ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة. والأول: تخريج كوفي، والثاني: تخريج بصرى.
وقرأ الجمهور: أفلا يعقلون بالياء رعياً لقوله: أفلم يسيروا. وقرأ الحسن، وعلقمة، والأعرج، وعاصم، وابن عامر، ونافع: بالتاء على خطاب هذه الأمة تحذيراً لهم مما وقع فيه أولئك، فيصيبهم ما أصابهم. قال الكرماني: أفلا يعقلون أنها خير. فيتوسلوا إليها بالإيمان انتهى. والاستيئاس من النصر، أو من إيمان قومهم قولان. وحتى غاية لما قبلها، وليس في اللفظ ما يكون له غاية، فاحتيج إلى تقدير فقدره الزمخشري: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً، فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النصر. وقال ابن عطية: ويتضمن قوله: أفلم يسيروا إلى ما قبلهم، أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات، فصاروا في حيز من يعتبر بعاقبته، فلهذا المضمن حسن أن يدخل حتى في قوله: حتى إذا استيأس الرسل انتهى. ولم يتحصل لنا من كلامه شيء يكون ما بعد حتى غاية له، لأنه علق الغاية بما ادعى أنه فهم ذلك من قوله: أفلم يسيروا الآية. وقال أبو الفرج بن الجوزي: المعنى متعلق بالآية الأولى فتقديره: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يدعوا قومهم فكذبوهم، وصبروا وطال دعاؤهم، وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل. وقال القرطبي في تفسيره: المعنى وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتى إذا استيأس الرسل. وقرأ أبي، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وطلحة، والأعمش، والكوفيون: كذبوا بتخفيف الذال، وباقي السبعة، والحسن وقتادة، ومحمد بن كعب، وأبو رجاء، وابن مليكة، والأعرج، وعائشة بخلاف عنها بتشديدها. وهما مبنيان للمفعول، فالضمائر على قراءة التشديد عائدة كلها على الرسل، والمعنى: إن الرسل أيقنوا أنهم كذبهم قومهم المشركون. قال ابن عطية: ويحتمل أن كون الظن على بابه يعني من ترجيح أحد الجائزين قال: والضمير للرسل، والمكذبون مؤمنون أرسل إليه أي: لما طالت المواعيد حسبت الرسل أنّ المؤمنين أولاً قد كذبوهم وارتابوا بقولهم.
وعلى قراءة التخفيف، فالضمير في وظنوا عائد على الرسل إليهم لتقدمهم في الذكر في قوله: كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، ولأنّ الرسل تستدعي مرسلاً إليهم، وفي أنهم. وفي قد كذبوا عائد على الرسل، والمعنى: وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبهم من ادعوا أنه جاءهم بالوحي عن الله وبنصرهم، إذ لم يؤمنوا به. ويجوز في هذه القراءة أن تكون الضمائر الثلاثة عائدة على المرسل إليهم أي: وظن المرسل أنهم قد كذبهم الرسل فيما ادعوه من النبوّة، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العذاب. وهذا مشهور قول ابن عباس، وتأويل عبد الله وابن جبير ومجاهد. ولا يجوز أن تكون الضمائر في هذه القراءة عائدة على الرسل، لأنهم معصومون، فلا يمكن أن يظن أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله. وقال الزمخشري في هذه القراءة: حتى إذا استيأسوا من النصر وظنوا أنهم قد كذبوا أي: كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم أنهم ينصرون أو رجاهم كقوله: رجاء صادق ورجاء كاذب. والمعنى: أنّ مدة التكذيب والعداوة من الكفار، وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت، حتى استشعروا القنوط، وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب انتهى. فجعل الضمائر كلها للرسل، وجعل الفاعل الذي صرف من قوله: قد كذبوا، إما أنفسهم، وإما رجاؤهم. وفي قوله: إخراج الظن عن معنى الترجيح، وعن معنى اليقين إلى معنى التوهم، حتى تجري الضمائر كلها في القراءتين على سنن واحد. وروي عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير: أن الضمير في وظنوا، وفي قد كذبوا، عائد على الرسل والمعنى: كذبهم من تباعدهم عن الله والظن على بابه قالوا: والرسل بشر، فضعفوا وساء ظنهم. وردت عائشة وجماعة من أهل العلم هذا التأويل، وأعظموا أنْ يوصف الرسل بهذا.
قال الزمخشري: إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال، ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية. وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف بربهم، وأنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبيح انتهى. وآخره مذهب الاعتزال. فقال أبو علي: إن ذهب ذاهب إلى أنّ المعنى ظن الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا فيه، فقد أتى عظيماً لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء، ولا إلى صالحي عباد الله قال: وكذلك من زعم أن ابن عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا وظنوا أنهم قد أخلفوا، لأن الله لا يخلف الميعاد، ولا مبدل لكلماته.
وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: قد كذبوا بتخفيف الذال مبنياً للفاعل أي: وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما قالوا عن الله من العذاب والظن على بابه. وجواب إذ جاءهم نصرنا، والظاهر أن الضمير في جاءهم عائد على الرسل. وقيل: عائد عليهم وعلى من آمن بهم. وقرأ عاصم، وابن عامر: فنجى بنون واحدة وشدّ الجيم وفتح الياء مبنياً للمفعول. وقرأ مجاهد، والحسن، والجحدري، وطلحة بن هرمز كذلك، إلا أنهم سكنوا الياء، وخرج على أنه مضارع أدغمت فيه النون في الجيم، وهذا ليس بشيء، لأنه لا تدغم النون في الجيم. وتخريجه على أنه ماض كالقراءة التي قبلها سكنت الياء فيه لغة من يستثقل الحركة صلة على الياء، كقراءة من قرأ {ما تطعمون أهليكم} بسكون الياء. ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع، وقرأهما في المشهور، وباقي السبعة فننجي بنونين مضارع أنجي. وقرأت فرقة: كذلك إلا أنهم فتحوا الياء. قال ابن عطية: رواها هبيرة عن حفص عن عاصم، وهي غلط من هبيرة انتهى. وليست غلطاً، ولها وجه في العربية وهو أنّ الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوباً بإضمار أن بعد الفاء، كقراءة من قرأ: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر} بنصب يغفر بإضمار أنْ بعد الفاء. ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة، أو غير جازمة. وقرأ نصر بن عاصم، والحسن، وأبو حيوة، وابن السميقع، ومجاهد، وعيسى، وابن محيصن: فنجى، جعلوه فعلاً ماضياً مخفف الجيم. وقال أبو عمرو الداني: وقرأت لابن محيصن فنجى بشد الجيم فعلاً ماضياً على معنى فنجى النصر. وذكر الداني أنّ المصاحف متفقة على كتبها بنون واحدة. وفي التحبير أنّ الحسن قرأ فننجى بنونين، الثانية مفتوحة، والجيم مشددة، والياء ساكنة. وقرأ أبو حيوة: من يشاء بالياء أي: فنجى من يشاء الله نجاته. ومن يشاء هم المؤمنون لقوله: ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين، والبأس هنا الهلاك. وقرأ الحسن: بأسه بضمير الغائب أي: بأس الله. وهذه الجملة فيها وعيد وتهديد لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم.