فصل: تفسير الآيات (17- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 18):

{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)}
قال الزمخشري: هذا مثل ضربه الله للحق وأهله، والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير، والظلمات والنور، مثلاً لهما. فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به أودية للناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلى منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى فيه، وإن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً يثبت الماء في منافعه، وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكثر، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة بزبد السيل الذي يرمي به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب. وقال ابن عطية: صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله تعالى، وإقامة الحجة على الكفرة به، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالاً للحق والباطل، والإيمان والكفر، والشك في الشرع واليقين به انتهى. وقيل: هذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن، والقلوب، والحق، والباطل. فالماء مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب، وبقاء الشرع والدين والأودية مثل للقلوب، ومعنى بقدرها على سعة القلوب وضيقها، فمنها ما انتقع به فحفظه ووعاه وتدبر فيه، فظهرت ثمرته وأدرك تأويله ومعناه، ومنها دون ذلك بطبقة، ومنها دونه بطبقات. والزبد مثل الشكوك والشبه وإنكار الكافرين إنه كلام الله، ودفعهم إياه بالباطل. والماء الصافي المنتفع به مثل الحق انتهى. وفي الحديث الصحيح ما يؤيد هذا التأويل وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً وكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به وسقوا ورعوا وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل ما جئت به من العلم والهدى ومثل من لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» وقال ابن عطية: وروي عن ابن عباس أنه قال: قوله تعالى أنزل من السماء ماء، يريد به الشرع والدين، فسالت أودية يريد القلوب، أي: أخذ النبيل بحظه، والبليد بحظه، وهذا قول لا يصح والله أعلم عن ابن عباس، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز، وقد تمسك به الغزالي وأهل تلك الطريق، ولا توجيه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير علة تدعو إلى ذلك، والله الموفق للصواب. وإن صح هذا القول عن ابن عباس، فإنما قصد أن قوله تعالى: {كذلك يضرب الله الحق والباطل}، معناه: الحق الذي يتقرر في القلوب، والباطل الذي يعتريها أيضاً انتهى. والماء المطر.
ونكر أودية لأنّ المطر إنما يدل على طريق المناوبة، فتسيل بعض الأودية دون بعض. ومعنى بقدرها أي: على قدر صغرها وكبرها، أو بما قدر لها من الماء بسبب نفع الممطور عليهم لا ضررهم. ألا ترى إلى قوله: وأما ما ينفع الناس، فالمطر مثل للحق، فهو نافع خال من الضرر.
وقرأ الجمهور: بقدرها بفتح الدال. وقرأ الأشهب العقيلي، وزيد بن علي، وأبو عمرو في رواية: بسكونها. وقال الحوفي: بقدرها متعلق بسالت. وقال أبو البقاء: بقدرها صفة لأودية، وعرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل، والذي يتضمنه الفعل من المصدر هو نكرة، فإذا عاد عليه الظاهر كان معرفة، كما كان لو صرح به نكرة، ولذلك تضمن إذا عاد ما دل عليه الفعل من المصدر نحو: من كذب كان شراً له أي: كان الكذب شراً له، ولو جاء هنا مضمراً لكان جائزاً عائداً على المصدر المفهوم من فسالت. واحتمل بمعنى حمل، جاء فيه افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر. ورابياً منتفخاً عالياً على وجه السيل، ومنه الربوة. ومما توقدون عليه أي: ومن الأشياء التي توقدون عليها وهي الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، والقصدير، ونحوها مما يوقد عليه وله زبد. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وابن محيصن، ومجاهد، وطلحة، ويحيى، وأهل الكوفة: يوقدون بالياء على الغيبة، أي يوقد الناس. وقرأ باقي السبعة والحسن، وأبو جعفر، والأعرج، وشيبة: بالتاء على الخطاب وعليه متعلق بتوقدون وفي النار. قال أبو علي، والحوفي: متعلق بتوقدون. وقال أبو علي: قد يوقد على كل شيء وليس في النار كقوله: {فأوقد لي يا هامان على الطين} فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه، وليس في النار، لكن يصيبه لهبها. وقال مكي وغيره: في النار متعلق بمحذوف تقديره: كائناً، أو ثابتاً. ومنعوا تعليقه بقوله: توقدون، لأنهم زعموا أنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار، وتعليق حرف الجر بتوقدون يتضمن تخصيص حال من حال أخرى انتهى. ولو قلنا: إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار، لجاز أن يكون متعلقاً بتوقدون، ويجوز ذلك على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله: يطير بجناحيه، وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه. وقال الحوفي: هو مصدر في موضع الحال أي: مبتغين حلية، وفي ذكر متعلق ابتغاء تنبيه على منفعة ما يوقدون عليه. والحلية ما يعمل للنساء مما يتزين به من الذهب والفضة، والمتاع ما يتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوام العيش كالأواني، والمساحي، وآلات الحرب، وقطاعات الأشجار، والسكك، وغير ذلك. وزبد مرفوع بالابتداء، وخبره في قوله: ومما توقدون. ومِن الظاهر أنها للتبعيض، لأن ذلك الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن.
وأجاز الزمخشري أن تكون مِن لابتداء الغاية أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء، والمماثلة في كونهما يتولدان من الأوساخ والأكدار، والحق والباطل على حذف مضاف أي: مثل الحق والباطل. شبه الحق بما يخلص من جرم هذه المعادن من الأقذار والخبث ودوام الانتفاع بها، وشبه الباطل بالزبد والمجتمع من الخبث والأقذار، ولا بقاء له ولا قيمة. وفصل ما سبق ذكره مما ينتفع به ومن الزبد، فبدأ بالزبد إذ هو المتأخر في قوله: زبداً رابياً، وفي قوله: زبد مثله، ولكون الباطل كناية عنه وصف متأخر، وهي طريقة فصيحة يبدأ في التقسيم بما ذكر آخراً كقوله: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم} والبداءة بالسابق فصيحة مثل قوله: {فمنهم شقي وسعيد} {فأما الذين شقوا ففي النار} وكأنه والله أعلم يبدأ في التفصيل بما هو أهم في الذكر. وانتصب جفاء على الحال أي: مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له. والزبد يراد به ما سبق من ما احتمله السيل وما خرج من حيث المعادن، وأفرد الزبد بالذكر ولم يثن، وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية، فهما واحد باعتبار القدر المشترك. وقرأ رؤبة: جفالاً باللام بدل الهمزة من قولهم: جفلت الريح السحاب إذا حملته وفرقته. وعن أبي حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفار بمعنى: أنه كان أعرابياً جافياً. وعن أبي حاتم أيضاً: لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن. وأما ما ينفع الناس أي: من الماء الخالص من الغناء ومن الجوهر المعدني الخالص من الخبث أي: مثل ذلك الضرب كمثل الحق والباطل. يضرب الله الأمثال، والظاهر أنه لما ضرب هذا المثل للحق والباطل انتقل إلى ما لأهل الحق من الثواب، وأهل الباطل من العقاب، فقال: للذين استجابوا لربهم الحسنى، أي: الذين دعاهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فأجابوا إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه الحالة الحسنى، وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمة الله، ودخول الجنة في الآخرة. فالحسنى مبتدأ، وخبره في قوله: للذين. والذين لم يستجيبوا مبتدأ، خبره ما بعده. وغاير بين جملتي الابتداء لما يدل عليه تقديم الجار والمجرور في الاعتناء والاهتمام، وعلى رأي الزمخشري من الاختصاص أي: لهؤلاء الحسنى لا لغيرهم. ولأن قراءة شيوخنا يقفون على قوله الأمثال، ويبتدئون للذين. وعلى هذا المفهوم أعرب الحوفي الحسني مبتدأ، وللذين خبره، وفسر ابن عطية وفهم السلف. قال ابن عباس: جزاء الحسنى وهي لا إله إلا الله. وقال مجاهد: الحياة الحسنى ما في الطيبة. وقيل: الجنة لأنها في نهاية الحسنى. وقيل: المكافأة أضعافاً. وعلق الزمخشري للذين بقوله يضرب فقال: للذين استجابوا متعلقة بيضرب أي: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا، وللكافرين الذين لم يستجيبوا أي: هما مثلاً الفريقين.
والحسنى صفة لمصدر استجابوا أي: استجابوا الاستجابة الحسنى. وقولهم: لو أن لهم كلام مبتدأ، ذكر ما أعد لغير المستجيبين انتهى. والتفسير الأول أولى، لأنه فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله تعالى قد ضرب أمثالاً كثيرة في هذين وفي غيرهما، ولأنه فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف قول الزمخشري، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب، ذكر ما للمستجيبين من الثواب. ولأنّ تقديره الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة، ومقابلتها ليس نفي الاستجابة مطلقاً، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى، والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً. ولأنه على قوله يكون قوله: لو أن لهم ما في الأرض جميعاً، كلاماً مفلتاً مما قبله، أو كالمفلت، إذ يصير المعنى: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين. لو أن لهم ما في الأرض، فلو كان التركيب بحرف رابط لو بما قبلها زال التفلت، وأيضاً فيوهم الاشتراك في الضمير، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً لهم. وأيضاً فقد جاء هذا التركيب، وتقدم تفسير مثل قوله: لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به، وسوء الحساب قال ابن عباس: أن لا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيئاتهم. وقال النخعي: وشهد وفرقران يحاسب على ذنوبه كلها، ويحاسب ويؤاخذ بها من غير أن يغفر له شيء. وقال أبو الجوزاء: المناقشة. وقيل: للتوبيخ عند الحساب والتقريع، وتقدم تفسير مثل {ومأواهم جهنم وبئس المهاد}.

.تفسير الآيات (19- 24):

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}
قال ابن عباس: نزلت أفمن يعلم في حمزة وأبي جهل. وقيل: في عمر بن الخطاب وأبي جهل. وقيل: في عمار بن ياسر وأبي جهل. قرأ زيد بن علي: أو من بالواو بدل الفاء، إنما أنزل مبنياً للفاعل. ولما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر، وذكر ما للمؤمن من الثواب، وما للكافر من العقاب، ذكر استبعاد من يجعلها سواء وأنكر ذلك فقال: أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى أي: ليسا مشتبهين، لأنّ العالم بالشيء بصير به، والجاهل به كالأعمى، والمراد أعمى البصيرة ولذلك قابله بالعلم. والهمزة للاستفهام المراد به: إنكار أن تقع شبهة بعدما ضرب من المثل في أن حال من علم إنما أنزل إليك من ربك الحق فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب، كبعد ما بين الزبد والماء، والخبث والإبريز. ثم ذكر أنه لا يتذكر بالموعظة، وضرب الأمثال إلا أصحاب العقول. والفاء للعطف، وقدمت همزة الاستفهام لأنه صدر الكلام والتقدير: فأمن يعلم، ويبعدها أن يكون فعل محذوف بين الهمزة والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك الفعل، كما قدره الزمخشري في قوله: {أفلم يسيروا} وقوله: {أفلا يعقلون} وجوزوا في الذين أنْ يكون بدلاً من أولوا، أو صفة له، وصفة لمن من قوله: أفمن يعلم وإنما يتذكر اعتراض، ومبتدأ خبره أولئك لهم عقبى الدار كقوله: {والذين ينقضون عهد الله} ثم قال: {أولئك لهم اللعنة} والظاهر عموم العهد. وقيل: هو خاص، فقال السدي: ما عهد إليهم في القرآن. وقال قتادة: في الأزل، وهو قوله: {ألست بربكم قالوا بلى} وقال القفال: ما في حيلتهم وعقولهم من دلائل التوحيد والنبوات. وقيل: في الكتب المتقدمة والقرآن. وقيل: المأخوذ على ألسنة الرسل. وقيل: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والظاهر إضافة العهد إلى الفاعل أي: بما عهد الله. والظاهر أن قوله: ولا ينقضون الميثاق، جملة توكيدية لقوله: يوفون بعهد الله، لأن العهد هو الميثاق، ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقيضه. وقال الزمخشري: وعهد الله ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. ولا ينقضون الميثاق، ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله تعالى، وغيره من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد تعميم بعد تخصيص انتهى. فأضاف العهد إلى المفعول، وغاير بين الجملتين بكون الثانية تعميماً بعد تخصيص انتهى. إذ أخذ الميثاق عام بينهم وبين الله وبين العباد. وقال ابن عطية: بعهد الله اسم الجنس أي: بجميع عهود الله، وبين أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده. ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي. وقوله: ولا ينقضون الميثاق.
أي: إذا اعتقدوا في طاعة الله عهداً لم ينقضوه. قال قتادة: وتقدم وعيد الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية، ويحتمل أنه يشير إلى ميثاق معين وهو الذي أخذه تعالى على ظهر أبيهم آدم عليه السلام انتهى.
وقال ابن العربي: من أعظم المواثيق في الذكر أن لا يسأل سواه، وذكر قصة أبي حمزة الخراساني وقوعه في البئر، ومرور الناس عليه، وتغطيتهم البئر وهو لا يسألهم أن يخرجوه، إلى أن جاء من أخرجه بغير سؤال، ولم ير من أخرجه، وهتف به هاتف: كيف رأيت ثمرة التوكل؟ قال ابن العربي: هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام، فاقتدوا به. وقد أنكر أبو الفرج بن الجوزي فعل أبي حمزة هذا وبين خطأه، وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال. وذكر أنّ سفيان الثوري وغيره قالوا: إن إنساناً لو جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار. ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف بأبي حمزة الجاهل.
وما أمر الله به أن يوصل ظاهره العموم في كل ما أمر به في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن: المراد به صلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإيمان به، وقال نحوه ابن جبير. وقال قتادة: الرحم. وقيل: صلة الإيمان بالعمل. وقيل: صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، ومراعاة حق الجيران، والرفقاء، والأصحاب، والخدم. وقيل: نصرة المؤمنين. وأمر يتعدى إلى اثنين بحرف جر وهو به، والأول محذوف تقديره: ما أمرهم الله به. وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير أي: بوصله. ويخشون ربهم أي: وعيده كله. ويخافون سوء الحساب أي: استقصاءه فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا. وقيل: يخشون ربهم يعظمونه. وقيل: في قطع الرحم. وقيل: في جميع المعاصي. وقيل: فيما أمرهم بوصله. وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال، وميثاق التكليف. وجاءت الصلة هنا بلفظ الماضي، وفي الموصلين قبل بلفظ المضارع في قوله: الذين يوفون، والذين يصلون، وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة، لأنّ المبتدأ هنا في معنى اسم الشرط بالماضي كالمضارع في اسم الشرط، فكذلك فيما أشبهه، ولذلك قال النحويون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي، وأن يراد به الاستقبال. فمن المراد به المضي في الصلة {الذين قال لهم الناس} ومن المراد به الاستقبال {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع، أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والالتباس دائماً، وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين، وما عطف عليهما، لأنّ حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها، ولذلك لم تأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي، إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها والله أعلم.
وانتصب ابتغاء قيل: على أنه مصدر في موضع الحال، والأولى أن يكون مفعولاً لأجله أي: إنّ صبرهم هو لابتغاء وجه الله خالصاً، لا لرجاء أن يقال: ما أصبره، ولا مخافة أن يعاب بالجزع، أو تشمت به الأعداء، كما قال:
وتجلدي للشامتين أريهم ** أني لريب الدهر لا أتضعضع

ولأنّ الجزع لا طائل تحته، أو يعلم أنه لا مرد لما فات ولا لما وقع. والظاهر في معنى الوجه هنا جهة الله أي: الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة، كما تقول: خرج زيد لوجه كذا. ونبه على هاتين الخصلتين: العبادة البدنية، والعبادة المالية، إذ هما عمود الدين، والصبر عليهما أعظم صبر لتكرر الصلوات، ولتعلق النفوس بحب تحصيل المال. ونبه على حالتي الإنفاق، فالسر أفضل حالات إنفاق التطوع كما جاء في «السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها» والعلانية أفضل حالات إنفاق الفروض، لأنّ الإظهار فيها أفضل. وقال الزمخشري: مما رزقناهم من الحلال، لأنّ الحرام لا يكون رزقاً، ولا يسند إلى الله انتهى. وهذا على طريق المعتزلة.
وللسلف هنا في الصبر أقوال متقاربة. قال ابن عباس: صبروا على أمر الله. وقال أبو عمران الجوني: صبروا على دينهم. وقال عطاء: صبروا على الرزايا والمصائب. وقال ابن زيد: صبروا على الطاعة وعن المعصية، ويدرؤون يدفعون. قال ابن زيد: الشر بالخير. وقال قتادة: ردوا عليهم معروفاً كقوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلام} وقال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وقال القتبي: إذا سفه عليهم حلموا، وقال ابن جبير: يدفعون المنكر بالمعروف. وقال ابن كيسان: إذا أذنبوا تابوا، وإذا هربوا أنابوا ليدفعوا عن أنفسهم بالتوبة معرّة الذنب، وهذا المعنى قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه. وقيل: يدفعون بلا إله إلا الله شركهم. وقيل: بالسلام غوائل الناس. وقيل: من رأوا منه مكروهاً بالتي هي أحسن. وقيل: بالصالح من العمل السيئ، ويؤيده ما روي في الحديث أن معاذاً قال: أوصني يا رسول الله فقال: «إذا عملت سيئة فاعمل إلى جنبها حسنة تمحها السر بالسرّ والعلانية بالعلانية» وقيل العذاب: بالصدقة. وقيل: إذا هموا بالسيئة فكروا ورجعوا عنها واستغفروا. وهذه الأقوال كلها على سبيل المجاز. وبالجملة لا يكافئون الشر بالشر كما قال الشاعر:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ** ومن إساءة أهل السوء إحساناً

وهذا بخلاف خلق الجاهلية كما قال:
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه ** سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم

وروي أنّ هذه الآية نزلت في الأنصار، ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات.
وعقبي الدار: عاقبة الدنيا، وهي الجنة، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا وموضع أهلها. وجنات عدن بدل من عقبى الدار، ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار الدنيا في العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم، ويحتمل أن كون جنات خبر ابتداء محذوف. وقرأ الجمهور: جنات، والنخعي: جنة بالإفراد. وروي عن ابن كثير، وأبي عمرو: يدخلونها مبنياً للمفعول. وقرأ ابن أبي عبلة: ومن صلح بضم اللام، والجمهور بفتحها، وهو أفصح. وقرأ عيسى الثقفي: وذريتهم بالتوحيد، والجمهور بالجمع. وقرأ ابن يعمر: فنعم بفتح النون وكسر العين وهي الأصل، كما قال الراجز:
نعم الساعون في اليوم الشطر

وقرأ ابن وثاب: فنعم بفتح النون وسكون العين، وتخفيف فعل لغة تميميمة، والجمهور نعم بكسر النون وسكون العين، وهي أكثر استعمالاً. قال مجاهد وغيره: ومن صلح أي عمل صالحاً وآمن انتهى. وهذا يدل على أن مجرد النسب من الصالح لا ينفع، إنما تنفع الأعمال الصالحة. وقيل: يحتمل قوله: ومن صلح أي: لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه. قال ابن عباس: هذا الصلاح هو الإيمان بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه بشارة بنعمة اجتماعهم مع قراباتهم في الجنة. والظاهر أنّ ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول. وقيل: يجوز أن يكون مفعولاً معه أي: يدخلونها مع من صلح. ويشتمل قوله: من آبائهم، أبوي كل واحد والده ووالدته، وغلب الذكور على الإناث، فكأنه قيل: ومن صلح من آبائهم وأمهاتهم. والملائكة يدخلون عليهم من كل باب أي: بالتحف والهدايا من الله تعالى تكرمة لهم. قال أبو بكر الورّاق: هذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة، من عملها دخلها من أي باب شاء. قال الأصم: نحو هذا قال: من كل باب باب الصلاة، وباب الزكاة، وباب الصبر. ولأبي عبد الله الرازي كلام عجيب في الملائكة ذكر: أن الملائكة طوائف منهم روحانيون، ومنهم كروبيون، فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة، فلكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يحفظ لتلك الصفة مزيد اختصاص، فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السمائية ما يناسبها من الصفة المخصوصة، فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر، ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر، وهكذا القول في جميع المراتب انتهى. وهذا كلام فلسفي لا تفهمه العرب، ولا جاءت به الأنبياء، فهو كلام مطرح لا يلتفت إليه المسلمون. قال ابن عطية: وحكى الطبري رحمه الله في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها انتهى.
وارتفع سلام على الابتداء، وعليكم الخبر، والجملة محكية بقول محذوف أي: يقولون سلام عليكم.
والظاهر أن قوله تعالى: سلام عليكم تحية الملائكة لهم، ويكون قوله تعالى: بما صبرتم، خبر مبتدأ محذوف أي: هذا الثواب بسبب صبركم في الدنيا على المشاق، أو تكون الباء بمعنى بدل أي: بدل صبركم أي: بدل ما احتملتم من مشاق الصبر، هذه الملاذ والنعم. وقيل: سلام جمع سلامة أي: إنما سلمكم الله تعالى من أهوال يوم القيامة بصبركم في الدنيا. وقال الزمخشري: ويجوز أن يتعلق بسلام أي: يسلم عليكم ويكرمكم بصبركم، والمخصوص بالمدح محذوف أي: فنعم عقبى الدار الجنة من جهنم، والدار: تحتمل الدنيا وتحتمل الآخرة. وقالت فرقة: المعنى أن عقبوا الجنة من جهنم. قال ابن عطية: وهذا التأويل مبني على حديث ورد وهو: «أن كل رجل في الجنة قد كان له مقعد معروف في النار، فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له: هذا مكان مقعدك، فبدّلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك» انتهى. ولما كان الصبر هو الذي نشأ عنه تلك الطاعات السابقة، ذكرت الملائكة أن النعيم السرمدي إنما هو حاصل بسبب الصبر، ولم يأت التركيب بالإيفاء بالعهد، ولا بغير ذلك.