فصل: تفسير الآيات (25- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (25- 26):

{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)}
قال مقاتل نزلت: والذين ينقضون في أهل الكتاب. وقال ابن عباس: نزلت الله يبسط في مشركي مكة، ولما ذكر تعالى حال السعداء وما ترتب لهم من الأمور السنية الشريفة، ذكر حال الأشقياء وما ترتب لهم من الأمور المخزية. وتقدم تفسير الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل الآية في أوائل البقرة وترتب للسعداء هناك التصريح بعقبي الدار وهي الجنة، وإكرام الملائكة لهم بالسلام، وذلك غاية القرب والتأنيس. وهنا ترتب للأشقياء الإبعاد من رحمة الله. وسوء الدار أي: الدار السوء وهي النار، وسوء عاقبة الدار، وتكون دار الدنيا. ولما كان كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، والكفر والإيمان لا تعلق لهما بالرزق. قد يقدر على المؤمن ليعظم أجره، ويبسط للكافر إملاء لازدياد آثامه. ويقدر مقابل يبسط، وهو التضييق من قوله: {ومن قدر عليه رزقه} وعليه يحمل {فظن أنْ لن نقدر عليه} وقول ذلك الذي أحرق وذري في البحر: «لئن قدر الله على» أي لئن ضيق. وقيل: يقدر يعطي بقدر الكفاية. وقرأ زيد بن علي: ويقدر بضم الدال، حيث وقع والضمير في فرحوا عائد على الذين ينقضون، وهو استئناف إخبار عن جهلهم بما أوتوا من بسطة الدنيا عليهم، وفرحهم فرح بطر وبسط لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة بفضل الله به، واستجهلهم بهذا الفرح إذ هو فرح بما يزول عن قريب وينقضي. ويبعد قول من ذهب إلى أنه معطوف على صلات. والذين ينقضون أي: يفسدون في الأرض، وفرحوا بالحياة الدنيا. وفي الكلام تقديم وتأخير. ومتاع: معناه ذاهب مضمحل يستمتع به قليلاً ثم يفنى. كما قال الشاعر:
تمتع يا مشعث إن شيئاً ** سبقت به الممات هو المتاع

وقال آخر:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ** غير أن لا بقاء للإنسان

وقال آخر:
تمتع من الدنيا فإنك فان ** من النشوات والنساء الحسان

قال الزمخشري: خفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نذراً، يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك انتهى. وهذا معنى قول الحسن: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الحياة الدنيا في جنب ما أعد الله لأوليائه في الآخرة نذر ليس يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك. وقال ابن عباس: زاد كزاد الرعي. وقال مجاهد: قليل ذاهب من متع النهار إذا ارتفع فلابد له من زوال.

.تفسير الآيات (27- 29):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ (29)}
نزلت: ويقول الذين كفروا، في مشركي مكة، طلبوا مثل آيات الأنبياء. والملتمس ذلك هو عبد الله بن أبي أمية وأصحابه، رد تعالى على مقترحي الآيات من كفار قريش كسقوط السماء عليهم كسفاً. وقولهم: سير علينا الأخشبين، واجعل لنا البطاح محارث ومغترساً كالأردن، وأحي لنا مضينا وأسلافنا، ولم تجر عادة الله في الإتيان بالآيات المقترحة إلا إذا أراد هلاك مقترحها، فرد تعالى عليهم بأن نزول الآية لا يقتضي ضرورة إيمانكم وهداكم، لأنّ الأمر بيد الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف يطابق قولهم: لولا أنزل عليه آية من ربه، قل إن الله يضل من يشاء؟ (قلت): هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبي قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية، فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها وجعلوه كأنه لم ينزل عليه قط كان موضع التعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم إن الله يضل من يشاء، فمن كان على صفتكم من التصميم وشدة التسليم في الكفر فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كل آية، ويهدي إليه من كان على خلاف صفتكم. وقال أبو علي الجبائي: يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره، ويهدي إليه من أناب أي: إلى جنته من أناب أي: من تاب. والهدى تعلقه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه، وذلك يدل على أنه يضل عن الثواب بالعقاب، لا عن الدين بالكفر، على ما ذهب إليه من خالفنا انتهى. وهي على طريقة الاعتزال.
والضمير في إليه عائد على القرآن، أو على الرسول صلى الله عليه وسلم. والظاهر أنه عائد على الله تعالى على حذف مضاف أي: إلى دينه وشرعه. وأناب أقبل إلى الحق، وحقيقته دخل في توبة الخير. والذين آمنوا: بدل من أناب. واطمئنان القلوب سكونها بعد الاضطراب من خشيته. وذكر الله ذكر رحمته ومغفرته، أو ذكر دلائله على وحدانيته المزيلة لعلف الشبه. أو تطمئن بالقرآن، لأنه أعظم المعجزات تسكن به القلوب وتنتبه. ثم ذكر الحض على ذكر الله وأنه به تحصل الطمأنينة ترغيباً في الإيمان، والمعنى: أنه بذكره تعالى تطمئن القلوب لا بالآيات المقترحة، بل ربما كفر بعدها، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم. وجوزوا في الذين أن يكون بدلاً من الذين، وبدلاً من القلوب على حذف مضاف أي: قلوب الذين، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين، وأن يكون مبتدأ خبره ما بعده.
وطوبى: فعل من الطيب، قلبت ياؤه واواً لضمة ما قبلها كما قلبت في موسر، واختلفوا في مدلولها: فقال أبو الحسن الهنائي: هي جمع طيبة قالوا في جمع كيسة كوسى، وصيفة صوفى.
وفعلى ليست من ألفاظ الجموع، فلعله يعني بها اسم جمع. وقال الجمهور: هي مفرد كبشرى وسقيا ورجعى وعقبى، واختلف القائلون بهذا في معناها. فقال الضحاك: المعنى غبطة لهم. وعنه أيضاً: أصبت خيراً. وقال عكرمة: نعمى لهم. وقال ابن عباس: فرح وقرة عين. وقال قتادة: حسنى لهم. وقال النخعي: خير لهم، وعنه أيضاً كرامة لهم. وعن سميط بن عجلان: دوام الخير. وهذه أقوال متقاربة، والمعنى العيش الطيب لهم. وعن ابن عباس، وابن جبير: طوبى اسم للجنة بالحبشية. وقيل: بلغة الهند. وقال أبو هريرة، وابن عباس أيضاً، ومعتب بن سمي، وعبيد بن عمير، ووهب بن منبه: هي شجرة في الجنة. وروي مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عتبة بن عبيد السلمي أنه قال، وقد سأله أعرابي: يا رسول الله أفي الجنة فاكهة؟ قال: «نعم فيها شجرة تدعى طوبى» وذكر الحديث. قال القرطبي: الصحيح أنها شجرة للحديث المرفوع حديث عتبة، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي، وذكره أبو عمر في التمهيد والثعلبي. وطوبى: مبتدأ، وخبره لهم. فإن كانت علماً لشجرة في الجنة فلا كلام في جواز الابتداء، وإن كانت نكرة فمسوغ الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم: سلام عليك، إلا أنه التزم فيه الرفع على الابتداء، فلا تدخل عليه نواسخه هكذا قال: ابن مالك. ويرده أنه قرئ: وحسن مآب بالنصب، قرأه كذلك عيسى الثقفي، وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على طوبى، وأنها في موضع نصب، وحسن مآب معطوف عليها. قال ثعلب: وطوبى على هذا مصدر كما قالوا: سقيا. وخرجه صاحب اللوامح على النداء قال: بتقدير يا طوبى لهم، ويا حسن مآب. فحسن معطوف على المنادى المضاف في هذه القراءة، فهذا نداء للتحنين والتشويق كما قال: يا أسفي على الفوت والندبة انتهى. ويعني بقوله: معطوف على المنادى المضاف، أنّ طوبى مضاف للضمير، واللام مقحمة كما أقحمت في قوله: يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام، وقول الآخر: يا بؤس للحرب التي، ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل: يا طوباهم وحسن مآب أي: ما أطيبهم وأحسن مآبهم، كما تقول: يا طيبها ليلة أي: ما أطيبها ليلة. وقرأ بكرة الأعرابي طيبي بكسر الطاء، لتسلم الياء من القلب، وإن كان وزنها فعلى، كما كسروا في بيض لتسلم الياء، وإن كان وزنها فعلاً كحمر. وقال الزمخشري: أصبت خيراً وطيباً، ومحلها النصب أو الرفع كقولك: طيباً لك، وطيب لك، وسلاماً لك، وسلام لك، والقراءة في قوله: وحسن مآب بالرفع والنصب بذلك على محلها، واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك. وقرئ: وحسن مآب بفتح النون، ورفع مآب. فحسن فعل ماض أصله وحسن نقلت ضمة سينه إلى الحاء، وهذا جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا: حسن ذا أدباً.

.تفسير الآية رقم (30):

{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)}
قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل: لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية وقد كتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو: ما يعرف الرحمن إلا مسيلمة، فنزلت. وقيل: سمع أبو جهل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا رحمن، فقال: إن محمداً ينهانا عن عبادة آلهة وهو يدعو إلهين فنزلت. ذكر هذا علي بن أحمد النيسابوري، وعن ابن عباس: لما قيل لكفار قريش اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن فنزلت. قال الزمخشري مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني: أرسلناك آرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات انتهى. ولم يتقدم إرسال يشار إليه بذلك، إلا إن كان يفهم من المعنى فيمكن ذلك. وقال الحسن: كإرسالنا الرسل أرسلناك، فذلك إشارة إلى إرساله الرسل. وقيل: الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} كما أنفذ الله هذا كذلك أرسلناك. وقال ابن عطية: والذي يظهر لي أنّ المعنى كما أجرينا العادة بأنّ الله يضل من يشاء ويهدي بالآيات المقترحة، فكذلك فعلنا في هذه الأمة أرسلناك إليهم بوحي، لا بالآيات المقترحة، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء انتهى. وقال الحوفي: الكاف للتشبيه في موضع نصب أي: كفعلنا الهداية والإضلال، والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقال أبو البقاء: كذلك التقدير الأمر كذلك. قد خلت من قبلها أمم أي: تقدمتها أمم كثيرة، والمعنى: أرسلت فيهم رسل فمثل ذلك الإرسال أرسلناك. ودل هذا المحذوف الذي يقتضيه المعنى على أنّ الإشارة بذلك إلى إرساله تعالى الرسل كما قال الحسن، ولتتلو أي: لتقرأ عليهم الكتاب المنزل عليك. وعلة الإرسال هي الإبلاغ للدين الذي أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يكفرون أي: وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن جملة حالية أي: أرسلناك في أمة رحمة لها مني وهم يكفرون بي أي: وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن بالبليغ الرحمة. والظاهر أنّ الضمير في قوله: وهم، عائد على أمة المرسل إليهم الرسول إعادة على المعنى، إذ لو أعاد على اللفظ لكان التركيب وهي تكفر، والمعنى: أرسلناك إليهم وهم يدينون دين الكفر، فهدى الله بك من أراد هدايته. وقيل: يعود على الذين قالوا: {لولا أنزل عليه آية من ربه} وقيل: يعود على أمة وعلى أمم، والمعنى: الإخبار بأنّ الأمم السالفة أرسلت إليهم الرسل والأمة التي أرسلت إليها جميعهم جاءتهم الرسل وهم يدينون دين الكفر، فيكون في ذلك تسلية للرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أمته مثل الأمم السالفة. ونبه على الوصف الموجب لإرسال الرسول وهو الرحمة الموجبة لشكر الله على إنعامه عليهم ببعثة الرسول والإيمان به. قل: هو أي الرحمن الذي كفروا به هو ربي الواحد المتعال عن الشركاء، عليه توكلت في نصرتي عليكم، وجميع أموري، وإليه مرجعي، فيثبتني على مجاهدتكم.

.تفسير الآيات (31- 32):

{وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)}
القارعة: الرزية التي تقرع قلب صاحبها أي: تضربه بشدة، كالقتل، والأسر والنهب، وكشف الحريم. وقال الشاعر:
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ** ببعض أبت عيدانه أن تكسرا

أي ضربنا بقوة. وقال الزجاج القارعة في اللغة النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم.
{ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب}: قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: سير جبلي مكة فقد ضيقا علينا، واجعل لنا أرضاً قطعاً غراساً، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا، وفلاناً وفلاناً، فنزلت معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله. ولما ذكر تعالى علة إرساله، وهي تلاوة ما أوحاه إليه، ذكر تعظيم هذا الموحى وأنه لو كان قرآناً تسير به الجبال عن مقارها، أو تقطع به الأرض حتى تتزايل قطعاً قطعاً، أو تكلم به الموتى فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف. كما قال: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} الآية فجواب لو محذوف وهو ما قدرناه، وحذف جواب لو لدلالة المعنى عليه جائز نحو قوله تعالى: {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب} {ولو ترى إذ وقفوا على النار} وقال الشاعر:
وجدك لو شيء أتانا رسوله ** سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا

وقيل: تقديره لما آمنوا به كقوله تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا} قال الزجاج. وقال الفراء: هو متعلق بما قبله، والمعنى: وهم يكفرون بالرحمن. ولو أن قرآناً سيرت به الجبال وما بينهما اعتراض، وعلى قول الفراء: يترتب جواب لو أن يكون لما آمنوا، لأنّ قولهم وهم يكفرون بالرحمن ليس جواباً، وإنما هو دليل على الجواب. وقيل: معنى قطعت به الأرض شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً. ويترتب على أن يكون الجواب المحذوف لما آمنوا قوله: بل لله الأمر جميعاً أي: الإيمان والكفر، إنما يخلقهما الله تعالى ويريدهما. وأما على تقدير لكان هذا القرآن، فيحتاج إلى ضميمة وهو أن يقدر: لكان هذا القرآن الذي أوحينا إليك المطلوب فيه إيمانهم وما تضمنه من التكاليف، ثم قال: بل لله الأمر جميعاً أي: الإيمان والكفر بيد الله يخلقهما فيمن يشاء. وقال الزمخشري: بل لله الأمر جميعاً على معنيين: أحدهما: بل لله القدرة على كل شيء، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها، إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة.
والثاني: بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان وهو قادر على الإلجاء. لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار، ويعضده قوله تعالى: أفلم يايئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله، مشيئة الإلجاء والقسر لهدى الناس جميعاً انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. واليأس القنوط في الشيء، وهو هنا في قول الأكثرين بمعنى العلم، كأنه قيل: ألم يعلم الذين آمنوا. قال القاسم بن معن هي: لغة هوازن، وقال ابن الكلبي: هي لغة من النخع وأنشدوا على ذلك لسحيم بن وثيل الرياحي وقال ابن الكلبي:
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ** ألم تيأسوا إني ابن فارس زهدم

وقال رباح بن عدي:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ** وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

وقال آخر:
حتى اذا يئس الرماة وارسلوا ** غضفاً دواجن قافلاً أعصامها

أي إذا علموا أنّ ليس وجد إلا لذي وارا. وأنكر الفراء أن يكون يئس بمعنى علم، وزعم أنه لم يسمع أحد من العرب يقول: يئست بمعنى علمت انتهى. وقد حفظ ذلك غيره، وهذا القاسم بن معن من ثقاة الكوفيين وأجلائهم نقل أنها لغة هوزان، وابن الكلبي نقل أنها لغة لحي من النخع، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه، لأنّ اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك. وحمل جماعة هنا اليأس على المعروف فيه في اللغة وهو: القنوط من الشيء، وتأولوا ذلك. فقال الكسائي: المعنى أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش المعاندين لله ورسوله؟ وذلك أنه لما سألوا هذه الآيات اشتاق المؤمنون إليها وأحبوا نزولها ليؤمن هؤلاء الذين علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون، فقال الذين آمنوا من إيمانهم. وقال الفراء: وقع للمؤمنين أن لو يشاء هدى الناس جميعاً فقال: أفلم ييأسوا؟ علمنا بقول آبائهم، فالعلم مضمر كما تقول في الكلام: يئست منك أن لا تفلح كأنه قال: علمته علماً قال: فيئست بمعنى علمت وإن لم يكن قد سمع، فإنه يتوجه إلى ذلك بالتأويل. وقال أبو العباس: أفلم ييأسوا بعلمهم أن لا هداية إلا بالمشيئة؟ وإيضاح هذا المعنى أن يكون: أن لو يشاء الله متعلقاً بآمنوا أي: أفلم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ولهداهم إلى الإيمان أو الجنة. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله: ولو أن قرآناً الآية على التأويل في المحذوف المقدر. قال في هذه: أفلم ييأس المؤمنون انتهى.
وهذا قول الفراء الذي ذكرناه، وقال الزمخشري: ويجوز أن يتعلق أن لو يشاء الله بآمنوا على أو لم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً انتهى. وهذا قول أبي العباس، ويحتمل عندي وجه آخر غير ما ذكروه، وهو أن الكلام تام عند قوله: أفلم ييأس الذين آمنوا، إذ هو تقرير أي: قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعاندين. وأنْ لو يشاء جواب قسم محذوف أي: وأقسموا لو شاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدل على إضمار هذا القسم وجود أنْ مع لو كقول الشاعر:
أما والله أن لو كنت حراً ** وما بالحر أنت ولا القمين

وقول الآخر:
فاقسم أن لو التقينا وأنتم ** لكان لنا يوم من الشر مظلم

وقد ذكر سيبويه أنّ أن تأتي بعد القسم، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم المقسم بالجملة عليها، وأما على تأويل الجمهور فإن عندهم هي المخففة من الثقيلة أي: أنه لو يشاء الله. وقرأ علي وابن عباس قال الزمخشري وجماعة من الصحابة والتابعين، وقال غيره، وعكرمة، وابن أبي مليكة، والجحدري، وعلي بن الحسين، وابنه زيد، وأبو زيد المزني، وعلي بن نديمة، وعبد الله بن يزيد: أفلم يتبين من بينت كذا إذا عرفته. وتدل هذه القراءة على أنّ معنى أفلم ييأس هنا معنى العلم، كما تظافرت النقول أنها لغة لبعض العرب. وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله: أفلم ييأس، كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست مخالفة للسواد إذ كتبوا ييئس بغير صورة الهمزة، وهذا كقراءة: {فتبينوا} و{فثبتوا} وكلتاهما في السبعة. وأما قول من قال: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس، فسوى أسنان السين فقول زنديق ملحد. وقال الزمخشري: وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفتي الإمام، وكان متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهتمين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، وهذه والله فرية ما فيها مرية انتهى. وقال الفراء: لا يتلى إلا كما أنزل: أفلم ييأس انتهى.
والكفار عام في جميع الكفار، وهذا الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة قاله: الحسن، وابن السائب، أو هو ظاهر اللفظ. وقال ابن عطية: كفار قريش، والعرب لا تزال تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته. وقال مقاتل والزمخشري: كفار مكة. قال الزمخشري: تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في أنفسهم وأولادهم وأموالهم، أو تحل القارعة قريباً منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شررها، وتتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم، أو القيامة انتهى.
وقال الحسن: حال الكفرة هكذا هو أبداً، ووعد الله قيام الساعة. والظاهر أنّ الضمير في تحل عائد على قارعة قاله الحسن. وقالت فرقة: التاء للخطاب، والضمير للرسول صلى الله عليه وسلم، أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك كما حلّ بالحديبية، وعزاه الطبري إلى: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وقاله عكرمة. ويكون وعد الله فتح مكة، وكان الله قد وعده ذلك، وقاله ابن عباس ومجاهد. وقرأ مجاهد، وابن جبير: أو يحل بالياء على الغيبة، واحتمل أن يكون عائداً على معنى القارعة راعى فيه التذكير لأنها بمعنى البلاء، أو تكون الهاء في قارعة للمبالغة، فذكر واحتمل أن يكون عائداً على الرسول صلى الله عليه وسلم أي: ويحل الرسول قريباً. وقرأ أيضاً من ديارهم على الجمع. وقال ابن عباس: القارعة العذاب من السماء. وقال عكرمة: السرايا والطلائع. وفي قوله: ولقد استهزئ الآية، تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، وأنّ حالك حال من تقدمك من الرسل، وأنّ المستهزئين يملى لهم أي: يمهلون ثم يؤخذون. وتنبيه على أنّ حال من استهزأ بك، وإن أمهل حال أولئك في أخذهم ووعيد لهم. وفي قوله: فكيف كان عقاب استفهام معناه التعجب بما حل، وفي ضمنه وعيد معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار.