فصل: سورة الحجر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة الحجر:

.تفسير الآيات (1- 5):

{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)}
هذه السورة مكية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر في آخر السورة قبلها أشياء من أحوال القيامة من تبديل السموات والأرض، وأحوال الكفار في ذلك اليوم، وأنّ ما أتى به هو على حسب التبليغ والإنذار، ابتدأ في هذه السورة بذكر القرآن الذي هو بلاغ للناس، وأحوال الكفرة، وودادتهم لو كانوا مسلمين. قال مجاهد وقتادة: الكتاب هنا ما نزل من الكتب قبل القرآن، فعلى قولهما تكون تلك إشارة إلى آيات الكتاب. قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد بالكتاب القرآن، وعطفت الصفة عليه، ولم يذكر الزمخشري إلا أن تلك الإشارة لما تضمنته السورة من الآيات قال: والكتاب والقرآن المبين السورة، وتنكير القرآن للتفخيم، والمعنى: تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً، وآي قرآن مبين كأنه قيل: والكتاب الجامع للكمال والغرابة في الشأن، والظاهر أنّ ما في ربما مهيئة، وذلك أنها من حيث هي حرف جر لا يليها إلا الأسماء، فجيء بما مهيئة لمجيء الفعل بعدها. وجوزوا في ما أنْ تكون نكرة موصوفة، ورب جازة لها، والعائد من جملة الصفة محذوف تقديره: رب شيء يوده الذين كفروا. ولو كانوا مسلمين بدل من ما على أنّ لو مصدرية. وعلى القول الأول تكون في موضع نصب على المفعول ليود، ومن لا يرى أنْ لو تأتي مصدرية جعل مفعول يود محذوفاً. ولو في لو كانوا مسلمين حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجواب لو محذوف أي: ربما يود الذين كفروا الإسلام لو كانوا مسلمين لسروا بذلك وخلصوا من العذاب، ولما كانت رب عند الأكثرين لا تدخل على مستقبل تأولوا يود في معنى ودّ، لما كان المستقبل في إخبار الله لتحقق وقوعه كالماضي، فكأنه قيل: ود، وليس ذلك بلازم، بل قد تدخل على المستقبل لكنه قليل بالنسبة إلى دخولها على الماضي. ومما وردت فيه للمستقبل قول سليم القشيري:
ومعتصم بالجبن من خشية الردى ** سيردي وغاز مشفق سيؤب

وقول هند أم معاوية:
يا رب قائلة غداً ** يا لهف أم معاوية

وقول جحدر:
فإن أهلك فرب فتى سيبكي ** عليّ مهذب رخص البنان

في عدة أبيات. وقول أبي عبد الله الرازي: أنهم اتفقوا على أنّ كلمة رب مختصة بالدخول على الماضي لا يصح، فعلى هذا لا يكون يودّ محتاجاً إلى تأويل. وأما من تأول ذلك على إضمار كان أي: ربما كان يودّ فقوله ضعيف، وليس هذا من مواضع إضمار كان. ولما كان عند الزمخشري وغيره أنّ رب للتقليل احتاجوا إلى تأويل مجيء رب هنا، وطول الزمخشري في تأويل ذلك. ومن قال: إنها للتكثير، فالتكثير فيها هنا ظاهر، لأنّ ودادتهم ذلك كثيرة.
ومن قال: إنّ التقليل والتكثير إنما يفهم من سياق الكلام لا من موضوع رب، قال: دل سياق الكلام على الكثرة. وقيل: تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين، فإن كانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكرتهم تمنوا، فلذلك قلل. وقرأ عاصم، ونافع: ربما بتخفيف الباء، وباقي السبعة بتشديدها. وعن أبي عمر: والوجهان. وقرأ طلحة بن مصرف، وزيد بن علي، ربتما بزيادة تاء. ومتى يودون ذلك؟ قيل: في الدنيا. فقال الضحاك: عند معاينة الموت. وقال ابن مسعود: هم كفار قريش ودّوا ذلك في يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين. وقيل: حين حل بهم ما حل من تملك المسلمين أرضهم وأموالهم ونساءهم، ودُّوا ذلك قبل أن يحل بهم ما حل. وقيل: ودوا ذلك في الآخرة إذا أخرج عصاة المسلمين من النار قاله: ابن عباس، وأنس بن مالك، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وإبراهيم، ورواه أبو موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الرسول هذه الآية، وقيل: حين يشفع الرسول ويشفع حتى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، ورواه مجاهد عن ابن عباس. وقيل: إذا عاينوا القيامة ذكره الزجاج. وقيل: عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المؤمن، ذكره ابن الأنباري. ثم أمر تعالى نبيه بأن ينذرهم، وهو أمر وعيد لهم وتهديد أي: ليسوا ممن يرعوي عن ما هو فيه من الكفر والتكذيب، ولا ممن تنفعه النصيحة والتذكير، فهم إنما حظهم حظ البهائم من الأكل والتمتع بالحياة الدنيا والأمل في تحصيلها، هو الذي يلهيهم ويشغلهم عن الإيمان بالله ورسوله. وفي قوله: يأكلوا ويتمتعوا، إشارة إلى أنّ التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للموت والتأهب له ليس من أخلاق من يطلب النجاة من عذاب الله في الآخرة، وعن بعض العلماء: التمتع في الدنيا من أخلاق الهالكين. وقال الحسن: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل. وانجزم يأكلوا، وما عطف عليه جواباً للأمر. ويظهر أنه أمر بترك قتالهم وتخلية سبيلهم وبمهادنتهم وموادعتهم، ولذلك ترتب أن يكون جواباً، لأنه لو شغلهم بالقتال ومصالتة السيوف وإيقاع الحرب ما هنا هم أكل ولا تمتع، وبدل على ذلك أنّ السورة مكية، وإذا جعلت ذرهم أمراً بترك نصيحتهم وشغل باله بهم، فلا يترتب عليه الجواب، لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك نصيحتهم، أم لم يتركها. فسوف يعلمون: تهديد ووعيد أي: فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وما يؤولون إليه في الدنيا من الذل والقتل والسبي، وفي الآخرة من العذاب السرمدي. ولما توعدهم بما يحل بهم أردف ذلك بما يشعر بهلاكهم، وأنه لا يستبطأ، فإنّ له أجلاً يتعداه، والمعنى: من أهل قرية كافرين. والظاهر أن المراد بالهلاك هلاك الاستئصال لمكذبي الرسل، وهو أبلغ في الزجر. وقيل: المراد الإهلاك بالموت، والواو في قوله: ولها، واو الحال.
وقال بعضهم: مقحمة أي زائدة، وليس بشيء. وقرأ ابن أبي عبلة: بإسقاطها وقال الزمخشري: الجملة واقعة صفة لقرية، والقياس أنْ لا تتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون} وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب انتهى. ووافقه على ذلك أبو البقاء فقال: الجملة نعت لقرية كقولك: ما لقيت رجلاً إلا عالماً قال: وقد ذكرنا حال الواو في مثل هذا في البقرة في قوله: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري وتبعه فيه أبو البقاء لا نعلم أحداً قاله من النحويين، وهو مبني على أنّ ما بعداً لا يجوز أن يكون صفة، وقد منعوا ذلك. قال: الأخفش لا يفصل بين الصفة والموصوف بالإثم، قال: ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره: إلا رجل راكب، وفيه قبح بجعلك الصفة كالإسم. وقال أبو علي الفارسي: تقول ما مررت بأحد إلا قائماً، فقائماً حال من أحد، ولا يجوز إلا قائم، لأنّ إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف. وقال ابن مالك: وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشري من قوله: في نحو ما مررت بأحد إلا زيد خير منه، أنّ الجملة بعد إلا صفة لأحد، أنه مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي، فلا يلتفت إليه. وأبطل ابن مالك قول الزمخشري أنّ الواو توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف. وقال القاضي منذر بن سعيد: هذه الواو هي التي تعطي أنّ الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو، ومنه قوله تعالى: {إذا جاءُوها وفتحت أبوابها} انتهى.
والظاهر أنّ الكتاب المعلوم هو الأجل الذي كتب في اللوح وبين، ويدل على ذلك ما بعده. وقيل: مكتوب فيه أعمالهم وأعمارهم وآجال هلاكهم. وذكر الماوردي: كتاب معلوم أي: فرض محتوم، ومن زائدة تفيد استغراق الجنس أي: ما تسبق أمة، وأنث أجلها على لفظ أمة وجمع وذكر في وما يستأخرون حملاً على المعنى، وحذف عنه لدلالة الكلام عليه.

.تفسير الآيات (6- 9):

{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}
قال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أمية، والنضر بن الحرث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة. وقرأ زيد بن علي: نزل عليه الذكر ماضينا مخففاً مبنياً للفاعل. وقرأ: يا أيها الذي ألقي إليه الذكر، وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسيراً، لأنها مخالفة لسواد المصحف. وهذا الوصف بأنه الذي نزل عليه الذكر قالوه على جهة الاستهزاء والاستخفاف، لأنهم لا يقرون بتنزيل الذكر عليه، وينسبونه إلى الجنون، إذ لو كان مؤمناً برسالة موسى وما أخبر عنه بالجنون. ثم اقترحوا عليه أن يأتيهم بالملائكة شاهدين لصدقك وبصحة دعواك وإنذارك كما قال: {لولا أنزل إليه ملك} فيكون معه نذيراً أو معاقبين على تكذيبك، كما كانت تأتي الأمم المكذبة. وقرأ الحرميان والعربيان: ما تنزل مضارع تنزل أي: ما تتنزل الملائكة بالرفع. وقرأ أبو بكر، ويحيى بن وثاب: ما تنزل بضم التاء وفتح النون والزاي الملائكة بالرفع. وقرأ الأخوان، وحفص، وابن مصرف: ما ننزل بضم النون الأولى، وفتح الثانية، وكسر الزاي الملائكة بالنصب. وقرأ زيد بن علي: ما نزل ماضياً مخففاً مبنياً للفاعل الملائكة بالرفع. والحق هنا العذاب قاله الحسن، أو الرسالة قاله مجاهد، أو قبض الأرواح عند الموت قاله ابن السائب، أو القرآن ذكره الماوردي. وقال الزمخشري: ألا تنزلا ملتبساً بالحكمة والمصلحة، ولا حكمة في أنْ تأتيكم عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار. وقال ابن عطية: والظاهر أنّ معناها: كما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها الله تعالى لعباده، لا على اقتراح كافر، ولا باختيار معترض. ثم ذكر عادة الله في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح إلا ومعها العذاب في أثرها إنْ لم يؤمنوا، فكان الكلام ما تنزل الملائكة إلا بحق واجب لا باقتراحكم. وأيضاً فلو نزلت لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب أي: تؤخروا والمعنى، وهذا لا يكون إذ كان في علم الله أنّ منهم من يؤمن، أو يلد من يؤمن.
وقال الزمخشري: وادن جواب وجزاء، لأنه جواب لهم، وجزاء بالشرط مقدر تقديره: ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذبهم. ولما قالوا على سبيل الاستهزاء: يا أيها الذي نزل عليه الذكر، رد عليهم بأنه هو المنزل عليه، فليس من قبله ولا قبل أحد، بل هو الله تعالى الذي بعث به جبريل عليه السلام إلى رسوله، وأكد ذلك بقوله: إنا نحن، بدخول إنّ وبلفظ نحن. ونحن مبتدأ، أو تأكيد لاسم إنّ ثم قال: وإنا له لحافظون أي: حافظون له من الشياطين. وفي كل وقت تكفل تعالى بحفظه، فلا يعتريه زيادة ولا نقصان، ولا تحريف ولا تبديل، بخلاف غيره من الكتب المتقدمة، فإنه تعالى لم يتكفل حفظها بل قال تعالى: إن الربانيين والأحبار استحفظوا ولذلك وقع فيها الاختلاف.
وحفظه إياه دليل على أنه من عنده تعالى، إذ لو كان من قول البشر لتطرق إليه ما تطرق لكلام البشر. وقال الحسن: حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة. وقيل: يحفظه في قلوب من أراد بهم خيراً حتى لو غير أحد نقطة لقال له الصبيان: كذبت، وصوابه كذا، ولم يتفق هذا لشيء من الكتب سواه. وعلى هذا فالظاهر أنّ الضمير في له عائد على الذكر، لأنه المصرح به في الآية، وهو قول الأكثر: مجاهد، وقتادة، وغيرهما. وقالت فرقة: الضمير في له عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: يحفظه من أذاكم، ويحوطه من مكركم كما قال تعالى: {والله يعصمك من الناس} وفي ضمن هذه الآية التبشير بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظهر الله به الدين.

.تفسير الآيات (10- 15):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}
لما ذكر تعالى استهزاء الكفار به عليه السلام، ونسبته إلى الجنون، واقتراح نزول الملائكة، سلاه تعالى بأن من أرسل من قبلك كان ديدن الرسل إليهم مثل ديدن هؤلاء معك. وتقدم تفسير الشيع في أواخر الأنعام. ومفعول أرسلنا محذوف أي: رسلاً من قبلك. وقال الفراء: في شيع الأولين هو من إضافة الشيء إلى صفته كقوله: حق اليقين، وبجانب الغربي أي الشيع الموصوف، أي: في شيع الأمم الأولين، والأولون هم الأقدمون. وقال الزمخشري: وما يأتيهم حكاية ماضية، لأنّ ما لا تدخل على مضارع، إلا وهو في موضع الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال انتهى. وهذا الذي ذكره هو قول الأكثر من أنّ ما تخلص المضارع للحال وتعينه له، وذهب غيره إلى أنّ ما يكثر دخولها على المضارع مراداً به الحال، وتدخل عليه مراداً به الاستقبال، وأنشد على ذلك قول أبي ذؤيب:
أودي بني وأودعوني حسرة ** عند الرقاد وعبرة ما تقلع

وقول الأعشى يمدح الرسول عليه السلام:
له نافلات ما يغب نوالها ** وليس عطاء اليوم مانعه غدا

وقال تعالى: {ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ} والضمير في نسلكه عائد على الذكر قاله الزمخشري، قال: والضمير للذكر أي: مثل ذلك السلك. ونحوه: نسلك الذكر في قلوب المجرمين على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزأ به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام يعني: مثل هذا الإنزال أنزلها بهم، مردودة غير مقصية. ومحل قوله: لا يؤمنون النصب على الحال أي: غير مؤمن به، أو هو بيان لقوله: كذلك نسلكه انتهى. وما ذهب إليه من أنّ الضمير عائد على الذكر ذكره الغرنوي عن الحسن. قال الحسن: معناه نسلك الذكر إلزاماً للحجة. وقال ابن عطية: الضمير في نسلكه عائد على الاستهزاء والشرك ونحوه، وهو قول: الحسن، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد. ويكون الضمير في به يعود أيضاً على ذلك نفسه، وتكون باء السبب أي: لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويكون قوله: لا يؤمنون به في موضع الحال، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائداً على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر وهو القرآن أي: مكذباً به مردوداً مستهزأ به، يدخله في قلوب المجرمين. ويكون الضمير في به عائداً عليه، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائداً على الاستهزاء والشرك، والضمير في به يعود على القرآن، فيختلف على هذا عود الضميرين انتهى. وروى ابن جريج عن مجاهد بذلك التكذيب، فعلى هذا تكون الباء في به للسبب. والذي يظهر عوده على الاستهزاء المفهوم من قوله: يستهزؤون، والباء في به للسبب.
والمجرمون هنا كفار قريش، ومن دعاهم الرسول إلى الإيمان. ولا يؤمنون إن كان إخباراً مستأنفاً فهو من العام المراد به الخصوص فيمن ختم عليه، إذ قد آمن عالم ممن كذب الرسول. وقد خلت سنة الأولين في تكذيبهم رسلهم، أو في إهلاكهم حين كذبوا رسلهم، واستهزأوا بهم، وهو تهديد لمشركي قريش. والضمير في عليهم عائد على المشركين، وذلك لفرط تكذيبهم وبعدهم عن الإيمان حتى ينكروا ما هو محسوس مشاهد بالأعين مماس بالأجساد بالحركة والانتقال، وهذا بحسب المبالغة التامة في إنكار الحق. والظاهر أنّ الضمير في فظلوا عائد على من عاد عليه في قوله: عليهم، أي: لو فتح لهم باب من السماء، وجعل لهم معراج يصعدون فيه لقالوا: هو شيء تتخيله لا حقيقة له، وقد سخرنا بذلك. وجاء لفظ فظلوا مشعراً بحصول ذلك في النهار ليكونوا مستوضحين لما عاينوا، على أنّ ظل يأتي بمعنى صار أيضاً. وعن ابن عباس أنّ الضمير في فظلوا يعود على الملائكة لقولهم: {لو ما تأتينا بالملائكة} أي: ولو رأوا الملائكة تصعد وتنصرف في باب مفتوح في السماء لما آمنوا.
وقرأ الأعمش، وأبو حيوة: يعرجون بكسر الراء، وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود. وجاء لفظ إنما مشعراً بالحصر، كأنه قال: ليس ذلك إلا تسكيراً للأبصار. وقرأ الحسن، ومجاهد، وابن كثير: سكرت بتخفيف الكاف مبنياً للمفعول، وقرأ باقي السبعة: بشدها مبنياً للمفعول. وقرأ الزهري: بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنياً للفاعل، شبهوا رؤية أبصارهم برؤية السكران لقلة تصوره ما يراه. فأما قراءة التشديد فعن ابن عباس وقتادة منعت عن رؤية الحقيقة من السكر، بكسر السين وهو الشد والحبس. وعن الضحاك شدّت، وعن جوهر جدعت، وعن مجاهد حبست، وعن الكلبي عميت، وعن أبي عمرو غطيت، وعن قتادة أيضاً أخذت، وعن أبي عبيد غشيت. وأما قراءة التخفيف فقيل: بالتشديد، إلا أنه للتكثير، والتخفيف يؤدي عن معناه. وقيل: معنى التشديد أخذت، ومعنى التخفيف سحرت. والمشهور أن سكر لا يتعدى. قال أبو علي: ويجوز أن يكون سمع متعدياً في البصر. وحكى أبو عبيد عن أبي عبيدة أنه يقال: سكرت أبصارهم إذا غشيها سهاد حتى لا يبصروا. وقيل: التشديد من سكر الماء، والتخفيف من سكر الشراب، وتقول العرب: سكرت الريح تسكر سكراً إذا ركدت ولم تنفذ لما انتفت بسبيله، أولاً وسكراً الرجل من الشراب سكراً إذا تغيرت حاله وركد ولم ينفذ فيما كان للإنسان أن ينفذ فيه. ومن هذا المعنى سكران لا يبت أي: لا يقطع أمراً. وتقول العرب: سكرت في مجاري الماء إذا طمست، وصرفت الماء فلم ينفذ لوجهه. فإن كان من سكر الشراب، أو من سكر الريح، فالتضعيف للتعدية. أو من سكر مجاري الماء فللتكثير، لأنّ مخففة متعد.
وأما سكرت بالتخفيف فإن كان من سكر الماء ففعله متعد، أو من سكر الشراب أو الريح فيكون من باب وجع زيد ووجعه غيره، فتقول: سكر الرجل وسكره غيره، وسكرت الريح وسكرها غيرها، كما جاء سعد زيد وسعده غيره. ولخص الزمخشري في هذا فقال: وسكرت خيرت أو حبست من السكر، أو السكر. وقرئ بالتخفيف أي: حبست كما يحبس النهر عن الجري انتهى. وقرأ ابان بن ثعلب: سحرت أبصارنا. ويجيء قوله: بل نحن قوم مسحورون، انتقالاً إلى درجة عظمى من سحر العقل. وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسير معنى لا تلاوة، لمخالفتها سواد المصحف. وجاء جواب ولو، قوله: لقالوا أي أنهم يشاهدون ما يشاهدون، ولا يشكون في رؤية المحسوس، ولكنهم يقولون ما لا يعتقدون مواطأة على العناد، ودفع الحجة، ومكابرة وإيثاراً للغلبة كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوًّا}